Professional Documents
Culture Documents
1
الكتاب :احلدا َثة وال ُقرآن
املؤلف :سعيد ناشيد
عدد الصفحات248 :
الترقيم الدوليISBN 978-9938-88-665-8 :
رقم الناشر15/427-73 :
الطبعة :األولى 2015
لبنان :بيروت – الجناح – مقابل السلطان ابراهيم -سنتر حيدر التجاري – الطابق الثاني
هاتف وفاكس009611843340 :
مصر :القاهرة – وسط البلد 19 -عبد السالم عارف (البستان سابقًا) – الدور – 8شقة 82
هاتف0020223921332 :
2
سعيد ناشيد
3
https://www.facebook.com/1New.Library/
https://telegram.me/NewLibrary
https://twitter.com/Libraryiraq
4
اإليمان تعبير عفويّ
قد يستدعي الخروج عن النص
5
6
�شكر وتنويه
ال سهالً .وهذا لم يكن العثور على ناشر لهذه األوراق عم ً
تو ّقعته منذ البداية؛ فقد ال يوجد ناشر يجازف من أجل كتاب
قد ُيمنع في أكثر من بلد عربي .وبالفعل كنت أرسلت الكتاب
إلى أكثر من ناشر ،وبينهم َمن قر َأ مسودة الكتاب كلمة كلمة،
وبعد شهور من انتظار اإلصدار عاد الناشر إلى االعتذار .وأحيان ًا
ثم يتعدّ ى االنتظار يتم إعالمي ّ
بأن الكتاب قيد الطباعة ،فأنتظرّ ، ّ
ثم يكون الر ّد اعتذار ًا مفاجئ ًا
حوال كامال ،ثم أسأل عن المآلّ ،
وتمني ًا لي بأن أجد ناشر ًا بديال .وأذهب الى ناشر آخر ،ويعتذر
أيض ًا.
وبالفعل ،فقد ن ّبهني صديقي المفكر السوري جورج
طرابيشي إلى أن منسوب الجرأة في هذا الكتاب يفوق المعدّ ل
يصر على تسميتهالعربي المسموح ،ال سيما بالنّظر إلى هذا الذي ّ
ّ
بـ»الخريف العربي» .لكني اعتبرت ذلك التّحذير حافز ًا لي قصد
المحاولة ،وعساني ُأساهم في إقناع صاحب «نقد نقد العقل
الربيع ال يزال ربيع ًا ،ولو قليال ،وفقط تتخلله أشت ّية العربي» ّ
بأن ّ
7
وأعاصير .هذا ،وال أملك في كل األحوال إال أن أشدّ على يديه
وأقدِّ ر مالحظاته التي أفادتني كثير ًا كثير ُا.
كما أشكر صديقي الباحث والمستشرق ستيفن ألف الذي
شجعني على المضي قدم ًا في بناء فرضياتي حول العالقة بين ّ
تكرم بترجمة بعض فصولالرباني والقرآن المحمدي ،وقد ّالوحي ّ
هذا العمل ونشرها باللغة االنجليزية.
أوجه تحية خاصة لألستاذ حسن كما ال يفوتني في األخير أن ّ
ياغي من دار التنوير الذي تمكّن بفعل قراءته النقدية من إنقاذ هذا
العمل من هنّات وهفوات كادت تعتوره .ما يعني أني كسبت منه
سلف ًا ومسبق ًا ما لم أكسبه من ناشرين آخرين .وإن ُوجدت أخطاء
أتحمل مسؤوليتها الكاملة.
ّ باقية فوحدي
سر ذلك أنيوإن ُقدِّ ر لهذا العمل أن يخرج للوجود ،لعل ّ
لم أيأس في أي لحظة من ال ّلحظات رغم كل الكوابح والكبوات،
مرة أخرى ،بأسلوب الكرة ّ
والمحاذير والتحذيرات .وها أنا أعيد ّ
مختلف ،ومع منشورات تحمل اسم ًا يعني الكثير ،التنوير.
ِ
أخف يوم ًا إيماني بالله وإن كان األمل من اإليمان ،فأنا لم
الواحد األحد .فقط -وكما أردد دوم ًا -دون الله ،ال قداسة لشيء،
ذاك سقفي الوحيد ،ذاك خطي األحمر.
وبه وجب التنويه والسالم.
شالّالت أوزد ،وسط المغرب
بتاريخ 2014 /06 /16
8
تقديم
10
ّ
إن القرآن ترجمة بشرية للصور الوحيان ّية ،التي لها مصدر
الرسول نفسه في
إلهي ور ّباني بالفعل ،غير أنها ترجمة أنجزها ّ
وجهه إلى الناس في تلك العصور القديمة الماضية وفق خطاب ّ
ثقافتهم وظروفهم ومدركاتهم.
تمت صياغة الوحي الر ّباني
وألن األمر كذلك ،فقد ّّ
باستعمال المعطيات التالية :
أوال ،باستعمال لغة عربية بليغة بالفعل ،غير أنها تنتمي إلى
مرحلة ما قبل قواعد النحو.
ثانيا ،باستعمال مفاهيم سياسية واضحة بالفعل ،غير أنها
تنتمي إلى مرحلة ما قبل دولة المؤسسات.
ثالث ًا ،باستعمال مفاهيم علمية يدركها الناس ،غير أنها تنتمي
إلى مرحلة ما قبل مناهج العلم.
لهذا السبب ،ال يجوز لنا بأي حال من األحوال أن نق ِّيم القرآن
بمقاييس الحداثة السياسية والثورة العلمية وحقوق اإلنسان ،وال
كنص في العلم أو السياسة أو األخالق. يجوز لنا أن نتعامل معه ّ
وإذا فعلنا ذلك فإنّنا سنقترف جرم ًا كبير ًا ،وسنظلم القرآن ظلم ًا
عظيم ًا .كما يحاول أن يفعل بعض الذين يقدّ مون تفسيرات لبعض
االكتشافات العلمية عن طريق ربطها بالقرآن ،مثل الحديث
الذرة والكواكب واالكتشافات الط ّبية ..وغير ذلك .وهي عن ّ
معرضة للتجاوز عن طريق اكتشافات جديدة تُخ ّطئها اكتشافات ّ
أو تنفيها ،وتجعل القرآن الكريم الذي هو خطاب تع ّبدي عرضة
لتأويالت متهافتة تدّ عي لنفسها العلم في حين أنها ال تتسق أبد ًا مع
11
شروط العلم .بل هي تأويالت تضع القرآن في مواضع تق ّلل من
قيمته مدّ عية تأكيد ما جاء فيه ،وهو عمل ال يطلبه الخطاب القرآني
نفسه.
القرآن خطاب تع ّبدي خالص.
وحس ًا سليم ًا.
ّ وهذا يكفي لمن يملك إيمان ًا سوي ًا
12
الق�شم الأول
13
14
ما ُ
القراآن؟
18
ثم –خالل مرحلة ثانية -من متناثرة إلى مصاحف متعددةّ ،
مصاحف متعددة إلى مصحف واحد وجامع ،وفق نمط مع ّين
من التأليف والتبويب والتّرتيب ،وبحسب قواعد محدّ دة في اللغة
والكتابة والخط .وقد استغرق هذا الجهد زهاء نصف قرن من
تمت مفهمة هذا الجهد على يد الزمن على األقل .وللتذكير ،فقد ّ
جورج طرابيشي ،في حديثه عن « َم ْص َحفة القرآن»(.)1
نعيد القول بعبارة أخرى :عند الكالم عن الخطاب القرآني،
نحن أمام ثالثة مستويات من التمظهر :أوالً ،الوحي الرباني ،وهو
الرسول ويحاول عبارة عن صور وحيانية «فيها غموض» يستشعرها ّ
التعبير عنها انطالق ًا من ثقافته ولغته وبيئته؛ ثاني ًا ،القرآن المحمدي،
وهو عبارة عن آيات شفهية في الغالب متفرقة في الصدور وبعض
األدوات ،بما فيها اآليات التي ُيفترض أو ُيحتمل أنها نُسخت أو
ننسها )...اآلية 106من ربما يعتقد أنها نُسيت (ما ننسخ من آية أو ِ
ُ
سورة البقرة؛ ثالث ًا ،المصحف العثماني وهو الذي اتخذ شكل نص
ونونه ون ّقطه المسلمون بعد وفاة رسمي ،جمعه ورتبه وشكّله ّ
الرسول ،وعبر مسار استغرق عشرات السنين. ّ
المشكلة بكل وضوح أن تعا ُملنا مع القرآن لم يعد ممكن ًا إالّ
من خالل تمظهره األخير ،أي المصحف العثماني .بل ،حتى هذا
المستوى ال ندركه إالّ تجاوز ًا ،طالما أن النّسخ األصلية لمصحف
عثمان كانت وال تزال في حكم المفقودة ،ولسنا نملك اليوم من
تمت إعادة كتابتها عقب أمرها سوى النّسخ المتأخرة ،وهي نسخ ّ
( )1جورج طرابيشي ،إشكاليات العقل العربي ،دار الساقي ،بيروت -لندن ،الطبعة الرابعة ،2011
ص .63 :
19
تقعيد اللغة والكتابة والخط ،وعلى األرجح في زمن خالفة عبد
الملك بن مروان.
السؤال :أين «كالم الله» من كل هذا؟
اإلجابة :إننا ال نملك من «كالم الله» غير «كالم رسول الله»
على وجه التّحديد.
وهذا ما ينسجم إلى حد ما مع االتجاه الذي يدعو إليه الشيخ
محمد الشبستري حين كتب يقول « :من الواضح أنّنا لو تبنّينا هذا
فإن الكالم الوحياني الذي نقله النبي للناس يصبح كالم االتجاه ّ
ذلك االنسان النبي الذي يتميز بتأييد اإلرادة اإللهية له ،وفي هذه
الصورة ،وبما أن هذا الكالم هو كالم بشر ،فسوف يكون من
الممكن فهمه من خالل المعايير الموجودة لفهم كالم اإلنسان»(.)1
لكن ،رغم ذلك ،يبقى المشكل شائك ًا بعض ّ
الشيء!
مبسط وعبر طرح سؤال
أقترح إعادة مقاربة المسألة بأسلوب ّ
واضح حول عالقة الخبز بالقمح.
بكل تأكيد ،لوال القمح لما كان هناك خبز .لكن هل هذا
يكفي حتى نقول إن المزارع هو صانع الخبز!؟
ليس ثمة من شك في أن صانع الخبز هو الخ ّباز وليس
المزارع ،ولكن ما كان لهذا األخير أن يصنع الخبز لوال الما ّدة
األولية التي هي القمح.
( )1الشيخ محمد الشبستري ،قراءة بشرية للدين ،ترجمة أحمد القبانجي ،منشورات الجمل
بيروت-بغداد ،الطبعة األولى ،2009 ،ص .199 :
20
وهكذا..
نسبة القرآن إلى الله هي على نحو نسبة الخبز إلى المزارع.
بمعنى :
لوال وجود الله لما ُوجد القرآن ،لكن ليس القرآن كالم
الله ،مثلما ليس الخبز صنيعة المزارع .الله هو ُمنتج الما ّدة الخام
التي هي الوحي ،مثلما أن المزارع هو منتج المادة الخام التي هي
حول القمح إلى خبز وفق رؤيته القمح .وكما أن الخ ّباز هو الذي ّ
الرسول هو الخاصة ومهاراته الفنية وقدراته اإلبداعية ،كذلك فإن ّ
َم ْن قام بتأويل الوحي وتحويله إلى عبارات وكلمات وفق رؤيته
الخاصة.
الرسول محمد أن القرآن هو كالم ّ نستخلص من ذلك ّ
عليه السالم ،كالمه الذي ُيع ّبر عن ثقافته ولغته وشخصيته وبيئته
وعصره .وهذا دون أن ننفي دور الله الذي هو الموحي ومصدر
الما ّدة الخام.
وباألحرى ،حين نضع نصب أعيننا أنّنا ال نعرف من أمر
المدون على نحو مع ّين ّ الخطاب القرآني سوى المصحف
من قواعد الكتابة وضوابط اإلمالء وظروف الجمع وخلف ّيات
الترتيب ،يكون بوسعنا القول إنّنا أمام نص بشري بال خالف ،أو
هكذا ُيفترض.
عود على بدء.
ر ّبما تبدو األمور أكثر وضوح ًا اآلن ،فعند الكالم عن القرآن
ال يجوز الخلط بين ثالثة مستويات :
21
الرسول ،و ُيمثل الما ّدة
ألهم ّأوالً ،الوحي اإلالهي الذي َ
المحمدي.
ّ الخام ،وال نعرفه إالّ عبر التّأويل
ثاني ًا ،القرآن المحمدي ،وهو نتاج تأويل ّ
الرسول إلشارات
الوحي اإللهي ،وهو بــدوره ال نعرفه إالّ من خالل التأويل
المصحفي.
ثالث ًا ،المصحف العثماني ،ويمثل الصياغة النصية ّ
الرسمية
للقرآن المحمدي ،الذي هو بدوره أيض ًا تأويل للوحي.
هذا يعني أننا ال نملك من أمر القرآن اليوم سوى ٍ
نسخ لنسخ،
وال نعرف عنه سوى تأويالت لتأويالت .وهذا يكفي لكي نقول إن
نُسخ المصحف العثماني التي صارت بين أيدينا –باختالفها في
القراءات -نصوص بشرية تاريخية تراثية وأرض ّية ،بكل ما تعنيه
إلهي ،لكن
األول إلهام ّ
أن منبعها ّ الكلمات من دالالت .صحيح ّ
ال ماء يعود إلى السماء غيم ًا كما كان.
واألصح أن نقول :
الرسول عليه السالم قرآن ًاإن الوحي اإلالهي بعد أن ص ّيره ّ
نص ًا بشري ًا
محمدي ًا ،ثم ص ّيره المسلمون مصحف ًا عثماني ًا ،صار ّ
بلغة البشر وعلى قدر أفهامهم.
22
هل هناك ن�ص ّ
مقد�ص؟
سمو
ّ كانت األديان -ولعلها ال تزال -ثورة روح ّية غايتها
الوجدان وتهذيب االنفعاالت البدائية لإلنسان .لكنها ظهرت
في مجتمعات العالم القديم ،عالم ما قبل الحداثة وما قبل دولة
المؤسسات والحق والقانون ،ما قبل الثورة الكوبرنيكية والعصر
الصناعي والعلم الحديث ،وما قبل اإلعالن العالمي لحقوق
اإلنسان وق َيم المواطنة وحقوق المرأة والفرد واألقليات والطفل.
لذلك ،جاءت األديان موسومة بميسم القدامة ،أي بمفاهيم
نجمدها في زمانها ونمدّ هذا
وقيم العالم القديم ،وبذلك عندم ِّ
الزمان إلى كل عصر تبدو وكأنها أمست عائق ًا يحول دون بلوغنا
مرحلة الحداثة.
ر ّبما نحن نقف اليوم على أبواب الحداثة ،أو هكذا ُيفترض،
لكنّنا نقف عاجزين مترددين ،خائفين متوجسين ،نتقدّ م بمقدار،
الرجوع.
ونتر ّدد أو نرتدّ بمقادير .ال نجرؤ على الولوج وال نستطيع ّ
أمامنا عقبة كأداء تعيقنا وتمنعنا :النص الديني ،بكل تراكماته
ومتفرعاته.
ّ
23
الرهان على مرجعية الخطاب القرآني لتقويض سلطة إمكانية ِّ
النص الحديثي ،واالنعتاق من َأسر نصوص الحديث التي شهدت
المسوغ لمشروع المفكر العربي ِّ تضخم ًا تصاعدي ًا ،هي المنطلق
جورج طرابيشي ،والمتو ّلد عن ملحمة نقد نقد العقل العربي ،بدء ًا
من نظرية العقل وانتهاء إلى من إسالم القرآن إلى إسالم الحديث.
جل القرآنيين ،أو نحسب األمر كذلك. وفي هذا يوافقه ّ
لكن يبقى إجراء آخر ،خطوة أخرى قبل الخروج من عتمة
القدامة ودخول عتبة الحداثة .ذلك أن االنغالق الالّهوتي الذي
حصلة انقالبين قديمين ال نزال نتخبط في ظلمته إلى اليوم هو ُم ِّ
مجرد انقالب واحد .نعم ،هناك «انقالب سنّي» ،استعرضه وليس ّ
الرسول إلى أقنوم حول ّ طرابيشي بإسهاب ،وهو االنقالب الذي ّ
ثان يجاور الذات اإللهية بل يجاوزها أحيان ًا ،ما أفسد مبدأ التوحيد ٍ
الربوبي الذي هو القصد والغاية .لكن الحاصل أيض ًا «انقالب ّ
مصحفي» بموجبه أصبح النص القرآني ذاته أقنوم ًا ثاني ًا أو ثالث ًا.
الرباني النقالبين متواليين أو إجماالً نقولّ ،
تعرض اإلسالم ّ
متوازيين :انقالب سني /أصحاحي ،وانقالب قرآني /مصحفي.
حمل المسلمون النص القرآني على كل الوجوه المحتملة، َ
جربوا جميع المستويات طرقوا كل الممكنات التفسيرية المتاحةّ ،
التأويلية ،من مناهج الظاهر إلى مدارج الباطن ،مدّ دوا القياس الى
أبعد مدى ممكن ،جربوا االنتقائية بكافة متاحاتها ،لكن ال جدوى
تُرجى .كما لو كانوا يحملون صخرة سيزيف إلى األعلى ثم
تتدحرج ،فيعودون إليها من جديد.
24
تمر عبر طريق
هل المقصود أن قدر الحداثة اإلسالمية أن ّ
الخروج على الدين؟
فرق بين الخروج على الدين والخروج من الدين ،كما
أوضح طرابيشي في أكثر من مناسبة .الخروج على الدين قرار
شخصي يعلنه الفرد في أي لحظة ،والخروج من الدين مشروع
مجتمعي ينطلق من «ديانة الشعب» ويسعى إلى أن يضفي عليها
أكبر قدر من المعقولية والعلمنة.
الحس السليم ،ال مشكلة في أن نؤمن بالله. ّ من وجهة نظر
بل قد يمثل اإليمان بالله خبرة روح ّية مفتوحة على سمو الشخص
وتسامي النّفس وسعة الخيال .إنما المشكلة كل المشكلة أن نؤمن
بنصوص دينية قديمة ومتقادمة تُك ِّبل العقل وتشل اإلرادة وتقتل
اإلبداع ،ثم نقول عنها إنها نصوص الله .كما لو كان الله كاتب ًا أو
مدون ًا؟ وهذا ال يقبله العقل السليم إال من باب التسليممؤلف ًا أو ِّ
االنقيادي الذي قد يفتح باب اإليمان األعمى بأي شيء .وهنا
تتجلى إحدى ثغرات العقالنية الكانطية.
معضلة النصوص الدينية لكافة األديان (مثل المصاحف
واألناجيل واألسفار والوصايا والصحف والزبور )...أنها كُتِبت
في مرحلة كان فيها المجتمع بال مؤسسات ،والسلطة بال قوانين،
والمعرفة بال مناهج ،واللغة بال قواعد .وبالتالي ،طبيعي أن تبدو
لنا تلك النصوص اليوم قاصرة عن إنتاج أي نظام ِق َيمي أو معرفي
ف ّعال ،بقدر ما تبدو للبعض أنها قابلة لكل التأويالت والتفسيرات
مهما بدت متناقضة.
25
غير أن الحديث عن القصور ليس انتقاص ًا من الذات اإللهية
كما يظ ّن « َع َبدة النصوص» ،لكنّه تأكيد لحقيقة بديهية :الكمال
للخالق دون المخلوق.
بكل تأكيد ،القرآن مخلوق كما أكد المعتزلة قديم ًا .ونضيف
بأن جميع المخلوقات محكوم عليها بالنقص والنسبية وال َع َرضية
والزوال .وإذا كان هذا شأن كل مخلوق ،بما في ذلك المخلوق
وحي
ٌ البشري أيض ًا ،فما بالك بالقرآن ،وهو -في بدئه ومنتهاه-
نبي «يمشي في األسواق» ،ثم تم ّثله وفق تصوراته، إشاري تل ّقاه ّ
تأوله تبع ًا لثقافته ،ثم صاغه في شكل عبارات بحسب المتاح ثم ّ
دونه المدونون باعتماد أدوات بعيدة اللغوي والمفاهيمي لديه ،ثم ّ
عن الدِّ ّقة (عظام وأوراق أشجار وصفائح حجرية ،)...ثم ُجمع
ّأول األمر كيفما أمكن ،ثم ..للحكاية تفاصيل سنأتي على ذكرها
أو ذكر بعضها.
في كل األحوال ،ال وجود لكالم كامل ومكتمل.
هكذا حال القرآن الذي هو كالم ُأنشئ بلغة أنشأها البشر.
ال مثالي ًا لمعضلة التفاهم؛ فضال عما قيلّ ،
فإن الكالم ليس ح ً
إذ يتيح التّحاور بقدرما يضع ألغام ًا في طريق التفاهم.
الكالم اصطالح ًا يعني الجرح واأللم.
هكذا يكون اإلشكال في النص القرآني مزدوج ًا؛ فهو أوالً،
يسري على سائر المخلوقات ،وهو نص مخلوق يسري عليه ما ْ
ثاني ًا ،نص قيل وكُتب بلغة بشرية ،طبيعية ،وضعية ،كانت ال تزال
قيد التقعيد.
26
وهو خطاب يعكس في مضمونه مفاهيم وقيم العالم
القديم ،عالم ما قبل نشوء الدولة ،وما قبل نشوء العلم ،وما قبل
قيم المواطنة.
األصل في الخطاب القرآني -باعتباره وحي ًا إلهي ًا صار كالم ًا
مخلوق ًا ومؤ ّلف ًا بلغة بشرية -هو نقص التعبير وسوء الفهم .لذلك،
وأدق وأعمق ما قيل عنه إن آياته حمالة أوجه ،وهذا ما قاله أصدق ّ
اإلمام علي بن أبي طالب.
في المقابل ،جانبان باقيان ما بقي القرآن :اإليقاع الشعري
الجمالي ال سيما في اآليات المكيات ،والو ْقع التع ّبدي االبتهالي في
مجمل القرآن .بل ،لعل األمر متعلق بشكل واحد ،هو نفس الشكل،
طالما الجمال واالبتهال سيان .وذلك هو الروح اإلالهي فيه.
هذا يعني أن المضامين المعرفية والتشريعية المحضة للنص
الزوال ،بل لعلها تبدلت وزال بعضها
الديني آيلة إلى التبدل أو ّ
بزوال أسباب نزولها.
لقد ظهرت األديان في مرحلة ما قبل الدولة الحديثة وما قبل
العلم الحديث .وطبيعي أن تتأثر بمفاهيم وقيم العالم القديم ،سواء
من حيث عالقة اإلنسان باإلنسان ،أو عالقة اإلنسان بالطبيعة ،أو
عالقة اإلنسان بالله .لذلك ،جاءت النصوص الدينية موسومة
بميسم النظرة السحرية للعالم.
َ
فإن اإلصالح الديني –الذي لم يكتمل في الغربهكذاّ ،
لكنه في اإلسالم لم يبدأ بعد -رهين بتحرير الخطاب الديني
من مفاهيم وقيم العالم القديم ،أي تحريره من مفاهيم الطاعة
27
والوالء والتحريم ،ومن قيم العار والعورة والتابو ،ومن وساوس
التعويذات والرقية والتنجيم.
عدا هذا ،لن يكون هناك إصالح ديني وال هم يحزنون.
لكن ،هل أفق كهذا ممكن اآلن؟
الممكن هنا يخدش الحساسية الدينية .لكن ،هل بغيرلعل ُ
هذا يكون إصالح ًا ؟
ال :إذا كان الدين ينتمي إلى العالم رب سائل يتساءل قب ً
ّ
القديم؟ وإذا كان مكان األديان متحف التاريخ ؟ فما جدوى هذا
الوقت المبذول في التفكير في الدين واإلصالح الديني إذ ًا؟
تصور وجود عالم بال ّ حقا ،ال أملك خياالً يمكّنني من
أديان .لكني في المقابل سيكون وعيي جامد ًا متجمد ًا حتى أظ ّن
أن األديان ستدوم بنفس تصوراتها السحرية إلى األبد.
ينطبق هذا القول على اإلسالم أيض ًا .بل هو عليه أشدّ
انطباق ًا.
عمر اإلسالم طويالً .لكن للبقاء ثمن ،إذ
الراجح أن ُي ِّ
من ّ
الكثير من «مس َّلمات» اإلسالم فنيت ،والكثيرمنها ستفنى ولن
يبقى منها سوى أضغاث أوهام.
ماذا سيبقى من هذا اإلسالم؟
الربوبي
ببساطة ،مبدأ أساس يستحق البقاء :مبدأ التّوحيد ّ
الخالص (ال إله إال الله) ،بال زوائد تنتمي في الغالب أو على
األرجح إلى العالم القديم .عالم كان يوازنه األنبياء كما كان يفعل
ذلك اآللهة من قبل .في المقابل ،هناك ما ينتظر شهادة الوفاة:
28
شريعة األحكام البدوية والبدائية ،من قبيل القصاص والفيء
والرجم أو الجلد ،وكل ما ينتمي إلىوالحدود والجزية والسبي ّ
أزمنة ما قبل الدولة ،بل باألحرى ما قبل دولة القانون.
مشكلة األصوليين أنهم قلبوا وشقلبوا المعادلة ،وبدل
التركيز على العقيدة التي هي جوهر رسالة اإلسالم ،فقد شغلوا
الناس بكثرة الكالم عن الشريعة ،والتي هي كالم الفقهاء على
وجه التحديد ،بمعنى أنها ثمرة جهد الفقهاء على مدى الف عام أو
يزيد لغاية استنباط أحكام وقوانين وتشريعات من النص القرآني
والحديثي وحتى الصحابي أو التابعي في بعض األحيان .ولم يكن
ذلك بريئ ًا ،بل لم يكن لوجه الله ،إنما هو في غالبيته ،إن لم يكن
كله ،لوجه السلطة والسلطان .في المقابل ،أمست العقيدة هي
المسكوت عنه داخل الخطاب األصولي .لماذا؟ من جهة أولى،
ألن الشريعة تمثل ال ُبعد التس ّلطي المنسجم مع المزاج األصولي؛
الربوبي،
التحرري للتوحيد ّ
ّ ومن جهة ثانية ،ألن العقيدة تمثل ال ُبعد
ينصبون
وتفضح ،ابتداء من يزعمون الكالم باسم الدين ومن ِّ
حراس الدين ،ومن يدّ عون أنهم هم أهل الدِّ ين. أنفسهم ّ
نتصور
ّ بالطبع ،سنحتاج إلى غير قليل من الخيال حتى
إسالم ًا جديد ًا مختلف ًا عن اإلسالم الذي ورثناه عن تراثنا .لكن،
أليس الخيال نفسه جوهر التجربة الدينية كما كان يرى ابن عربي،
والفارابي ،وسبينوزا وغيرهم؟
حراسه منعوا النّاس من إِعمال
في مقابل ذلك ،آفة الدين أن ّ
المحال ،ومن ثم حرموا الدين منالخيال وإِجالل الجمال وطلب ُ
مجرد شعائر شكلية وصلوات
روح التطور وطاقة اإلبداع ،وجعلوه ّ
29
ُرسخ الزمن الدائري في صورية وتعاليم م ِّيتة وحركات تكرارية ت ِّ
الوعي وفي األفعال.
آفة الدين «إيمان العجائز» الذي ُيع ِّطل الطموح ويقتل اإلبداع
ويردد في كل مناسبة أو من دون مناسبة :كل بدعة ضاللة ،وكل
ضاللة في النار .وإيمان أولئك الذين يقتلون كل إيمان ،ألئك الذين
فيحولونهم إلى تابعين لهم
ّ تصورهم لإليمان
يفرضون على الناس ّ
وآلرائهم بدل أن يتبعوا جوارحهم التي تد ّلهم إلى اإليمان الحقيقي.
آفتنا أن فقهاءنا المتأخرين أغلقوا باب النقاش في كل
المسائل :الذات اإللهية وصفاتها ،والمصاحف واختالفاتها،
واألصحاح وإسناداتها ،إلخ .في المقابل ،لم يكن االنغالق
العقائدي داخل تراثنا المبكِّر بهذا النحو الذي صار عليه اليوم ،بل
كان مجال النقاش أوسع وأرحب.
الرؤية واتسعت العبارة (إذا
فهل ضاقت الصدور؟ أم ضاقت ّ
قلبنا مقولة النفري الشهيرة)؟
من أمثلة هذا الضيق أن كان علماء القرآن والمصاحف
والتفسير في الماضي أمثال السجستاني والطبري والقرطبي ،وحتى
المتأخرون منهم مثل السيوطي ،يتكلمون بال حرج عن اآليات التي
ضاعت أو ُفقدت ،أو األخطاء النحوية في المصحف العثماني ،أو
المجاز القصصي في القرآن ،بل حتى المجاز األخروي ،ومسائل
كثيرة في اإللهيات والنقليات واألخرويات ،من دون أدنى حرج .أما
اليوم فيعدّ الخوض في مثل هذه القضايا ضرب ًا من الكفر واإلساءة
للمشاعر الدينية «الهشة» للمسلمين .كما لو أننا أصبحنا فجأة أ ّمة
من المعاقين واليتامى وممن تجب مراعاة مشاعرهم.
30
هل هي أعراض متأخرة لمرض الهزيمة ،تلك الهزيمة التي
انتقلت من واقعة تاريخية لتغدو جرح ًا نرجسي ًا ،فعصاب ًا وسواسي ًا،
ثم نكوص ًا جماعي ًا؟
مشكلتنا أنّنا حبسنا أنفاسنا وحاصرنا أنفسنا في المغاور
الرحبة وخرير المياه
المقفرة .وبدل البحث عن الله في سعة الحياة ّ
الرطبة ،بدل أن نبحث عن الله في الجمال العذبة وعذوبة الشفاه ّ
واالبداع وشاعرية وشغف الحياة ،أصبحنا نفتش عنه في نصوص
الموتى ،نردد ما قالوا ،نؤ ّيد ما فعلوا ،نق ّلد ما علموا وما جهلوا ،ال
نَجرؤ على عصيانهم وال نقدر على إحيائهم .وبهذا النحو تنقلب
الرجوع إلى السلف الميت بدي ً
ال اآلية (وإليه ترجعون) ،ليصبح ّ
الحي.
ّ عن مرجعية الله
باسم اإلسالم وبدعوى حماية اإلسالم ((ممن!؟)) جاءت
المرة نحو عصور العشائر البدائية ،حيث ال تبدو السلفية
ر ّدتنا هذه ّ
أكثر من ديانة بدائية أساسها عبادة األسالف.
إنها فضيحة بكل المقاييس.
في هذا المنحدر النكوصي ارتدّ ت الثقافة الدينية اإلسالمية
الربوبي ،وسقطت سهو ًا أو قصد ًا في شرك عن مبدأ التوحيد ّ
تقديس بل تأليه النص الديني .مع أن النص الديني هو في األخير
مجموعة نصوص تنتمي إلى عالم ما قبل دولة المؤسسات ،وما
قبل العلم الحديث ،وما قبل اإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان.
لقد أوصلنا تقديس النص الديني والعجز عن تخطي أحكامه
إلى ُسبات العقل ،وجمود الوجدان ،وضمور اإلرادة .أوصلنا إلى
إيمان العجائز ،ذلك اإليمان القائم على الخوف.
31
مثل هذا الوضع ال يترك للحس السليم مجاالً ألي كالم زائد
أو ساقط في أسواق المزاد الديني؛ إذ سيحاسبنا الله ،والتاريخ
أيض ًا ،عن ضياع الوقت الباقي وهو قليل.
صدق ًا نقول :فكرة وجود الله (الواحد األحد ،والذي ال
إله إال هو) فكرة نبيلة وجميلة ،بل لعلها من أنبل وأجمل ما أبدع
الفالسفة واألنبياء على السواء ،وهي أساس النزعة اإلنسانية ،بل
أساس النزعة العقالنية أيض ًا .لكن األسلوب الذي تناولت به كافة
النصوص الدينية فكرة التوحيد الربوبي ال يناسب في الغالب سوى
المستوى اإلدراكي والخلفية األخالقية والذوق الجمالي إلنسان
العالم القديم :عالم المشكاة والهودج والقبيلة والسيف والطاعة
والقصاص والجن والعفاريت والشياطين والسحرة والرقية.
وإذا كانت البشرية ال تزال بحاجة إلى الله ،سواء بسبب رهبة
الموت وقلق العدم والمعقولية الطبيعة والكون وشاعرية الحياة،
مجرد نقص في األصل ولغز بال حل ،فإن أو بسبب أن الوجود ّ
النّصوص الدينية «المقدّ سة» لكافة األديان ،ومن ضمنها اإلسالم،
تنتمي إلى السياق التواصلي والق َيمي للعالم القديم .وهي ما
عادت تلبي احتياجات مجتمعات الحداثة السياسية والديمقراطية
والحريات الفردية وحقوق اإلنسان.
المطلوب بالتالي ،أن نخ ِّلص فكرة الله من كل مفاهيم وقيم
العالم القديم.
وإالّ..
ما معنى عبارة (الله أكبر) إن لم تكن تعني أن الله أكبر من كل
32
الكلمات واألشياء ،وأكبر من التراث واألصحاح والمصاحف،
وأكبر من مكتسبات السلف خيرها وشرها؟
ما معنى عبارة (وإليه ترجعون) أو (إلينا مرجعكم) ،التي
تتكرر في النص القرآني مرار ًا ،إن لم تكن تعني أن ال مرجع دائم ّ
وال مرجعية أبدية ألي شيء آخر إال الله؟
التحول منها
ّ بل ،حتى الذات اإللهية نفسها هي أقرب إلى
إلى الثبات .ويكفينا بيان ًا أن الله يصف نفسه في القرآن الكريم بأنه
(كل يوم هو في شأن) الرحمان.29 -
ولست أدري إن كان بوسعي أن أجازف قليال بالقول إنه ُ
ما (كان عرشه على الماء) إالّ من حيث الصورة الوحيانية ،ولما
يرمز له ركوب الماء من غياب للثبات وانعدام لالستقرار ،بخالف
الرسول قد تم َّثل الصورة
اليابسة حيث الثبات واالستقرار .ولعل ّ
«ح ْرف َّية».
الوحيانية هنا بعبارات َ
وفي كل األحوال ،ترتبط الصور الوحيانية بتمثالت ثقافية
وحدسية محدّ دة في الزمان والمكان .فلقد كان مبدأ األلوهية في
العالم القديم يقوم على أساس مفاهيم العبودية ،بما يعنيه ذلك من
تسليم وخضوع وخشوع .وهذا ما كان ينسجم مع التركيبة النفسية
إلنسان العالم القديم.
لكن ،مثل هذا لم يعد يناسب إنسان الحداثة.
ما نحرص على تأكيده هو أن تقديس النص الديني الكتابي
–وهو تقديس ال يجوز لغير الذات اإللهية -قد حرم فكرة الله
من ذلك االمتياز الشفوي الذي كان يسمح لها بأن تواكب النمو
العقلي والمعرفي واألخالقي لإلنسان.
33
ولذلك ،فإن انتقال فكرة الله في اإلسالم من مستوى
الخطاب الوحياني واآليات ال َب ِّينات ذات الطابع الشفوي ،كما
الرسول األمين قبل وفاته ،في مجتمع قائم على الشفوية، تركها ّ
جمد
إلى مستوى نص كتابي ثابت ومقدَّ س ومحكم اإلغالق ،قد ّ
األلوهية عند مستوى النمو العقلي واألخالقي للحظة تدوين النص
القرآني .أي ،لحظة « َم ْص َحفة القرآن».
بالجملة التّوكيدية نقول :إلهنا أو ر ّبنا أو خالقنا -أو الذي
الرؤى األكثر دقة وإشراق ًا -بات محتَجز ًا داخل هو بال تعيين وفق ّ
سياج مفاهيم وتصورات نصوص تنتمي عموم ًا إلى العالم القديم،
عالم القدامة.
بأن انتقال فكرة الله من عالم القدامة لذلك ،نؤكد مجدّ د ًا ّ
البائدة إلى عالم الحداثة المتجددة هو مشروع نبيل وجميل
أيض ًا ،لكنّه يستدعي في المقابل قدرتنا على تحرير صورة الله
الربوبي من شوائب من تصورات التراث ،وتخليص مبدأ التوحيد ّ
تقديس نصوص الموتى.
نتجرأ على النظر إلى أحكام
بمعنى أوضح ،يتوجب علينا أن ّ
ما ُيسمى بالشريعة ،فنتجاوز ما اليمكن قبوله ،وما ينتمي الى
القدامة ،أو يكفي أن نسقطها بالتقادم.
هذا واجب أخالقي ،ومصلحة واقعية ،وضرورة عقلية.
