You are on page 1of 250

‫سعيد ناشيد‬

‫الحدا َثة وال ُقرآن‬

‫‪1‬‬
‫الكتاب‪ :‬احلدا َثة وال ُقرآن‬
‫املؤلف‪ :‬سعيد ناشيد‬
‫عدد الصفحات‪248 