وال غرو ،إذ (يبقى وجه ربك ذو الجالل واإلكرام) ،سورة
الرحمان ،اآلية .27
34
ما الوحي؟
35
هكذا ،مع استنفاذ ممكنات التفسير والتأويل عن مواجهة
المعضالت التي فرضها العصر الحديث ،توقف العقل اإلسالمي
عن الحركة ،وأصابه العطب.
وإذ يظن محمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد وأبو
يعرب المرزوقي ومحمد شحرور ،وكثيرون غيرهمّ ،
أن معركة
تأويل النص الديني ال تزال مفتوحة على ممكنات االستئناف،
وهي مفتوحة حتى أمام القوى العقالنية والعلمانية لتخوضها
أفضل اقتراح فرضياتوتدلو بدلوها ،فإني ،خالف ذلك الظ ّنِّ ،
عمل أكثر معقولية وتواضع ًا.
تجرد ،وبعد كل هذا التاريخ الطويل للنص القرآني الذي بكل ّ
ص ّيره المسلمون نص ًا مغلق ًا ،بل سلطة مطلقة ،يتوجب االعتراف
بأن تفسيرات وتأويالت الخطاب القرآني قد استنفدت في األخير ّ
محاوالت العصرنة والتحيين ،وما عاد يفيد بالتالي أن نضيف إليه
فهم ًا جديد ًا سواء باعتماد التأويل الباطني (الفرق الباطنية) ،أو التفسير
الظاهري (ابن حزم) ،أو التفسير اإلشهادي (ابن عربي) ،أو التفسير
البالغي (الزمخشري) ،أو التفسير الفلسفي (فخر الدين الرازي)،
أو تفسير القرآن بالقرآن (محمد حسين الطباطبائي) أو التفسير
االجتماعي (محمد عبده) ،أو التفسير الحركي (محمد حسين فضل
الله) ،أو التفسير االصطالحي (محمد شحرور) ،أو نحو ذلك .فمن
خالل كل األوجه المتاحة والممكنة ،يبدو أن المحاوالت الجديدة،
لم تستطع أن تنجح في دفع المجتمع اإلسالمي نحو عالم الحداثة
السياسية وتق ّبل الحريات الفردية وحقوق اإلنسان ،بل ظلت هامشية
وعاجزة عن انتاج قوى حقيقية في هذا المجتمع تستطيع مواجهة
36
قوة التأثير التي يمثلها اإلسالم األصولي والسلفي الذي أنكر حتى
مشروعية هذه المحاوالت ووصفها بصفات تمتد ما بين الرفض
والخروج على الدين والكفر .ولم يخرج حتى «اإلسالم المعتدل»
عن دائرة هذا التفسير .بل وبسبب الخوف من قول الحقيقة عارية،
غابت النصوص التي تذهب الى لب المشكلة :مواجهة مقولة
اإلسالم دين ودنيا ،أي مواجهة حصر الدين بالعبادات والطقوس
من جهة ،والشريعة من جهة أخرى .هكذا غاب الدين الذي قوامه
اإليمان بالله ،وهو إيمان فردي ال يمر عبر أي نص أو داعية أو
مؤسسة ،أمام دين الدنيا الذي قوامه الشريعة والتكاليف.
تصور أي
وعلى سبيل االستدالل ،لسنا بقادرين اليوم على ّ
تأويل حقوقي ومساواتي لآلية ( للذكر مثل حظ األنثيين) سورة
النساء ،اآلية ،11إالّ أن يكون تبرير ًا لظروف نزول اآلية بالنظر
الرسول ،مثلما إلى الوضع االجتماعي واالقتصادي القائم زمن ّ
يفعل -بصيغ مختلفة -كل من أبي يعرب المرزوقي ومحمد
الح َرج عن هذا
عابد الجابري ومحمد شحرور ،وذلك ابتغاء رفع َ
يلتف عليه حتى المسلمون أنفسهم بتبريرات التتفق ّ الحكم الذي
يورث خالف ًا لحكم اآلية مع أن عمله مع النص ،فال ُيعاقب الذي ّ
نص صريح .إالّ أننا بهذا المنطق التبريري نقفمخالفة لحكم فيه ّ
موقف التماس األعذار والبحث عن ظروف تخفيفية ألحكام،
وردت في القرآن ،تبدو وكأنها مجحفة بمقاييس العصر .بل لعلها
تنكأ الجرح الذي تطلق عليه رجاء بن سالمة بـ «جرح التفضيل
اإللهي» للذكور على اإلناث( .)1ذلك الجرح الذي ليس بوسع أي
( )1رجاء بن سالمة ،جرح التفضيل اإللهي ،موقع األوان 01 ،آذار (مارس) .2007
37
تأويل جديد بلسمته ،عدا اللجوء إلى آلية التعطيل ،أو تجميد حكم
السوي
ّ اآلية .إالّ أن حيلة التعطيل تطرح إشكاالت ال تقنع العقل
وال هي ترضي الفطرة السليمة.
إذ ًا ،ال بد أن نواجه السؤال :ما مصير «النص الديني»؟
بالتأكيد ،القرآن كالم نتلوه ونرتّله في صلواتنا ونتع َّبد به،
هكذا كنا وال نزال .وهذا ال يطرح أي مشكلة دينية أو سياسية.
لكننا حين نضفي عليه صفة الدستور اإللهي فإننا ال نفعل سوى أن
وتصورات تنتمي إلى عصر ّ نق ِّيد آراءنا ومواقفنا السياسية بمفاهيم
نزول القرآن ،عصر ما قبل نشوء الدولة الحديثة.
ولعل التعصب الذي يبديه عدد من المسلمين غالب ًا أو أحيان ًا
حول المفاهيم السياسية (وتحديد ًا ما قبل السياسية) الواردة في
نص ص ّيرناه الخطاب القرآني ،ال يعدو أن يكون تغطية على أحكا ِم ٍّ
«مقدس ًا» ،وجعلناه مؤ َّبد ًا ،مع أنه ال يناسب سوى المستوى النفسي
واالجتماعي واللغوي إلنسان العالم القديم.
ولسنا نجد من حيلة لتحيين أحكامه أو لعصرنتها سوى
التحايل وااللتفاف عليها وتعطيل بعضها أو أكثرها .ثم يسكت
ال مؤقت ًا
اإلسالميون النّفعيون عن هذا التعطيل أو يسمونه تعطي ً
لغاية تحقيق يوطوبيا المجتمع المسلم «جد ًا» في ميقات يوم غير
جل اإلسالميين اليوم .لكن مثل هذا معلوم .هكذا يقول لسان حال ّ
اإلخراج المهدوي ال يخفف شيئ ًا من اإلحراج ما دمنا نعتبر النص
وصايا وأحكام ًا إلهية مطلقة الصالحية التشريعية في كل زمان
ومكان.
38
لذلك ،داخل سياج النص ،عادة ما ينهزم أنصار العقل أمام
أنصار النقل بفارق كبير في النقاط .بل عادة ما ينهزم حتى أنصار
الحرفي .ال ّلهم ّإال اذا ّقررنا في
النقل المعرفي أمام أنصار النقل َ
األخير تحييد النص عن حلبة الصراع السياسي .وهذا خيار عملي
لكنه يحتاج لسند نقلي .وال بأس في ذلك.
تجرد ،أيض ًا ،مشكلتنا مع الخطاب القرآني أننا لم نعدبكل ّ
نعيش في زمن السبي والفيء والجزية و(ما ملكت أيمانكم)؛ لم
نعد نعيش في زمن (النفاثات في العقد) و(عتق رقبة) وزواج أو
طالق (الالئي لم يحص ّن) ...إلخ .لذلك أصبحنا أمام الكثير من
األحكام والمفاهيم والتصورات القرآنية نشعر بالحرج واالرتباك،
وأصبحنا ندرك غربة «النص المقدس» في العالم الجديد .وأحيان ًا،
نناور باللغة الى حد اللغو كما يفعل محمد شحرور وآخرون.
وهكذا يبدو «المعتدلون» في موقع التبرير والتحايل ،وفي
المقابل ،يبدو السلفيون المتشدّ دون وكأنهم صادقون مصدِّ قون
لما بين أيديهم من صريح النص!
إزاء هذا الموقف ،ال يملك «المعتدلون» من فرصة للتخفيف
الح َرج سوى ادعاء أن تلك األحكام ،التي تحاور مجتمعا بدوي ًامن َ
من مجتمعات العالم القديم ،تحتاج إلى اجتهاد ال يزال مع َّلق ًا أو
مفتوح ًا على أفق «غير منظور» .أو إنهم ،أحيان ًا ،يلوذون بالصمت.
سأحاول أن أبسط فرضيات حول الخطاب القرآني .لكن،
قبل ذلك ،أو ّد التذكير بمنهجية بالغة الوضوح واألهمية :
نستطيع أن نحكم على كل فرضية جديدة بأنها صالحة أو
تفسر عدد ًا أكبر من الظواهر
أكثر صالحية ،حين يكون بوسعها أن ِّ
39
وتحل عددا أكبر من المسائل .وعلى هذا النحو سنرى كيف أن
ّ
وتحل عدد ًا أكبر تفسر عدد ًا أكبر من الظواهر
فرضيتنا بوسعها أن ِّ
من المسائل .وعلى األقل ،فإنها تفعل ذلك بنحو أكثر معقولية
وانسجام ًا.
وأيض ًا ،أرى لزام ًا أن أثير اعتراف ًا صريح ًا ،من باب صدق
األقوال على األقل:
لست أزعم لنفسي أي جدّ ة عدا إعادة تنظيم بعضُ هنا
المعطيات التي ذكرها كل من عبد الكريم سروش في كتابه بسط
التجربة النبوية ،والشيخ محمد مجتهد الشبستري في كتابه قراءة
بشرية للدين ،فضال عن بعض محاضرات أحمد القبانجي.
ملخص ما يقوله المصلحان الدينيان اإليرانيان عبد الكريم
شروس والشيخ محمد مجتهد الشبستري ،وكذلك ما يردده عالم
أن القرآن صادر عن نور إلهي الدين العراقي أحمد القبانجي ،هو ّ
فعال لكنه ليس كالم الله في األخير .إنه -يقول القبانجي -وحي
نابع من وجدان الرسول .ولذلك يكون الوحي تابع ًا لشخصية
الرسول –يقول سروش -وليس العكس ،ولذلك أيضا –وكما ّ
يوضح الشبستري -فإن األوامر والنواهي في القرآن ليست أوامر
ونواهي الله لكنها أوامر ونواهي النبي المؤ َّيد من الله ،أي أنها
الرسول.
أوامر ونواهي مق َّيدة بقيم عصر ّ
على الرغم من أن رؤية هؤالء المصلحون غير مقبولة من
الرسمي ،فإن ميزة سروش أنه يقول ذلك القول وهو يحمل التشيع ّ
صفة عالم دين ،وميزة الشبستري أنه يقول ما يقوله وهم يحمل لفب
40
شيخ ديني ،وميزة القبانجي أنه يستطيع أن يقول رأيه وهو يرتدي
ج ّبة رجال الدين ،أما أنا فلست أحظى بمثل هذه الميزات .لكني
من دون هذه المميزات ،وانعكاساتها في الذهن وفي االجتماع،
ربما أذهب غير مذهبهما العرفاني ،وربما أبعد من ذلك قليال أو
هكذا آمل.
مقصود القول :إننا ،وعلى سبيل التوضيح ،نستطيع أن نقول
تجرد :مثال ،ليس الله تعالى ِذكره هو الذي قال حرفي ًا (ويل
بكل ّ
لكل همزة لمزة) كما وردت في القرآن المحمدي! لكن مثل هذا
الرسول للتعبير عناألسلوب يظل الصياغة اللغوية التي اختارها ّ
إشارات الوحي اإللهي كما تم ّثلها.
الرسول ليس سوى ما يعتبره القبانجي نور ًا إلهي ًا يغمر قلب ّ
تعبير ،قد ال يخلو من غموض ،عما يسميه الفارابي وابن سينا
وصدر الدين الشيرازي وابن عربي والكثير من الفالسفة شرق ًا
وغرب ًا ،بالقوة التخييلية لألنبياء ّ
والرسل.
الرسل -حسب تأكيد ابن عربي أهم ميزة تُميز ّ
أيا يكنّ ،
وتوضيح سبينوزا -ليست العلم أو المعرفة ،وإنما هي َم َلكة
الخيال ،التي هي وسيلة االتصال بالصور الوحيانية واإلشارات
الربانية .يقول سبينوزا عن آيات الوحي إنها ،نظر ًا إلى أن مقصودها
ّ
لم يكن سوى إقناع األنبياء ،فقد «كانت تتفاوت تبع ًا آلراء األنبياء
وقدراتهم ،بحيث ال يمكن لآلية التي تعطي اليقين لهذا النبي أن
تقنع آخر مشبعا بآراء مختلفة .لذلك ،اختلفت اآليات باختالف
األنبياء وكذلك اختلف الوحي عند كل نبي طبق ًا لمزاجه على
41
ُ
الحوادث توحى إليهالنحو التالي :إذا كان النبي ذا مزاج مرح َ
التي تعطي الناس الفرح مثل االنتصارات والسالم .وبالفعل
نجد أن من لهم هذا المزاج قد اعتادوا أن يتخيلوا أمور ًا كهذه.
توحى إليه
وعلى العكس من ذلك ،إذا كان النبي ذا مزاج حزين َ
النبي رحيم ًا ألوف ًا غضوب ًا
ّ الشرور كالحرب والعذاب .وإذا كان
ُ
قاسي ًا ...كان قادر ًا على تلقي هذا الوحي أو ذاك .كذلك فإن
فوارق الخيال تكون على النحو اآلتي :إذا كان النبي مرهف ًا
مرهف أيضا .وإذا كان فإنه يدرك فكر الله ويع ّبر عنه بأسلوب َ
مهوش ًا .ومثل هذا يصدق على الوحي الذي مهوشا[!] أدركه َّ
َّ
يتمثل بالصورة المجازية :فإذا كان النبي من أهل الريف كانت
متضمنة لألبقار والجاموس ،وإذا كان جنديا تكون ِّ صورة الوحي
صورة قواد وجيش ،وأخير ًا إذا كان رجل بالط تم َّثل له عرش
ملك وما شابه ذلك»(().
هذه األطروحة قد نجد لها جذور ًا أو إرهاصات في التراث
الصوفي اإلسالمي .إذ كتب عبد الكريم شروس في أحد هوامش
بسط التجربة النبوية« :مما يجدر ذكره كالم سلطان ولد ،ابن
الرومي ،في بيان العالقة بين الشرائع السماوية
موالنا جالل الدين ّ
وصفات األنبياء وخصوصياتهم .يقول :إن اختالف الشرائع يعود
إلى اختالف خصال األنبياء ،فكل شريعة جاءت متناسبة مع مزاج
وطبيعة النبي المبعوث بها»(().
( )1باروخ سبينوزا ،رسالة في الالهوت والسياسة ،ترجمة وتقديم حسن حنفي ،دار التنوير،
بيروت ،الطبعة األولى ،2005 ،ص .146 :
( )2عبد الكريم شروس ،بسط التجربة النبوية ،ترجمة أحمد القبانجي ،منشورات الجمل ،بيروت-
بغداد ،2009ص .26 :
42
على ضوء هذه األطروحة التي تحاول قدر اإلمكان تحرير
الدين من السحر ،بوسعنا أن نالحظ كيف أن الوحي عند خاتم
ال لكل ذلك التنوع في الخيال والمشاعروالرسل جاء شام ً األنبياء ّ
الحساسة التي
ّ واالنفعاالت ،وذلك بسبب شخصية النبي محمد
جعلته سريع التفاعل مع مختلف الظواهر االجتماعية التي كان
ُيعاينها .وكثيرا ما كان يدخل في صراع نفسي مع رغباته ونزواته
المتنافرة أحيانا ،وكثير ًا ما و ّبخه وأنّبه الوحي القرآني نفسه في
لنبي اإلسالم من
إطار الصراع النفسي الذي كان يعيشه .وإن كانت ّ
شهامة مشهودة ،فإنها تتج ّلى في كونه لم ّ
يتحرج من تضمين القرآن
سور ًا وآيات تو ِّبخه وتؤنِّبه ،ليقرأها الناس حتى في المساجد وأثناء
صلواتهم.
عموم ًا ،انعكست تلك التوتّرات اإلنسانية على المزاج العام
لآليات القرآنية ،والتي جاء بعضها حا ّد ًا عنيف ًا ،وبعضها اآلخر جاء
مرن ًا متسامح ًا ،وأحيان ًا يكاد بعضها يناقض بعضها اآلخر ،وهكذا
دواليك.
سحري محفوظ،
ٍّ ليس القرآن إذن بنص مكتوب على لوح
الرسول ،بل القرآن الكريم
ثم نزل من السماء العليا إلى مسامع ّ
الرسول ،عبر خطاب لغوي وبشري للوحي الرباني ،خطاب أنجزه ّ
قوته التخييلية ،وانطالق ًا من ثقافته وبيئته ولغته وشخصيته.
ّ
وفي ذلك نالحظ وجود أربع سمات طبعت آيات القرآن :
( -إنها لم تكن دائم ًا على نفس المرتبة من القوة واإلتقان.
وهذا ما يفسر ظاهرة وجود آيات محكمات وآيات متشابهات .وهو
43
ما تع ِّبر عنه اآلية ( :هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات
وأخر متشابهات) سورة آل عمران ،اآلية .7
ٌ هن أم الكتاب
يقول جالل الدين السيوطي« :قال تعالى هو الذي
أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات ه َّن أ ّم الكتاب وأخر
متشابهات .وقد حكى ابن حبيب النيسابوري في المسألة ثالثة
أقوال ،أحدها أن القرآن كله ُم ْحكَم لقوله تعالى كتاب أحكمت
آياته؛ الثاني كله متشابه لقوله تعالى كتابا متشابها مثاني؛ الثالث
وهو الصحيح انقسامه إلى محكم ومتشابه لآلية المصدر بها.)((».
وإن اختلف العلماء في تحديد اآليات المحكمات واآليات
المتشابهات ،فقد اتفقوا عموما حول أن اآليات المتشابهات هي
األقل وضوح ًا .ويعرض السيوطي ألهم األراء التي تبين ذلك
االتفاق :
«وقد اختُلف في تعيين المحكم والمتشابه على أقوال .فقيل
المحكم ما ُعرف المراد منه إما بالظهور وإما بالتأويل ،والمتشابه
ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة وخروج الدجال والحروف
المق َّطعة في أوائل السور .وقيل المحكم ما وضح معناه ،والمتشابه
نقيضه .وقيل المحكم ما ال يحتمل من التأويل إال وجها واحدا،
والمتشابه ما احتمل أوجها»(.)2
-2انها ليست دائما على نفس المستوى من القيمة
واألفضلية ،وأن هناك آيات «خير» من آيات أخرى ،بحسب ما تعبر
( )1جالل الدين السيوطي ،اإلتقان في علوم القرآن ،تحقيق سعيد المندوب ،دار الفكر ،لبنان،
الطبعة األولى ،1996 ،ج ،2:ص .5 :
( )2السيوطي ،اإلتقان في علوم القرآن ،ج ،2 :ص 4 :و5
44
عنه اآلية (ما ننسخ من آية أو ن ِ
ُنسها نأت بخير منها أو مثلها) البقرة-
.106وهناك آيات «أحسن» من آيات أخرى ،بحسب ما تؤكده
اآلية (واتّبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) الزمر ،اآلية .55
ثم إن الرسول نفسه يعترف بأن بعض السور واآليات القرآنية
تتمتع باألفضلية ،مثل آية الكرسي وسورة اإلخالص .بل كان يصر
على اعتبار الفاتحة هي أم القرآن ،وهي السبع المثاني ،وهي القرآن
العظيم ،في صيغ كثيرة رواها البخاري ومسلم وغيرهما .وفي كل
«المفضلة» ال تدخل ضمن األحكام
َّ األحوال ،إن اآليات والسور
والشرائع وإنما ضمن آيات التع ّبد الربوبي الخالص.
-3انها ليست معصومة عن الخطأ ،سواء بسبب الصراع
النفسي الذي عانى منه الرسول ،أو جراء ظروف إمالء وكتابة
المصاحف قبل ظهور قواعد جامعة للغة العربية .وهذان االعتباران
يفسران ظاهرتين اثنتين:
تسرب بعض اآليات الشيطانية قبل نسخها، أوالهماّ ،
في ما تبرره اآلية (ما أرسلنا من قبلك من رسول وال نبي
إالّ إذا تمنّى ألقى الشيطان في أمنيته فنسخ الله ما يلقي
الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم) سورة
الحج ،اآلية .52
تسرب الكثير من الهفوات والهنات النحوية إلى
ثانيهماّ ،
مصحف عثمان ،باعتراف القدامى أنفسهم .سنذكرها
في سياق تناول الموضوع.
-4إن الرسول قد اكتفى أحيان ًا لدى صياغة بعض اآليات
45
بما بلغ إلى مسامعه من عبارات قالها آخرون من الصحابة ،في
ما اصطلح عليه بـ«ما نزل من القرآن على لسان بعض الصحابة».
وعلى سبيل االستدالل نذكر ،ضمن ما أورده السيوطي في االتقان
في علوم القرآن ،ما يلي :
«أخرج الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله قال إن الله جعل
الحق على لسان عمر وقلبه .قال ابن عمر وما نزل بالناس أمر قط
فقالوا له وقال إال نزل القرآن على نحو ما قال عمر».
وأخرج ابن مردويه عن مجاهد قال« :كان عمر يرى الرأي
فينزل به القرآن».
وأخرج البخاري وغيره عن أنس قال ،قال عمر :وافقت
ربي في ثالث ،قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم
مصلى فنزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ،وقلت يا رسول
الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن
فنزلت آية الحجاب ،واجتمع على رسول الله نساؤه في الغيرة
فقلت لهن عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن
فنزلت كذلك.
وأخرج مسلم عن ابن عمر عن عمر قال :وافقت ربي في
ثالث في الحجاب وفي أسارى بدر وفي مقام إبراهيم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس قال قال عمر« :وافقت ربي
أو وافقني ربي في أربع ،نزلت هذه اآلية ولقد خلقنا اإلنسان
من ساللة من طين ،اآلية ،فلما نزلت قلت أنا فتبارك الله أحسن
الخالقين فنزلت فتبارك الله أحسن الخالقين».
46
وأخرج عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن يهودي ًا لقي عمر بن
عدو لنا فقال عمر
الخطاب فقال :إن جبريل الذي يذكر صاحبكم ّ
من كان عدوا لله ومالئكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو
للكافرين قال فنزلت على لسان عمر.
وأخرج ُسنَ ْيد في تفسيره عن سعيد بن جبير أن سعد بن
معاذ لما سمع ما قيل في أمر عائشة قال سبحانك هذا بهتان عظيم
فنزلت كذلك.
وأخرج ابن أخي ميمي في فوائده عن سعيد بن المسيب قال :
كان رجالن من أصحاب النبي إذا سمعا شيئا من ذلك قاال سبحانك
هذا بهتان عظيم :زيد بن حارثة وأبو أيوب ،فنزلت كذلك.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال :لما أبطأ على النساء
أحد خرجن يستخبرن فإذا رجالن مقبالن على بعير الخبر في ُ
حي قالت فال أبالي يتخذ الله
فقالت امرأة ما فعل رسول الله قال ّ
من عباده الشهداء فنزل القرآن على ما قالت ويتخذ منكم شهداء.
وقال ابن سعد في الطبقات أخبرنا الواقدي حدثني إبراهيم
بن محمد بن شرحبيل العبدري عن أبيه قال :حمل مصعب بن
عمير اللواء يوم أحد فقطعت يده اليمنى فأخذ اللواء بيده اليسرى
وهو يقول وما محمد إال رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات
أو ُقتل انقلبتم على أعقابكم ثم قطعت يده اليسرى فحنا على اللواء
وضمه بعضديه إلى صدره وهو يقول وما محمد إال رسول ،اآلية. ّ
ثم قتل فسقط اللواء ،قال محمد بن شرحبيل :وما نزلت هذه اآلية
47
وما محمد إال رسول يومئذ ،حتى نزلت بعد ذلك»(.)1
إذ ًا ،ليس الخطاب القرآني خطبة إلهية نزلت من السماء
جاهزة ناجزة وألقيت على السامعين كما أنزلت بالتمام ،إنما القرآن
إبداع تم ّثلي وتأويلي أنجزه الرسول انطالق ًا من الطاقة الوحيانية
التي تملكها ،وفي سياق نفسي واجتماعي وثقافي محدّ د.
( )1جالل الدين السيوطي ،اإلتقان في علوم القرآن ،تحقيق سعيد المندوب ،دار الفكر ،لبنان،
الطبعة األولى ،1996ج ،1:ص .102 ،101 :
48
الن�ص وال ّنق�ص
ّ
50
وبهذا المعنى ،جاء التعبير النصي عن الوحي اإللهي تعبير ًا
«محدد ًا ومحدود ًا».
وال يظنّن أحد أن في هذا انتقاص من الذات اإللهية .كال ،هو
باألحرى دليل على نقص اللغة وعوز العقل البشري ،ودليل على
انفراد الله بمطلق الكمال الوجودي ،وبأن القدرة البشرية مهما
بلغت من مراتب ،تبقى أعجز من التماهي مع القدرة اإلالهية.
لقد فهم المسلمون مفهوم ختم النبوة بنحو خاطئ ،إذ ظنّوه
رديف ًا الكتمال وكمال الوحي اإلالهي ،ومن ثم اعتقدوا بضرورة
االعتماد على مرجعية الوحي في حركاتهم وسكناتهم إلى أن يرث
النبوة ال يعني كمال الوحي.
الله األرض ومن عليها .إال أن كمال ّ
ولربما كان محمد إقبال أول من تن ّبه إلى خطأ الخلط بين
كمال النبوة وكمال الوحي .إذ كتب يقول « :إن النبوة في اإلسالم
لتبلغ كمالها في إدراكها الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها .وهو أمر
ينطوي على إدراكها العميق الستحالة بقاء الوجود معتمد ًا إلى
يحصل كمال معرفته األبد على مقود يقاد منه ،وأن اإلنسان ،لكي ِّ
لنفسه ،ينبغي أن ُيترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو»(.)1
مستمدّ ة من العقل ّ فما عساها تكون تلك الوسائل إن لم تكن
الذي هو َمناط التكليف ،ومن الحكمة اإلنسانية الموصوفة قرآني ًا
بالخير الكثير ،ومن الضمير األخالقي الذي يسميه الفقهاء بالوازع،
ومن القدرة على اإلبداع التي ينكرها الكثيرون َلغو ًا أو ُغ ّ
لو ًا!؟
( )1محمد إقبال ،تجديد التفكير الديني في اإلسالم ،ترجمة عباس محمود ،دار الهداية للطباعة
والنشر والتوزيع ،الطبعة الثالثة ،2006ص .149 :
51
وكيف لهذه الوسائل أن تكون وسائل اإلنسان إذا كانت
محصورة فت التأويالت والتفسيرات واألحكام القاطعة والنهائية
للنص الديني كما فهمه الفقهاء وزاد فيه المك ِّفرون.
52
ُ
القراآن لي�ص هو الوحي
53
أنه «ال يعتبر الكتاب (يقصد القرآن) تراث ًا ،وإنما التراث هو الفهم
النسبي للناس في عصر من العصور»(.)1
وهو نفس التأكيد الذي أعلنه الجابري في الجزء األول من
مدخل إلى القرآن الكريم حين كتب يقول « :لقد أكدنا مرار ًا أننا
ال نعتبر القرآن جزءا من التراث .وهذا شيء نؤكده هنا من جديد،
وفي نفس الوقت نؤكد أيضا ما سبق أن قلناه في مناسبات سابقة من
أننا نعتبر جميع أنواع الفهم التي ش ّيدها علماء المسلمين ألنفسهم
حول القرآن ...هي كلها تراث»(.)2
وهكذا ،يتعاطى شحرور والجابري مع األمر كمس َّلمة
من مس َّلمات اإلسناد ،إال أن تعطيل قدرة العقل على مساءلة
المسلمات ومراجعة المرجعيات ال يجيزه العقل السليم.
ما لم يدركه شحرور والجابري وغيرهما هو أننا لن نتمكن
من تجاوز خطاب القدامة وتخليص اإلسالم من النظرة السحرية
الى العالم ،ما لم نتجاوز الفرضيات التأسيسية التي انبنت عليها
نظرة القدامة إلى القرآن.
ليس الخطاب القرآني هو «كالم الله» النازل ،صدفة أو
قصد ًا ،من سماء الغيب كما تزعم القدامة الدينية ،وإنما هو ثمرة
لقدرة النفس على الصعود واالرتقاء لغاية تحقيق االتصال .إال
أن الصعود هنا -وبخالف الفلسفة -ال يكون برهاني ًا ،بل حدسي ًا
مستند ًا إلى َم َلكة الخيال.
( )1الدكتور محمد شحرور ،الكتاب والقرآن ،شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ،بيروت ،الطبعة
التاسعة ،2009ص .36 :
( )2محمد عابد الجابري ،مدخل إلى القرآن الكريم ،الجزء األول ،دار النشر المغربية ،الدار
البيضاء ،شتنبر ،2006ص .19 :
54
النبوة ،كما يقول أبو نصر الفارابي ،هي أكمل المراتب التي
يبلغها اإلنسان بقوة المخ ّيلة( .)1والنبوة ،كما يؤكد سبينوزا« ،ال
تتطلب ذهنا كامال بل خياال خصب ًا»(.)2
ما يعني أن القرآن المحمدي ليس الوحي اإللهي على وجه
المطابقة المطلقة ،وليس كتاب ًا كتبه الله وأنزله من ملكوت السماء
الرسول ،إنما هو ثمرة مجهود إلى السماء الدنيا أو إلى مسامع ّ
وتأول اإلشارات الربانية
تخييلي قام به الرسول األمين ألجل تمثل ّ
كما التقطها من معارج الفيض اإللهي .وإذا كانت مراتب القوة
التخييلية تتفاوت بحسب األحوال ،فقد انعكس ذلك على اآليات
القرآنية ،فجاءت متفاوتة في الدقة التعبيرية واإلتقان البالغي .إنه
التفاوت الذي نجمت عنه مرتبتان من مراتب التنزيل ،هما بحسب
التعبير القرآني ( :آيات ُمحكَمات) تمثل النواة الصلبة للقرآن،
وآيات (متشابهات) تمثل الدوائر األكثر «هشاشة» في القرآن
المحمدي.
بل إن مفهوم اآليات الر ّبانية لهو أوسع داللة من القرآن
المحمدي ،والذي هو محض تأويل لبعض تلك اآليات.
فإن اآليات وفقوالحال ،إذا كان الوحي الر ّباني آياتّ ،
التّحديد القرآني ليست نص ًا مغلق ًا أو نصا مقدسا ،وال هي َّ
مدونة
أحكام كونية وأوامر أبدية ،وإنما هي محض إيحاءات إلهية .ثم إن
( )1أبو نصر الفارابي ،آراء أهل المدينة الفاضلة ،تقديم وتحقيق الدكتور ألبير نصري نادر ،دار
المشرق ،بيروت ،1986 ،ص .116 :
( )2باروخ سبينوزا ،رسالة في الالهوت والسياسة ،ترجمة وتقديم حسن حنفي ،دار التنوير،
بيروت ،الطبعة األولى ،2005ص .129 :
55
الوحي وفق التوصيف القرآني ،كما يقول محمد إقبال ،هو «صفة
عامة من صفات الوجود»(.)1
( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر) سورة فصلت،
اآلية .37
(ومن آياته خلق السماوات واألرض واختالف ألسنتكم
وألوانكم) سورة الروم ،اآلية .32
ّ
(ان في اختالف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات
واألرض آليات لقوم يتّقون) سورة يونس ،اآلية .6
بعض تلك اآليات والعالمات واإلشارات الربانية منظور
ومرئي للجميع ،وأما بعضها اآلخر فال ُيدرك إالّ عبر القوة
ّ
التخييلية.
والسؤال اآلن ،هل بوسعنا القول إن الخطاب القرآني خطاب
فوق التاريخ وفوق التراث وفوق القدامة وفوق الزمان والمكان،
ومن ثمة فهو معاصر لكل العصور ومجايل لكل األجيال؟
تحديد ًا أو على سبيل االستدالل ،هل بوسعنا أن نعتبر
المفاهيم والقيم السياسية الواردة فيه (من قبيل الطاعة ،والبيعة،
والجزية ،والشورى ،والغنيمة ،والفيء ،والنفقة )...مفاهيم
معاصرة لنا أيض ًا؟
ربما يبدو السؤال محرج ًا ،لكن الذي يجعله كذلك أننا دأبنا
على اعتبار الخطاب القرآني نصا مقدَّ سا يعبر عن «أحكام الله»
( )1المصدر نفسه ،ص .148 :
56
المطلقة بصرف النظر عن الزمان والمكان .وهذا خطأ معرفي،
إضافة الى أنه خطيئة الهوتية.
المحمدي كالم صدر أو فاض مباشرة ّ حين نظ ّن أن القرآن
عن الذات اإللهية ،ونزل بالتمام والكمال وبالمعنى الحرفي ،فإننا
ننتهي إلى تقديس كل أفعال األمر الواردة فيه باعتبارها أوامر الله
إلى اإلنسان ،أو هكذا نظ ّن .وبالتالي يتحول الخطاب القرآني من
رسالة تع ّبدية تنطلق من جوارح المؤمن ،إلى وصايا أبدية تع ّطل
اإلبداع وتشل اإلرادة .وبهذا النحو فإن أولئك الذين يعتبرون هذه
يحولون القرآن إلى عائق من عوائق التحديث. األحكام أبدية َّ
المشكلة باألحرى هي حين نعتقد بأن التقابل هو بين مفاهيم
الخالفة والبيعة والشورى واإلمامة والطاعة من جهة ،وبين مفاهيم
الديمقراطية واالنتخابات والتصويت والتعددية والتداول على
السلطة من جهة ثانية ،هو تقابل بين جهاز مفاهيمي ديني أو إسالمي
يمثل مضمون الوحي الر ّباني ،وجهاز مفاهيمي مدني أو غربي
يمثل جوهر الثقافة الغربية .وهكذا تحديد ًا ،سيبدو التقابل وكأنه
بين إرادة الله من جهة وإرادة الحضارة الغربية من جهة ثانية .وهذا
أيض ًا خطأ جسيم ،بل خطيئة كبيرة .وعندها ماذا سنقول عن كل
تلك المجتمعات اإلسالمية التي تتبنّى الديمقراطية حسب فهمها،
بل وتطبيقها ،الغربي؟ وماذا سنقول عن كل أولئك المسلمون
الذين يعيشون في مجتمعات متعددة أو في الغرب ويلتزمون بتلك
القوانين؟ وماذا سنقول عن كل أولئك األفراد من المسلمين الذين
يتبنّون علن ًا هذه المفاهيم ويدافعون عنها بقدر ّ
تمسكهم بإيمانهم؟
هل كلهم كفرة؟
57
صحيح أن القرآن استعمل تلك المفاهيم ضمن مجاله
التواصلي ،غير أن االستعمال ليس دليال على الملكية أو التملك.
إذ ال يكفي أن يستعمل القرآن مفهوم ًا من المفاهيم حتى يصير ذلك
المفهوم مفهوم ًا ديني ًا أو إسالمي ًا أو قرآنيا ،أو يغدو هوية راسخة لنا.
والحال أن إبداع أو إعادة إنتاج المفاهيم ليس وظيفة الحقل الديني،
وباألحرى ليس وظيفة الخطاب القرآني ،إنما إنتاج المفاهيم كان
وال يزال يتم داخل حقل معرفي آخر ،هو الفلسفة حصر ًا.
أما اإلسالم فهو مبدأ اعتقادي غايته توحيد وتنزيه الذات
اإللهية .وعدا هذا القصد ،تظل قضايا الشريعة والمعامالت ونظام
ّ
وحظ األنثى العقوبات ومسائل الحدود والقصاص وتقسيم اإلرث
الزوج ومعها كل المفاهيم وشهادة المرأة وطاعة الحاكم وقوامة ّ
مجرد تأويالت َع َرضية والتصورات الواردة في «إسالم النص»ّ ،
وفرعية لإلسالم الرباني .وهي تندرج ضمن السياق التداولي الذي
يناسب المستوى العقلي والوجداني إلنسان العالم القديم .وهذا
ما أكدته دراسات كثيرة تناولت ظروف التنزيل وأسباب التنزيل
فصله
وارتباط آيات األحكام بالمجتمع الذي أنزلت فيه آخرها ما ّ
على نحو مم ّيز عبد الجوا ياسين في كتابه «الدين والتد ّين».
لم يكن العالم القديم عالم ًا أبدي ًا ،ولم ُيقدّ ر له أن يكون
كذلك .بل ،قدَ ر الوجود أن « لكل شيء إذا ما تم نقصان» ،وفق
تعبير بليغ ألحد شعراء األندلس .العالم القديم شأنه في ذلك شأن
سائر العوالم البشرية ،عالم َع َرضي ونسبي ومحكوم عليه بالزوال
الرحمان.26 - كما جاء في الخطاب القرآني (كل من عليها فان) ّ
58
حين ال نرقى إلى مستوى الوعي بالصيرورة التي هي قدر
الروح اإللهية وفق
الوجود كما يرى هايدجر ،بل هي جوهر ّ
منطلقات هيجل ،بل هي جوهر األلوهية نفسها وفق تصريح صريح
للقرآن يصف الله بأنه (كل يوم هو في شأن) الرحمان ،29 -وحين
ال ندرك الصيرورة والتغ ّير والتحول والتبدّ ل كقدر إلهي ،عندئذ
مجرد عصاب وسواسي ينتج يصبح الحنين إلى عالم األسالف ّ
العنف العبثي والموت المجاني ،أو وهم بأن عالم األسالف هو
عالم السعادة والنقاء واإلنتصار ناتج عن حالة الضعف والبؤس.
ولكن هذا وذاك ال ُينتج إال مزيد ًا من العنف والموت ومزيد ًا من
الضعف واإلنكسار.
ال يكمن الفرق بين مفاهيم الخالفة والبيعة والطاعة والشورى
واإلمامة والجماعة من جهة ،ومفاهيم الديمقراطية والتعددية
واالنتخابات والتصويت والتداول على السلطة من جهة ثانية ،في
أن هناك مفاهيم دينية أو إلهية أو غيبية أو إسالمية أو إنها تنتمي إلى
اإلسالم حصر ًا أو يمكن وصفها باإلسالمية ،مقابل مفاهيم مدنية
أو وضعية أو بشرية أو غربية أو إنها تنتمي إلى الغرب حصر ًا ،أو
يمكن وصفها بأنها غربية؛ بل يكمن الفرق بكل بساطة ووضوح،
في أن هناك جهاز ًا مفاهيمي ًا ينتمي إلى العالم القديم بمختلف
دياناته وثقافاته ومرجعياته ،مقابل جهاز مفاهيمي ينتمي إلى العالم
الجديد بمختلف دياناته وثقافاته ومرجعياته.
هذا يعني ،بواضح اإلشارة وصريح العبارة ،إننا حين نقرر
استبدال مفاهيم القدامة السياسية الواردة في القرآن المحمدي،
من قبيل البيعة والطاعة والرعية والردة والجزية وأهل الذمة ،وما
59
إلى ذلك من مفاهيم سياسية (أو األحرى ما قبل سياسية) تنتمي
إلى العالم القديم وتعيق تطور الوعي الديمقراطي وقيم الحداثة
السياسية ،فإننا لن نكون قد تخلينا عن كالم الله كما يتوهم
الكثيرون ،وإنما نكون قد ّقررنا فقط االبتعاد عن االستغالل
نص ينتمي إلى السياسوي والتوظيف اإليديولوجي لمفاهي ِم ٍّ
العالم القديم ،وال يملك وظيفة أخرى غير الوظيفة التع ّبدية،
إضافة إلى وظيفة أخالقية ليست محصورة باإلسالم بل موجودة
في كل األديان.
وحين نتبنى مفاهيم الحداثة السياسية ،من قبيل الديمقراطية
واالنتخابات والتّعددية وتــداول السلطة وحقوق اإلنسان
والموا ّطنة ،فإننا نكون إزاء تبني مفاهيم تنتمي إلى العالم الجديد،
الذي هو عالمنا الحقيقي وإن كره الكارهون .وال يتعارض تبنّي
هذه المفاهيم مع اإليمان بواحدية الله.
المطلوب باألحرى أن ندرك أننا أبناء العالم الجديد بمفاهيمه
وق َيمه ،ولم يقدَّ ر لنا أن نكون في غير عالم اليوم ،الذي هو عالم
اإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان والحريات الفردية وفصل
السلطات وصناديق االقتراع والمساواة في الحقوق بين النساء
والرجال.
أما العالم القديم ،عالم البيعة والجماعة والطاعة والخالفة،
فأبلغ القول أن نقول ما قاله القرآن ( :تلك أمة قد خلت لها ما
كسبت ولكم ما كسبتم وال تسألون عما كانوا يعملون) البقرة-
.134
60
الم�شحف لي�ص هو القراآن
62
لذلك عثمان فزع ًا شديد ًا ،فأرسل إلى حفصة فاستخرج الصحيفة
التي كان أبو بكر أمر زيدا بجمعها( ،)1فنسخ منها مصاحف فبعث
بها إلى اآلفاق»(.)2
يتم بنحو توافقي،
بل ليس يخفى أن ترتيب بعض اآليات كان ّ
بل «اعتباطي» في بعض األحيان .ومن أمثلة ذلك ما أورده أبو بكر
بن أبي داود السجستاني في روايته :
«أراد عمر بن الخطاب أن يجمع القرآن فقام في الناس فقال
:من كان تل ّقى من رسول الله(ص) شيئا من القرآن فليأتنا به ،وكانوا
كتبوا ذلك في المصحف واأللواح والعسب ،وكان ال يقبل من أحد
شيئا حتى يشهد شهيدان ،ف ُقتل وهو يجمع ذلك ،فقام عثمان بن
عفان رضي الله عنه فقال :من كان عنده من كتاب الله شيئا فليأتنا
به ،وكان ال يقبل من ذلك شيئا حتى يشهد عليه شاهدان .فجاء
خزيمة بن ثابت فقال :إني قد رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما،
فقال :وما هما؟ قال تلقيت من رسول الله(ص)( :لقد جاءكم رسول
من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف
رحيم) إلى آخر السورة .قال عثمان :وأنا أشهد أنهما من عند الله،
فأين ترى أن نجعلهما؟ قال :اختم بهما آخر ما نزل من القرآن،
فختم بهما براءة»(().
( )1هي النسخة التي كانت عند أبي بكر في خالفته ،ثم ظلت عند عمر في خالفته ،ثم تركها عمر
عند حفصة.
( )2أبو بكر بن أبي داود السجستاني ،كتاب المصاحف ،تحقيق د .محب الدين عبد السبحان
واعظ ،دار البشائر اإلسالمية ،بيروت ،الطبعة الثانية ،2002ج ،1:ص .202 :
( )3أبو بكر بن أبي داود السجستاني ،كتاب المصاحف ،تحقيق د .محب الدين عبد السبحان
واعظ ،دار البشائر اإلسالمية ،بيروت ،الطبعة الثانية ،2002ج ،2:ص 224 :و.225
63
أن هذه الرواية ،التي اتفقت حولها معظم كتب التراث، غير ّ
تثير مسألة بالغة التعقيد ،إذ إننا حتى لو افترضنا تجاوز ًا ّ
أن اشتراط
شاهدين اثنين لتصحيح اآلية قبل تدوينها يكفي لضمان عدم
الشرط ال يحقق لناتسرب آيات غير قرآنية إلى القرآن ،إالّ أن هذا ّّ
هدفين أساسيين:
أوالً ،ال يضمن لنا عدم وجود ثغرات في الذاكرة اإلمالئية
للقائم باإلمالء ،أو في التقديرات النحوية للقائم بالكتابة ،ال سيما
أن اللغة العربية لم تكن قد خضعت للتقعيد ،أو ليس بعد.
ثاني ًا ،ال يضمن لنا عدم إهمال آيات قد تكون جزء ًا من
القرآن المحمدي لكنها لم تجد الشاهدين االثنين ،أو لم تجد
أحدهما .ولعل اآلية السابقة التي أحضرها خزيمة بن ثابت قبل
االتفاق على وضعها في آخر سورة براءة ،كادت تُهمل لو لم
يتطوع عثمان ليشهد بأنها من عند الله .علما بأنه شهد بأنها من عند
َّ
الله ،ولم يشهد بأنه سمعها من رسول الله ،كما هي العادة في مثل
هذا الموقف.
/2ثانيا ،من حيث الحجم والمضمون ،هل يتضمن
المصحف الذي بين أيدينا جميع آيات القرآن المحمدي؟
نحن متأكدون من شيء واحد ،هو أن حجم المصحف
الذي وصلنا أصغر بكثير من حجم القرآن المحمدي ،أي أنه أقل
من مجموع اآليات التي نزلت على الرسول عليه السالم .وذلك
لشاهدين نصيين أساسيين:
أ -على األقل ،ال توجد ضمن المصحف العثماني
64
اآليات المنسوخة وال اآليات المنسية .فمن المعلوم
أن ضمن الناسخ والمنسوخ آيات نُسخت لفظ ًا وقراءة
وكتابة ،وهناك آيات نسيها الرسول قبل أن يحفظها أو
قبل أن يمليها أو قبل أن يكتبها كتبة الوحي ،وربما نسيها
الجميع بعد ذلك ،ولم تعاود النزول ثانية ،أو أنها على
األقل لم تعاود النزول بنفس األسلوب .وهو ما تؤكده
اآلية ( :ما ننسخ من آية أو ن ِ
ُنسها نأت بخير منها أو مثلها)
سورة البقرة ،اآلية .106
تنوع األساليب واأللفاظ ب -على األقلُ ،حذف منه ّ
التي نزلت بها بعض أو معظم اآليات .فالقرآن أنزل على
سبعة أحرف كما هو معلوم ومذكور ،ما يعني أن كثير ًا
مرة بألفاظ وعبارات ومفردات من اآليات نزلت أكثر من ّ
مختلفة .إال أنه أثناء جمع المصحف تم االستغناء عن
التنوع اللغوي لفائدة حرف وحيد وواحد ،هو لسانذلك ّ
قريش.
هذا في الحد األدنى الذي تؤكده شواهد النص .لكن
ترجح الدراسات القرآنية
األمر في ما يبدو أكبر من ذلك ،حيث ِّ
أن تكون بعض اآليات أو السور قد ضاعت .ولم يكن هذا األمر
يحرج المسلمين الذين كانوا يتق ّبلون مثل ذلك الضياع تحت طائلة
تم نسيانه ،تبع ًا للموقف القرآني نفسه ( :وما
ما نُسخ لفظه ،أو ما ّ
ننسخ من آية أو ننسها )...اآلية.
التحول من القرآن المحمدي إلى المصحف العثماني
ّ
65
مشروع طويل شاق ،وشائك مليء بالمخاطر ،وهو المشروع الذي
اصطلح على تسميته المفكر جورج طرابيشي باسم «مصحفة
القرآن»( .)1ولسنا نبالغ ،ونحن نستلهم هذا المفهوم ،إذا قلنا إن
المصحفة استمرت إلى ما بعد عثمان ،حيث خضع مصحف
عثمان نفسه لتغيرات رافقت تطور اللغة وانتقال الثقافة العربية
من المرحلة الشفهية إلى المرحلة الكتابية .فبين النسخ األولى
للمصحف العثماني والنسخ المتأخرة ،مرت تسمية السور بعدة
إجراءات ،وشهد تنقيط الحروف عدة مراحل ،وخضعت كتابة
بعض الحروف للكثير من التعديالت ،إلخ.
تحول منذ زمن عثمان بن المشكلة أن القرآن المحمدي َّ
عفان إلى مصحف «مقدَّ س» -زادت من قداسته قصة المصحف
المل ّطخ بدم عثمان ،-وأصبح نص ًا مغلقا في ترتيب آياته وسوره،
ولم يعد يمنحنا أي فرصة إلعادة تركيب أجزائه بنحو يختلف عن
المصحف الرسمي .وبالتالي ،خسر المسلمون اإلمكانات التأويلية
التي كان يتيحها لهم الطابع المتناثر آليات القرآن المحمدي .وهو
األمر الذي أفقر في األخير إمكانيات تأويل الخطاب القرآني
وحصرها داخل دائرة ضيقة ،زاد من ضيقها أن مصحفة القرآن
تمت في العالم القديم ،وجاءت من ثم موسومة بميسم القدامة ّ
شكال ومضمون ًا.
إذ ًا ،المصحف الذي بين أيدينا هو أقل بكثير من حجم
القرآن الذي نزل على النبي محمد ،وآياته ليست جميعها على
( )1جورج طرابيشي ،إشكاليات العقل العربي ،دار الساقي ،بيروت -لندن ،الطبعة الرابعة ،2011
ص .63 :
66
نفس القيمة واألهمية ودرجة اإلتقان؛ فمنها األكثر واألقل إحكام ًا
أو إتقانا ،ومن بينها األكثر واألقل «خير ًا» .ثم إن ترتيبها في شكل
نص جامع مانع لم يكن قرار الله أو الرسول ،وإنما هو اجتهاد
المسلمين ،فبأي معنى نقول عنه إنه كتاب «من تأليف» الله!؟
متفرقا ومتناثر ًا .نزل في أوقات متنوعة،
منجم ًاِّ ،
لقد نزل القرآن َّ
وفي مواجهة مواقف مختلفة ،وظروف متفاوتة .لذلك كان خاضعا
لمبدأ الواقع الى درجة أنه لم يتخذ شكل حكاية كبرى مسترسلة
في الزمان .لكنه نزل أيضا يحمل زمنه الخاص في بنائه وتركيبه.
متكسر ومتقطع وشديد االلتواءات واالنقطاعات .حتى ِّ إنه زمن
وخ ّطي.قصصه وحكاياته ال تمتثل في الغالب ألي زمن انسيابي َ
زمن القرآن هو زمن الحلم .إنه زمن «الالوعي الكوني» ،حيث
تتداخل كل األزمنة وتشتبك مع بعضها البعض ،منذ بدء الخليقة
إلى غاية الوعود األخروية .ليس لترتيب اآليات والسور أي مسار
خ ّطي تنتظم وفقه األحداث .وهذا بخالف بنية الزمن الخطي في
كل من األناجيل وأسفار التوراة ،بل وفي «الكتاب المقدس» بر ّمته.
لم تنطلق سيرورة «مصحفة القرآن» خالل حياة الرسول؛ إذ
الرسول يكتب الوحي بنفسه .ولو كان قد كتب الوحي لم يكن ّ
بيديه لوجدنا أنفسنا منذ الوهلة األولى أمام «نص مقدس» .كان
الرسول شيئ ًا من الوحي بنفسه ( :وما كنت تتلو
القرار أن ال يكتب ّ
من َق ْبله من كتاب وال تخ ّطه بيمينك إذ ًا الرتاب المبطلون) سورة
الرسول إلى االستعانة ببعض العنكبوت ،اآلية .48وحين لجأ ّ
أبي بن كعب األنصاري ،زيد كتّاب الوحي (علي بن أبي طالبّ ،
بن ثابت ،عبد الله بن سعد بن أبي سرح ،عثمان بن عفان،)...
67
كثير ًا ما كان يتغيب بعضهم عن عدد من «الحصص» لسبب أو
آلخر ،ما جعل «أرشيف» كل كاتب يختلف في بعض أجزائه عما
دونه اآلخرون .وأيض ًا ،إن جل اآليات التي تم حذفها بقرار من ّ
تعرضت للنّسخ اللفظي (قراءة وكتابة) ،بقيت الوحي ،أي أنها ّ
ضمن «أرشيف» بعض كتاب الوحي ،بل ظلت في صدور من
حفظوها عن ظهر قلب .وكان كتّاب الوحي يكتبون على أدوات
متناثرة (ألواح ،جلود ،جريد النخل ،أحجار ،عظام ،وقطع قماش
حريرية ،)...يكدسونها في بيوتهم كيفما اتفق من دون تنظيم
الرسول يقول لهم: واضح ومتفق عليه .وفي المقابل ،قليال ما كان ّ
ضعوا هذه اآلية في موضع كذا ،أو الموضع الذي ذكر فيه كذا،
إلدراكه أن هذا الطلب ليس عملي ًا ،بسبب ظروف الكتابة خالل
ذلك الوقت ،وبسبب عدم االكتراث بأهمية التدوين لغلبة الثقافة
الشفهية.
الرسول عمل على تحويل صراحة ،ال شيء يدل على أن ّ
القرآن إلى «نص مقدّ س» ،أو أنه حاول ذلك .لم يكن يرغب في
إضفاء أي قدسية على لحظة كتابة الوحي ،ال شكال وال مضمون ًا،
لم يكن يهتم بأدوات ووسائل وخطوط وفضاء الكتابة ،لم يسع إلى
إضفاء أي شكل من القدسية على أولى الصفحات المكتوبة .كان
همه األساس أال تتالشى آيات اإلعجاز البياني .لذلك كان يهتم
ّ
بأن يحفظ كل واحد ما تيسر له حفظه.
ومن جهة ثانية ،ال شيء يؤكد أن المسلمين األوائل قد تعاملوا
مع القرآن كـ«نص مقدس» ،وهم الذين اختلفوا في بعض اآليات
والسور القرآنية من دون أدنى إحساس بـ«التدنيس» أو شعور
68
يتحرج وهو يقول :صلينا باآلية كذا أو
بالذنب .ولم يكن بعضهم َّ
قرأنا بها قبل نسخها زمن الرسول ،أو حذفها من مصحف عثمان.
كان النسخ والحذف والنسيان ظواهر «طبيعية» ضمن ظاهرة
نتحرج ،أو نمتنع،
تشكل اآليات القرآنية .وإن كنا قد أصبحنا اليوم َّ
من مجرد التفكير في ذلك ،فالسبب أننا لم نعد ننظر إلى القرآن إال
كـ«نص مقدّ س».
الحديث المشهور عن عائشة حول اآليتين اللتين قيل إنهما
(الرجم ورضاع الكبير عشر) يؤكد عدم إضفاء ضاعتا من القرآن ّ
أي قدسية على النص ،ليس من جهة ضياع اآليتين وحسب ،وإنما
وأولهم النبي ،مع اآليات
باألحرى لجهة ظروف تعامل المسلمينَّ ،
المدونة .فقد ورد في مسند أحمد ،عن عائشة « :لقد أنزلت
َّ القرآنية
عشر ،فكانت في ورقة تحت سرير في آية الرجم ،ورضعات الكبير ٌ
بيتي .فلما اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشاغلنا بأمره،
ودخلت دويبة لنا فأكلتها» .وفي سنن ابن ماجة «فلما مات رسول
الله صلى الله عليه وسلم وتشاغلنا بموته دخل داجن فأكلها»(.)1
وهما اآليتان اللتان اكتفى الكثيرون بالقول إنهما نسخ لفظهما ،أو
تعرضتا لإلنساء (بذلك النحو!).
مقصود القول ،إن الورقة الوحيدة التي كتبت فيها اآليتان
ظلت لفترة معينة تحت السرير الذي كان ينام عليه الرسول مع
عائشة في بيتها ،قبل أن يأتي حيوان ليلتهمها .وهو وضع ال يسمح
با ّدعاء أي قداسة لـ «النص».
( )1رواه أحمد وابن ماجة.
69
فضال عما قيل في الموضوع ،لسنا نملك من دليل على
أن الرسول كان حريصا على مراجعة اآليات والسور المدونة
بعد الفراغ من إمالئها .وال شيء يشير إلى أنه ك ّلف مشرف ًا على
مراجعة تدوينات َكتَبة الوحي .لعل هذا ال يدخل ضمن تقاليد
ثقافة يغلب عليها الطابع الشفهي .بل الجدير بالمالحظة أيض ًا
أنه حتى احتمال وجود اختالفات نوعية أو كمية بين أولى نسخ
القرآن المحمدي –أكان هذا بسبب تغ ّيب بعض كتبة الوحي عن
بعض جلسات اإلمالء ،أو لغلبة الطابع الشفهي على اللغة العربية
وقتها وعلى لغة القرآن على وجه الخصوص -لم يكن مما يزعج
الرسول أو يثير هواجسه؛ فقد كانت التبريرات موجودة :من قبيل
مسألة األحرف السبعة ،وحسابات الناسخ والمنسوخ ،وتقديرات
المحكم والمتشابه ،ونحو ذلك من مقتضيات ثقافة كانت تحتفي
بغلبة الظن ،وأفعال الترجيح ،وتكافؤ األدلة ،واختالف الروايات،
قبل أن تنقلب إلى ثقافة النص الواحد ،والرواية الواحدة ،والحقيقة
الواحدة ،وأخيرا الصوت الواحد.
مجمل القول ،ال شيء يؤكد قداسة أو عصمة النص المكتوب.
لكن بسبب ذلك الجهد الذي اصطلح عليه جورج طرابيشي
نص ًا ،وأمسى النص سلطة
باسم «مصحفة القرآن» ،أصبح القرآن ّ
ال سحري ًا لكل مشاكل الحياة والسياسة
مطلقة ومرجع ًا مقدَّ س ًا وح ً
واالقتصاد.
وربما كان لـ «دم عثمان» ،الذي وشم إحدى نسخ المصحف
والرغبة في
العثماني ،داللة رمزية زادت من حجم الشعور باإلثم ّ
التكفير ،ومن ثم الحاجة إلى نوع من إضفاء القداسة على النص
70
العثماني ،ال سيما بعد أن صار عثمان رمز ًا لإلمام المغدور.
وللحكاية أثر بليغ على مصائر الوعي اإلسالمي.
غير أننا ،في غمرة المزاد الديني العلني ،نسينا األساس،
إذ ليس القرآن غاية في ذاته .غاية القرآن –بما هو تأويل قام به
الرسول لإلشارات اإللهية -هي ترسيخ مبدأ التوحيد اإلالهي في
مجرد وسائل
وجدان اإلنسان .وأما التفاصيل فال تعدو أن تكون ّ
فرعية ومق َّيدة بظرفي الزمان والمكان.
انطالق ًا من هذا التّحديد ،يجب أن يتجه مجهودنا اليوم نحو
تحرير العقل اإلسالمي من حالة الوالء لسلطة النص -هذا النص
الذي صار أقنوم ًا ثاني ًا أو ثالث ًا من أقانيم األلوهية -ومن ثم التوجه
الربوبي الخالص .ما
نحو ربط وجدان اإلنسان المسلم بالتوحيد ّ
الربوبي،
يعني حاجتنا إلى االنتقال من إسالم النص إلى اإلسالم ّ
وفق الغاية السامية التي تحددها العبارة القرآنية ( :ولكن كونوا
ر ّبانيين) سورة آل عمران ،اآلية .79
71
72
ّ
وال�شخ�ص الن�ص
ّ
74
(واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول
ولذي القربى واليتامى والمساكين )...سورة األنفال ،اآلية
.41
(كال بل ال تكرمون اليتيم) سورة الفجر ،اآلية .17
(ألم يجدك يتيما فآوى) سورة الضحى ،اآلية .6
(فأما اليتيم فال تقهر) سورة الضحى ،اآلية .9
يدع اليتيم) (أفرأيت الذي ِّ
يكذب بالدين ،فذلك الذي ّ
سورة الماعون ،اآلية .2
(إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في
بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) سورة النساء ،اآلية .10
وأغلب الظن أن اآلية األخيرة هي التي دفعت الفقهاء إلى
االستنتاج بأن أكل مال اليتيم كبيرة من كبائر اإلسالم ،وهي عشر
حسب البعض وسبع في رواية أخرى.
ّ 2-
النبي التّاجر :
الرسول التجارة داخل قبيلة عربية يقوم نشاطها امتهن ّ
السوسيواقتصادي على التجارة (إليالف قريش ،إليالفهم رحلة
الشتاء والصيف) سورة قريش ،اآليتان 1و .2ولذلك بوسعنا أن
نرى في القرآن الكريم –إضافة إلى نفحته الربانية -ثمرة لنمط
إنتاج تجاري .وجاء على نحو «مليء بالحواريات التجارية»(،)1
( )1عبد الكريم شروس ،بسط التجربة النبوية ،ترجمة أحمد القبانجي ،منشورات الجمل ،بيروت-
بغداد ،2009 ،ص .65 :
75
وبالمصطلحات التجارية –كما يالحظ المصلح الديني اإليراني
الكبير عبد الكريم شروس -من قبيل «خسر ،ربح ،تجارة ،قرض،
ربا ،بيع ،شراء ،أجر ،وأمثال ذلك»( .)1وبوسعنا أن نضيف إلى ذلك
وسائل قياس األوزان ،من قبيل الوزن ،الميزان ،الكيل ،المكيال،
المثقال ،إلخ.
أربع مالحظات:
المالحظة األولى ،يتكلم القرآن المحمدي عن التجارة أكثر
مما يتكلم عن أي حقل إنتاجي آخر .واآليات كثيرة ،مثال :
ُون تِ َج َار ًة َعن
(الَ ت َْأ ُك ُلو ْا َأ ْم َوا َلك ُْم َب ْينَك ُْم بِا ْل َباطِ ِل إِالَّ َأن َتك َ
اض ِّمنك ُْم) سورة النساء اآلية .29 ت ََر ٍ
َخ َش ْو َن كسادها) سورة وها َوتِ َج َار ٌة ت ْ (و َأ ْم َو ٌال ا ْقت ََر ْفت ُُم َ َ
التوبة اآلية .24
(ر َج ٌال َّال ُت ْل ِه ِيه ْم تِ َج َار ٌة َو َال َب ْي ٌع َعن ِذك ِْر ال َّل ِه) سورة ِ
النور ،اآلية .37
( َيا َأ ُّي َها ا َّل ِذي َن آ َمنُو ْا َأ ِنف ُقو ْا ِم َّما َر َز ْقنَاكُم ِّمن َق ْب ِل َأن َي ْأتِ َي
َي ْو ٌم الَّ َب ْي ٌع فِ ِيه َوالَ خالل) سورة البقرة اآلية .»254
الر َبا) سورة البقرة اآلية.275 (و َأ َح َّل ال ّل ُه ا ْل َب ْي َع َو َح َّر َم ِّ
َ
( ِّمن َق ْب ِل َأن َي ْأتِ َي َي ْو ٌم الَّ َب ْي ٌع فِ ِيه َوالَ ِخال ٌَل) سورة إبراهيم
اآلية.31
( )1عبد الكريم شروس ،بسط التجربة النبوية ،ترجمة أحمد القبانجي ،منشورات الجمل ،بيروت
بغداد ،2009 ،ص .65 :
76
(وإن رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها )...سورة الجمعة،
اآلية .11
( ...إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه )...سورة
البقرة ،اآلية .282
المالحظة الثانية ،كثيرا ما يتكلم القرآن المحمدي عن مسائل
العقيدة والعالقة مع الله برؤية تجارية .مثال :
(من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا
كثيرة) سورة البقرة ،اآلية .245
( ...وأقرضتم الله قرضا حسنا )...سورة المائدة ،اآلية
.13
(يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من
عذاب أليم) سورة الصف ،األية .10
ات ال ّل ِه َوال ّل ُهَّاس من ي ْش ِري َن ْفسه ابتِ َغاء مر َض ِ
َْ َ ُ ْ (وم َن الن ِ َ َ
ِ
َ
وف بِا ْلع َباد) سورة البقرة اآلية .207 ِ ِ َر ُؤ ٌ
ال َل َة بِا ْل ُهدَ ى َف َما َربِ َحت ( ُأ ْو َل ِـئ َك ا َّل ِذي َن ْاشت َُر ُو ْا َّ
الض َ
تج َارت ُُه ْم َو َما كَانُو ْا ُم ْهت َِدي َن» .سورة البقرة اآلية.16 َ
المالحظة الثالثة ،كثير ًا ما يستعمل القرآن الكريم نفس
الوسائل واألدوات التي يستعملها التاجر ،مثل الميزان والمكيال
والمثقال ،سواء في حديثه عن التجارة أو حديثه عن العقيدة .مثال:
(والَ تَن ُق ُصو ْا ا ْل ِم ْك َي َال َوا ْل ِم َيز َ
ان إِن َِّي َأ َراكُم بِ َخ ْي ٍر َوإِن َِّي َ
ٍ ِ َأ َخ ُ
اب َي ْو ٍم ُّمحيط) سورة هود ،اآلية .84 اف َع َل ْيك ُْم َع َذ َ
77
ان بِا ْل ِقس ِ
ط َوالَ َت ْب َخ ُسو ْا (و َيا َق ْو ِم َأ ْو ُفو ْا ا ْل ِم ْك َي َال َوا ْل ِم َيز َ
ْ َ
ِ ِ ِ
اءه ْم َوالَ َت ْع َث ْو ْا في األَ ْر ِ
ض ُم ْفسدي َن) سورة هود، َّاس َأ ْش َي ُ
الن َ
اآلية .85
(ويل للمصطفين ،الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون،
وزنوهم ُيخسرون) سورة المصطفين ،اآليات وإذا كالوهم أو ّ
1و 2و.3
َاب بِا ْل َح ِّق َوا ْل ِم َيز َ
ان َو َما ُيدْ ِر َ
يك َل َع َّل ِ ِ
(ال َّل ُه ا َّلذي َأ َنز َل ا ْلكت َ
يب) سورة الشورى اآلية. 17 السا َع َة َق ِر ٌ
َّ
ان لِي ُقوم النَّاس بِا ْل ِقس ِ ِ ِ
ط ْ ُ َاب َوا ْلم َيز َ َ َ (و َأ َنز ْلنَا َم َع ُه ُم ا ْلكت َ َ
ِ ِ ِ
َو َأ َنز ْلنَا ا ْل َحديدَ فيه َب ْأ ٌس َشديدٌ ) سورة الحديد ،اآلية .25ِ
78
أدل على ذلك من أن جرائم السرقةيقوم أساس ًا على التجارة .وال ّ
وقطع الطريق ،وهي أخشى ما يخشاه التاجر ،تندرج ضمن نظام
الحدود ،التي ال يجوز فيها العفو أو التساهل ،وتكون عقوبتها
بقطع يد السارق ،وبقطع أطراف قاطع الطريق (حد الحرابة).
وفي المقابل ،رغم تجريم الربا وتحريمها القطعي في النص
القرآني (...أحل الله البيع وحرم الربا )...سورة البقرة ،اآلية 275
و( يمحق الله الربا )...سورة البقرة ،اآلية ،276فإن النص القرآني
لم يحدد للربا أي حد من الحدود ،وال أي عقوبة من العقوبات.
والرشوة واالحتكار ،وهي وكذلك األمر بالنسبة لجرائم الغش ّ
جرائم اقتصادية قد يقترفها التاجر ،وذكرها النص القرآني بالتنديد،
مثل اآلية (ويل للمصطفين ،الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون،
وزنوهم ُيخسرون) سورة المصطفين ،اآليات 1 وإذا كالوهم أو ّ
و 2و ،3إال أنها جرائم من دون عقوبات قرآنية محددة ،وقد
أدرجها الفقهاء ضمن العقوبات التعزيرية ،وهي عقوبات اجتهادية
مخففة بالمقارنة مع حد السرقة وحد الحرابة.
3-عقيدة القتال :
يكف الخطاب القرآني عن الدّ عوة إلى القتال .بل يقول
ّ ال
في إحدى آياته (كتب عليكم القتال) سورة البقرة ،اآلية .216
واستناد ًا إلى هذا التصريح الصريح ،استنتج داعية التطرف الديني
عبد السالم فرج في كتابه الفريضة الغائبة أن القتال فرض عين على
كل إنسان مسلم ،قياس ًا على اآلية (كتب عليكم الصيام) سورة
البقرة ،اآلية .183
79
صدق ًا ،نحن أمام مفارقة فقهية تحترم قواعد القياس المنطقي
لتخلص إلى أن الصيام والقتال هما على نفس الدرجة من الوجوب
الشرعي.
بل نحن في ورطة تشريعية تُوازن بين الدعوة للقتال وفريضة
الصيام.
ما الحل إذ ًا؟
تقول قواعد المنطق :عندما ننتهي إلى المفارقة ،من الواجب
مراجعة المنطلقات.
المشكلة أن بعضنا يظن أن آيات التحريض على القتال في
الخطاب القرآني تم ّثل «وجهة نظر» الله في بعض األمور البشرية.
حري بنا أن ندرك أن التحريض
ّ إالّ أن األمر على خالف من ذلك.
القرآني على القتال ،أيا كانت مسوغاته ومبرراته ،ال يعكس
«وجهة نظر» الله تعالى ،وإنما يعكس -بكل بساطة -شخصية
الرسول للوحي اإللهي .وطبيعي أن يكون التأويل خاضع ًا تأويل ّ
لشخصية الرسول ،وأن تكون هذه الشخصية خاضعة لمؤثرات
الرسول ،عصر الثقافة التقليدية والقتالية للعصر الذي عاش فيه ّ
عنف ما قبل نشوء الدولة ،وبالتالي ما قبل دولة الحق والقانون
بعدّ ة قرون.
ذلك أن القرآن –وهذا ما نحرص على تأكيده -ليس قانون ًا
أبدي ًا نازالً ،كما هو ،كامالً ،من السماء ،كما يظ ّن أصحاب النظرة
الرسول كالم ًا
السحرية إلى الدين ،وإنما هو إشراقات قلبية ص ّيرها ّ
مدون ًا ،قبل
مجازي ًا تع ّبدي ًا ،ثم ص ّير المسلمون ذلك الكالم مصحف ًا ّ
80
نص ًا مقدس ًا .وكل هذا جرى في سياق تأويلي
أن يص ّيروا المصحف ّ
ولغوي وثقافي وسياسي بالغ التعقيد.
على هذا النحو ،بوسعنا أن ندرك المفاهيم القتالية الواردة
في النص القرآني ليس باعتبارها أوامر «عسكرية» إلهية ،كما ظن
تخص بيئة
ّ مجرد تدابير فرعية
الفقهاء واعتقد السلفيون ،وإنما هي ّ
الرسول وتناسب ُعنف ما قبل الدولة.
ومن دون شك ،فقد جرت عادة المجتمعات القديمة أن ُيغ ْير
بعضها على بعض .بل ال نجانب الصواب إن قلنا إن القتال في
مجرد نشاط تكميلي ،بل يمثل ،من جهة العالم القديم لم يكن ّ
أولى ،نشاط ًا اقتصادي ًا أساسي ًا ،بالنظر إلى المحصول الذي تم ّثله
الغنيمة والفيء والسبي .ويمثل ،من جهة ثانية ،نمط إنتاج ثقافي،
بالنظر إلى قيم البطولة ،ومالحم الثأر واالنتقام ،وأشعار الحماسة
والرثاء ،التي هي ثقافة العالم القديم.
تحرض على
لذلك ،طبيعي أن يحتوي القرآن على آيات ِّ
القتال .مثل اآليات التالية :
(كتب عليكم القتال وهو كره لكم ،وعسى أن تكرهوا شيئا
وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم
ال تعلمون) سورة البقرة ،اآلية . 216
حرض المؤمنين على القتال ،إن يكن منكم (يا أيها النبي ّ
عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من
الذين كفروا )...سورة األنفال ،اآلية . 65
(وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم وال تعتدوا إن الله ال
يحب المعتدين) سورة البقرة ،اآلية .190
81
(واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم
والفتنة أشد من القتل وال تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى
يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين) سورة
البقرة ،اآلية . 191
(وقاتلوهم حتى ال تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فال
عدوان إال على الظالمين) سورة البقرة ،اآلية . 193
(وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم) سورة
البقرة ،اآلية .244
لكن ما هو غير منطقي هو أن نجعل هذه اآليات أوامر
«عسكرية» إلهية ال تقبل العصيان ،وترقى بالتالي إلى مستوى
العقيدة .وهذا خطأ مدمر لألمن واالستقرار.
مثل تلك اآليات ،رغم أنها مشفوعة أحيان ًا باجتناب االعتداء
والعدوان ،إال أن هذا ال يكفي إلزالة أثرها على «عسكرة» الوعي
اإلسالمي ،ال سيما في شقه الفقهي والسلفي .وهكذا ،ال بد من
خيار أكثر معقولية ومصداقية ،ال بد من موقف اجتهادي حازم
وحاسم.
ما عساني أقول؟
عليـنا أن نـدرك أن الوحي القرآني قـد انـتقل إلينـا ،لـيس
الرسـول ،وإنما جـاء الخطاب القـرآني في فقط بواسـطة لغة ّ
األول واألخير ثمرة لتلك «الوساطة» نفسها؛ إذ ليس ثمة لغة
محايدة.
82
وعليه ،لنا أن نستنتج أن آيات الدعوة إلى القتال في القرآن
مجرد توصياتال تمثل أي قانون مقدس أو تشريع إلهي ،بل هي ّ
الرسالة ،عصر ال وجود فيه لدولة فرعية تناسب ثقافة عصر ّ
المؤسسات ،ومفاهيم الحق والقانون والمؤسسات لم تكن
معروفة آنذاك .وليس في حكم الوارد أن يخاطب الدين الناس بما
الرسول على معرفة بها.
ال يعرفون ،وال ضمن المتاح أن يكون ّ
اليوم يتخذ الصراع السياسي من هذه اآليات مط ّية للتحريض
على أقصى وأبشع أنواع العنف ،ويتم تقديمها على ما عداها.
ولهذا السبب ،عندما يفقد القرآن الكريم وظيفته األصلية ،وهي
ويتم توظيفه في حقل الحراك تأكيد وحدانية الله والتع ُّبد والصالةّ ،
السياسي والصراع من أجل السلطة ،يصبح عائق ًا ثقافي ًا أمام بناء
دولة المؤسسات ،مثلما يحدث اليوم في أفغانسان والصومال
وغزة والعراق وسوريا وليبيا وغيرها.
83
84
لي�ص القراآن د�شتوراً
86
تفسير من التفاسير القديمة أو المحدثة ،بل دخل إلى العربية الحق ًا
من باب المفاهيم المستوردة.
والمؤكّد ،من جهة ثانية ،أن القرآن ليس مفهوم ًا دستوري ًا،
طالما أن من بين الخصائص األساسية لبنود الدستور أن تكون،
أوالً ،مصاغة بلغة تخلو من المجاز واالستعارة وال تحتمل سوى
هامش ضيق من الخالف في التأويل ،وليس هذا حال القرآن الذي
نصا مجازيا من ألفه إلى يائه؛ وأن تكون ،ثاني ًا ،قابلة
يكاد يكون ّ
للتعديل تبع ًا للمعطيات ولما تقتضيه األحوال ،وبالتأكيد ليست
آيات القرآن على ذلك الوجه.
رغم ذلك ،ال تخلو األجواء من تشويش مقصود ،إذ يرتفع
الشعار مدوي ًا « :القرآن دستورنا» بدون أن يعرف أهل العقل
النص
والحكمة منّا كيف يعترضون ،وبأي وجه ير ّدون ،ما دام ّ
القرآني يتبدّ ى وكأنه جامع لألحكام والشرائع ،وشامل لقواعد
ٍ
ومستوف لكل القوانين والشرائع والقواعد السلوك والمعامالت،
التي أرادها الله للمسلمين أجمعين ،بل للبشرية جمعاء ،والتي
أحكامها تصلح لكل زمان ومكان.
لكن المعادلة تقول :
-أي نص كيفما كان -محدودة ،وأشياء ّ كلمات النص
الواقع العيني غير محدودة؛ كلمات النص -أي نص كيفما كان-
ثابتة في مواضعها ،وأشياء الواقع العيني تتبدل على الدوام .وكما
صرح األصوليون االجتهاديون ،النصوص تنتهي وحوادث العباد ّ
ال تنتهي .النتيجة ،إذ ًا ،من المحال أن يكون النص –أي نص
87
كيفما كان -مرجع ًا مطلق ًا وصالح ًا لتفسير أو تدبير كل الحاالت
واألحوال.
تصرف الفقهاء؟
إزاء هذا اإلشكال ،كيف ّ
لم يظهر الفقه ّأول األمر إالّ أم ً
ال في تقليص الفارق المتعاظم
بين النص والواقع ،أي توسيع مجال سلطة النص لتشمل أقصى
ما يمكن من المستجدات والمستحدثات .وذلك بواسطة آلية
القياس.
طيب ،أين المشكل؟
الزمني بين النص الديني والواقع العيني،
كلما اتسع الفارق ّ
اتسعت مساحة الفراغ التشريعي ،ومن ثم استعصى القياس .بل قد
ال ينتج القياس إزاء اتساع الفارق الزمني بين النص والواقع غير
المرة أحيان ًا .من قبيل حكاية «عشر رضعات للكبير» في
السخرية ّ ّ
«زوجتك نفسي» في مجال العالقات بين الموظفين والمهنيين ،أو ّ
مجال الحياة الجامعية ،أو تلقي معونات من السفارات األمريكية
على أنها باب من أبواب الجزية ،إلخ !
تلك أزمة االجتهاد الديني اليوم والذي كثير ًا ما ُيدعى إليه
وال ُيستجاب.
غير أن الوعي بأزمة صالحيات النص بدأ منذ الوهلة األولى،
مع ظهور ما ُيعرف بـ «أسباب النزول» .ذلك أن الجهد المبذول
في تحديد أسباب النزول يفضح وعي ًا -مسكوت ًا عنه -بمحدودية
ما ُيعرف باألحكام الشرعية.
88
لماذا؟
عندما ُيقدَّ م أي نص قانوني باعتباره تشريع ًا كوني ًا وأبدي ًا
وصالح ًا لكل زمان ومكان ،فمن العبث أن نبحث عن أسباب نزوله
الراجح أن طابع الكونية واإلطالق يستدعيان لغاية تفعيله .بل ّ
تجريد النص القانوني إلى أبعد مدى ممكن من سياقه النّزولي.
لكننا نضطر للعود إلى أسباب النزول عندما ندرك محدودية
الحكم ،فنحاول تجاوز تلك المحدودية عبر آليات القياس كما
يفعل الفقهاء ،أو عبر تعطيل الحكم «الشرعي» كما درجت عليه
«العادة السرية» ّ
لجل المسلمين وإن كانوا قليال ما يبوحون.
إننا نعلم أيض ًا إن اإلصرار على ترسيم القرآن كدستور إلهي
هو محصلة مسار طويل من االنتقال من إسالم الفطرة والقلب إلى
الرسول ،حين تحول ِ
إسالم الحبر والورق .إنه مسار بدأ عقب وفاة ّ
الرباني إلى قرآن محمدي ،وإلى ُمصحف عثماني ،وإلى الوحي ّ
نص رسمي وسلطة مطلقة ومق ِّيدة للعقل والجسد والوجدان.
في السياق ذاته ،انتقل مركز ثقل الثقافة اإلسالمية من
التوحيد الربوبي ،حسب إسالم الفطرة وتبع ًا لمباحث علم الكالم،
إلى النص الديني ،حسب إسالم الورق وتبع ًا لمباحث الفقه
التي ض ّيعت القلب وأغرقت العقل في ركام من الشرائع والسنن
واألحكام .
ومن دالئل العجز العلمي أن ينظر المسلم إلى القرآن كما
لو أنه مغارة علي بابا ،في داخله كل شيء؛ أو كأنه عصا موسى أو
خاتم سليمان ،بضربة سحرية ُيقدم الحلول الناجعة لكافة المشاكل
89
االجتماعية والسياسية واالقتصادية ،بل يعتبره البعض ترياق ًا شافي ًا
أو ُرقية واقية من األمراض الجسمية والنفسية وحتى العقلية !
وهذا منتهى الالمعقول.
ولعل الصعود االنتخابي لإلسالميين في أول انتخابات
حرة في مصر وتونس -ليس على أساس أي برنامج تنموي -إنما
ّ
يعكس هذا الرهان السحري على الخالص الديني.
الروحي تحديد ًا ،انتقل القرآن الكريم من آيات للتع ّبد ّ
الروحية المتحررة من مغريات السلطة وجشع الخالص ،وللصالة ّ
المال ،ومن اتصال بين العابد والمعبود يطمئن النفس ويدخل اليها
األمان الذي تحتاجه ،إلى نص مقدس ووصايا إلهية قاهرة للعقل
والوجدان.
مجرد ضرب من ضروب الشرك ،وال شك في ذلك.
هذا ّ
90
عبادة الن�ص!
92
ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدد ًا).
وليس هذا بسبب حجم األفكار الالمتناهية في العقل اإللهي،
مجرد خواطر إلهية ،وهذا ما ال تؤكده
وإال لكان الخطاب القرآني ّ
أسباب النزول ،وإنما يرتبط األمر بالمحدودية الوقائع والنوازل
والظروف اإلنسانية .فلو كان يلزم أن يصدر الوحي الرباني حكم ًا
في كل نازلة من النوازل باختالف األزمنة واألمكنة وبتفاوت
الظروف والسياقات ،لما كفته كل بحار األرض أن تكون مداد ًا.
وهو ما يعني استحالة وجود نص مرجعي يؤطر سلوك اإلنسان
مرة بنحو مطلق ،حتى ولو كان القرآن الكريم نفسه ،والذي نقول ّ
أخرى أنه ال يمكن أن يكون دستور ًا بأي حال ،وأما وظيفته فهي أن
نتع ّبد به وليس أن نعبده.
93
94
لي�ص القراآن ِعلم ًا
96
(يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس
ٍ
ألجل مسمى) سورة فاطر ،اآلية .33 كل يجري والقمر ُّ
مسمى) سورة
ّ ٍ
ألجل (وسخر الشمس والقمر ٌّ
كل يجري
الرعد ،اآلية .2
إذ ًا حركة الشمس مظهر واضح وصريح في النص القرآني.
في المقابلُ ،ذكرت األرض في القرآن الكريم أكثر من أربع
المرات بالحركة والدّ ورانمرة من ّ مرة ،ولم تُقرن في أي ّ مئة ّ
والجريان .بل ،خالف ذلك ،عادة ما يأتي ذكر األرض مقرون ًا
بأفعال الثبات واالستقرار ،كما تب ِّين اآليات التالية :
(جعل لكم األرض قرار ًا والسماء بناء) سورة غافر ،اآلية
.64
(أمن جعل االرض قرار ًا وجعل خاللها انهارا وجل لها
رواسي) سورة النمل ،اآلية .61
(واألرض مددناها وألقينا فيها رواسي )...سورة الحجر،
اآلية .19
الرحمان ،اآلية .10
(واألرض وضعها لآلنام) سورة ّ
ثالثا ،الكون امتداد عمودي.
لنبدأ بسؤال بسيط ويبدو ساذج ًا :داخل تصورات العالم
القديم أين كان يبدأ العالم وأين ينتهي؟
في المستوى األفقي ،ال أحد كان يعلم أين يبدأ العالم وأين
ينتهي ،لكن الغالب على ظن اإلنسان القديم أن العالم تحدّ ه
97
البحار أو الصحاري أو الظلمات أو الخواء أو األرواح ،إلخ .لكن،
في المستوى العمودي ،كان العالم يمتدّ بكل وضوح من األرض
أو من حفرة الجحيم تحت سطح األرض ،إلى غاية السماء الثالثة
أو السابعة أو العاشرة أو الثانية عشر ،باختالف تمثالت الطوائف
واألديان.
على نفس المنوال ،يتصور الخطاب القرآني الكون باعتباره
امتداد ًا صاعد ًا من قشرة األرض إلى السماء السابعة.
وتدرجي من
فالغالب على الكون القرآني أنّه امتداد عمودي ّ
الروحانية ،إلى العوالم التحتية،
العوالم الفوقية ،اإللهية ،النورانيةّ ،
البشرية ،المادية .وليس يخفى أن هذا التصور الكوسمولوجي
للكون باعتباره طبقات عمودية متفاوتة في الطبيعة والجوهر،
وإضفاء الطابع األخالقي على هذا التفاوت ،يتناغم إلى حد ما مع
فيزياء أرسطو التي سادت العالم القديم واستمر تأثيرها إلى حدود
فيزياء نيوتن.
وفي كل األحــوال ،طبيعي أن يعكس القرآن المحمدي
تصورات البشر الذين كان يخاطبهم بنحو مباشر ،بشر ما قبل العلم
الحديث.
مثل ما جاء في اآليتين التاليتين :
( الذي خلق سبع سماوات طباق ًا ما ترى في خلق الرحمان
من تفاوت )...سورة الملك ،اآلية .3
( ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباق ًا) سورة نوح
اآلية .15
98
محصلة القول ،يقوم التصور القرآني لنظام المجموعة
الشمسية على أربع مس َّلمات ،وهي على النحو التالي :
-1ان السماوات شيء واألرض شيء آخر.
-2السماوات طبقات من الكون عمودية ،من األعلى إلى
األدنى أو العكس.
-3األرض مستقرة مباشرة تحت السماء الدنيا.
-4الكواكب موجودة في السماء الدنيا زينة لها ولحفظ
السماء من كل شيطان مارد.
هكذا ،يصعب أن نلوي الكلمات ونستخرج منها إعجاز ًا
كوبرنيكي ًا مزعوم ًا .بل ،سيكون هذا ضرب ًا من العبث بالقرآن
الكريم وبوظيفته األساسية.
ومع ذلك ،نريد أن نقول بكل وضوح وشفافية ،إننا حين
ننظر إلى النص القرآني بمنظار النظريات العلمية الحديثة ،فإننا
نظلم القرآن ونظلم العلم ونحكم على أنفسنا بالفصام بين ما نقوله
أو نسمعه في حصص الفيزياء ،وبين ما نقوله أو نسمعه في خطب
الجمعة.
ولغاية تجاوز هذا الوعي الفصامي بين أن تكون السماء
فوقنا (وفق منطوق الخطاب الديني) وأن نكون نحن اآلن في
السماء ندور حول الشمس (حسب تصورات الخطاب العلمي)،
ال يكفي أن ندعو إلى الفصل بين قبعة العلم وعمامة الدين ،ال
بد من مبرر اجتهادي لهذا الفصل حتى تبقى العالقة بين خطاب
99
العقل وخطاب الوجدان عالقة متوازنة .وهذا ما أومن بإمكانية
تحققه وأناضل من أجل المساهمة في إنجازه.
ال بدّ أن يدرك الناس والمثقفون والفقهاء والمتعلمون
والمسؤولون عن السياسات التعليمية واإلعالمية والثقافية أن
فصل الدين عن العلم ال يعني إقصاء الدين ،بأي حال من األحوال.
تمام ًا مثلما نستطيع أن نفصل المجاز الشعري عن مجال الخطاب
العلمي من دون أن يزعم أي أحد أننا بذلك نقصي الشعر أو ننتقص
من عظمته.
صح أن الحديث عن طبقات السماء على هذا األساس ،إذا ّ
وعن االمتداد األفقي في المجموعة الشمسية يندرج ضمن المجاز
االبتهالي ،فالنتيجة أن نعتبر أن القرآن الكريم ال يقدم أي نظرية
علمية ،وال يمكن أن يكون مرجع ًا ألي معرفة علمية.
عدا ذلك ،حين نعلم علم الحس السليم بأن الخطاب القرآني
الرسول الكريم أثناء تم ّثل اإلشارات الربانية،
تأول قام به ّ
محض ّ
أن الخطاب القرآني يعكس بوسعنا أن نفهم ،دون عناء ُيذكر ،كيف ّ
الرسول ،وهو منذ البدء المستوى العلمي للعصر الذي عاش فيه ّ
عصر سبق العلم ،وسبق الفيزياء ،وسبق الثورة الكوبرنيكية بمئات
السنين.
إنه عصر القدامة العلمية.
100
لي�ص القراآن نحواً
103
والسؤال ،لماذا لم يجمع اسم الموصول العائد على ضمير
الجمع بحيث يقال :خضتم كالذين خاضوا؟
7-جزم الفعل المعطوف على المنصوب :
(و َأن ِْف ُقوا ِم َّما َر َز ْقنَاك ُْم
جاء في سورة المنافقون ،اآلية َ : 10
ول َر ِّب َل ْوالَ َأ َّخ ْرتَنِي إِ َلى َأ َج ٍل ِ ِ
م ْن َق ْب ِل َأ ْن َي ْأت َي َأ َحدَ ك ُُم َ
الم ْو ُت َف َي ُق َ
الصالِ ِحين). ِ
يب َف َأ َّصدَّ َق َو َأك ُْن م َن َّ َق ِر ٍ
والسؤال ،لماذا لم ينصب الفعل المعطوف على المنصوب
بحيث يقال َ :فأ ّصدّ ق و َأكون من الصالحين؟
8-جعل الضمير العائد على المفرد جمع ًا.
ِ
جاء في سورة البقرة ،اآلية َ ( : 17م َث ُل ُه ْم ك ََم َث ِل ا َّلذي ْ
است َْو َقدَ
ُور ِهم وتَركَهم فِي ُظ ُلم ٍ
ات َ ب ال َّل ُه بِن ِ ْ َ َ ُ ْ َارا َف َل َّما َأ َضا َء ْت َما َح ْو َل ُه َذ َه َ
ن ً
ال ُي ْب ِص ُر َ
ون).
والسؤال ،لماذا لم يأت الضمير العائد على المفرد مفرد ًا
بحيث يقال يقال :ذهب الله بنوره؟
9-نصب المعطوف على المرفوع :
ون فِي اس ُخ َجاء في سورة النساء ،اآلية َ ( : 162ل ِك ِن الر ِ
َّ
ِ ِ ُون ُي ْؤ ِمن َ
ُون بِ َما ُأن ِْز َل إِ َل ْي َك َو َما ُأن ِْز َل م ْن َق ْبل َك الم ْؤ ِمن َ ِ ِ
الع ْل ِم من ُْه ْم َو ُ
الله واليو ِم ِ
اآلخ ِر ُون بِ ِ الم ْؤ ِمن َ الم ْؤت َ و ِ ِ
َ َْ الزكَا َة َو ُ ُون َّ الص َال َة َو ُ
ين َّ المقيم َ
َ ُ
ُأو َل ِئ َك َسن ُْؤت ِيه ْم َأ ْجر ًا َعظيم ًا).
ِ ِ
104
10-نصب المضاف إليه :
اء (و َل ِئ ْن َأ َذ ْقنَا ُه َن ْع َما َء َب ْعدَ َ
ض َّر َ جاء في سورة هود ،اآلية َ : 10
ور) . ات َعنِّي إِ َّن ُه َل َف ِر ٌح َف ُخ ٌالس ِّي َئ ُ
ب ََّم َّس ْت ُه َل َي ُقو َل َّن َذ َه َ
ِ
ضراء؟ يجر المضاف إليه بحيث يقال :بعد والسؤال ،لماذا لم َّ
11-أتى بجمع كثرة حيث أريد القلة :
(و َقا ُلوا َل ْن ت ََم َّسنَا الن َُّار إِال جاء في سورة البقرة ،اآلية َ : 80
َّخ ْذت ُْم ِعنْدَ ال َّل ِه َع ْهدً ا َف َل ْن ُي ْخ ِل َ
ف ال َّل ُه َع ْهدَ ُه َأ ْم َأ َّيا ًما َم ْعدُودَ ًة ُق ْل َأت َ
ون َع َلى ال َّل ِه َما ال َت ْع َل ُم َ
ون). َت ُقو ُل َ
والسؤال ،لماذا لم يتم جمعها جمع قلة بحيث يقال :أيام ًا
معدودات؟
12-جمع اسم علم حيث يجب إفراده:
اس َل ِم َن(وإِ َّن إِ ْل َي َ
جاء في سورة الصافات ،اآلية َ : 123-132
ِ ِ ِ ِ ِ ِ الم ْر َس ِلي َنَ ...س َ
الم ْؤمنين). ين ...إِ َّن ُه م ْن ع َبادنَا ُ
ال ٌم َع َلى إِ ْل َياس َ ُ
والسؤال ،لماذا جاء إلياسين بالجمع عن إلياس المفرد ،رغم
أنه اسم الع َلم؟
13-نصب المعطوف على المرفوع :
وهك ُْم جاء في سورة البقرة ،اآلية َ ( : 177ل ْي َس ا ْلبِ َّر َأ ْن ت َُو ُّلوا ُو ُج َ
ب و َل ِكن ا ْلبِر من آمن بِال َّل ِه وا ْليو ِم ِ ِ
اآلخ ِر َ َْ ق َب َل ا ْل َم ْش ِر ِق َوا ْل َم ْغ ِر ِ َ َّ َّ َ ْ َ َ
َاب َوالنَّبِ ِّيي َن َوآتَى ا ْل َم َال َع َلى ُح ِّب ِه َذ ِوي ا ْل ُق ْر َبى الئك َِة َوا ْل ِكت ِ
وا ْلم ِ
َ َ
اب َو َأ َقا َم الر َق ِ ِ ِ ِ السبِ ِ ِ
السائلي َن َوفي ِّ يل َو َّ َوا ْل َيتَا َمى َوا ْل َم َساكي َن َوا ْب َن َّ
ِ ِ ِ
ين في الصابِ ِر َ
اهدُ وا َو َّ ون بِ َع ْهده ْم إِ َذا َع َالزكَا َة َوا ْل ُمو ُف َ
الصال َة َوآتَى ََّّ
105
الض َّر ِاء َو ِحي َن ا ْل َب ْأ ِ
س ُأو َل ِئ َك ا َّل ِذي َن َصدَ ُقوا َو ُأو َل ِئ َك ُه ُم ِ
ا ْل َب ْأ َساء َو َّ
ا ْل ُم َّت ُق َ
ون).
والسؤال ،لماذا لم يرفع المعطوف على المرفوع فيقال :
والصابرون؟
14-وضع الفعل المضارع بدل الماضي :
(إن م َثل عيسى عند الله
جاء في سورة آل عمران ،اآلية ّ : 59
ك ََم َث ِل آ َد َم َخ َل َق ُه ِم ْن ت َُر ٍ
اب ُث َّم َق َال َل ُه ُك ْن َف َيك ُ
ُون).
والسؤال ،لماذا لم يتم اعتبار المقام الذي يقتضي صيغة
الماضي ال المضارع ،بحيث يقال :قال له كن فكان؛ أو يتم تعديل
الصيغة لتدل على المضارع فيقال :يقول له كن فيكون؟
لما.
15-لم يأت بجواب ّ
جاء في سورة يوسف ،اآلية َ ( : 15فـ َل ّما َذ َه ُبوا بِ ِه َو َأ ْج َم ُعوا َأ ْن
ب َو َأ ْو َح ْينَا إِ َل ْي ِه َل ُتنَ ِّب َئن َُّه ْم بِ َأ ْم ِر ِه ْم هذا َو ُه ْم الَ ِ ِ
َي ْج َع ُلو ُه في َغ َيا َبة ُ
الج ِّ
َي ْش ُع ُر َ
ون) .
لما؟ علم ًا أنه لو حذف الواو التي قبل والسؤال ،أين جواب ّ
أوحينا الستقام المعنى وانتهى المشكل.
َّ 16-نون الممنوع من الصرف :
اف َع َل ْي ِه ْم بِآنِ َي ٍة ِم ْن
(و ُي َط ُ
جاء في سورة اإلنسان ،اآلية َ :15
َت َق َو ِار َير ًا). فِ َّض ٍة َو َأك َْو ٍ
اب كَان ْ
والسؤال ،لماذا جاءت قوارير منونة مع أنها ال ُتن َّون المتناعها
عن الصرف؟
106
وجاء في سورة اإلنسان ،اآلية ( :4إِنَّا َأ ْعتَدْ نَا ل ْلكَافِ ِري َن
الالً َو َس ِعير ًا). َسال َِس ً
ال َو َأ ْغ َ
ُنون المتناعها من والسؤال ،لماذا نونت سالسل ،مع أنها ال ت َّ
الصرف؟
17-تذكير خبر االسم المؤنث :
ِ ِ
جاء في سورة الشورى ،اآلية ( : 17الل ُه الذي َأن َْز َل الكت َ
َاب
ان َو َما ُيدْ ِر َ بِالح ِّق و ِ
يب). السا َع َة َق ِر ٌ
يك َل َع َّل َّ الم َيز َ َ َ
والسؤال ،لماذا لم يتبع خبر لعل اسمها في التأنيث بحيث
يقال :قريبة؟
18-أتَى باسم جمع بدل المثنى:
جاء في سورة التحريم ،اآلية ( :4إِ ْن َتتُو َبا إِ َلى ال َّل ِه َف َقدْ َص َغ ْت
اه َرا َع َل ْي ِه َفإِ َّن ال َّل َه ُه َو َم ْوال ُه َو ِج ْب ِر ُيل َو َصالِ ُحُق ُلو ُبك َُما َوإِ ْن َت َظ َ
الئ َك ُة َب ْعدَ َذلِ َك َظ ِه ٌير).
ا ْلم ْؤ ِمنِين وا ْلم ِ
َ َ َ ُ
موجه لحفصة وعائشة ،وهو في كل األحوال موجه الخطاب ّ
الثنين أو الثنتين .والسؤال ،لماذا جاءت كلمة قلوبكما في صيغة
الجمع بدل المثنّى ،رغم أن المقصود شخصان ليس لهما أكثر من
قلبين إثنين؟
جاء في سورة الحجرات اآلية ( :وإن طائفتان من المؤمنين
اقتتلوا فاصلحوا بينهما) .والسؤال ،لماذا قيل اقتتلوا ولم يقل
اقتتلتا؛ طالما يتعلق األمر بطائفتين اثنتين؟
19-وقوع المفعول موقع الفاعل :
إذ جاء في سورة اإلسراء ،آية ( : 45حجاب ًا مستور ًا).
107
والسؤال ،لماذا جاءت كلمة مستورا بصيغة المفعول ولم
تأتي بصيغة الفاعل فيقال :حجابا ساتر ًا؟
جاء في سورة الكهف ،اآلية َّ ( :5ما َل ُهم بِ ِه ِم ْن ِع ْل ٍم َو َال ِآل َب ِائ ِه ْم
ون إِ َّال ك َِذ ًبا). َخرج ِمن َأ ْفو ِ
اه ِه ْم إِن َي ُقو ُل َ ِ
َك ُب َر ْت كَل َم ًة ت ْ ُ ُ ْ َ
والسؤال ،لماذا جاءت كلمة (كلمة) منصوبة بالفتحة ،في
الوقت الذي يفترض أن تكون فيه مرفوعة على أنها فاعل؟
الهنات أحيان ًا من باب ال ّطعن في صدقية أو وإذ تثار هذه ِ
مصداقية القرآن ،فلن يكون هذا هو مقصدنا بأي حال من األحوال،
إنما غايتنا األسمى رفع الحرج اإليماني النّاجم عن الخلط بين
تأليه الوحي (وهذا يجوز) وتأليه النص (وهذا ال يجوز) .ذلك
أن ألوهية الوحي ال تعني بالضرورة وال يجب أن تعني بأي حال
ألوهية النص القرآني؛ عندما نعتبر أن القرآن ثمرة تأويل رسولي
وإبداع بشري داخل سياق ثقافي ولغوي محدّ د.
مجمل تلك الهنات تنتمي إلى غلبة األسلوب التداولي
مبررة باعتبار الشفهي على األلسن في عصر الرسول وما تاله .وهي ّ
أن القرآن الكريم كُتب قبل تقعيد اللغة العربية ،وقبل انتقالها الكامل
من العصر الشفهي إلى العصر الكتابي .بل لنقل إنها هنات ال تتعلق
بالقرآن وإنما تتعلق بالمصحف على وجه التحديد ،ما يؤكد وجود
مسافة فارقة بين كل من الوحي والقرآن والمصحف ،ومن ثم جاء
ال بالتالي لهنات اللغة الطبيعية للبشر. المصحف تأليف ًا بشري ًا وحام ً
لكن المشكلة أننا صرنا نقدِّ س النص المصحفي مثلما
نص ًا مطلق ًا وأبدي ًا وسرمدي ًا يجاور الذات اإللهية ،ونعتبره ّ نقدس ّ
الذات اإللهية منذ األزل .وبذلك فإننا نقع في الحرج.
108
المشكلة أن تقديس النص واعتباره هو نفسه «كالم الله»
بالتمام والكمال ،قاد في النهاية إلى اإلبقاء على «الهنات»
النحوية كما هي طالما الله «ال يخطئ» ،وكالمه ال يقبل أي
تعديل .أما مجمل التفاسير فهي لم تزد تلك الهنات المصحفية
إال التباس ًا.
مثال ،بالنسبة لآلية (ال ينال عهدي الظالمين) سورة البقرة،
فضل ابن كثير في تفسيره عدم التطرق إلعراب اآلية،اآلية ّ ،124
بينما ارتأى الطبري أن يجعل (عهدي) فاعال و(الظالمين) مفعوال
به!
قد يبدو اقتراح الطبري ُمرضي ًا للكثيرين ،لكنه ليس مقنع ًا؛
والمتداول
َ طالما أنه يخالف المعهود التداولي .فالمعروف
والبديهي أيض ًا أن اإلنسان هو الذي ينال العهد وليس العهد هو
الذي ينال اإلنسان.
وألجل استذكار بعض االفتراضات المعقولة ،يمكننا القول،
لو أننا لم نكن نقدِّ س المصحف العثماني لكان بوسعنا أن نفترض
ب ُيسر وسهولة أن التعبير الصائب هو التعبير الذي اعترف الطبري
والزمخشري في تفسيريهما لآلية بوجوده في بعض المصاحف
األخرى :ال ينال عهدي الظالمون.
بعيد ًا عن منطق القداسة ،هناك تصورات أكثر معقولية ال
الرؤية اإليمانية ،شريطة أن ننزع طابع العصمة والقداسة
تعارض ّ
عن المصحف المكتوب ،والذي هو منتوج اجتهادي كما سبق
الذكر.
109
أما بعد..
فال يجوز بأي حال أن ننسى أن كتّاب الوحي كانوا يكتبون
الوحي قبل عشرات السنين من ظهور قواعد اللغة العربية .وإن
كان تقعيد اللغة العربية قد اعتمد اعتماد ًا كبير ًا على لغة القرآن،
إال أن القرآن ومثلما استعمل مفاهيم «سياسية» تنتمي إلى مرحلة
ما قبل الدولة ،كما سبق أن أوضحنا ،فإنه استعمل أيضا أساليب
«نحوية» تنتمي إلى مرحلة ما قبل قواعد اللغة .وهذا ما يفسر أوجه
المدون.
ّ االختالل واألخطاء في النص
الرصيدفضال عما قيل ،كثير ًا ما استعمل الخطاب القرآني ّ
اللغوي الشفهي المنتشر ،والمتنافر في بعض األحيان ،لمختلف
قبائل عدنان وقحطان .وليس يخفى أن ما قد يبدو نحو ًا عند
البعض قد يكون لحن ًا عند البعض اآلخر ،وما صار خطأ من منظور
ومرة
المرحلة الكتابية ،لم يكن خطأ من منظور المرحلة الشفويةّ .
أخرى ،يبدو كل هذا معقوالً ومقبوالً فيما لو ّ
حررنا النص الديني
من التفسير السحري.
أدق تعبير ًا عن الموقف ،فيما ور ّبما كان عثمان بن عفان ّ
رواه أبو بكر بن أبي داود السجستاني عندما قال « :لما ُفرغ من
المصحف أتي به عثمان فنظر فيه فقال :أحسنتم وأجملتم ،أرى
ستقومه العرب بألسنتها»(.)1
ّ فيه شيئ ًا من لحن
سمى األشياء بمسمياتها وتحدَّ ث عن أخطاء في
بل ،ثمة من ّ
المصحف المكتوب .فقد ورد «عن هشام بن عروة عن أبيه قال :
( )1أبو بكر بن أب داود السجستاني ،كتاب المصاحف ،تحقيق د .محب الدين عبد السبحان
واعظ ،دار البشائر اإلسالمية ،بيروت ،الطبعة الثانية ،2002ج ،2:ص .228 :
110
سألت عائشة عن لحن القرآن ( :إن هذان لساحران) ،وعن قوله :
(والمقيمين الصالة والمؤتون الزكاة) ،وعن قوله ( :والذين هادوا
والصابئون) ،فقالت :يا ابن أختي هذا عمل الكتّاب أخطأوا في
الكتاب»(.)1
علما بأن الهفوات النحوية أو «حروف من اللحن» ،كما رآها
البعض ،في مصحف عثمان ،والتي أرهق إعرابها المفسرين ،غير
موجودة في بعض المصاحف األخرى .مثال يؤكد كل من الطبري
والزمخشري في تفسيرهما لآلية (ال ينال عهدي الظالمين) سورة
البقرة ،اآلية ،124أن في بعض المصاحف األخرى ،التي أحرقها
عثمان ،كانت العبارة الواردة هي :ال ينال عهدي الظالمون.
وأخير ًا ،إن «سعيد بن جبير قال :في القرآن أربعة أحرف
لحن( :الصابئون)( ،المقيمين)( ،فأصدق وأكن من الصالحين)،
و( إن هذان لساحران)»(.)2
( )1السجستاني ،كتاب المصاحف ،ج ،2:ص .235 :والمقصود بالكتاب هنا الكتابة.
( )2السجستاني ،كتاب المصاحف ،ج ،2:ص .232 :
111
112
لي�ص القراآن قانون ًا جنائي ًا
114
المتد ّينة -ليس غريب ًا أن نرى السلفيين الدّ عويين أو الجهاديين،
بين الفينة واألخرى ،ينشطون كميليشيات تطهيرية في األزقة
والشوارع ،ليس ضدّ النفايات التي تؤذي وال يكترثون بها ،وإنما
ضد «المنكر» الذي ال يؤذي أحد ًا وال يغضب سواهم.
المسألة ،أنهم بكل بساطة ،يحملون غريزة الخوف البدائي
من أن يغضب الله على الجميع بسبب تصرفات البعض.
وإذا كانت األحكام العقابية في القرآن المحمدي قد جاءت
متسمة بميسم القدامة ،فهذا هو الجانب المثير إلحراج الكثيرين.
لكن ،هذا أيض ًا دليل على أن العدالة في النص القرآني ّ
مجرد شكل
لإلناء القدامي الذي ُوضعت فيه روح العدالة اإللهية.
وإذا كان الماء يأخذ شكل ولون اإلناء الذي ُوضع فيه ،فلعلنا
نحتاج اليوم إلى إناء قادر على استيعاب روح العدالة اإللهية داخل
عصرنا ،والذي هو عصر الحريات الفردية والمجتمعات المتعددة
وحقوق اإلنسان ..نحتاج إلناء حداثي إلعادة تشكيل مظهر الدين.
115
116
الولء وال َبراء ُ :عقدة اأم َعقيدة؟
118
2-الوالء والبراء
من بين المفاهيم القرآنية التي يتم توظيفها تلك المفاهيم
التي تنتمي إلى المنطق االحترابي للعالم القديم ،عالم القبيلة
والعقيدة والغنيمة وفق مفاهيم محمد عابد الجابري ،وهو مفهوم
تعرض للكثير من التوظيف اإليديولوجي الشنيع ،وأحدث خراب ًا َّ
في الدنيا والدين ،في العمران واإلنسان ،في العقل والوجدان ،هو
مفهوم الوالء ،والذي يقابله قرآني ًا مفهوم البراء.
وجــراء التوظيف اإليديولوجي آليات الــوالء والبراء،
من طرف فقهاء السنة والشيعة على حد سواء ،ومن طرف سائر
المجاني
ّ حركات اإلسالم السياسي ،يكاد األمر يبلغ حد الحقد
والتعصب األعمى ،بحيث تتعطل َم َلكة الفهم ومهارة التواصل
والقدرة على التعايش.
وفي كل هذا يتم اإلستناد إلى النص القرآني الذي يكثر فيه
استعمال مفهو َم ْي الوالء والبراء ،على منوال اآليات التالية:
(الله ولي الذين آمنوا )...سورة البقرة ،اآلية .257
(يا أيها الذين آمنوا ال تتخذوا اليهود والنصارى أولياء،
بعضهم أولياء بعض ،ومن يتولهم منكم فإنه منهم )...سورة
المائدة ،اآلية .51
( يا أيها الذين آمنوا ال تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون
إليهم بالمودة) سورة الممتحنة ،اآلية .1
(براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين)
سورة التوبة ،اآلية .1
119
3-حزب الله وحزب الشيطان
حزب الله ،وجند الله ،وأولياء الله ...مقابل حزب الشيطان،
جند الشيطان ،أولياء الشيطان ...هكذا هو البناء ِ
الق َيمي للنص
القرآني ،على منوال اآليات التالية :
(ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم
الغالبون) سورة المائدة ،اآلية .56
(...أولئك حزب الله ،أال إن حزب الله هم الغالبون)
(أال إن أولياء الله ال خوف عليهم وال هم يحزنون) سورة
يونس ،اآلية .62
(وإن جندنا لهم الغالبون) سورة الصافات ،اآلية .173
ان هم ا ْل َخ ِ
اس ُر َ ِ (َ ...أال إِ َّن ِح ْز َب َّ
ون) سورة المجادلة، الش ْي َط ُ ُ
اآلية .19
( ...فقاتلوا أولياء الشيطان )...سورة النساء ،اآلية .76
هكذا ،ينتظم العقل المسلم وفق ثنائية احترابية حادة بين
معسكرين متقاتلين :معسكر جند وأولياء وحزب الله ،مقابل
معسكر يضم جند وأولياء وحزب الشيطان .وال شك أن هذا
الوعي االحترابي يعيق قدرة العقل اإلسالمي على الحوار الحر
والتوافق الخالّق والعيش المشترك.
غير أن الشفاء من هذه الثنائية المزمنة ال يكون إالّ من خالل
العودة لحالة الوجدان الشعري ،ليس على طريقة «ال توجد منطقة
وسطى ما بين الجنة والنار» ،وإنما على طريقة أن (لكل جعلنا
120
شرعة ومنهاجا) ولكل واحد من الناس (صراط مستقيم) يناسب
حاجاته وإمكاناته ،وبالجملة ،على طريقة التعددية الدينية لشيخ
العارفين محي الدين بن عربي يوم أنشد يقول :
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه دانـــي
وقــد صــار قلبي قابال كــل صــورة
فمرعى لــغــزالن وبيت ألوثـــان
وديــر لرهبان وكعبة طائـــــــف
وألـــواح تــوراة ومصحف قـــرآن
أدين بدين الحب أنّى توجهـــــت
ركائبه أرسلت ديني وإيمانـــي
121
122
وهم ال ّتف�شير
124
بشري ،فنحن هنا أمام فرضية قد تبدو جديدة ،لكنها تقوم على
بداهة قديمة وتكاد تكون منسية.
ال يمكن ألي سلطة وال ألي شخص ،أن يزعما القدرة على
تفسير معاني القرآن الكريم ،وذلك انسجاما مع ما يقوله القرآن عن
والراسخون في العلم) سورة آل نفسه (وما يعلم تأويله إال الله ّ
عمران ،اآلية ،7وبالنظر إلى اختالف التفاسير بشأن «الراسخون
في العلم» ،وتماشي ًا أيضا مع أن القرآن محض ترجمة رسولية
محمدية قرشية للصور الوحيانية ،والتي ال نعرف عنها أي شيء.
وألنه ما من شك ّبأن الحروف الغامضة والمبهمة (فواتح
السور) التي تبدأ بها زهاء تسعة وعشرين سورة من سور القرآن
(ألم ،حم ،حمعسق ،كهيعص ،طسم )...هي إشــارات على
اإلصرار على الغموض واالمتناع عن التفسيرّ ،
فإن هذا يشير إلى
اقتصار القرآن على القراءة التعبدية ،ليس إال.
وقد وردت هذه الحروف الغامضة وتكرر ورودها في القرآن،
مثل :
(ألم) التي ترد في مطلع ست سور (البقرة ،آل عمران،
العنكبوت ،الروم ،لقمان ،السجدة).
(حم) التي ترد في مطلع ست سور (غافر ،فصلت،
الزخرف ،الدخان ،الجاثية ،األحقاف).
(ألر) التي وردت في مطلع خمس سور (يونس ،هود،
يوسف ،إبراهيم ،الحجر).
...
125
بل ترد حروف أكثر غموض ًا وأشد «طلسمية».
مثل:
(حمعسق) التي وردت في مطلع سورة الشورى.
(كهيعص) التي وردت في مطلع سورة مريم.
(طسم) التي وردت في مطلع سورة القصص.
...
وإذ اختلف المفسرون القدماء حول دالالتها ومعانيها،
فقد تواضعوا على أنها شديدة الغموض واإلبهام .وسواء كانت
تلك الحروف تُحيل إلى بعض حروف أسماء الله ،أو األدعية ،أو
للقسم اإللهي ،أو ما إلى ذلك من محاوالت
هي حروف مبعثرة َ
التفسير التي اقترحها البعض ،إال أن كل ذلك ال ينفي عنها طابعها
«الطلسمي».
وربما كانت تذكِّرنا بتقاليد التصوف اليهودي في تعاطيه مع
األبجدية العبرية.
لكن المؤكد أن إصرار البعض على التفسير قد أوقعه في ما
يسمى بـ«غرائب التفسير»:
«من ذلك قول من قال في حمعسق إن الحاء حرب علي
ومعاوية والميم والية المروانية والعين والية العباسية والسين
والية السفيانية والقاف قدوة مهدي ،حكاه أبو مسلم ثم قال أردت
بذلك أن يعلم أن فيمن يدعي العلم حمقى .ومن ذلك قول من
126
قال في آلم معنى ألف ،ألف الله محمدا فبعثه نبيا ،ومعنى الم المه
الجاحدون وأنكروه ،ومعنى ميم ميم الجاحدون المنكرون من
الموم ،وهو البرسام»(.)1
وإن كان التفسير هنا ضربا من التخبط العشوائي ،فمن العبث
أيضا أن نتساءل حول األحكام التي يمكننا أن نستخلصها من تلك
الكلمات أو اآليات المبهمة.
لكننا نستطيع أن نتساءل -بنحو أكثر معقولية -عما إذا كان
هدف تلك الكلمات أن تبعث الشعور بالغموض؟
أليست تلك الكلمات ثمرات الغموض الصوفي والغنوصي
أحسه الرسول أثناء تمثله لإلشارات اإللهية؟
والباطني الذي ّ
أال يملك الغموض وظيفة تع ّبدية؟
وأخير ًا ،هل ثمة وظيفة للقرآن أسمى وأبقى من الوظيفة
التع ّبدية ،بمعزل عن كافة أشكال االستغالل السياسي والتوظيف
األيديولوجي؟
( )1جالل الدين السيوطي ،اإلتقان في علوم القرآن ،تحقيق سعيد المندوب ،دار الفكر ،لبنان،
الطبعة األولى ،1996 ،ج ،1:ص .491 :
127
128
الفاتحة والوظيفة التع ّبدية
129
وإن لم تكن مكتوبة في المصحف وإنما ننطقها شفوي ًا ،إال أنها
للتبرك والتع ّبد.
مجرد دعاء ّترجح احتمال أن يكون األمر ّ
أن ترتيب السور في المصحف العثماني ثالثا ،من الواضح ّ
-وإن ليس دائم ًا -لمعيار الطول .بحيث وضعتْ خضع في الغالب
األول ،إلى غاية السور القصار في األخير .وبهذا
السور الطويلة في ّ
النحو ،كان سيبدو وضع سورة الحمد في أول القرآن خروج ًا عن
منهجية الترتيب فيما لو كان األمر يتعلق بسورة كسائر السور.
رابعا ،تختلف سورة الحمد عن البنية الخطابية لكافة سور
المرحلة المكية األولى؛ فهذه السورة ال تتحدث إلى شخص
محدد أو أشخاص معينين ،وال تتحدث عن أي شخص محدّ د أو
عن أشخاص معينين .في المقابلّ ،
فإن سائر سور المرحلة المكية
األولى ال تخلو من أحد الوجوه التالية:
-تتكلم إلى النبي باستعمال فعل من أفعال األمر (قل هو
الله أحد ،قل أعوذ برب الناس ،قل أعوذ برب الفلق ،قم فأنذر،
إقرأ باسم ربك.)...
-تتكلم عن النبي لتواسيه أو تؤنبه (عبس وتولى ،ألم يجدك
يتيما فآوى.)...
-تخبرنا عن شخص أو أشخاص معينين (ت ّبت يدا أبي لهب،
إليالف قريش.)...
الرسول،
-تتحدّ ث إلى جماعة معينة (أصحاب النبي ،نساء ّ
الذين آمنوا .)...
130
وبالمقارنة ،تبدو سورة الحمد وكأنها دعاء خالص من دون
أفعال أمر ،ومن دون مخاطب محدّ د ،ومن دون جمل خبرية أو
الربوبي.
إخبارية ،وكأنها في األخير محض صالة للتعبد ّ
إالّ أن مشروعية مثل هذه المالحظات والتساؤالت ال تضعنا
السورة موضوعة أو بالضرورة أمام فرضية وحيدة ،وهي أن تكون ّ ّ
مقحمة في القرآن .بل ثمة فرضية أخرى أكثر مالءمة :
الفاتحة ليست سورة من بين سائر السور االعتيادية للقرآن،
لكنها أيضا ليست سورة خارج أو على هامش القرآن ،وإنما هي
سورة فوق-قرآنية .إنها على وجه الترجيح «أم القرآن» ،كما كان
الرسول.
يقول ّ
عن أبي سعيد بن المع ّلى قال« :كنت أصلي فدعاني
النبي(ص) فلم أجبه ،قلت :يا رسول الله إني كنت أصلي .فقال:
وللرسول إذا دعاكم» .ثم قال « :أال«ألم يقل الله استجيبوا لله ّ
أع ّلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد» .فأخذ
قلت :يا رسول الله ،إنك قلت أال بيدي .فلما أردنا أن نخرج ُ
أعلمك أعظم سورة من القرآن .فقال( :الحمد لله رب العالمين)
هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيتُه» .رواه البخاري في
صحيحه( ،)1و أورده القرطبي في الجامع ألحكام القرآن( ،)2وذكره
ابن كثير في تفسيره(.)3
( )1اإلمام البخاري ،صحيح البخاري ،المجلد الثالث ،منشورات محمد علي بيضون ،دار الكتب
العلمية ،بيروت ،طبعة جديدة بدون تاريخ ،كتاب تفسير القرآن ،ص .173 :
( )2القرطبي ،الجامع ألحكام القرآن ،تحقيق محمد ابراهيم الحفناوي ،دار الحديث ،القاهرة،
الطبعة الثانية ،1996ص.125 :
( )3ابن كثير ،تفسير القرآن العظيم ،كتب هوامشه وضبطه حسين بن ابراهيم زهران ،دار الفكر،
بيروت ،1994 ،المجلد األول ،ص .16 :
131
وأما لفظ المثاني الذي اختلف القدماء في فهمه ،فقد حاول
الشهيد محمود محمد طه مقاربة معناه في قوله « :ومعنى مثاني أنه
تنزل للعبد»(.)1
ذو معنيين .معنى بعيد عند الرب ،ومعنى قريب ّ
وبلغتنا ،نستطيع الحديث عن معنى وحياني عميق ومعنى نصي
ض ِّيق.
مرة أخرى بأن آيات القرآن الكريم ليست وهكذا نتأكد ّ
جميعها على نفس القدر من العمق والدقة واإلتقان؛ إذ ثمة آيات
أكثر إتقانا ((المحكمات)) ،وآيات ((خير)) من أخرى ،بل ثمة
باألحرى سورة تع ّبدية تتألف من سبع آيات هي «أم القرآن»،
بمعنى أنها أعظم ما فيه ،بل لعلها «القرآن العظيم».
المالحظ أن سورة الفاتحة التي ال تخاطب أحد ًا محدد ًا
وال تخبر عن أحد بعينه ،تمتلك وظيفة تعبدية خالصة .وهي تتخذ
طابع صالة ربانية ال تصح الصالة من دونها .وبهذا النحو ،فإن
وضعيتها االفتتاحية أو فوق -القرآنية تؤكد الوظيفة التعبدية لسائر
سور وآيات القرآن الكريم.
إن إعادة المصحف إلى وظيفته التعبدية من شأنها أن تخلصه
حولته إلى وسيلة أسطورية
من كل االستعماالت «السحرية» التي ّ
لحل كل مشاكل السياسة والسلطة واالقتصاد والصناعة والمال
والفالحة والصيد البحري ،بل وحتى مشاكل الصحة الجسمية
والنفسية والعقلية ونحو ذلك.
( )1محمود محمد طه ،نحو مشروع مستقبلي لإلسالم ،المركز الثقافي العربي (بيروت) ودار
قرطاس (الكويت) الطبعة األولى ،2002ص.168:
132
أبد ًا..
ليست وظيفة المصحف أن نقيم باالستناد إليه دوالً وننشئ
مؤسسات ونس ّن قوانين وتشريعات .إذ ليس من وظائف الخطاب ّ
القرآني نفسه االشتغال بقضايا السياسة واالقتصاد والعلم
والمعرفة ،وإنما وظيفة المصحف على وجه التحديد ،أن نقرأه
يسرنا القرآن للذكر فهل من قراءة تع ّبدية ،مصداق ًا لآلية ( :ولقد ّ
مذكر) سورة القمر ،اآلية .17
133
134
جغراف ّية الج ّنة المحمدية
136
في جوانبه المبهرة ،ظل خياال وف ّي ًا لجغرافية صحراء شبه الجزيرة
العربية .لذلك ،ال نرى في جنة الخطاب القرآني أي نوع من أنواع
الشجر أو النبات يفوق شجر النخل تعداد ًا وتمجيد ًا .واآليات
كثيرة ،على غرار اآليات التالية :
(فيها فاكهة والنخل ذات األكمام) سورة ّ
الرحمان ،اآلية .11
(فيها فاكهة ونخل ورمان) سورة ّ
الرحمان ،اآلية .68
(أيو ّد أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من
تحتها األنهار) سورة البقرة ،اآلية .266
(فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم )...سورة
المؤمنون ،اآلية .19
ال يوجد إعجاز قرآني سوى في مستوى المجاز الشاعري،
وهو المجاز الذي تَج ّلى بنحو أشدّ براعة أثناء تم ّثل الصور الوحيانية
حول السعادة األخروية .وإذا كان من طبيعة الوحي الغموض ،كان
طبيعي ًا أن يأتي التأويل خاضع ًا لثقافة رجل بادية الصحراء .فقد كان
الرسول الكريم نفسه رجال من الصحراء العربية.
بشري العبارات .نعم،
ّ إلهي اإلشارات
الخطاب القرآني وحي ّ
هو نفحات من روح الغيب التي تغمر القلوب ،لكنه في األخير
الرسول أثناء تم ّثل ّ
وتأول ُرؤى الوحي اإللهي .ولذلك ثمرة خيال ّ
الرسولجاء الخطاب القرآني إبداع ًا ديني ًا يعكس ذوق وثقافة وبيئة ّ
عليه السالم.
137
138
الق�شم الثاني
139
140
اأخالق الحداثة واأخالق القدامة
142
إن جذور الوعي بالذات تعود إلى سقراط يوم يمكننا القول ّ
إعرف نفسك بنفسك .وإنها أينعت مع ديكارت في صيغة أنا ْ قال :
أفكّر /أنا موجود .وأعقبت ديكارت مرحلة الوعي بالحرية ،بدء ًا
من سبينوزا الذي اعتبر الحرية هي الغاية الحقيقية لبناء الدولة ،ثم
كانط الذي يعتبر الحرية ضمن المسلمات التأسيسية لألخالق،
وهيجل الذي يرى أن التاريخ ما هو إال تاريخ الوعي بالحرية،
وصوالً إلى سارتر الذي يؤكّد أنّنا محكوم علينا بالحرية.
هكذا ،يبدو تاريخ الحداثة السياسية وكأنه تاريخ مفهوم
الحرية .بل ،لعل األمر كذلك بالفعل.
ّ
في العالم القديم ،عاد ًة ما كانت حرية الفرد تأتي في أدنى
س ّلم القيم .بل ،لم يكن الفرد موجود ًا باألساس .كان «الفرد»
مجرد تابع وخاضع للجماعة والعشيرة والطائفة واألمة .لذلك، ّ
بوسعنا القول ،الفرد هو ابن الحداثة.
وإذا كانت هناك بعض ِ
القيم التقليدية «اإليجابية» ،مثل كرم
الضيافة ،والعفو عند المقدرة ،وك ْظم الغيظ ،ونحو ذلك ،فإنّها ال
تبدو فقط غير كافية ألجل بناء نسق أخالقي يناسب عصر المواطنة
ودولة المؤسسات ،وإنما هي تحايث ِق َيم ًا أخرى تمثل عائقا أمام
والدة الفرد الواعي بذاته وبحريته.
ور ّبما ،بشيء من التوضيح ،يمكننا أن نأخذ كمثال ثالث
قيم مركزية في القرآن الكريم تنتمي إلى القدامة األخالقية ،وقد
أعاقت تحقيق وعي اإلنسان المسلم بذاته كإنسان وكفرد وككينونة
مستقلة ،ومن ثمة أجهضت إمكانية الوعي بالحرية.
143
- 1مفهوم الطاعة
بمعايير القدامة األخالقية ،كانت الطاعة المطلقة (طاعة
الزوج أو كائن ًا من كان) فضيلة أخالقية .لكنها
الحاكم أو األب أو ّ
مجرد بؤس وضعف .طالما أن «السر» بمعايير الحداثة األخالقيةّ ،
الذي أفشته الحداثة هو أن الحرية ليس فقط ال تعارض األخالق،
وإنما هي شرط تأسيسي لألخالق.
وفي الواقع ،تقود الطاعة إلى ذوبان الفرد داخل الجماعة،
ولي األمر أو ولي النعمة في بعضوا ّمحاء الذات أمام مشيئة ّ
الزوج أو الشيخ أو
األحيان ،والذي هو األب أو السلطان أو ّ
المرجع أو الزعيم أو الله.
من وجهة نظر النص القرآني ،قد تكون الطاعة محظورة
حين يطيع الفرد أهل «الباطل» كما في اآليتين التاليتين :
(وإن تطع أكثر من في األرض يض ّلوك )...سورة األنعام،
اآلية .116
(وإن جاهداك على أن أن تشرك بي ما ليس لك به علم فال
تطعهما )...سورة لقمان ،اآلية .15
لكن الطاعة مطلوبة حين يطيع الفرد أهل «الحق» كما في
اآليات :
( من يطع الرسول فقد أطاع الله )...سورة النساء ،اآلية .79
( ...أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى األمر منكم)...
سورة النساء ،اآلية .59
144
(ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله
عليهم )...سورة النساء ،اآلية .69
( ...واهجروهن في الضاجع واضربوهن ،فإن أطعنكم فال
تبغوا عليهن سبيال )...سورة النساء ،اآلية .34
2-مفهوم ملك اليمين
بهذا المفهوم القدامي ،تتالشى ذاتية المرأة في سياق
العبودية المباحة أو المتاحة .فقد ذكر النص القرآني « َما َم َلك ْ
َت
مرة ،نذكر منها َأ ْي َما ُنك ُْم /أيمانهم /أيمانهن» نحو خمس عشرة ّ
اآليات التالية :
( ...فإن خفتم أال تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم)...
سورة النساء ،اآلية .3
(والمحصنات من النساء إال ما ملكت أيمانكم )...سورة
النساء ،اآلية .24
( ...ومن لم يستطع َط ْوال أن ينكح المحصنات المؤمنات
فمن ما ملكت أيمانكم )...سورة النساء ،اآلية .25
بالجنب وابن السبيل وما
الجنب والصاحب َ ( ...والجار ُ
ملكت أيمانكم )...سورة النساء ،اآلية .36
(إال على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم )...سورة المؤمنون،
اآلية .6وسورة المعراج ،اآلية .30
( ...أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن )...سورة النور ،اآلية
.31
145
( ...والــذيــن يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم
فكاتبوهم )...سورة النور ،اآلية .33
(يا أ ّيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك الالتي آتيت أجورهن
وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك )...سورة األحزاب،
اآلية .50
( ...قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت
أيمانهم )...سورة األحزاب ،اآلية .50
( ...ولو أعجبك حسنهن إال ما ملكت يمينك )...سورة
األحزاب ،اآلية .52
...
أن اإلسالم قد دعا إلى احترام األسرى والنساء شك ّ
ال ّ
أن وجود آيات تبيح ،أو على األقل تتسامح مع والعبيد ،غير ّ
الرق واالسترقاق كممارسة اجتماعية رائجة ،يؤكد أننا أمام
نص ينتمي في صياغته إلى مرحلة القدامة األخالقية.
طبيعي أنّنا ال نجد ضمن المذاهب اإلسالمية ّ لذلك،
أي مذهب أعلن صراحة تجريم أو تحريم االسترقاق. المعروفة ّ
الرسول الكريم في تشجيع النّاس وهذا رغم بعض مبادرات ّ
على عتق العبيد ،إالّ أن تلك المبادرات المحمودة لم تستند إلى
نصي قد يستوجب معاقبة ممتهني تجارة العبيد ومن أي تحريم ّ
ثم القضاء على الظاهرة.
وبالمناسبة ،كثيرة هي األسئلة والتساؤالت المحرجة التي
أقرأها يوميا على الفايسبوك حول هذا الموضوع وغيره.
146
مثال ،ياسمينة الفرح ،شابة سورية ،تطرح على صفحتها
بالفايسبوك عدد ًا من األسئلة ،وأنا أنقلها حرفي ًا :
-هل هناك مشهد أكثر إثارة لالستهجان من مشهد امرأه تقرأ
آية «واضربوه ّن»؟ خطاب من إله «ذكر» إلى الرجال يأمرهم
بتعنيف ذلك الكائن الغائب عن النص إن هو عصا .كيف يمكن
يحرضه على لي أن يتراءى لسمعي كالم شخص لشخص آخر ِّ
ضربي وأبقى أكن له االحترام والتبجيل؟
ما هو مرض المرأة المسلمة؟
-حسنا ،كفاكم صخبا ً:سنطبق الشريعه االسالمية .كيف
نثبت الزنا اذا كان يحتاج ألربعه شهود ،ونحن لم نعد نسكن
في الخيام التي يط ّير قماشها الهواء فيظهر باطنها ويرى المار
بسهوله ويسر ما يحدث داخلها؟
-كيف نقنن عقوبة المغتصب وهي غير مذكورة في القرآن
وال في السنة؟
األسئلة ،على عفويتها ،واضحة وصريحة .وهي تذكّرنا بأن
هناك مشكلة ما.
مرة أخرى ،ليست المشكلة أن يتحدّ ث النص القرآني ّ
وتصورات تنتمي إلى نظرة رجل العالم القديم
ّ انطالق ًا من مفاهيم
للمرأة -فذلك هو السياق الثقافي لنص ديني يمثل بيئة وخيال
الرسول -لكن العيب ،كل العيب ،نزوع الكثيرين نحو ومزاج ّ
أدلجة وتسييس وأسطرة خطاب يظل في مستوى الشكل تع ّبدي ًا،
لكنه في مستوى المضامين يعكس نوازل ونوازع العالم القديم.
147
المشكلة أن هناك من ُيخرج القرآن من السياق االبتهالي
التع ّبدي ،ويستغله ألجل كسب بعض النقاط في الصراع السياسي
واأليديولوجي من أجل السلطة.
المشكلة أيضا أننا نقدِّ س قيم النص القرآني ،علم ًا أنها قيم
العالم القديم ،وقد نسينا األساس .واألساس أن القرآن هو أثر
كالمي من آثار شوق الوجود «النسبي» إلى الوجود «المطلق» (إليه ّ
مرجعكم -اآلية).
قوة القرآن ليست في مضامين الخطاب التقليدي الذي
يحمله ،بل هي في ذلك األثر الوجداني الذي تتركه القراءة في
قلب القارئ.
ولذلكُ ،سمي القرآن قرآن ًا ،ألنه ُيقرأ.
غير أن تقديس وتأليه النص القرآني ،ووضعه في مقام أقنوم ثان
أو ثالث من أقانيم األلوهية ،قد أتاح للفقهاء التحريضيين والدّ عاة
الغوغائيين والوعاظ االستعراضيين فرصة استغالله ألجل الكذب
والخداع ،ولغاية شل نشاط السامع ،وتعطيل إرادته ،وإحباط
طموحاته ،فيصبح اإلنسان المسلم في آخر المطاف إنسان ًا خانع ًا
خاضع ًا تابع ًا ،بل خامال مثل جماعة من السالحف على ضفاف
ماء آسن.
«التشوه الخلقي» الذي أ ْل َحق وال يزال ي ْل ِحق ضرر ًا
ّ هذا هو
بليغ ًا بصورة اإلسالم ،وبصورة اإلنسان في اإلسالم ،بل بكرامة
اإلنسانية جمعاء.
إن المطلوب اآلن هو العمل على بلورة خطاب ديني جديد، ّ
حرض الناس على الفتنة ،وال ُيحرضهم على الطائفية ،وال ال ُي ِّ
148
ُيد ِّمر الدّ ول ألجل أن تعلو كلمة الله! -أين تعلو كلمة الله؟ فوق
الخرائب ،-وال يفسد الثورات ويحرفها عن موضعها فيضيع معنى
اإلنسان .خطاب ال يحرض الدّ هماء على النساء ،وال األكثرية على
يورط
األقلية ،وال الجاهلين على الفنّانين والمثقفين ،خطاب ال ِّ
الشعوب في معارك وهمية ،وال ُيبدد زمن الشعوب في حمالت ّ
وسواسية على تنورة قصيرة هنا أو سروال ض ّيق هناك .وإن كان
وال بدّ من تحريض فليكن التّحريض على البناء والنماء واالرتقاء.
وفي ذلك فليتنافس العقالء.
إن المطلوب هو استبدال كل مفاهيم القدامة في الخطاب ّ
الديني من قبيل الوالء والبراء ،ودار الحرب ودار اإلسالم ،والطاعة
والزحف والنّفير ،والحريم والعورة ..وأشياء أخرى، والجماعةّ ،
بمفاهيم تنتمي إلى حقل الحداثة والمواطنة وحقوق اإلنسان.
الكف عن التعامل مع المصطلحات كأوثان ّ وبكل تأكيد ،يجب
مقدَّ سة ،أو كعجل ذهبي ،أو كهيكل سليمان ،فليست المصطلحات
مجرد
معبودات ،حتى ولو كانت واردة في الكتب المقدسة؛ إلنّها ّ
وسائل بالغية ترتبط بسياقات تداولية وتواصلية محدّ دة.
149
150
ِّ
المت�شدد يق�شد ما يقول وحده
152
صحيح ّ
أن المسلم العادي ال يميل إلى خطاب التشدّ د ،غير
أن خطاب التشدد يستطيع في األخير أن يمأل الفراغ ويحتل مقدمة
المشهد بفعل وضوحه على األقل .وفي المقابل ،ينتظر الناس
سماع خطاب معتدل وواضح أيضا .وهذا غير متوفر في الواقع
أو ليس بعد.
يريد الناس خطابا واضحا يقول لهم إن الباب مفتوح ،أو إن
الباب مغلق .ولن يقتنع الناس بالخطاب الذي يلوك الكالم على
طريقة إن الباب قد يكون مغلقا ولكنه في ظروف رؤية معينة قد
يبدو مفتوحا!...
طبيعي إذ ًا أن الصوت المسموع اآلن في العالم اإلسالمي
يسمون بأنصار الشريعة.
هو صوت اإلسالميين المتشددين ممن ّ
نعم إنهم قلة –قلة عددية! ربما -إال أن خطابهم يبقى هو األكثر
وضوحا .فحين يقولون للناس مثال ،يجب أن نحكم بما أنزل الله،
وإن الله يقول (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)،
فإن اإلسالمي الوسطي ال يملك رد ًا واضح ًا على هذا الكالم
سوى القول :نعم ،ولكن يجب أن يتم هذا على مراحل ،وأن
يقتنع به الناس أوالً ،وال بأس أن نجتهد في بعض األحكام ،وقد ال
نجعل الشريعة هي المصدر الوحيد للتشريع ،فقد نجعلها مصدرا
من بين مصادر أخرى للتشريع كالحكمة والمصلحة والواقع إلخ.
غير أن المتشدّ د يستطيع أن ير ّد بالقول :الشريعة فرضها الله وهي
كاملة غير منقوصة وصالحة لكل زمان ومكان ولكل الظروف
وال تحتاج إلى أي اجتهاد أو إضافة أو حذف أو نسخ أو إبطال
153
أو تعطيل أو تعديل .وإن عالقة اإلنسان بالله هي عالقة تنفيد
لألوامر .وهل يحق لإلنسان الضعيف والصغير والفقير أن يجادل
الله القوي والكبير والغني!؟
فما هو ر ّد اإلسالمي الوسطي!؟
صحيح ّ
أن هذا األخير قد يضطر في بعض األحيان إلى مجابهة
المتطرف ،حتى بالقوة كما حدث في تونس ،غير أنه ال
ِّ اإلسالمي
يملك رغم ذلك أي خطاب واضح وقادر على مجابهة الخطاب
المتشدد والحلول محله في المساجد والجوامع والمدارس
واإلعالم.
الوضوح مطلب أساس.
نعم..
اإلسالمي المعتدل واإلسالمي المتشدد كالهما يقول :القرآن
دستورنا .لكن المتشدد يفهم من ذلك أن كل عبارة في القرآن تمثل
بند ًا يجب تطبيقه بحذافيره .مثال« ،قرن في بيوتك ّن» تعني بالنسبة
للمتشدّ د حرمان الفتيات من الذهاب الى المدرسة وحرمان المرأة
من السياقة ،وحرمانها من السفر بال محرم ،وحرمانها من العمل..
إلخ؛ و«الالئي لم يحضن» تعني لدى السلفيين المتشددين جواز
تزويج الطفالت الصغيرات؛ و«كتب عليكم القتال» تعني لدى
الجهاديين المتشددين أن القتال فرض عين على كل مسلم ،وهكذا.
إذ ًا..
الوسطي والمتشدد كالهما يقول «القرآن دستورنا» .لكن
وحده المتشدِّ د يقصد ما يقول.
154
الحداثة
المدخل الأخالقي اإلى َ
156
لم يكن نيتشه َيقبل بقيم الغدر والخديعة والمسكنة .كانت
غايته تحرير المنظومة األخالقية الحداثية من الرواسب القدامية
التي قد تد ِّمر طموح الفرد وتشل طاقته الحيوية وتصيبه بالخمول
والتواكل .فقد كان نيتشه ،عكس التأويل السطحي لمشروعه ،يقدم
درس ًا متقدم ًا في أخالق التنوير ،أخالق الفرد الحر ،المستقل،
الطموح ،المبادر ،والمبدع.
مشكلتنا نحن المسلمين أننا بالفعل ال ننكر تخ ّلفنا العلمي
والتقني والصناعي والسياسي والحقوقي ،إلخ ،لكننا في المقابل
ننكر تخ ّلفنا األخالقي .بل نتوهم أننا أكثر شعوب األرض أخالقا،
ونظن أن منطق «الحاكمية والعبودية لله» يغنينا عن أي تأسيس
مقومات السلوك الحسن: أخالقي للمواطنة؛ ففي النص الديني كل ِّ
(بالوالدبن إحسان ًا)( ،أما السائل فال تنهر)( ،العفو عند المقدرة)،
(عتق رقبة)( ،إطعام ستين مسكين ًا)( ،الذين هم ُيراؤون ويمنعون
الماعون) ،إلخ.
لكن الحقيقة أيض ًا ،إن هذه األخالقيات تناسب بالكاد
مجتمعا قروي ًا بسيطا تُختزل عالقاته في عبارت مثل « :زوجتك
علي كظهر أمــي»« ،أبسط يدك ّ ابنتي»« ،أنت طالق»« ،أنت
أبايعك» ،إلخ .إنه مجتمع ما قبل بناء الدولة ،وباألحرى ما قبل
بناء دولة المؤسسات بقرون طويلة ،وما قبل المجتمعات التي
وتنوعت اعتقاداتهم وعاداتهم وتغ ّيرت معامالتهمتكاثر سكانها ّ
التجارية وفهمهم للعالقات بين الرجال والنساء واعالقات
التبادلية والتواصلية المع ّقدة بين بشر ومجتمعات اليوم....
157
المؤكد أن العقل األخالقي البشري يتطور -بسرعة أحيان ًا-
عبر مجرى التاريخ .لذلك فالكثير من األفعال التي كانت مقبولة
تصورهم للخير والفضيلة ،لم تعد
لدى القدماء ،بل وتندرج ضمن ّ
كذلك اليوم.
في المجتمعات القديمة كان تزويج طفلة في سن الثانية
الرابعة عشر فيعشر يعدّ فضيلة ،وكانت مشاركة أطفال دون سن ّ
األعمال القتالية يعدّ بطولة ،وكان القتل واالغتصاب أثناء الحروب
والغزوات حق ًا من حقوق المنتصرين ،وكان تنفيذ عقوبة اإلعدام
أمام مرأى الجمهور نوع ًا من اإلنصاف .لكن ضمائرنا ،وحتى بنيتنا
الغصبية ،لم تعد تتحمل اليوم مثل هذه األعمال .فقد صرنا ميالين
إلى تجريم الكثير من فضائل القدماء .ما يؤكد أن العقل األخالقي
أزلي بتلك
تمسك ّ يتغ ّير عبر التاريخ .إذا ،ليست السلفية بما هي ّ
األخالق ال َق َبلية القديمة ،سوى فرصة لتعطيل األخالق.
والمحصلة ،إن المصدر الوحيد واألساس للتشريع األخالقي
أي نص من نصوص الماضي ،كيفما كان، ال يمكن أن يكون ّ
طالما أنها تع ّبر عن مستوى العقل األخالقي لعصرها .ولذلك
فإن تحديد معايير الحكم األخالقي مهمة دائمة ومتجددة للعقل
األخالقي البشري على وجه التّحديد .وبسبب ذلك نستطيع أن
نقول بكل حزم وجزم :العقل هو المصدر الوحيد للتشريع .وهذا
هو المدخل األساس إلى الحداثة السياسية.
كمثال على ذلك ،يقول سيد قطب « :ليس عبد ًا لله وحده من
يتلقى الشرائع القانونية من أحد سوى الله»(.)1
( )1سيد قطب ،معالم في الطريق ،دار الشروق بيروت ودار الثقافة الدار البيضاء ،1993 ،ص .94 :
158
مرة أخرى أن ليس للقرآن وظيفة قبل متابعة التحليل ،نؤكد ّ
أخرى غير الوظيفة التع ّبدية .وهي أقوى وأتقى وأبقى وظيفة .وكل
مجرد تضارب بآيات «حمالة أوجه». إقحام للقرآن في أمور السياسة ّ
انطالق ًا من معايير النص الديني ،ال يمكننا أن نرفض تزويج
طفلة من مغتصبها ،وال يمكننا أن نر ّد رغبة المجرم في دفع الدية
الزواج العرفي غير المو َّثق، الجتناب العقاب ،وال يمكنننا أن نرفض ّ
وال يمكننا أن نرفض عقود عمل ال تضمن أي تعويض عن حوادث
الشغل ،إلخ .لكننا إن كنا نعتبر مثل هذه المواقف غير عادلة وغير
منصفة ،فألننا ننطلق من معايير أخالق الحداثة وقيم حقوق اإلنسان.
الحظنا ،خالل الثورتين التونسية والمصرية ،كيف ّ
إن التيار
السلفي -وبدرجة أقل الت ّيار اإلسالمي -لم يلتحق بالثورتين إالّ
يكف
بعد نجاحهما في طرد «اإلمام الجائر» .أما في ّأول األمر فلم ّ
السلفيون ألسنتهم عن التشهير بثوار الفايسبوك والتويتر ! لكن،
بعد انتصار الثورتين انقلب السلفيون على أنفسهم وأصبحوا في
«الربيع العربي» ،ولو بالعنف طليعة الدّ اعين إلى تعميم نموذج ّ
المحرضين على إقصاء كل ِّ الجهادي أحيان ًا ،وصاروا في طليعة
«فلول األنظمة البائدة».
اعتقدَ الكثيرون أن األمر يتعلق ببوادر انقالب سني في الموقف
من الخروج والثورة .هذا خطأ؛ فاألمر امتداد لإليديولوجية
البراغماتية القائمة نفسها على ثالث مس ّلمات :
1-إمام ظالم خير من عدمه.
2-عدم المشاركة في الفتنة (أي تحريم الخروج).
3-الصالة وراء من غلب (أي السباحة مع التيار).
159
الحظنا أيض ًا كيف أطلق اإلخوان المسلمون أثناء الثورة
المصرية ،وعد ًا بعدم الترشح لالنتخابات الرئاسية ،ثم ما فتئوا
ينكثون بالوعد ،ليتقدموا إلى الرئاسيات وبأكثر من مرشح واحد.
وال غرابة ،إذ يحكي لنا تاريخ اإلسالم كيف قامت الدولة
اإلسالمية ،بمعزل عن أي سند أخالقي ،على أساس الفلتة (فلتة
أبي بكر كما سماها عمر) ،والخديعة (خديعة التحكيم زمن
معاوية) ،والعصبية (األموية والعباسية والفاطمية والعثمانية.)...
في إطار أزمة األخالق ،لم يكتف الفقهاء بالتساهل مع
شرعوه وجعلوه شريعة ،فأجازوا كذب األب على الكذب ،بل ّ
أبنائه لـ «مصلحة» األسرة ،وكذب السلطان على شعبه لـ «مصلحة»
البلد ،وكذب الفقهاء أنفسهم لـ «مصلحة» اإلسالم .ساهم التراث
الفقهي في تشريع الكذب بدعوى «المصلحة» .لكن األخالق
التصرف بصدق ،كما يقول كانط « :الصدق واجب مطلق ّ تقتضي
أيا كانت الظروف»(.)1
ثم ،ساهم الفقهاء في إشاعة ثقافة الحقد والكراهية بدعوى
ما يسمى بـ«الوالء والبراء» .لكن« ،ال يمكن للكراهية أن تكون
خير ًا»( )2كما يقول سبينوزا.
لقد جاء الفقه اإلسالمي ليعكس حجم األزمة األخالقية
داخل الفكر الديني اإلسالمي .وهي األزمة التي انتقلت إلى
صفوف الحركة اإلسالمية.
André Comte-Sponville, petit traité des grandes vertus, PUF ,1995 ()1
. p: 300
( )2باروخ سبينوزا ،علم األخالق ،ترجمة جالل الدين سعيد ،المنظمة العربية للترجمة ،بيروت،
تشرين األول (أكتوبر) ،2009ص .274 :
160
لذلك ،حتى محمد حسين فضل الله ،والذي ُيعدّ ه الكثيرون من
تمسك ًا ِبق َيم األخالق ،فقد جاءت الكثير بين أكثر المراجع الدينية ّ
من فتاواه كاشفة لحجم الفراغ األخالقي داخل بنية الفكر اإلسالمي
عموم ًا .إذ ال يتر ّدد الشيخ في تجويز كذب األب على أبنائه من أجل
«المصلحة» .مثالً ،في جواب عن سؤال لـ «أخ» من ألمانيا ط ّلق
فـ«يضطر أحيان ًا
ّ زوجته األلمانية ،ويريد أن ُيحافظ على حضانة ابنتيه
إلى أن يكذب على بناته من أجل تمرير بعض القضايا» ،فهل يجوز له
الكذب؟ كان الجواب« :يجوز ذلك في الفرض المذكور»(.)1
أن ثقافة الحق والقانون ال تقبل زواج ًا أو تزويج ًا ليس يخفى ّ
بالمكيدة أو اإلكراه ،وال تقبل طالق ًا أو تطليق ًا بالمكيدة أو اإلكراه،
وال تقبل بيعة للحاكم بالمكيدة أو اإلكراه ،وال تقبل بأي حال من
األحوال باألمر الواقع الناجم عن الغلبة أو الوصاية أو الخديعة،
وهذا بصرف النظر عن النتائج أو النوايا أو الغايات .وفي المقابل
تنمي القدرة على المكر واإلنكار والتقية ّ
فإن ثقافة الحيل الفقهية ّ
والكتمان ،وال تشترط في ذلك سوى أن تكون «النية» حفظ النفس
أو النسل أو المال أو الدين أو أي شيء آخر ،أو أن يظ ّن المرء بأن
نيته «الصالح» أو «سد الذرائع» ،أو يقنع نفسه بذلك ،وهذا أسهل
ما يكون في كل األحوال.
فإن تراثنا الفقهي ليس لديه سوى القليل مما يمكنه في الواقع ّ
أن يع ّلمنا عن أخالق المسؤولية وااللتزام والتي أساسها الحريات
الفردية ،وفي المقابل لديه الكثير مما يمكنه أن يعلمنا عن ثقافة
المكر والنفاق والخداع :الحرب خدعة ،اقضوا حوائجكم
( )1محمد حسين فضل الله ،المسائل الفقهية ،دار المالك ،بيروت ،الطبعة الثامنة ،1998 ،الجزء
الثاني ،ص 435 :
161
بالكتمان ،من ابتلي منكم فليستتر ،درء المفسدة الكبرى بمفسدة
صغرى ،الغاية تبرر الوسيلة ،البراء بالقلب إن كان ال مفر من الوالء
باللسان ،الصالة خلف من َغ َلب ،الضرورات تبيح المحظورات،
للضرورة أحكام ،إلخ.
ما يعني أننا من خالل تراثنا الفقهي اكتسبنا ثقافة الحيل
الفقهية ،وهي ثقافة مضا ّدة لثقافة الحق والقانون ولدولة
المؤسسات الحديثة.
إن كل من يقرأ كتب الفقه اإلسالمي بعين ثقافة الحق والقانون
سيقف على ما ُيذهل األذهان من حيل فقهية في تفصيل الفتاوى
بحسب المصلحة ،والتي لم يكن المقصود بها المصلحة العامة؛
إلن المصلحة العامة مفهوم حديث بكل المقاييس ،لكنّها مصلحة ّ
معتبرة أو مرسلة يقع تقديرها على المفتي بمراعاة سياق وظروف
السائل أو طالب الفتوى حصر ًا .وإال فإن أحكام الفقه كانت تأتي
دائما على طريقة « :سئل فالن رحمه الله عن كذا ..فأجاب بالقول
إن رأي فالن كذا ،لكن يخالفه عالن في كذا ،ورأي الجمهور كذا،
ويرجح بعض الصحابة أو التابعين كذا على كذا ،والرأي عندنا هو
كذا ..والله أعلم» .بمعنى أن أحكام الفقه تجيب عن أسئلة محددة
بظروف السائل وسياق السؤال حصر ًا ،ثم تبقي األبواب مفتوحة
لجهة االلتفاف وعدم االلتزام ،وكل هذا بخالف ثقافة الحق والقانون
التي تفترض قدر ًا من الصرامة والوضوح والمسؤولية وااللتزام.
التفوق األخالقي للمسلمين تحرمنا من ّ شك ّ
أن كذبة ال ّ
إدراك حجم انحاللنا األخالقي ،والذي نكتمه ونحجبه بثوب
داكن من النفاق الديني ،ومن الحشمة الكاذبة ،ومن الحياء الماكر.
162
َف َر�ش ّية حول ال�شهادة
164
حضرت
ْ وفي موقف مشهور ،جاء في صحيح البخاري «أنه لما
أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله(ص) فوجد عنده أبا جهل بن هشام
وعبد الله بن أمية بن المغيرة ،قال رسول الله(ص) ألبي طالب :يا
عم ،قل ال إله إال الله كلمة أشهد لك بها عند الله .فقال أبو جهل
وعبد الله بن أمية :يا أبا طالب! أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم
يزل رسول الله(ص) يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال
أبو طالب آخر ما كلمهم :هو على ملة عبد المطلب ،وأبى أن يقول
ال إله إال الله .فقال رسول الله(ص) :أما والله ألستغفرن لك ما لم
ُأن َه عنك .فأنزل الله تعالى فيه ( :ما كان للنبي )...اآلية».
إذا ،صيغة الشهادة التي نطق بها الرسول لحظة احتضاره،
والتي طلبها من عمه أبي طالب ،هي صيغة شهادة التوحيد الربوبي
الواحدة :ال إله إال الله.
المرات في األصحاح، تكرر عشرات ّ وثمة أيض ًا حديث نبوي ّ
يرجح صيغة الشهادة الواحدة :ال إله إال الله .فقد وبصيغ مختلفةِّ ،
جاء في صحيح مسلم أن رسول الله قال « :ل ِّقنوا موتاكم :ال إله إال
حرم على النار من قال ال إله الله» .وجاء في مسند أحمد «ان الله قد َّ
إال الله يتغيى بذلك وجه الله»؛ البخاري .وأيضا« ،يخرج من النار
من قال ال إله إال الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير .ويخرج من
النار من قال ال إله إال الله وفي قلبه وزن برة من خير .ويخرج من
النار من قال ال إله إال الله وفي قلبه وزن ذرة من خير» ،البخاري.
وأيض ًا« ،من قال ال إله إال الله وحده ال شريك له له الملك وله
الحمد وهو على كل شيء قدير ،في يوم مائة مرة كانت له عشر
165
رقاب وكتبت له مائة حسنة و ُمحيت عنه مائة سيئة ،»...البخاري.
وأيض ًا« ،من قال ال إله إال الله وحده ال شريك له له الملك وله
مرة في كلالحمد ُيحيي و ُيميت وهو على كل شيء قدير مائتي ّ
يوم لم يسبقه أحد كان قبله وال يدركه أحد بعده إال فأفضل عمله»
رواه أحمد .وأيض ًا« ،ان الله اصطفى من الكالم أربع ًا سبحان الله
والحمد لله وال إله إال الله والله أكبر.»...
أي ذكر أو
وفي كل األحاديث على نفس المنوال ،لسنا نجد ّ
إشارة إلى ما جرى االعتقاد بأنه الشق الثاني للشهادة.
وفي كل األحاديث النبوية ،أو المنسوبة للنبي ،غالب ًا ما
نجد صيغة الشهادة وناذر ًا ما قد نجد صيغة الشهادتين ،ما يعني
أن المشهور عند المسلمين زمن النبي ،أن الشهادة تكون شهادة
واحدة :ال إله إال الله.
ال نعرف في أي مرحلة من مراحل نشوء الخطاب الديني
ك ُِّرست التثنية في صيغة الشهادة ،لكن بوسعنا أن نفترض أيض ًا بأن
شوشت على جوهر التوحيد تلك التثنية في الشهادة ،والتي لعلها ّ
الربوبي ،قد أ ّثرت سلبا على التصور القرآني لإلسالم باعتباره
مبدء ًا ربوبي ًا عابرا للطوائف والمذاهب والديانات.
166
ما الإ�شالم؟
-1اإلسالم القرآني
ُيقال ،اإلسالم دين الفطرة .وقد ُذكر في القرآن ّ
(إن الدين
عند الله اإلسالم) سورة آل عمران ،اآلية .19و ُذكر أيض ًا( ،إن الله
اصطفى لكم الدين فال تموتن إالّ وأنتم مسلمون) سورة البقرة،
اآلية .132
مهالً ،أمامنا سؤال كبير اآلن :
التعصب
ّ هل يفتح هذا الكالم الباب على مصراعيه أمام
الديني؟ وهل ينتج مثل هذا القول القابلية الثقافية للتعصب
متعصبين ولو بدرجات متفاوتة؟
ّ الديني؟ ألسنا جميعنا
وإالّ..
ما المقصود باإلسالم؟
بدء ًا وتوضيح ًا نقول :
ال يحيل اإلسالم إلى الشريعة المحمدية ،كما هو شائع لدى
عامة الناس ،أو كما أشاع الفقهاء وأشاعت حركات اإلسالم السياسي
167
الربوبي
والسلفي والجهادي ،وإنما يحيل اإلسالم إلى مبدأ التوحيد ّ
الذي تدعو إليه كافة األديان التوحيدية بدءا من النبي ابراهيم على
األقل إلى غاية النبي محمد ،كما تب ّين اآليات التالية :
(وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم
وإسماعيل وإسحاق ويعقوب واألسباط وما أوتي موسى وعيسى
نفرق بين أحد منهم ونحن له وما أوتي النبيون من ر ِّبهم ال ِّ
مسلمون) سورة البقرة ،اآلية .136
بني إن الله اصطفى لكم
(ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا ّ
الدين فال تموتن إال وأنتم مسلمون) سورة البقرة ،اآلية .132
(فلما أحس عيسى منهم الكفر قال َمن أنصاري إلى الله قال
ّ
الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون) سورة
آل عمران ،اآلية .52
بل ال يحيل اإلسالم ألي انتماء ديني أو هوية عقائدية .وذلك
لشاهدين أساسيين :
أولهما شاهد اصطالحي؛ فإن مصطلح اإلسالم ال يتضمن
«ياء» االنتماء .بخالف سائر األديان مثل المسيحـ(ية) ،اليهود(ية)،
البوذ(ية) ،البرهمانـ(ية) إلخ .وبخالف سائر اإليديولوجيات
أيضا ،مثل الشيوعـ(ية) ،الليبرالـ(ية) ،اليسار(ية) ،إلخ.
من الواضح أن اإلسالم ال يعبر عن انتماء إلى دين معين
أو ايديولوجية معينة ،وال يدل اإلسالم على أي نزعة أو تيار أو
تحزب ،وإنما يدل اإلسالم باللفظ وبالمعنى على مبدأ التوحيدّ
الربوبي العابر للديانات.
168
وجه القرآن نقد ًا صريح ًا ألولئك
نصي؛ إذ ُي ِّوثانيهما شاهد ِّ
الذين يجعلون الدين مذهب ًا وتيار ًا ومنهج ًا ،فيقول ( :ومن الناس
من يعبد الله على حرف) سورة الحج ،اآلية ،11أي «على وجه
ومذهب» ،يقول القرطبي(.)1
اإلسالم ،حسب التّحديد القرآني ،ال يحيل إلى مذهب أو
الربوبي (التي فطر
ت ّيار أو نزعة ،وإنما يحيل إلى فكرة التوحيد ّ
الناس عليها) سورة الروم ،اآلية ،30من دون تفاصيل فرعية قد
تخص بيئة وثقافة ونفسية هذا النبي أو ذاك .وبهذا المعنى تكون
شريعة محمد محض تأويل يرتبط بسياق ثقافي مخصوص لمبدأ
الربوبية .وإذا كانت التأويالت الثقافية لذلك المبدأ تتسم بالنسبية
ّ
والتعدّ د ،فهذا ينسجم مع صريح اآلية (لكل جعلنا منكم شرعة
ومنهاج ًا) سورة المائدة ،اآلية .48
الربوبي الفطري هو المس ّلمة الحدسية األساسية ذلك المبدأ ّ
التي انطلق منها الفالسفة المؤسسون للحداثة :فالله من منظور
الكوجيطو الديكارتي موجود في العقل وجود ًا فطري ًا؛ ووجوده
الفطري دليل على وجوده الموضوعي .وهو بالنسبة لكانط مس َّلمة
من مس َّلمات العقل العملي .وقد رأى اليبنتز «أن العقول هي أكمل
الموجودات وأحسنها تعبير ًا على األلوهية»( .)2وأكد سبينوزا أن
«للنفس البشرية معرفة تامة بماهية الله األزلية الالّمتناهية»(.)3
( )1القرطبي ،الجامع ألحكام القرآن ،مراجعة وضبط وتعليق محمد ابراهيم الحفناوي ،دار
الحديث ،القاهرة ،الطبعة الثانية ،1996 ،ص 84 :
( )2اليبنتز ،مقالة في الميتافزيقا ،ترجمة الطاهر بن قيزة ،المنظمة العربية للترجمة ،الطبعة األولى،
بيروت ،2006ص .201 :
( )3باروخ سبينوزا ،علم األخالق ،ترجمة جالل الدين سعيد ،المنظمة العربية للترجمة ،الطبعة
األولى ،بيروت ،2009 ،ص .133 :
169
هكذا ،تبدو كافة األديان ومن ضمنها اإلسالم المحمدي،
محض تأويالت نبوية فرعية ،داخل سياقات بشرية مختلفة ،لنفس
يتصور وجود نوع من الوجود «الكلي»ّ المبدأ األصلي الذي
و«الكوني» و«األولي» و«المطلق» ،كتعويض عن نقص الوجود
«الجزئي» و«النسبي» و«ال َع َرضي».
المتصوفة بالشوق أو العشق أو
ّ هذا الميل «الغامض» ،يسميه
الحنين .وفي هذا يتفق معهم معظم الفالسفة والعلماء العقالنيين،
من أرسطو إلى روسو ،ومن هيجل إلى آينشتين .بل لم يبتعد الكثير
من الفالسفة «الالّدينيين» عن مثل ذلك الشعور الغامض .وتلك
مسألة أخرى.
2-البداهة المنس ّية في اإلسالم المحمدي
كنت أبحثكنت مخطئ ًا حين ُ بدءا أعترف بما يلي :لر ّبما ُ
عن وصف دقيق ُأطلقه على نمط اإلسالم الذي نريد أن نقارع به
يسمى باإلسالم السياسي بكافة ألوانه وأشكاله .أحيان ًا ُ
كنت ما ّ
أسمي هذا اإلسالم البديل باإلسالم المدني أو اإلسالم الفطري أو
الروحي أو االجتماعي أو الشعبي أو القرآني أو الوحياني
اإلسالم ّ
أو ما إلى ذلك من األوصاف والصفات .وفي الحقيقة فقد كنت
كنت واقع ًا تحت تأثير نفس
تائها في هذا المسعى الخاطئ ،بل ُ
علي منذ البدء أن
قصدت مجابهته ،في حين كان ّ ُ الخطاب الذي
أكتفي باسم واحد وواضح بال نعت وال توصيف ،هو اإلسالم ،أو
قصدت وجه التحديد .هذه هي البداهة التي
ُ اإلسالم المحمدي إن
أدركتها متأخر ًا بعد طول لبس والتباس.
170
بعد هذا البوح الصريح ،أضيف هذا التّوضيح :
يسمى باإلسالم السياسي غير ليس هناك من مقابل لما ّ
اإلسالم المحمدي نفسه .وال يحتاج هذا اإلسالم إلى أي إضافات
أو زوائد أو توصيف زائد عن الحاجة؛ فاإلسالم المحمدي بطبيعته
األصلية الخالية من المأسسة والمتحررة من السلطة والمتخلصة
أي بيئة حاضنة لإلسالم من آليات الضبط والمراقبة ال يمثل ّ
السلفي أو األصولي أو الجهادي أو السياسي أو اإليديولوجي أو ّ
قل ما شئت .في كل األحوال ،ال يحضن اإلسالم غير اإلسالم.
وهذه هي البداهة المنس ّية بفعل هيمنة أنماط التد ّين اإليديولوجي.
أليس يقال :اإليديولوجية نسيان للواقع؟ !
إنّها البداهة التي غفل عنها الكثيرون .ولذلك ّ
فإن القليلين
فقط تو ّقعوا سقوط ًا لإلسالم السياسي ،وأق ّلهم تو َّقع سقوط ًا
أن االسالم السياسي سريع ًا .كان ظ ّن األكثرية ،أو الكثيرينّ ،
س ُيعمر زمن ًا طويال ،وأنه سيكون أطول اإليديولوجيات الشمولية
عمر ًا ! ألم يقل خيرت الشاطر نفسه « :أتينا لنحكم مصر خمسمئة
شك أيض ًا أنه قصد أن يقول «إلى األبد» .وبالفعل ،فقدعام»؟ وال ّ
كان يبدو األمر كما لو أننا على عتبة قرون وسطى جديدة ستستغرق
عقود ًا طويلة إن لم تستغرق عدّ ة قرون أخرى .لماذا؟ بخالف سائر
الزمن،تعمر سوى عقود قليلة من ّ
شمول ّيات القرن العشرين التي لم ِّ
وضعي كما هو الحال
ّ فإن اإلسالم السياسي ال يستند إلى خطاب ّ
بالنسبة للشيوعية أو النازية ،لكنّه يستند إلى عقيدة دين ّية راسخة
في وجدان الشعوب .وهنا مبعث الخوف من أن يطول الخريف
األصولي زمن ًا قد ال ينتهي.
171
مجرد مغاالة في التقدير وخطأّ لكن كل هذا الظن كان
ألن الحقيقة التي نسيها الكثيرون هي أن اإلسالمفي الحساب؛ ّ
المحمدي ال يم ِّثل بيئة حاضنة لإلسالم السياسي :فحين ُيقال
مثال« ،ال كهنوت في اإلسالم» ،و«ال رهبانية في اإلسالم» ،و«ال
فإن مقصود القول أيض ًا ّ
أن ال وجود لسلطة إكراه في الدين» ،إلخّ ،
دينية أو مؤسسة دينية أو دولة دينية أو حزب ديني أو جمعية أو
جماعة أو مجموعة دينية في اإلسالم.
إن اإلسالم عموما هو معطى فطري أو أقرب إلى الفطرة ،إنه
يبقى في أصدق وأدق أحواله أبعد ما يكون عن السلطة من حيث
هي آليات للضبط والمراقبة والتحكم ،وإنه أقرب ما يكون من
الطبيعة البشرية بعفويتها وتلقائيتها.
النبي محمد تحديد ًا ،وعلى خالف سائر األنبياء العبرانيين، ّ
مجرد إنسان بسيط ال يختلف عن سائر النّاس البسطاء والطيبين، كان ّ
يحمل الكثير من محاسن البشر وغير القليل من نواقصهم ،يجوع
يشق بها البحر أو
ويتوجع ،ال عصا ّ َّ ويشبع ،يشتهي ويقنع ،يعشق
يجعلها ح ّية تسعى ،لم يك ِّلم الموتى وال هو كان يفهم لغة الهدهد
أو النّمل ،لم يكن يفسر أحالم ًا وال كان يعالج أسقام ًا ،لم يكن ُي ِّ
سخر
الجن وال كان يرسل العفاريت إلى أقاصي األرض فتعود إليه قبل أن
يرتدّ طرف عينه ،ال شيء من تلك الخوارق والمعجزات كان يأتيها
أو يزعم إتيانها ،وحتى عندما يطالبونه بشيء من ذلك كان ير ّد عليهم
إلي ،»...نبي اإلسالم يظل أقرب إلى «قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى ّ
حياة الناس البسطاء منه إلى خوارق أنبياء العهد القديم ،أقرب إلى
الشرط اإلنساني بخصائصه ونواقصه ،أقرب إلى الطبيعة نفسها،
172
وباختصار بليغ ،فقد كانت أ ّمه «تأكل القديد» كما يقول عن نفسه.
نبي بال
ومن ثم كان توصيف جورج طرابيشي دقيقا للغاية «:إنه ٌّ
معجزة» .مع أن الذين عملوا على تقديس النص القرآني وفي سياق
العمل على التقديس الذي راح يطال كل ما تع ّلق بنبي اإلسالم،
وعلى العكس مما أراده الرسول نفسه «إنما أنا بشر مثلكم ،»..صنعوا
يتوسع عبر التاريخ عن اإلعجاز والمعجزة.
له معجزة وراح الكالم ّ
وإذا كان األمر كذلك بالنسبة لخاتم األنبياء والمرسلين فإنّه
لكذلك وأكثر من ذلك بالنسبة لسائر المسلمين المحمديين ،أكانوا
أئمة أم فقهاء ،دعاة أم مرشدين.
صحابة أم تابعينّ ،
اإلسالم المحمدي دين «طبيعي» ،هو ابن الصحراء ،يكاد
يخلو في منشئه من «نظرية الحق اإللهي» ،ويكاد يخلو في مبدئه
من «فكرة التفويض اإللهي» ،ويكاد يخلو في أساسه من «محاكم
التفتيش» ،ويكاد يخلو في بنيانه من «صكوك الغفران» ،ويكاد يخلو
في رؤيته من «الخوارق والمعجزات» ،ويكاد يخلو في مظهره
االجتماعي من مجالس وهياكل ومجامع ومؤسسات ،ويكاد
يخلو من الحلول السحرية للمشكالت االجتماعية أو االقتصادية
أو الصحية ..تلك اإلضافات الخرافية التي أضافها رواة الحديث
التضخم الحديثي ،وهي عموم ًا تناقض
ّ خالل عشرات السنين من
الحس السليم بل وتخالف القرآن الكريم.
بأن األصل في اإلسالم المحمدي ودعنا نعترف بوضوح ّ
أنّه ديانة خالية من النظرة السحرية للعالم ،وخالية أيض ًا مما
يسميه فرانسوا ليوتار بالسرديات الكبرى ،والتي تعدّ مرتع ًا
لإليديولوجيات الشمولية.
173
ومن قبيل االستدالل نقول :ال يروي النص القرآني قصة
الخليقة في شكل سردية كبرى لها بداية ونهاية ،بل إنه وبخالف غيره
من الكتب المقدسة ،ال يقدم لنا زمن ًا خطي ًا للقصص والحكايات
وتوالي األحداث ،ال يقدم تاريخ البشرية في شكل سردية تمتدّ من
بدء الخليقة إلى يوم القيامة كما هو األمر في «الكتاب المقدس»
شذريا ،ويرسم أزمنةنجما َ على سبيل المثال؛ فقد نزل القرآن ُم َّ
متشظية .ولذلك ،لم يقدم اإلسالم المحمدي -وال سيما اإلسالم
السني -أي رؤية خالصية لتاريخ العالم ،على طريقة عودة المسيح
في المسيحية ،أو الماشيح في اليهودية ،أو بوذا في البوذية ،أو
حتى المهدي المنتظر عند غالبية الشيعة.
فإن السرديات الخالصية ،سواء أكانت وضع ّية وبال شك ّ
الزمن التاريخي عند أوغست كونت وكارل على طريقة تحقيب ّ
ماركس ،أو كانت سرد ّيات دينية على طريقة الخميني وزمن
الغيبة ،تعدّ مرتع ًا خصب ًا لإليديولوجيات الشمولية.
نغض النظر عن هذا الواقع الشاخصال لسنا نتغاضى وال ّ وفع ً
أمام أعيننا ،فإن اإلسالم اليوم غارق في الكثير من مظاهر التطرف
والعنف والفتنة واإلرهاب بما يفوق سائر المذاهب واألديان في
بعض األحيان ،وهذا مؤسف ومؤلم في كل األحوال ،لكن ال
ننسى هذا :يبقى العنف الديني نفسه أقوى دليل على عدم مطابقة
فكرة الدولة الدينية مع الواقع الديني لإلسالم السنّي.
حين يلجأ إنسان ما إلى العنف فمعنى ذلك بكل بساطة أن ما
يريده ليس ممكن ًا ،وليس مقنع ًا ،أو ليس مطابق ًا للواقع.
174
وبكل تأكيد ،يبقى العنف مخيف ًا ومقرف ًا أيضا ،لكنه دليل
على اإلخفاق والفشل.
وباألحرى ،أمام استحالة الدولة الدينية في بيئة اإلسالم
(وفي بيئة اإلسالم السنّي على وجه الخصوص) يبقى أمامنا قدَ ران
إثنان ال ثالث لهما :إما فتنة دينية ال أول لها وال آخر ،تأكل اليابس
واألخضر ،وال تبقي وال تذر؛ وإما االنخراط الحكيم في بناء دولة
الحق والقانون ،واعتبار ذلك مصلحة شرعية ،وواجب ًا أخالقي ًا،
وضرورة أمنية.
تجرعنا مرارته مرار ًا ومرار ًا. ال َقدَ ر ّ
األول ّ
أمامنا ..ال َقدَ ر الثاني.
3-ال دولة دينية في اإلسالم
إن اإلسالم المحمدي ديانة وليس دولة، ال يكفي أن نقول ّ
لكي ينتهي النقاش حول عالقة الدين بالدولة في اإلسالم ،فهذا
القول استنزف بحثا منذ خروج الخوارج الذين أكدوا قديما ّ
بأن
اإلمامة ليست أصال من أصول الدين ولكنّها من المصالح المفوضة
لنظر األمة .وهم الذين قال في حقهم أحد أكبر خصومهم ،علي بن
أبي طالب« ،ال تقتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحق فأخطأه
تطرفهم
كمن طلب الباطل فأدركه» (نهج البالغة) .والمقصود أن ّ
األعمى كان في مستوى الوسيلة ولم يكن في مستوى الغاية.
والمهم أن ال أحدا استطاع أن يبرهن بالحجج العقلية أو النقلية
على نقض أطروحة الخوارج ،حتى ابن تيمية نفسه ،إال أن ذلك لم
ينه النقاش حول عالقة الدين بالدولة في اإلسالم .واستمر البحث
175
لقرون وصوالً إلى الشيخ األزهري علي عبد الرازق ،وغيره من
بعده ،ومع ذلك ظ ّلت الشريعة مصدر التشريع وظل اإلسالم «دين
الدولة».
حسبنا اختصار ًا أن نقترح إضاءة مستوحاة من أطروحة
ابن خلدون ،فيلسوف الدّ ولة في التاريخ اإلسالمي .فالمؤكد أن
مشروعية الدّ ولة لم تكن تجد داخل اإلسالم أي سند شرعي لها
–فكل ما قاله ابن تيمية عن الخالفة الوراثية التي شرعنها ال يخرج
السند الشرعي لما ِ
عن دائرة االستحباب والجواز -ولو ُوجد ّ
()1
176
علي أكثر عددا لمكان الخالفة والفضل ،إال أنّها من كانت عساكر ّ
سائر القبائل من ربيعة ويمن وغيرهم .وجموع معاوية إنما هي
جند الشام من قريش شوكة مضر وبأسهم ،نزلوا بثغور الشام منذ
الفتح ،فكانت عصبيته أشدّ وأمضى شوكة»(.)1
أي
المؤكد أن ليس في الدين اإلسالمي ما يدعم مشروعية ّ
نظام سياسي كيفما كان نوعه .لذلك لم تجد مشروعية الدولة عبر
تاريخ اإلسالم ما تستند إليه عدا العصبية.
بمعنى ،أساس الدولة في تاريخ اإلسالم قائم على العصبية
ال غير .وال وجود ألي أساس آخر للدولة ال في السنّة وال في
حل العباسيون محل األمويون ،وبالعصبية القرآن .فبالعصبية ّ
محل الذي كان من قبل.ح ّلكل َمن جاء من بعد ّ
من ثمة يصبح معنى العلمانية أكثر وضوحا وأقل التباس ًا :
لن تعني العلمانية إخراج الدولة من مجال الدين كما شاع خطأ أو
أشيع قصد ًا؛ ذلك أن الدولة لم تنشأ داخل الدين حتى نخرجها منه،
النبوة والوحي والقرآن ،وال َسنَد
وإنما نشأت منذ البدء خارج دائرة ّ
لها غير العصبيات العشائرية والطائفية والساللية ،منذ حروب بني
هاشم وبني أمية ،قبل وأثناء وبعد ظهور اإلسالم ،مرورا بالخلفاء
والسالطين والمماليك واألمراء ،وصوال إلى يومنا هذا.
أن نستبدل اليوم تلك العصبية القديمة بصناديق االقتراع،
هذا ما يلقي على كاهل المثقف الحداثي وظيفة جديدة ،قليال ما
تعود عليها :التنوير الشعبي.
ّ
( )1ابن خلدون ،تاريخ ابن خلدون ،دار الكتب العلمية ،بيروت ،طبعة ،1992المجلد الثالث،
ص.5 :
177
4-في عسكرة اإلسالم
وقتالي
ّ جهادي
ّ أن هناك مزاج المسألة ،كل المسألةّ ،
واحترابي أفضى في األخير إلى ما يشبه «عسكرة اإلسالم!» .كان
ّ
ّ
والحشاشين وابن تيمية، ذلك المزاج قد بدأ يتشكل منذ األزارقة
بل ومنذ بدء التقسيم الفقهي للعالم إلى معسكرين :دار للحرب
ودار لإلسالم ،وصوال في األخير إلى ظاهرة اإلرهاب العالمي.
وتحديد ًا ،قبل أن ينجلي خطر اإلرهاب العالمي في القدرة
على امتالك تقنيات التفجير والنسف والتدمير ،فإنه كان وال يزال
يكمن في مضامين الخطاب الديني السائد والتي –حتى في حالة
تصور العالم وكأنه في حالة حرب سلميتها الدّ عوية -فإنّها ظلت ِّ
أبدية بين معسكرين :الخير والشر ،الحق والباطل ،حزب الله
وحزب الشيطان إلخ .حيث الحق يمثله المسلمون دائما وأبد ًا
كضحايا وأبرياء ومستضعفين في األرض! والباطل يتمثل منذ
زهاء قرنين في الغرب وأمريكا كمعتدين ومتآمرين ومستكبرين في
األرض ،فضال عن «عمالئهم» في الدّ اخل!
وعلى هذا النحو من الخطاب قد يتصور المسلمون أنفسهم
كأنهم في حالة حرب دائمة مع عالم غريب عنهم وغرباء فيه،
وأن عليهم أن يكونوا في حالة (يحسبون كل صيحة عليهم) اآليةّ ،
استنفار وأهبة إلشعال نار الحمية وإشهار سيف الغضب ،بسبب أو
الزحف والنفير تحرض على ّ بدون سبب ،حتى إذا صدرت فتوى ِّ
أو العنف والتفجير ،كان قسم من الشباب جاهزين لتلبية النداء ،ال
يطلبون حجج ًا أو براهين ،وال سند ًا أو يقينا.
178
إن الخطاب أبلغ من الفعل؛ ّ
ألن لقد قلنا ،وأكدنا مرار ًاّ ،
الفعل في غياب خطاب داعم ،قد يكون عرضيا وطارئ ًا ومجرد
حالة خاصة ومعزولة كما يقولون.
يحول
الخطاب الديني السائد –وهنا مكمن العطب -يكاد ِّ
مجرد عقيدة احترابية .فإذا ما أسلم شخص هنا أو آخر اإلسالم إلى ّ
هناك ،اعتُبر ذلك نصر ًا لإلسالم ،وإذا ما «ارتدّ » مسلم هنا أو آخر
هناك ،اعتُبر ذلك مؤامرة على اإلسالم والمسلمين.
ّ
وألن العالم في حالة حرب ّ
وألن الحرب خدعة كما ُيقال،
دائمة بين الشر والخير ،والكفر واإليمان ،تصبح سياسة بعض
الجماعات اإلسالمية في المستوى المحلي والدّ ولي قائمة على
المكر والتقية والخديعة والكتمان في انتظار لحظة النصر والتمكين.
وهكذا ،انتهت عسكرة اإلسالم إلى تبديد الموقف اإلنساني
األكثر نب ً
ال وأصالة داخل وجدان اإلنسان الديني ،الموقف الهابيلي
إلي يدك
(نسبة إلى هابيل) وفق الخطاب القرآني ( :لئن بسطت ّ
لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك ألقتلك) اآلية ،28سورة المائدة.
ماذا فعلنا بهذه اآلية؟ !
أن الفقهاء والدّ عاة والشيوخ والو ّعاظالمسألة كل المسألة ّ
وعلماء الدين والسلفيين واإلسالميين ،ال أحد منهم استنبط
من الموقف الهابيلي ولو حكم ًا فقهي ًا واحد ًا ،وفي المقابل فقد
استنبطوا من آية السيف مئات األحكام الفقهية ،بل ظ ّن الكثيرون
ّ
أن تلك اآلية ناسخة ألكثر من مئة آية قرآنية حول الصفح والغفران!
وتلك فضيحة أخالقية صارخة.
179
واليوم ،بفعل أنماط التد ّين اإليديولوجي واالحترابي ،نكاد
نغرق في جحيم من الفتن التي ال تبقي وال ت ََذر ،وتقترب منا ساعة
االنتحار الجماعي ،وتنتصر علينا غرائز الموت والهدم والعنف
والسالم .تلك
واالنتقام ،وتضعف فينا غرائز الحياة والحب والبناء ّ
عنف بعد عنف ،وهد ٌم ودمار عنف فوق ٍ ٌ آفتنا ،بل شهادة وفاتنا.
واحتراب وموت ،إلى أن نخرج من دائرة تنفيذ حكم الله بيد كل
َمن يدّ عي أنه يحكم باسمه وترك األمر إلى الله فع ً
ال فهو الوحيد،
الشريك له من الفقهاء واألمراء والخلفاء ،القادر على معرفة وعلى
تنفيذ أحكامه ليس على المسلمين فحسب ،بل على كل الناس.
180
التفكير في اهلل
182
ليس الله في اإلسالم سوى ذلك النفي الخالص وغير القابل
نفي ال يثبت
ألي تعيين ،إذ (ليس كمثله شيء) الشورى .11 -الله ٌ
بعده أي شيء آخر عدا أداة النفي .إذ إن كلمة الله هي أيض ًا – بل
وتحديد ًا -تعني في األخير هكذا :إنه ال ُه َو.
2-الله كصيرورة
بين الفينة واألخرى ،ينهض دعاة الثوابت للدعوة إلى الدفاع
عن «ثوابت» اإلسالم .وقد جعل بعض الو ّعاظ االستعراضيين من
الحديث عن «ثوابت» اإلسالم مناسبة لتجييش الشعوب وتهييج
الجمهور.
نحتاج إلى إبطال هذه االدعاء.
ولنبدأ بالسؤال :هل من ثوابت في اإلسالم ؟
هناك مس َّلمة الهوتية سادت في العصر الوسيط ،وال تزال
تلقي بثقلها إلى اليوم ،تقول :إذا كان الله ثابت ًا ثبات ًا مطلق ًا فالنتيجة
أن تكون «نصوصه» و«أحكامه» و«أقواله» و«شرائعه» جميعها
ثابتة ثبات ًا مطلق ًا .اللهم ّإال إذا قرر الله بنفسه أن ينسخ بعضها أو
لسبب ،أو لحكمة ال يعلمها إال هو. ٍ ينسخها جميعها،
بل ،ال ُيستبعد أن تكون كل المخلوقات ثابتة بثبات خالقها،
إال ما شاء الله.
مجرد إسقاط لثبات
ّ أولى مالحظاتنا ،أن عقيدة الثبات
«الفكر» اإللهي على كافة «األفكار» .وإنها بذلك تندرج ضمن
تماهي اإلنسان مع صورة اإلله الذي يؤمن به.
183
ال بد من تغيير الصورة أوال.
كيف؟
بدء ًاّ ،
يحق لنا أن نسائل عقيدة الثبات فنقول :هل تتصف
الذات اإللهية بالثبات األزلي والمطلق ،كما تتصور ميتافزيقا
الثبات؟
قد ال نخالف الصواب إذا قلنا إن تصور الذات اإللهية
باعتبارها ثبات ًا مطلق ًا وأبدي ًا –وهو التصور الذي هيمن على العصر
الوسيط بشقيه اإلسالمي والمسيحي -كان بتأثير من فلسفة أرسطو.
وليس يخفى على أحد أثر أرسطو في بناء قيم العصر الوسيط ،ال
يتحرك.
محرك ال ّسيما في تصوره للذات اإللهية باعتبارها ِّ
منذ العصر الوسيط ،كان العقل الديني اإلسالمي -وال
يزال -يعتقد أن الذات اإللهية ثابتة ثبات ًا أبدي ًا ومطلق ًاّ .
ومرة بعد كل
يتم إسقاط هذه النظرة الثباتية على كافة الحقائق والمفاهيم مرة ّ ّ
الدينية .لكن ،حقيقة األمر أن ال شيء في الخطاب القرآني يؤكد أن
الذات اإللهية ثابتة ثبات ًا مطلق ًا منذ األزل وإلى األزل .إنما الغالب
الزمان والصيرورة والتحول ،وأن أن يكون الله محايث ًا ألفعال ّ
يكون –ربما بمنظور هيجلي -محايث ًا للتاريخ .وكم هي واضحة
صريحة تلك اآلية التي تصف الله بأنه (كل يوم هو في شأن) سورة
الرحمان ،اآلية .29
ّ
الروح اإللهية الكونية صائرة من شأن إلى
وهكذا ،طالما أن ّ
متحولة من حال إلى حال ،فبأي دليل يدعو دعاة الجمود إلى
ِّ شأن،
الدفاع عن الثوابت؟!
184
�شعر ّية ال�شحراء
الت�شحر
ّ و�شريعة
سرا، نحن نعشق الصحراء شعر ًا ،ونعشقها نثر ًا ،ونعشقها ّ
ونعشقها جهر ًا ،ونعشقها سير ًا على األقدام حين نالمس رطوبة
الرمال ،ونعشق فيها حكاية اإلنسان يمشي على درب غير مرسوم
وفي مسار غير معلوم ،نحاكي الذات اإلنسانية في رحلة التيه بال
ملون ٍ
السماء فراغ ِّ
مسارات للعبور وال عالمات للمرور ،حيث ّ
سراب
ٌ باألزرق يملؤه الخيال وشيء من اآلمال ،وحيث األفق
يحمل بعض األحالم ويحتمل بعض األوهام .حتى آثار أقدامنا
تذروها الرياح.
تم أجل
في بادية الصحراء ال مشهد يدوم ،لكل شيء إذا ما ّ
ينتهي إليه قبل أن تبتلعه كثبان الرمال .تختفي األبنية سريع ًا لتصير
أطالال يرثيها الشعراء ،ال أ ًثر لعبور الحوافر واألقدام ،ال َ
قبور وال
قباب وال مرئيات باقيات ،ال أثر يدوم غير بعض الكالم المحفوظ
في بعض الصدور.
الشعر هو اإلبن الشرعي لذاكرة الصحراء .فهو ال يحكي
عن أي شيء من األشياء في عالم األشياء فيه قليلة .بل ،يقول
185
عن نفسه ،ويحكي عن نفسه ،ويتكلم عن نفسه .موضوع الشعر
هو الشعر ،وأشياء الشعر هي الكلمات .الشعر هو المالذ اآلمن
من زحف الصحراء على األشياء .الشعر هو ذاكرة الحياة في رمال
الصحراء.
ال بأس..
تكف الصحراء عن أن تبعث بروح ّ لكن ،المشكلة عندما
للتصحر ،فتفقد روحها ،وينتقل اإلنسان من
ّ المقاومة الشعرية
التصحر ،كما يحدث لنا اآلن في كثير
ّ شعرية الصحراء إلى شريعة
من األماكن.
عندما يخرس شعراء الصحراء ينطق َس َح َرتها وكهنتها.
الدجالون.
عندما ينام الشعراء يستيقظ ّ
للصحراء خيالها الساحر ،لكن للصحراء أيضا غرائزها
التوحش والثأر والقصاص وتبعية الفرد للقطيع
ّ المد ِّمرة ،غرائز
شوهت الثقافة اإلسالمية عندما لم
(العشيرة) .تلك الغرائز التي َّ
يتم تصريفها شعر ًا.
هنا وجه آخر من أوجه اإلصالح المطلوب :تحرير الدين من
كهنوت الصحراء ،وإعادته إلى أحضان الشعر.
قد نغتاظ من مشاهد أنصار «جماعة أنصار الدين» في صحراء
مالي وهم يقومون بتدمير همجي لكل اآلثار الدينية اإلسالمية التي
تزخر بها تامبوكتو .إنها فعال جرائم ضدّ اإلنسانية وفق توصيف
الهيآت الثقافية الدّ ولية .بل لعل العالم كله قد استنكر تلك الجرائم
186
تفوقوا على ميكيافيلي
عدا «اإلسالميين الوسطيين» عندنا والذين َّ
وأبلوا في الحيل الفقهية بال ًء مشهود ًا.
لكن ،ما هي دوافع الجريمة؟
بالتصحر،
ّ ليس لتلك الجرائم من غاية أخرى غير االحتفال
الروحي والحضاري والفنّي واإلنساني ،وتمجيد صحراء
التصحر ّ
ّ
افتراضي َ
متخ َّيل وفق رؤيا «إخواننا في ّ افتراضية قاحلة لسلف
الله»!
التصحري اإلسالموي ،والذي انتهى إلى تدمير ُّ هذا العنف
برجي مركز
تماثيل بوذا العمالقة في أفغانستان ،وإلى تدمير َ
التجارة العالمي في مانهاتن بنيويورك ،وإلى تدمير أضرحة
العالءالمعري وتدمير
ّ تامبوكتو في مالي ،وإلى تدمير تمثال أب
أضرحة ومقامات عمرها مئات السنين في سوريا ،والتلويح بتدمير
األهرامات والمومياوات الفرعونية المصرية ،وقبل ذلك هو نفسه
الرسول في أرض الحرمين وأخفى معالمه. الذي كان قد د ّمر قبر ّ
بمجرد سوء فهم أو سوء تفاهم ،بل ثمة داءّ كل ذلك ال يتعلق
عضال ينخر دار اإلسالم ،وليس له من إسم آخر سوى الهمجية.
والعالج إذ ًا؟
ليس هناك من ترياق في غير ر ّقة الشعر وعذوبته .هذا ما
المتصوفة ومارسوه بالفعل ،فجاءت نصوصهم الدينيةِّ أدركه
مك َّللة بروائع الشعر «الروحاني» ،على منوال رباعيات الرومي،
وخمريات ابن الفارض ،وأشواق ابن عربي ،وطواسين الحالج.
المحمدي.
َّ الروح الشعرية لجوهر اإلسالم
هؤالء أدركوا ّ
187
نعم ،جاء اإلسالم المحمدي بأسلوب شعري .كيف ال وهو
ابن شرعي لبيئة الصحراء العربية؟ وهكذاُ ،ولد الوحي اإلسالمي
والدة شعرية ،إيقاعية ،سجعية ،ابتهالية .وعلى هدي َن ْفس النَّ َفس
جاءت أقوى النصوص «الدينية» أبداع ًا شعري ًا وشاعري ًا ،من قبيل
رسالة الغفران للمعري ،واإلمتاع والمؤانسة للتوحيدي ،وديوان
األشواق البن عربي ،إلخ.
مشكلة اإلسالم أنه فقد روحه الشعرية ،وأقحمه الفقهاء ثم
السلفيون واإلسالميون والجهاديون في مأزق الصرامة «العلموية»
على طريقة الحالل ب ِّين والحرام ب ِّين .لذلك ليس غريب ًا أن يبتعد
الجدد عن
التكوين الجامعي األكاديمي األساس للقادة الدينيين ُ
اإلنسانيات واإللهيات والفقهيات والجماليات واللسانيات .ليس
غريب ًا أن يكون ابن الدن مهندسا والظواهري طبيب ًا وعبد السالم
فرج ميكانيكي ًا ،إلخ .وعلى هذا النمط أصبح الخطاب الديني
المتشدد في قبضة «العقل األداتي» ،حيث ينعدم الخيال ويضيق
الوجدان ويضيع اإلنسان.
بالتأكيد ،ليس الخطاب القرآني قصيدة شعر على منوال
شعري
ّ والرباعيات ونحو ذلك ،لكنه خطاب المع َّلقات واأللفيات ّ
قوة في االستعارة والمجاز .لذلك ،ال تكون بكل ما يعنيه ذلك من ّ
تتم عبر السماع السجعي. العالقة مع الدين إالّ عالقة شعريةّ ،
هذا ال ُبعد الشعري أغفله الفقهاء وأدركه الصوفية .ولهذا السبب
شكّل المتصوفة الهدف األول لهجوم األصوليين ،منذ فتاوى
ابن تيمية مرور ًا بالحركة الوهابية وصوالً إلى الطالبان والسلفيين
188
والجهاديين وأنصار الشريعة في سوريا والعراق ومالي وليبيا
ولست أدري.
ُ واليمن
بكل بساطة ،عندما َيب ُعد الشعراء يعود الكهنة.
وتحديد ًا ،عندما َ
طر ْدنا الشعراء من الحقل الديني والالّهوتي
وتجار
في اإلســالم ،فتحنا الباب على مصراعيه أمام الكهنة ّ
األوهام.
هذا ما يحدث لنا اآلن.
وفي كل األحــوال ،هناك قضية أساسية في استراتيجية
اإلصالح الديني في اإلسالم .ماهي؟
يقوم جوهر اإلسالم على تعالي الذات اإللهية ،وعلى
التمايز بين المستوى اإللهي والمستوى البشري ،بين مستوى عالم
الغيب الذي يحيل إلى الغياب ،ومستوى عالم الشهادة الذي يحيل
إلى الحضور ،بحيث ال يتحقق الترابط بين هذا وذاك إالّ مجاز ًا،
وتجاوز ًا للعجز الكينوني ،عبر َملكة الخيال .لذلك ،ليس الدين
سوى تأويل مجازي «للحق» الذي ال يمكن إدراكه؛ طالما أن
«الحق» ال ُي ْع َرف وال ُي َع َّرف كما يردد المتصوفة .وبهذا النّحو نفهم
كيف جاء القرآن ذوق ًا جمالي ًا و ُعمق ًا خيالي ًا وشوق ًا ابتهالي ًا و َع َبق ًا
تع ّبديا .ونفهم في األخير كيف جاء كالم القرآن باعتباره ليس
مجرد حلم وحسب ،لكنه تأويل لحلم لم يره أحد ،مع أنه كان وال ّ
سمو ًا ،اتباع ًا أو إبداع ًا.غلو ًا أو ّ
يزال يلهم الجميع ،سلب ًا أو إيجاب ًاّ ،
لذلك ..نعلن في ختام الكالم المباح :
189
يحتاج اإلصالح الديني والالّهوتي في اإلسالم إلى استعادة
للروح والكينونة ،عوض فقهاء
روحه الشعرية ،يحتاج إلى شعراء ّ
َب ْول البعير ،وإرضاع الكبير ،وجواز ركوب النساء للحمير!..
وسمو ًا ،يحتاج
ّ أي نعم ،يحتاج الدين إلى مشاعر أكثر نب ً
ال
للروح ..إلى إلى قلوب نابضة بالعشق والشوق ،يحتاج إلى أطباء ّ
شعراء إذ ًا.
190
ال�شريعة والقراآن
192
أشترط أن ال يكون سبب زيارة المقابر هو التباهي بكثرة األحياء أو
األموات أو هما مع ًا ! وقد أقرر بمراعاة أسباب النّزول نفسها منع
إجراء أي إحصاء للسكان .وقد أقرر أن يشمل اإلحصاء األحياء
دون األموات .وقد أقرر فقط أن ال يكون اإلحصاء لغاية التفاخر
بالكثرة ! وكل هذا بفضل القياس .لكن السؤال األساس :بأي حق
أحاول أن أستنبط من تلك اآلية حكما شرعيا صالح ًا لكل زمان
ومكان؟
والحال أن منطوق القرآن نفسه يؤكد عدم وجود أي تشريع
مطلق وصالح لكل زمان ومكان سواء بالقياس أو بدونه .إذ يقول :
(لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاج ًا) المائدة.48 ،
لقد أنتج القياس في األخير أحكام ًا ليست فقط منافية للعقل،
وليست فقط مناقضة ألبسط قيم حقوق اإلنسان ،لكنها فوق ذلك
تقول القرآن ما ال يقوله أو خالف ما يقول .وأمامنا أمثلة :
ِّ
هناك أفعال جعل لها النص القرآني عقوبات أخروية من دون
أن يحدد لها أي عقوبة دنيوية ،لكن غالبية الفقهاء استنبطوا -قياسا
على العقاب األخروي -ضرورة وجود عقاب دنيوي أيض ًا .من
الر ّدة عن اإلسالم مثال.
قبيل ِّ
هناك شعائر جعلها القرآن طوعية ،وجعلها الفقهاء إلزامية،
بل اتفقوا في العصر الحالي على أن تركها يستوجب العقوبة .مثل
الصوم .وفي ذلك مخالفة صريحة للقرآن .تقول اآلية ( :يا أ ّيها
الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم
لعلكم تتّقون .أيام ًا معدودات فمن كان منكم مريض ًا أو على سفر
193
فعدّ ة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه (( أي يستطيعون صيامه))
تطوع خير ًا فهو خير له وإن تصوموا خير فدية طعام مسكين فمن ّ
لكم إن كنتم تعلمون) البقرة .184 ،لكن ،تبع ًا للنّزوع التشدّ دي
لفقهاء عصر االنحطاط ،عصر ال ُعسر والضيق والشدّ ة والعوز ،فقد
مرة الشطر األخير من اآلية ناسخ ًا لما سبقه .ونحن هنا ّ
ألول ّ ُجعل ّ
نرى ناسخ ًا ومنسوخ ًا داخل اآلية الواحدة نفسها! لكن ،حتى على
فإن الشطر األخير من اآلية صحة هذا االستنتاج الجزافي ّ افتراض ّ
تطوعية وليست إلزامية تطوع ،ما يعني أننا أمام شعيرة ّ يستعمل فعل ّ
بأي حال من األحوال .اللهم ّإال إذا كنا سن ِّ
ُقول اللغة ما ال تقول !
هناك آيات قرآنية نُسخ حكمها بفعل انتفاء موضوعها وال
يمكن أن نستنبط منها سواء بالقياس أو بغير القياس أي قانون كوني
وإلزامي .الهجرة مثال .تقول اآلية ( :ومن يهاجر في سبيل الله يجد
في األرض مراغم ًا كثيرا وسعة )...النساء ،100 ،وتقول آية أخرى
بنحو أكثر إلزامية ( :والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من واليتهم
من شيء حتى يهاجروا) األنفال .72 ،وإذا كان القول األصح أن
آيات التحريض على الهجرة قد نُسخ حكمها مباشرة بعد فتح مكة،
فيحق لنا التساؤل حول ما إذا كانت آيات الجهاد والقتال قد نُسخ
حكمها بدورها بعد ظهور دولة القانون والمؤسسات والمواثيق
الدولية؟
والواقع أن بعض فقهاء التكفير استنبط بالقياس أحكام ًا
مرعبة ،من قبيل التعامل مع اآلية «كتب عليكم القتال» قياس ًا على
اآلية «كتب عليكم الصيام»! كما فعل صاحب الفريضة الغائبة،
عبد السالم فرج.
194
غير أننا نصطدم بمالحظة أخرى :
مقابل اآليات القرآنية التي تتضمن التحريض على القتال
والجهاد في سياق محدَّ د ثمة عبارة في القرآن تمثل الصيغة األكثر
وضوح ًا للتعبير عن أصالة حرية االعتقاد الديني :ال إكراه في
الدين.
المفارقة ليست هنا ،لكنها تقع في مستوى االشتغال الفقهي :
ففي الوقت الذي تَوافق فيه العقل الفقهي على تقسيم القرآن
من وجهة نظر «تشريعية» تقسيم ًا صارم ًا إلى آيات مكية وأخرى
تتضمن آياتّ مدنية ،واعتبار آيات المرحلة الثانية ،المدنية ،والتي
والسبي والغنائم ،ناسخة آليات المرحلة الجهاد والقتال والغزو ّ
الزمني للنزول ،فضال عن األولى ،المكّية ،وذلك باعتبار التسلسل ّ
األبعاد التي اتخذتها الهجرة فيما بعد كنقطة قصوى لبداية تاريخ
همشوا المرحلة المكية األولى من جهة ،وأغفلوا اإلسالم ! فقد ّ
من جهة ثانية وجود مرحلة مكية أخرى أو أخيرة بالغة الدّ اللة
واألهمية أعقبت المرحلة المدنية ،مرحلة العودة ،مرحلة النّصر،
مرحلة الفتح ،مرحلة تح ّقق الهدف القرآني (لتنذر أم القرى ومن
حولها) ،مرحلة القرآن األخير ،اآليات التي نزلت بعد فتح مكة،
وتخلو من دعوات القتال والغزو وما شابه ،وكان يجب اعتبارها
-وفق نفس المنطق -ناسخة للقرآن المدني ،لوال أن المنطق
الفقهي كان مبتور ًا.
وفي الوقت الذي استنبط فيه الفقهاء عشرات القوانين
واألحكام الفقهية من آيات الحرب والجهاد والقتال فإنهم لم
195
يستنبطوا من آية ال إكراه في الدين أي قانون ُيذكر .بل خالف
ذلك ،استنبطوا منه فقط ما ُس ّمي بأحكام أهل الذمة .وإنهم بذلك
النحو -وبلغة العصر -قد أفرغوا الحكم من مضمونه ،وأزاحوا
أداة النفي عن العبارة القرآنية ال إكراه في الدين.
196
الحرية الدينية اأو ً
ل
198
نعم ،قد تبدو الحرية الدينية مخيفة حين تسمح لنا بأن نص ّلي
ونبتهل على النحو الذي نشاء ،وأن نُس ِّبح بمختلف المعاني
الالنهائية في هذا الكون الفسيح ،ال سيما ّ
وأن والرمزية ّ
الجسدية ّ
مجرات بعيدة وبعيدة جدا .لكن،
البشرية على وشك أن تستوطن ّ
بسبب الخوف من الحرية المفتوحة على حدوس الحياة ،جاء
ضبط وتقعيد وتقنين حقل اإللهيات ،الذي صار في األخير أشبه ما
يكون بقواعد الهندسة أو قوانين المرور .وهذا اعتداء على الدين.
وأيضا ،قد تبدو الحرية الدينية مخيفة حين تمنح كل واحد منا
الحق في أن يستفتي قلبه أوالً وأخير ًا ،ما يعني أن يستفتي ضميره
األخالقي واإلنساني الحر ،وأن يستعمله من دون تعطيل؛ طالما أن
أن الخوف من اإلسالم يخلو من رجال دين ،أو هكذا ُيفترض .غير ّ
هكذا حرية ساقنا في األخير إلى تخريج آالف الدّ عاة الغوغائيين
المحرضين واألئمة المج ّيشين والخطباء المه ّيجين،ّ والو ّعاظ
ال وأقبح صنيع ًا
وبينهم أمراء الجماعات الجهادية ،وهذا أسوأ فع ً
من تخريج رجال الدين.
وأيضا ،قد تبدو الحرية الدينية مخيفة ،حين نستحضر ّ
أن
الكعبة التي نطوف حولها ونستقبلها في صلواتنا هي صندوق
ّ
جذاب لكنّه ال يحوي في داخله أي شيء .ما يعني أن موقع القداسة
في اإلسالم مكان فارغ .لكن الخوف من هكذا حرية وجدانية قادنا
إلى ملء الفراغ بخلق عشرات المقدسات.
يحيل الغيب اصطالحا إلى الغياب .وعالم الغيب في القرآن
هو عالم الغياب ،عالم ال يمكن أن يحضر وال يمكن استحضاره
199
اللهم من باب التعبير المجازي .وهكذا نفهم كيف جاء الخطاب
القرآني خطابا مجازيا.
ال يمكن لعالقتنا بالله تعالى أن تكون عالقة قائمة على
المعرفة واإلدراك والحضور .لذلك قال صدر الدين الشيرازي« :ال
يعرف الله إالّ الله»( ،)1ولذلك ير ّدد الصوفية دوما عبارة «العارف
ال ُيعرف» .إنما عالقة اإلنسان بالله هي عالقة مجازية قائمة على
يعول فيها سوى على ملكة الخيال.
الذوق والشوق ،وال َّ
ألجل ذلك أجمع جل فالسفة اإلسالم ،أمثال الفارابي وابن
سينا وابن عربي ،على أن طريق االتصال هو الخيال .وذلك هو
الرأي الذي أكده بوضوح سبينوزا حين كتب يقول « :لم يتلق أي ّ
شخص وحي ًا من الله دون االلتجاء إلى الخيال ،أي إلى كالم أو
إلى صور ،وينتج عن ذلك أن النبوة ال تتطلب ذهنا كامال بل خياال
خصب ًا»(.)2
ميزة الخيال أنه تجربة فردية خالصة؛ ففي مجال الخيال لكل
واحد عالمه الخاص والذي ال يخضع ألي قواعد فقهية أو معايير
اجتماعية.
أن تجربة الدين تظل أقرب إلى تجربة الحب هكذا نستنتج ّ
اإلنساني .ففي كليهما «محكوم علينا بالحرية» ،إذا ما استلهمنا
تعبير ًا بليغ ًا لسارتر.
( )1صدر الدين الشيرازي ،المبدأ والمعاد ،دار الهادي ،بيروت ،الطبعة األولى ،2000ص .44 :
( )2باروخ سبينوزا ،رسالة في الالهوت والسياسة ،ترجمة وتقديم حسن حنفي ،دار التنوير،
بيروت ،الطبعة األولى ،2005ص .129 :
200
ومثلما ال يمكننا تنميط الحب ،ال يمكننا تنميط اإليمان أو
ضبطه وفق ضوابط صارمة تملي على الناس كيف يجب أن تكون
عالقتهم بالله.
مجمل القول :
في غياب الحرية العاطفية يصبح الحب اغتصاب ًا ،وفي غياب
الحرية الدينية يصبح الدين إرهاب ًا.
201
202
الق�شم الثالث
اأ�شئلة الذات
203
204
عظة ال�شباح
206
النفاق الديني أن تدعو الناس للصالة أوقات الصالة ،وال
تدعوهم للعمل أوقات العمل.
النفاق الديني أن تنسب نفسك إلى اإلسالم عنوة فتقول «أنا
إسالمي» ،لكنّك تفرغ اإلسالم من كل المضامين الثقافية والفنية
والجمالية والحضارية ،فال تبقي منه ما ُيذكر أو يستحق الذكر ،ال
مطارحات ابن رشد ،وال رباعيات الخيام ،وال إلهيات ابن سينا،
المعري ،وال خمرياتِّ وال خوارزميات الخوارزمي ،وال لزوميات
موشحات زرياب، ابن الفارض ،وال معزوفات الموصلي ،وال ّ
وال حتى فكاهيات جحا .بل ال تبقي من تراث اإلسالم غير بضع
أوراق صفراء وفتاوى سوداء ،ثم تقول :هذا هو اإلسالم ،تكبير
ونفير وشخير وبئس المصير.
ثم تنشئ
النفاق الديني أن تقول «ال كهنوت في اإلسالم»ّ ،
حزب ًا ديني ًا.
النفاق الديني أن تردد مقولة «ال حياء في الدين» ،ثم تستحيي
من إعالن للعازل الطبي على التلفزيون.
تستفزك
ّ النفاق الديني أن تقول «الله جميل يحب الجمال» ،ثم
تسريحة جميلة َ
لشعر جميل المرأة جميلة.
النفاق الديني أن تردد «ال أكراه في الدين» ،ثم تطالب بإقامة
حد الردة.
النفاق الديني أن تردد «نحن أ ّمة إقرأ» ،ولم تقرأ في حياتك
ّإال ،ربما ،صفحات قليلة وصفراء.
207
النفاق الديني أن تردد مقولة «أال بِذكر الله تطمئ ّن القلوب»،
تفجر!
لكنك تصرخ بصيحة «الله أكبر» وأنت تقتل أو ِّ
النفاق الديني أن تكون زعيم ًا عربي ًا فتطلب من كاميرا
تصورك وأنت تص ّلي لكي تشاهدك الماليين وأنت التلفزيون أن ِّ
(ماذا تفعل؟) تص ّلي!
النفاق الديني أن تكون تلميذ ًا في قسم الباكالوريا ،تدخل إلى
قاعة االمتحان وتقرأ الفاتحة والدّ عاء قبل أن ت ِ
ُخرج ورقة الغش.
النفاق الديني أن يكون الشهر الفضيل ،شهر رمضان ،شهر
والتحرش والشجار.
ّ الرحمة والغفران ،هو أيض ًا شهر الغش
ّ
النفاق الديني أن تقول :اإلسالم دين رحمة وتسامح ،ومن ال
تفجر رأسه وتنسف عظامه. يقبل أحكامك ِّ
النفاق الديني أن تشعل الفتنة الطائفية في لبنان والعراق
وسورية وباكستان ..وغيرها ،وتوقظ الحرب القبلية في ليبيا
واليمن وأفغانستان ..وغيرها ،ثم تقول إنك تقاتل من أجل «وحدة
المسلمين» !
النفاق الديني هو الرداءة والدناءة والبذاءة ...هو الجحيم.
قلّ :
(إن المنافقين في الدرك األسفل من النار) صدق الله ْ
العظيم.
* * *
وإذا قالوا لك ال اجتهاد مع وجود النصْ ،
قل لهم :
بل ُأنزل النص على سبعة أحرف كما أخبرنا ّ
الرسول الكريم،
208
لكنكم أبقيتم في األخير على حرف واحد .وفي ذلك اجتهدتم وما
زلتم تجتهدون.
بل في النص آيات محكمات وأخرى متشابهات ،لكنكم
جعلتم جميع آياته محكَمات .وفي ذلك اجتهدتم وما زلتم
تجتهدون.
بل يحفل النص بالناسخ والمنسوخ باختالف األحوال ،حيث
المنسوخ حكمه والمنسوخ لفظه والمنسوخ على الوجهين ،ورغم
ذلك تُقدِّ رون كيفما اتفق .وفي ذلك اجتهدتم وما زلتم تجتهدون.
حمالة أوجه يعارض بعضها بعض ًا كما أخبرنا بل آيات النص ّ
علي بن أبي طالب ،لكنكم تُغ ِّلبون وجه ًا واحد ًا في األخير .وفي
ّ
ذلك اجتهدتم وما زلتم تجتهدون.
بل لكل آية من آياته أكثر من سبب نزول واحد ،غير أنكم
ترجحون سبب ًا واحد ًا أو اثنين أو أكثر ..بحسب الطلب .وفي ذلك
ِّ
اجتهدتم وما زلتم تجتهدون.
بل للنص عشرات التفاسير التي تنتقون بعضها وفق المزاج
الخاص أو المزاج العام .وفي ذلك اجتهدتم وما زلتم تجتهدون.
بل ترتيب آيات وسور القرآن الكريم هو اجتهاد الصحابة،
وتنقيط حروفه وإعــراب كلماته هو اجتهاد التابعين ،وإقرار
القراءات العشر هو اجتهاد تابعي التابعين إلخ .وفي ذلك اجتهدتم
وما زلتم تجتهدون.
فإن فهم النص هو ثمرة اجتهادكم واجتهاد بعض ْ
قل :عجب ًاّ ،
شيوخكم السابقين ،بل ّ
إن بناء النص نفسه هو ثمرة مسار اجتهادي
209
وتحول لغوي وتطور كتابي ساهم فيه الكثير من
ّ وتوافق سياسي
األولين على مدى أجيال كثيرة ،غير أنكم باسم هذا «االجتهاد»
تغلقون اليوم باب االجتهاد!
ال أرى فائدة من تكرارها بهذه الطريقة
* * *
وينكرون الحداثةْ ،
قل لهم:
تسمي زواج القاصرات باسمه الحقيقي :اعتداء
ّ الحداثة
جنسي على األطفال.
الزوجة على الجماع باسمه الحقيقي:
الحداثة تسمي إجبار ّ
اغتصاب.
الحداثة تسمي سبي النساء في الغزوات باسمه الحقيقي:
جريمة حرب.
مقر
الحداثة تسمي رضاع الكبير باسمه الحقيقي :سكس في ّ
العمل.
الحداثة تسمي نظام الجواري واإلمــاء باسمه الحقيقي:
عبودية.
الحداثة تسمي زواج المتعة والمسيار وجهاد المناكحة
باسمها الحقيقي :دعارة.
الحداثة تسمي التط ّلع االنتحاري إلى حوريات الجنّة باسمه
الحقيقي :اكتئاب عصابي أو اكتئاب ذهاني.
210
وإنما ْ
قل لهم :
الحداثة تكشفكم ،ولذلك ترفضونها.
* * *
ويدعون إلى تطبيق حد الردةْ ،
فقل لهم :
يا سبحان الله! فإن الله جل جالله استجاب لدعوة الشيطان
عندما طلب منه أن يمهله زمنا يساوي تاريخ البشرية برمتها إذ (قال
رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين) ،وأما أنتم
فال ترحمون أحدا وال تمهلون ضحاياكم زمنا قليال يساوي حياة
فرد واحد أو أدنى من ذلك!
* * *
وقد يزايدون عليك في اإليمانْ .
فقل لهم :
النبي ابراهيم حين فقدَ
ليس هناك أعظم وال أصدق من إيمان ّ
يقينه بالله فقام ليسأله ِ :أرني كيف تحيي الموتى ( )...لكي يطمئ ّن
قلبي.
ليس هناك أعظم وال أصدق من إيمان المسيح حين فقدَ
إحساسه بالله فمأل السماء صراخ ًا :إلهي إلهي َ
لم تركتني؟
النبي محمد حين فقدَ
ليس هناك أعظم وال أصدق من إيمان ّ
الطمأنينة اإللهية فأطلق صيحته :ربي إلى من ت ِ
َك ْلني؟ َ ْ ّ
ليس هناك أعظم وال أصدق من إيمان األنبياء في ذروة
إحساسهم بالشك وشعورهم بالضياع حين يخفت صوت األلوهية
211
أمام صوت األلم اإلنساني الذي يتردد صداه في الفضاء ،فيبدو
الكائن اإلنساني كأنه متروك يطرق أبواب السماء ،والسماء كأنها
خاوية ،ال أحد! كأنها صماء منذ األبد ،هل من سميع لشكوى
اإلنسان؟
ليس هناك أعظم وال أصدق من إيمان بوذا في إقراره ّ
بأن
الحياة في حقيقتها تجربة مؤلمة ،وأننا إذا لم ننطلق من هذا
االعتراف المؤلم فلن نعالج األلم ،لن نشفى من الشقاء األصلي.
بكل تأكيد ،ال يكون اإليمان راسخ ًا عميق ًا إالّ بقدرما يكون
يائس ًا ِ
قلق ًا.
يعول عليه. ْ
قل لهم :كل إيمان يقوم على اليقين ال َّ
* * *
الرسول.
وقد يستفسرون عن الجنس والتعدّ د في سنّة ّ
فهكذا تقول لهم :
(ص)
الرسول
الرائجة في كتب السيرة والحديث تقدم ّ الصورة ّ
باعتباره رجال مزواجا منكاحا مهووسا بالجنس إلى درجة أنه قد
«يتطوف على نسائه في ليلة واحدة» (صحيح البخاري) ،وأنه ّ
يملك طاقة جنسية بـ«قوة سبعين رجال» أو أكثر ،وما إلى ذلك من
أساطير «حريم السلطان» ! وليس هذا بصحيح .هو منظر بئيس
أمام ذواتنا ،مسيء أمام اآلخرين ،ويرسم أمام أطفالنا صورة نمطية
للمسلم باعتباره شخصا مهجوسا بالنكاح 24ساعة على ،24و7
أيام على 7أيام.
212
فال بأس أن نحاول رفع هذا البهتان ،لكن واحدة واحدة :
الرسول(ص) أثناء زواجه األول لم يتخذ غير السيدة أوالًّ ،
خديجة زوجة له ،إذ لم يمارس التعدّ د .ومع أنه كان في ريعان
شبابه ،ظل وفيا لزوجته الوحيدة ،ولم يتزوج زواج ًا ثانيا إال بعد
مرور أكثر من سنتين على وفاة زوجته ،سواء بالتحقيب الشمسي
أو القمري .فهل مثل هذا الرجل يمكن أن يكون بتلك الصورة التي
يرسمها رواة الحديث؟
ثاني ًا ،لقد أجمع كتّاب السيرة والحديث أنفسهم على ّ
أن
الرسول عندما قرر الزواج مرة ثانية ،بعد انقضاء عامين عن وفاة ّ
خديجة ،كانت قد بقيت له على قيد الحياة بنت واحدة فقط ،هي
الرسول في البيت
فاطمة الزهراء ،والتي تزوجت بعلي تاركة ّ
وحيد ًا.
الرسول(ص) لم يخلف أبناء مع أي ثالث ًا ،كل الشواهد تؤكد ّ
أن ّ
تزوج به ّن بعد خديجة ،سواء عائشة بنت أبي
من النساء اللواتي ّ
بكر ،أو حفصة بنت عمر أو غيرهما ،وهذا على افتراض أن هناك
غيرهما أيا كان الرقم الحقيقي.
بل قل لهم :
الرسول مزواج ًا وال منكاح ًا وال كما ّ
يتقولون ،بل كان لم يكن ّ
رجال متوازنا في سلوكه الجنسي ،وأنه –عدا ابنته الوحيدة التي
فارقته للزواج -كان يبحث عن نسل من صلبه .وهو ما لم ُيرزق به؟
* * *
213
وقد يسألونك :عن تلقين القرآن الكريم لألطفال الصغار؟
ْ
قل لهم :
إن أحكام الزواج والطالق والنكاح ال إنه ال يخاطبهم :أوالًّ ،
إن أحكام القتال والجهاد والسبي والغنائم تناسب أعمارهم .ثانياّ ،
إن الحدود والقصاص في السرقة والزنا وشهادة ال تنفعهم .ثالث ًاّ ،
الزور ال تشملهم .رابع ًا ،إن جنة القرآن ال تناسب غرائزهم.
إن كثير ًا من
خامسا ،إن جهنم القرآن ال تناسب نفسيتهم .سادس ًاّ ،
قصص القرآن يحتاج إلى النضج العقلي والوجداني وإال أحدثت
جرحا دفينا في الوعي الطفل ،من قبيل قصة النبي إبراهيم الذي
حمل السكين وأراد أن يذبح ابنه استجابة لرؤيا لع ّله أخطأ تأويلها
وفق تفسير ابن عربي.
صدق ًا ،إذا تخ ّلصنا من عقيدة النفاق سيبدو الكالم معقوال :
تلقين القرآن الكريم لإلطفال الصغار اختيار غير مناسب .وكفى
بحالنا اليوم شهيد ًا.
* * *
وفي لحظات الصدق قد يتساءلون :متى يتحقق اإلسالم في
المسلم؟ متى يتخ ّلق المسلم باألخالق اإلالهية (أو االنسانية)؟
ْ
قل لهم :
الغمة عن األ َّمة ،وتشرق شمس الحياة ،وتسقط
عندما تزول َّ
والسكاكين الغادرة ،وتنقشع غيوم ال ُعنفّ األحزمة النّاسفة
سودت سماءنا وبعثرت آمالنا ،وحين تعود الحياةالتّكفيري التي ّ
214
إلينا أو نستردها من بين ثنايا ثقافة الموت ،فنرى صور الجمال
اإللهي في أنفسنا وفي ما حولنا ،ونسمع صوت الله في رنين
الرطبة وعبق
األوتار العذبة وخرير المياه الدّ افقة وهمسات الشفاه ّ
الياسمين ،وقتها فقط ،وفقط وقتها ،يتحقق اإلسالم في المسلم.
عندما نمسح عن وجه الله آثار الدماء اآلدم ّية التي ُسفكت
الذبح السري ،ونكسر ونفك وثاق ديننا لنخرجه من معابد ّ
ّ باسمه،
وشوهت أحوالنا وأفسدت سمعة ّ طوقت أعناقنا
السكاكين التي ّ
ديننا وض ّيعت مالمح الله التي كانت ترتسم في بسمة طفل بريء،
سيتحقق اإلسالم في المسلم.
عندما نمسح عن مالمح الله تلك الكآبة التي رسمها دعاته
العابسون ،ونعيد إلى وجهه بسمة الحياة التي فارقته منذ حل
التكفيريون بتهافت أضدادهم ،وقتها فقط ،وفقط وقتها ،يصبح
المسلم مسلم ُا.
عندما نتخلص من الجهلوت الجاثم على أنفسنا وأنفاسنا
عقود ًا طويلة من العبث والعدم ومقارعة الريح للوصول إلى
السراب ،فنخرجه من أنفسنا وأسمائنا ،حتى يترك لنا بياض الوقت
نملؤه باألمل ما استطعنا إليه سبيال ،يصبح المسلم مسلم ًا.
عندما نرسم قبلة رطبة على جبين الله ،ونحوم حوله مثل
األطفال ،مثل المالئكة ،مثل الفراشات المتحلقة حول األميرة
النائمة ،يصبح المسلم مسلم ًا.
يحب أن يرى أثر نعمته على عبده
ّ عندما يفهم المسلم أن الله
وأن ليس هناك من نعمة أعظم من العقل ،وليس هناك كما يقالّ ،
215
من أثر لنعمة العقل أعظم من التفكير ،وقتها فقط يصبح المسلم
إنسان ًا.
* * *
معنى أن أكون مسلم ًا :
أن أكون مسلم ًا ال يعني أن ألعب دور األبله في عالم ال يحترم
المجرات
ّ أتفرج على المجتمعات تغزو األغبياء؛ وال يعني أن ّ
واقف أسأل ببالهة عن جواز ركوب ٌ وتقلب قوانين الحياة وأنا
النساء للحمير؛ وال يعني أن أسكن في الدّ رك األسفل من حضيض
علي ،وأظ ّن ّ
بأن العالم يحسدني ثم أحسب كل صيحة ّ الحضارةّ ،
أغض البصر عن فسق الفقر على «نعمة اإلسالم»؛ ال يعني أن ّ
والعنف ،عن إثم القهر الخوف ،عن فجور الجهل والتخلف ،ثم
مجرد تنّورة أو سروال ،أو رقصة أو أرى الفساد كل الفساد في ّ
تمثال ،أو لوحة فنان أو فن من الخيال .أي نعم ،ال يعني اإلسالم
أن ألعب دور األبله في عالم ال يحترم األغبياء.
216
محا�شرة في جاكارطا(((
توطئة
217
يرى هيجل ،أم نحو تأكيد التنوع وترسيخ الحق في االختالف
الثقافي كما يرى فالسفة االختالف؟ هل نبتغي المساواة التامة بين
بني البشر وفق أحالم ماركس ،أم الحق في التم ّيز والتفوق وفق
رؤى نيتشه؟ هل نتجه نحو كونية معايير العدالة اإلنسانية كما يأمل
جل الفاعلين الدوليين ،أم نتجه نحو نسب ّية تلك المعايير وفق رؤية
يسمى بيسار ما بعد الحداثة؟
ما ّ
رغم صعوبة تناول أسئلة فلسفية من هذا الحجمّ ،
فإن األمر
مجرد ترف فكري؛ ذلك أن التقدّ م اإلنساني يحتاج بالفعل ليس ّ
إلى فرضيات عمل تحظى بقدر من االستيعاب والقبول؛ إذ قبل
السؤال الكبير «ما العمل؟» هناك سؤال الجدوى« ،لماذا نعمل
أصالً؟» أي ،ألجل أي غاية سنعمل؟ سؤال الجدوى هو بالضبط
سؤال المعنى.
ثمة رؤية جذرية تقول إن اإلنسان ليس أفضل في زحمة اآلراء ّ
مجرد
الكائنات وال هو غاية الغايات كما كان يظ ّن كانط ،بل هو ّ
نوع بيولوجي يجب أن يقنع بحظه ونصيبه و َقدره في هذا الكون
الذي لم ُيخلق ألجله كما تقول جماعة النوتيقا مثالً ،وربما قدره
أن يواجه دورات االنقراض الكبرى إسوة بسائر األنواع كما ترى
بعض المنظمات البيئية المغالية في نقد المركزية االنثروبولوجية
لإلنسان.
مؤكد أن ال يقين لنا حول شكل الحياة البشرية بعد عشرات
السنين ،أو حتى مئات السنين .لكن هناك شيء واحد نعرفه :
الراوي الوحيد لحكايةفي كل األحوال ،يظل اإلنسان هو ّ
الرواية ،يظل اإلنسان
يكف عن أن يبقى بطل ّ
ّ الوجود حتى حين
218
الحالم الوحيد في هذا الوجود حتى حين يقرر أن ال يبقى هو
موضوع الحلم.
لذلك ،أمامنا خالصة أساسية :اإلنسان هو الكائن الوحيد
الذي يحاول أن يجد معنى لوجوده .اإلنسان باحث عن المعنى
ال شريك له في هذه الرحلة ،وسيظل بال شريك حتى إشعار آخر.
الروح والضمير
من هنا أهمية موضوع العالقة بين حرية ّ
والوجدان بتحسين جودة الحياة ،أي التنمية المستدامة.
اختصار ًا ،بوسعنا أن نُعرف التنمية المستدامة من حيث أنها
تنمية تتمحور حول ثالث غايات كبرى :
-دوام النوع البشري.
-تنمية قدرات األفراد على المساهمة في تحسين نوعية
الحياة.
-ترسيخ قيم التضامن اإلنساني :في مستوى المكان بين
الشعوب ،وفي مستوى الزمان بين األجيال.
الغاية األولى تصطدم ببعض األصول ّيات الدينية المتمحورة
حول فكرة نهاية العالم (األر َمجيدون) ،ال سيما في المسيحية
الغربية.
الغاية الثانية تصطدم ببعض األصوليات الدينية المتمحورة
حول فكرة ما بعد الموت (اآلخرة) ،ال سيما في اإلسالم.
الغاية الثالثة تصطدم ببعض األصوليات الدينية المتمحورة
حول فكرة الطائفية ،مثل األمة بالنسبة لألصوليات اإلسالمية،
وشعب الله المختار بالنسبة لألصوليات اليهودية.
219
هكذا ،سنحاول أن نثير أفكار ًا حول أثر الحرية الدينية في
تحرير الطاقة الحيوية لإلنسان لغاية المساهمة اإليجابية في
دوام النوع البشري وتحسين نوعية الحياة وترسيخ وحدة النوع
اإلنساني ،وكل ذلك أمال في تحسين ظروف رحلة البحث
اإلنساني عن معنى الوجود.
وسنعرض لخمس فرضيات :
220
حول اإلسالم من ديانة فطرية إلى ديانة جبرية وقهرية وتسلطية، ّ
وأنتج طوائف مغلقة متقوقعة وأنشأ أفراد ًا مهجوسين بالخوف
من «ضياع الدين» ،ومن ثم ضياع المعنى الذي ألفوه للوجود
ونشأوا عليه .ولعل الخوف من ضياع الدين ناجم فعال عن إدراك
أو إحساس بأن الفهم السائد والموروث للدين لم يعد مالئما
لظروف الحياة المعاصرة .لكن ،في غياب قدرة الوعي اإلسالمي
على إبداع تصورات بديلة ومقنعة يبقى الخوف من ضياع الدين
هو الهاجس السائد .غير أن اإلبداع ال يتأتى من دون حرية اإلبداع،
بعيدا عن خرافة «كل بدعة ضاللة».
والمالحظ كذلك ّ
أن الخوف من ضياع الدين غالبا ما يقود إلى
االنغالق الطائفي والتعصب الديني؛ فالعنف هو ربيب الخوف،
هذا يؤدي إلى ذاك .وكالهما ينسف أسس العيش المشترك.
أمثلة :
-في العراق تس ّبب الخوف من ضياع «الهوية السنية» في
تكريس االنغالق الطائفي وشيوع العنف واإلرهاب ،ومن ثمة
عرقلة إمكانية بناء جيش وطني موحد .ولذلك ستبقى العراق دولة
فاشلة ما بقي األمر كذلك.
-في مصرّ ،
إن عدم االعتراف بحق األقباط الذين أسلموا في
العودة إلى مسيحيتهم متى شاءوا ،وعدم االعتراف بحق األقباط
الزواج من مسلمات ،كل ذلك يثير احتقانات طائفية تهدد بين
في ّ
الفينة واألخرى السلم األهلي.
في نيجيرياّ ،
إن إصرار المتعصبين المسلمين على هدم الكنائس
221
وطرد المسيحيين من مناطق الشمال خوف ًا من بوادر االنقالب
العددي في نيجيريا لصالح المسيحيين ،علما ّ
بأن الشمال يفتقر إلى
الموارد الطبيعية مقارنة مع الجنوب ،إن ذلك يهدد بإشعال فتيل
الحرب األهلية ودفن وعود االزدهار االقتصادي داخل جمهورية
ربما تكون قد دخلت فعليا طور النماء .كما أن التنافس شبه اليومي
في العديد من المناطق هناك في رفع صوت اآلذان وقرع أجراس
الكنيسة يسبب الكثير من التوتّرات الطائفية الخطرة.
المصلح الديني األلماني هانس كينغ« ،ال َسالم بينيقول ُ
الشعوب من دون َسالم بين األديان».
نضيف :ال سالم بين األديان دون سالم داخل كل دين على
حدة .لماذا؟ ألن العنف بين األديان ما هو إالّ تفريغ لفائض العنف
داخل كل دين على حدة ،عندما ال يتناسب الفهم السائد للدين مع
حقائق العصر .وهذا ما تؤكده الكثير من المجتمعات التي ينفجر
عنفها الداخلي في شكل حركات جهادية في «األطراف» وأحيان ًا
في «األطراف» البعيدة.
222
مجرد أقليات دينيةأوال ،ألن المسلمين اليوم هم أنفسهم ّ
داخل دول عظمى أو صاعدة ،مثل الواليات المتحدة ،وألمانيا،
وفرنسا ،وروسيا ،والصين ،والهند ،وجنوب إفريقيا ،إلخ.
ألن المسلمين حتى حين يكونون أغلبية ،فإنهم ال ثاني ًاّ ،
يكونون وحدهم ،كما هو الحال في مصر حيث حوالي أكثر من
10في المئة من السكان غير مسلمين ،وأحيانا ليسوا وحدهم
بكثير كما هو الحال في لبنان حيث حوالي 40في المئة من
السكان ليسوا مسلمين ،أو في نيجيريا حيث نصف السكان –أو
يزيد قليال -ليسوا مسلمين.
ثالث ًا ،حتى حين يكون المسلمون وحدهم كما هو الحال
يتوزعون إلى مذاهب شديدة التنوع في حاالت قليلة ،فإنّهم ّ
واالختالف مثلما هو الحال في ُعمان مثال ،تلك السلطنة الصغيرة
التي تحضن أكبر قدر من المذاهب والطوائف اإلسالمية ،سنية
كانت أم شيعية أم إباضية.
رابعا ،حين يكون المسلمون وحدهم ،ور ّبما على مذهب
واحد ،كما هو الحال في موريطانيا مثال ،فإنهم ال يتفقون على
نفس الفهم والتفسير والتأويل ،إذ آيات القرآن نفسها حمالة أوجه،
وليس هناك من معيار لتمييز المحكَمات منها عن المتشابهات،
إن التأويل ّ
الذكوري السائد لكافة والناسخ منها عن المنسوخ .ثم ّ
الديانات وضمنها اإلسالم يجعل النساء في وضعية أقلية دينية
كبرى.
أن سيادة قوانين دول ّية تحمي الحريات كل هذا يؤكد ّ
الدينية على قاعدة مبدأ المعاملة بالمثل ،من دون سياسة «الكيل
223
بمكيالين» التي ينتهجها بعض سادة العالم ،وكذلك من دون
أسلوب «االستعالء العقائدي التعويضي» الذي ينهجه بعض
المسلمين الذين يعانون من الوسواس القهري الجماعي ،فإن ذلك
هو السبيل األضمن لتحقيق مصالح المسلمين في عالم اليوم.
(عامل اآلخرين كما تريدهم أن يعاملوك) .تلك هي القاعدة
األخالقية األولى واألكثر تجدّ را في الوعي األخالقي اإلنساني :
يقول كونفوشيوس :ال تفرض على اآلخرين ما ال يمكنك أن
ترضاه لنفسك.
يقول طاليس :تجنب القيام بأعمال قد تلوم اآلخرين على
فعلها.
يقول بهاء الله :إن تحولت رغبتك للعدالة ،فاختر لجارك ما
تختار لنفسك.
يقول إنجيل لوقا :وكما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا
أنتم أيضا بهم.
يقول نبي اإلسالم :ال يؤمن أحدكم حتى يحب ألخيه ما
يحب لنفسه.
الصياغة المثلى لهذا المبدأ وردت عند فيلسوف التنوير كانط،
تشرع القانون للبشرية جمعاء.
في عبارة تقول :تصرف وكأنك ِّ
هذا هو الدرس األساس الذي يجب أن تستوعبه المجتمعات
الدينية كافة .بمعنى ،ولغاية التوضيح :إذا أنا ّقررت تأييد منع
علي أن أفترض السؤال
التبشير المسيحي في دول الجنوب ،فيجب ّ
224
التالي :ماذا لو أصبح موقفي تشريعا كوني ًا؟ وقتها ،ما مصير الدعوة
اإلسالمية في دول الشمال؟ بل ،ما مصير المساجد الموجودة في
الواليات المتحدة األمريكية ودول االتحاد األوروبي؟
المؤكد أن تلكّؤ المسلمين في قبول المبدأ الكانطي بدعوى
أن عقيدتهم هي األصدق أو األصلح أو األصوب ،يدعم وجهة ّ
نظر أنصار اليمين المتطرف في أوروبا وأمريكا ،عندما يطالبون
بمنع بناء المساجد أو منع الدعوة إلى اإلسالم إسوة بما تفعله
الدول اإلسالمية من تجريم للتبشير ومنع لبناء الكنائس والمعابد
األخرى.
وهذا ما قد تكون له عواقب في غير صالح صورة اإلسالم
وحقوق المسلمين أينما حلوا وارتحلوا.
226
يصادف شهر رمضان فصل الصيف ،والذي هو فصل السياحة
فضل عدد كبير بامتياز ،فتغلق المقاهي والمطاعم طيلة النهار ،و ُي ِّ
من السياح الذهاب إلى دول أخرى ،ويسافر عدد من المقيمين
األجانب ألجل قضاء شهر رمضان في مناطق غير إسالمية !
هذا ،من غير الحديث عن المستثمرين األوروبيين والذين
يشتكون بصوت خافت –وقد سمعت هذا من بعضهمّ -
بأن قاعات
الصالة داخل المنشآت اإلنتاجية أصبحت فرصة الستراحة إضافية
ال يستطيع حتى القانون أن يتدخل بشأنها.
الحرية الدينية ال تعني –كما يفهم البعض -حرية استغالل
الدين ألجل تحقيق مصالح شخصية أو فئوية أو طائفية .وهذا ما
أو ّد لفت االنتباه إليه .الحرية الدينية ال تعني أني حر في استغالل
الدين بالنحو الذي أراه أو أريده ،وإال فإن معظم المتطرفين
يلوحون بمفهوم الحرية ،ولكن الحرية الدينية تعني على وجه ِّ
التحديد وكما يقال عن الحرية نفسها :حريتك تنتهي عندما تبدأ
حرية اآلخرين.
مرة أخرى نكون إزاء نفس القاعدة الذهبية .كيف؟ قبل أن ّ
تطالب بالحق في التوقف عن العمل ألجل الصالة ،افترض أن
مطلبك هذا أصبح تشريعا عاما ،فما الذي سيحدث؟ سينطبق
هذا الحق على سائق القطار الذي تستق ّله ،وسائق الطاكسي الذي
تشير إليه ،والكهربائي الذي يصلح أعطاب بيتك ،والطبيب الذي
يفحص طفلك ،والجمركي الذي يفحص جواز سفرك ،إلخ.
الحرية الدينية تعني ما يلي :
حق طبيعي ،لكنها مسألة شخصية جدّ ًا.
ممارسة الدينّ ،
227
وبهذا المعنى تساهم الحرية الدينية في تحقيق ثالث مكاسب
تنموية :
أوالً ،من حيث حقوق األقليات ،فإنها ِّ
تيسر ُسبل اندماج
األقليات في التنمية االجتماعية.
مثال :حرية اختيار أو عدم اختيار المواد الدينية كما في
المدرسة البلجيكية ،تعدّ تجربة رائدة في االندماج المدرسي
ألبناء األقليات ،وهو ما ساعد إلى حد بعيد في النجاح الدراسي
واالجتماعي ألبناء األقليات الدينية .وفي المقابل ّ
فإن فرض
المواد الدينية لألغلبية قد يصبح عائق ًا أمام النجاح الدراسي
ألبناء األقليات المذهبية كما هو الحال بالنسبة لسنّة إيران وشيعة
السعودية.
ثانيا ،من حيث حقوق المرأةّ ،
فإن حرية المعتقد تزيل كافة
ثم في
العوائق والتحفظات المتعلقة بمبدأ المساواة ،وتساهم من ّ
اندماج المرأة ومساهمتها ضمن عملية التنمية.
السفر دون رفقة «المحرم» ومنعها من
ال :منع المرأة من ّمث ً
السياقة في بعض المجتمعات اإلسالمية ألسباب دينية ،كل ذلك
يجعل مساهمة المرأة في التنمية دون الحد األدنى المطلوب.
ثالث ًا ،عن االنخراط في العولمةّ ،
فإن حرية المعتقد تعمل على
الروحية والحواجز الدينية التي تعيق انخراط
إزاحة كافة الكوابح ّ
الشعوب في دينامية العولمة االقتصادية ،وتساهم في ظهور
مجتمعات مفتوحة بالمعنى البوبري (نسبة على كارل بوبر).
228
مثالً :جماعة بوكو حرام التكفيرية في نيجيريا والتي أحرقت
الكثير من الكنائس ،يعني اسمها باللهجة المحلية «تحريم التعليم
العصري» .وهو اسم يعني ما يعنيه وسط عالم يقوم على العلم
والمعرفة.
رابعا ،من حيث تطوير المهارات الفرديةّ ،
فإن حرية المعتقد
تضمن لألفراد حرية عدم التق ّيد ببعض الشعائر والطقوس التي
تعيق قدراتهم وطموحاتهم وتمنعهم من المشاركة اإليجابية في
التنمية البشرية.
مثال :يصبح فرض الحجاب اإلسالمي أو اليهودي عائق ًا
والتفوق فيها ،مثل السباحة.
ّ للفتيات أمام ممارسة بعض الرياضات
4-الفر�ش ّية ّ
الرابعة :الحرية الدينية اأ�شا�ص
حقوق الإن�شان
في اإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان ترد الحرية الدينية كحق
من حقوق اإلنسان ،لكن أكثر من ذلكّ ،
فإن الحرية الدينية هي
أساس المنظومة الحقوقية بر ّمتها ،ويترتّب على غيابها غياب سائر
الحريات األخرى.
لماذا؟
ألن معظم وجهات النّظر التي تعترض جزئي ًا أو كلي ًا على
ّ
الحريات الفردية تنطلق من خلفيات دينية منغلقة ومتشددة.
فإن الطالبان المعترضين على حق الفتاة في وعلى سبيل المثالّ ،
التمدرس ،أو الوهابيين المعترضين على حق المرأة في سياقة
229
السيارة ،أو اإلنجيليين المعترضين على حق المرأة في اإلجهاض،
الزواج المختلط ،إلخ،
أو التلموديين المعترضين على الحق في ّ
جميعهم ينطلقون من تأويالت متشددة للنصوص الدينية يحاولون
فرضها على المجتمع .بل إن كل اعتراض اليوم على الحريات
الجنسية ينطلق من خلفيات دينية منغلقة.
مع واجب التنويه أيض ًا ّ
بأن الفارق األساس بين الدينيين
المنغلقين في الغرب وأقرانهم في الشرق يكمن في أن مفعولهم
عندنا أشد ضراوة وضــرر ًا ،لسبب وجيه :هشاشة وعي الفرد
حرة ومستقلة.
بوجوده كذات ّ
5-الفر�شية الخام�شة :الحرية الدينية ك�شرط
اإن�شاني
قد ال نختلف في هذا ،الدين حاجة روح ّية لغاية تحقيق
األمن الوجودي الذي يحتاجه اإلنسان ،هذا الكائن الذي ألبسه
القدر ثوب العيش دون أن ُيستشر كما يشكو عمر الخيام ،وهو
فوق ذلك يعي وجوده ال َع َرضي كما يقول سارتر ،ويدرك أنه
الزوال كما ُير ِّدد هايدجر .وهنا بالذات ينكشف كائن من أجل ّ
جوهر التجربة الدينية في بعدها الفردي الخالص مصداق ًا لآلية
«ال تزر وازرة وزر أخرى» .وبهذا النحو من الوعي الذاتي ،أو
الوعي بالذات ،ندرك حتمية التسامح مع كل الكيفيات الدينية
التي يمكن أن يختارها هذا الكائن اإلنساني المتّصف بحالة
التمرد على الذات ،وفق توصيف ألبير كامي ،وهو الكائن الذي ّ
يبقى متمرد ًا حتى أثناء تد ّينه.
230
التمرد من طبائع القدر
ّ وليكن ،أليس القرآن نفسه يؤكد أن
اإلنساني «إن اإلنسان لربه لكنود» ،وفق آية كريمة من اآليات
البينات؟!
فماذا بعد؟
لسنا نجانب الصواب إذا قلنا إن الشرط اإلنساني سيبدو في
التحول الديني أو
ّ أصدق تجلياته وأنصع مظاهره أثناء لحظات
المذهبي أو الخروج من الدين أو عن الدين أو المذهب .وهذا
مدعوين ليس فقط إلى التسامح الديني مع اآلخر ولكنناّ ما يجعلنا
مدعوون إلى التعاطف الديني مع ذلك اآلخر الذي ال يشبهنا أو لم
ّ
يعد يشبهنا أو ارتمى في أحضان َقدَ ر ديني أو مذهبي آخر؛ فلعله
يكون أصدق تعبير ًا عن كيان اإلنسان من حيث هو كائن م ّيال إلى
تجاوز نفسه باستمرار .وهذا التجاوز هو شرط النّماء واالرتقاء.
ونكرر :ال يكون التد ّين صادقا وفطريا إال حين
ّ من هنا نعيد القول
يكون تلقائيا وعفويا ،أي ينطلق من حرية األفراد في االختيار
الديني بال قيد وال تقييد ،وال خوف وال تخويف.
الحق الوجداني في أن يختار ّ بمعنى ،لكل كائن إنساني
يشك ويتشاور ،يتد ّين ويتحول من دين ّ ويتخ ّير ،يتر ّدد ويتح ّير،
آلخر ،بال إكراه في الدين ،حسب آية من آيات الذكر الحكيم،
وباألحرى بال إكراه في المذهب أو الطريقة أو الفهم أو التأويل.
نعم ،إنه الشرط اإلنساني ،ثم إنه الشرط القرآني أيض ًا.
أو ..وكما أحب أن أقول :
عفوي يستدعي الخروج عن النص.
ّ اإليمان تعبير
231
232
حوار في تون�ص
234
مباشرة بعد اآلية الكريمة (اليوم أكملت لكم دينكم) وهكذا.
السؤال اآلن :ماذا بقي من كالم الله؟ الجواب الذي أقوله دائم ًا:
بقيت وظيفته التع ّبدية .وبهذا النحو أعتقد أن بوسعنا أن ننهي
أكذوبة قديمة اسمها الشريعة.
س : 2هل تعتقد أن الشريعة لم تصمد أمام مقتضيات الحداثة
السياسية ؟
مزية الحداثة السياسية أنها فرضت على كافة شعوب األرض
وعيا أخالقيا وحقوقيا جديدا يسائل التراث الفقهي اإلسالمي
برمته .طبعا هناك مقاومات كبيرة يتزعمها اليوم أنصار الشريعة،
والرجم والجلد في من قبيل تطبيق أحكام الر ّدة في سوريةّ ،
السودان ،وما يسمى بالقانون الجعفري المعروض على أنظار
البرلمان العراقي ،والذي يبتغي ضمن ما يبتغيه تحديد سن الزواج
بالنسبة للفتاة في تسع سنوات ..كل هذه المقاومات بقدر ما
تبدو مخيفة فإنها تعيسة أيضا وتثير الكثير من االستياء حتى في
الرائدة
أوساط المسلمين المتد ّينين أنفسهم .والمقاومة الشعبية ّ
اليوم ضدّ أنصار الشريعة في ليبيا تكشف الكثير .والس ّبب هو أن
هناك شعور عام بأن إقحام الشريعة في التفاصيل يد ِّمر اإلسالم
واإلنسان معا .والواقع أن عامة المسلمين اليوم ،وبمعزل عن
أدلجة الدين ،يدركون بأن مؤسسة السجن كمؤسسة عقابية حديثة
المرات من عقوبات دموية من قبيل الجلد تبقى أفضل بعشرات ّ
والرجم والقطع .الجميع يدرك أن التوثيق الكتابي للزواج أضمن
ّ
للحقوق من الزواج العرفي بقراءة الفاتحة وترديد عبارات من
قبيل «أنكحتك ابنتي» ،أو «زوجتك نفسي» .أي نعم ،هناك إدراك
235
صامت في كثير من األحيانّ ،
بأن شريعة الفقهاء لن تصمد طويال
أمام زحف الحداثة السياسية.
س : 3بعثت رسالة تقول دافعوا عن عقيدتكم ألنّها جوهر
وأساس اإلسالم وال تدافعوا عن الشريعة ألنها شريعة الفقهاء
فقط ،كيف ذلك ؟
جوهر اإلسالم هو العقيدة :ال إله إال الله؛ التوحيد الربوبي؛
من قال ال إله إال الله دخل الجنة؛ إلخ .المشكلة أن الفقهاء قد
نقلوا مركز الثقل من مستوى العقيدة إلى مستوى الشريعة ،والتي
هي شريعتهم في آخر األمر ،ال غير .المسألة هنا تتعلق بإرادة القوة
أي السلطة .ذلك أن الشريعة تمنح الفقهاء سلطة اإلفتاء وهي
يفوضها لهم القرآن وال السنة .أما العقيدة ،وتحديدا سلطة لم ِّ
العقيدة اإلسالمية ،فإنها ال تمنحهم أي سلطة كيفما كان نوعها.
ولذلك ليس مستغربا أننا نسمع الكثير من اللغط عن الشريعة ،عن
أنصار الشريعة ،عن تطبيق الشريعة ،عن الشعب الذي يريد تطبيق
شرع الله ،دون أن نسمع مثل ذلك اإللحاح حين يتعلق األمر
بالعقيدة نفسها والتي هي جوهر اإلسالم .أقول :آن األوان لكي
نعيد مركز الثقل في اإلسالم من مستوى الشريعة (شريعة الفقهاء)
إلى مستوى العقيدة (عقيدة التوحيد الربوبي).
س : 4الشورى ليست مفهوما إسالميا وإن استعمله القرآن،
ألن االستعمال اليعني
وحتى بوجود سورة قرآنية بهذا االسمّ ،
بالضرورة التملك .ماذا تقصد؟
أوالً ،القرآن الكريم لم ينزل دفعة واحدة من السماء ،لكنه
236
تشكل في سياق سجالي ،تحاوري ،تواصلي ،توافقي ،بل وحتى
تفاوضي في كثير من األحيان ،مع مخا َطبين مباشرين ومحدِّ دين
في المكان والزمان بنزعاتهم ونزواتهم .وإذا كانت غاية القرآن
الربوبي (ملة إبراهيم) ،فقد كان
هي إعادة ترسيخ عقيدة التوحيد ّ
يستعمل في المقابل نفس اللغة والمفاهيم والمصطلحات السائدة
في مكة خالل النصف األول من القرن السابع الميالدي .وبالنسبة
للمفاهيم السياسية فمن الطبيعي أن يستعمل مفاهيم العصر
الذي كان ينتمي إليه ،عصر ما قبل الدولة ،وبالتأكيد ما قبل دولة
المؤسسات بعدّ ة قرون .خذ هذا المثال :إن استعمال القرآن الكريم
لكلمة الخيام ال يعني أن الخيام مساكن إسالمية ،وعدم استعماله
لكلمة ناطحات السحاب ال يعني أن ناطحات السحاب ليست
مساكن إسالمية أو دينية ،إنما هي مصطلحات استعملها القرآن
الكريم ضمن المتاح اإلدراكي واللغوي؛ ألن غاية القرآن الكريم
ليست نحت مفاهيم جديدة ،فتلك وظيفة الفلسفة وليس الدين،
إنما وظيفة الخطاب القرآني هي تبليغ رسالة التوحيد الربوبي
في سياق ثقافة شبه الجزيرة العربية (لتنذر أم القرى ومن حولها)
اآلية .لذلك قلت إن استعمال الخطاب القرآني لمصطلح الشورى
ال يعني أن هذا المصطلح قد صار إسالميا أو دينيا ،كما أن عدم
استعماله لمصطلح الديمقراطية ال يعني أن هذا المصطلح ليس
إسالميا وال دينيا ،وفي الحقيقة ليس هناك مصطلح إسالمي وآخر
غير إسالمي ،فالمصطلحات تبقى مصطلحات رائجة في عصر
معين ،والمصطلحات الواردة في الخطاب القرآني هي وسيلة
لتبليغ العقيدة (ما على الرسول إال البالغ) .الشورى مصطلح
237
ينتمي إلى العالم القديم ،واستعماله من طرف الفقهاء كان يندرج
ضمن إسالم القدامة ،وأما التخلي عن ذلك المصطلح اليوم فإنه
ال يعني بأي حال أننا قد تخلينا عن مصطلح قرآني أو ديني ،وإنما
يعني فقط أننا تخلينا عن مصطلح ينتمي إلى عصر ما قبل بناء
الدولة ،وبالتأكيد عصر ما قبل دولة المؤسسات بزمن طويل.
س : 5أنت تتبنّى مقولة أن تكون مسلما اليوم معناه أن تكون
عقالنيا ..كيف تفسر هذا التداخل بل التماهي! وما الرابط بين
االسالم والعلمانية ؟ أال يبدو وكأننا أمام نوع من الفكر الصوفي؟
بأن التصوف في جوهره النظري ،وبمعزل أعترف ابتداء ّ
عن النزعات ال ُط ُرقية التي أفسدته ،بقدرما ابتعد عن السلطة وعن
الصراع حول السلطة فقد اقترب من مقاصد العقيدة .وأعلى مقاصد
العقيدة أن نحب الله .في المقابل ،يبقى الخوف أو التخويف من
الله مشروع السلطة السياسية المستبدة والتي تستثمر الخوف
تحرر والخوف عبودية .لذلك فإن العشق اإللهي الحب ّّ لصالحها.
كان تحريرا لالنسان المؤمن من إيديولوجيات الخوف والرعب
والرهاب .لكن ،وفي المقابل ،فإن مشكلة التصوف تكمن في
يحصن نفسه من عوالم الخرافة ،هنا معضلته ،وهنا نحتاج أنه لم ِّ
إلى استدعاء العقل أيضا ،أي الحفاظ على أكبر قدر ممكن من
المعقولية في كل التجارب اإلنسانية بما في ذلك التجربة الدينية.
نعم ،يجد المسلم نفسه اليوم أمام مأساة كبيرة ،لكن أمامه أيضا
فرصة أكبر تتمثل في الوعي بمكانته ودوره وسط عالم متداخل
ومع َّقد .في عالم اليوم ،لم يعد المسلمون يعيشون لوحدهم ،في
ما كانوا يصطلحون عليه باسم دار اإلسالم ،بل صاروا أقليات
238
ضمن دول عظمى أو صاعدة ،أمريكا ،دول االتحاد األوروبي،
روسيا ،الهند ،الصين ،جنوب إفريقيا ،نيجريا ،وينتظرهم دور
كبير في حفظ الوحدة الوطنية والسلم األهلي لتلك الدول ،عبر
ترسيخ ثقافة الحياد الديني والمذهبي .وليس أمامهم خيار آخر
غير هذا .ثم إنهم حتى حين يمثلون األكثرية في كثير من الدّ ول
فإنهم ال يكونون لوحدهم .وعليهم مراعاة هذا المعطى .بل وحتى
يتوزعون إلى طوائف ومذاهب قد حين يكونون لوحدهم فإنهم ِّ
تتناحر مثلما يحدث في العراق واليمن وسورية .ما يعني أن مسألة
الحياد الديني والمذهبي للدولة يكاد يصبح نوعا من «الفريضة
اإلسالمية».
س : 6اعتبرت أن الظالمية (الناس يتسلطون على رقاب
بعضهم) هي أشدّ خطرا وضررا على الحرية من االستبداد (الدولة
تتسلط على رقاب الناس) كيف ذلك ؟
قلت هذا الكالم قبل انطالق موجة ما ُس ّمي بالربيع العربي،
سيكون الخروج من االستبداد أسهل من الخروج من الظالمية.
ألن الدولة حين تتسلط على رقاب الناس فإن آليات لماذا؟ ّ
المقاومة تبقى ضمن المتاح ،بصرف النظر عن حجم التضحيات
المطلوبة ،لكن المعضلة كل المعضلة ،حين يتسلط الناس أنفسهم
على رقاب بعضهم البعض ،حين يك ِّفرون بعضهم ،حين َّ
يتلصصون
على بعضهم ،حين يفتشون في الحياة الخاصة لبعضهم .نعم،
قد ال يوجد كهنوت رسمي ،لكن يلعب كافة الناس في المقابل
دور الكهنوت .وهنا المعضلة الكبرى .فأنت قد تجد نفسك في
غياهب السجن ألسباب تتعلق بالحريات ،لكن الكارثة اإلنسانية
239
هي حين تجد نفسك في السجن وفي المقابل يتبرأ منك المجتمع
والعائلة واألهل .السجن يمكن مقاومته ،لكن األمر الثاني تصعب
مقاومته.
س : 7هل يمكن أن نصنف ما يحدث في المنطقة العربية على
أنه زمن انتقام الخرافة من العقل ؟
تقول إحــدى لوحات غويا ،عندما ينام العقل تستيقظ
األشباح .إنها لوحة تقول كل شيء .مشكلتنا أننا لم نخرج بعد
من عصر سبات العقل العربي ،دخلنا الربيع السياسي أو نحاول،
لكن السبات الشتوي للعقل العربي ال يزال مستمرا .لذلك ال تزال
ترافقنا أشباح العصر الوسيط ،وليس مأموال أن نتخلص منها في
الزمن المنظور ،لكني أومن بأن جهدا جهيدا ينتظرنا لغاية إيقاظ
العقل العربي من سباته الطويل .ودعني أعترف لك بأني ،صدق ًا،
وعبر مؤشرات أتعامل معها على الدوام ،أنتظر من تونس معقل
المصلحين األوائل الكبار ،معقل تحديث الخطاب الديني ،معقل
الخطاب الديني القائم على التنوير والتحرير ،مهد ثورات الربيع
العربي ،جنّة النساء الرائدات في الفكر والثقافة ،أن تحمل لواء
إيقاظ العقل العربي من سباته العميق.
س : 8هل العلمانية هي انسحاب الدين أم هي إعادة إنتشاره؟؟
تقوم العلمانية على وجه التحديد على قاعدتين أساسيتين :
أوال ،الحياد الديني والمذهبي للدولة ولمؤسسات الدولة؛ وثانيا،
سيادة القانون المدني على قدم المساواة ومن دون تمييز على
أساس الجنس أو الدين أو العرق أو ما شابه.
240
يمارس بعدّ ة أشكال ،إما من خالل ذلك الحياد الديني قد ً
اإلعتراف بكافة األديان والمذاهب الدينية ،وبجانبها االعتراف
بالالدينيين على قدم المساواة ،مع ضمان سيادة القانون المدني،
كما هي تجربة بلجيكا مثال .وإ ّما عدم االعتراف بأي دين وال بأي
مذهب ديني كما هو الحال في فرنسا ودائم ًا مع سيادة القانون
المدني ،وأحيان ًا قد يشترط نوع من االنتماء الديني للملك أو
للرئيس كما في عدد من الدّ ول االسكندنافية ،لكن دون اإلخالل ّ
بمبدأي العلمانية :الحياد الديني للدولة ،وسيادة القانون المدني.
ال ترتبط العلمانية بالضرورة بحجم التد ّين االجتماعي .ذلك
ألن العلمانية ممكنة سواء داخل مجتمع ترتفع فيه نسبة التدين كما
هو الحال في السينغال مثالً ،أو داخل مجتمع تنخفض فيه نسبة
التد ّين كما هو الحال في النرويج على سبيل المثال.
فإن الذي يتناقض مع العلمانية ليس حجم وفي الحقيقة ّ
التد ّين االجتماعي ،وإنما هو حجم التد ّين السياسي ،أي التوظيف
اإليديولوجي للدين في مجال الصراع على السلطة.
س : 9هل األصولية هي عودة الدين أم ثورة دينية ؟
نعم ،األصولية ثورة ،لكنها ثورة ضدّ روح الدين ،ضدّ جوهر
الدين ،ضدّ أساس الدين ،ضدّ معقولية الدين .األصولية اغتيال
للدين نفسه من حيث تزعم إحياء الدين .خيانة للدين من حيث
تزعم حمايته .لذلك الحظنا ونالحظ باستمرار ،أنه أينما تسلطت
األصولية تركت خلفها موجه قوية من اإللحاد .يحدث هذا في
إيران ،ويحدث في السعودية ،وكان قد بدأ يحدث في مصر خالل
241
فترة حكم اإلخوان كنوع من االحتجاج السياسي .وتلك هي
النّتيجة الطبيعية ألدلجة الدين وتشويه روح التجربة الدينية.
األصولية نسيان للحكم الصادر عن ديننا الحنيف في حق
الماضي ،في حق اآلباء ،وفي حق األجداد ،وفي حق السلف
-أكان سلف ًا صالح ًا أم سلف ًا طالح ًا -عندما قال( :تلك أمة قد خلت
لها ما كسبت ولكم ما كسبتم وال تُسألون عما كانوا يفعلون).
242
على �شبيل الختم
244
رابع ًا ،تحرير الخطاب الديني من النّزعة الطائفية :وهنا ليس
ثمة مجال للشك في ّ
أن النّزعة الطائفية التي يعاني منها الخطاب ّ
الديني تدمر النّسيج الوطني للمجتمعات مثلما يحصل في العراق
وأفغانستان ،وتهدد الوحدة الوطنية لمجتمعات مثل باكستان
واليمن ،وتكاد تجهز على أحالم التغيير الديمقراطي في مجتمعات
مثل سورية والبحرين ،وهكذا دواليك.
خامس ًا ،تحرير الخطاب الديني من مفاهيم الفقه التقليدي:
وهي مفاهيم رائجة ويقود استعمالها إلى تقويض قيم المواطنة
وإجهاض ممكنات الحداثة السياسية ،من قبيل مفاهيم دار
اإلسالم ودار الحرب ،وعقيدة الوالء والبراء ،ومصطلحات كثيرة
على شاكلة الحريم ،والعورة ،والطاعة ،والجماعة ،والرعية ،وأهل
أي ضرر إذا استبدل الخطاب الديني تلك الذمة ،إلخ .ولسنا نرى ّ
المفاهيم القدام ّية بمفاهيم حداثية من قبيل المواطنة والتعدد ّية
والمساواة والتناوب والحرية والحب والطموح واإلبداع ،بما في
ذلك خطاب المساجد من باب أولى.
تلك هي العناوين الخمسة الكبرى لغاية تحديث الخطاب
الديني في عالمنا اإلسالمي ،كما نراها ونعيد بسطها إجماال ،وفي
األخير.
245
المؤلف:
246
محتويات الكتاب
248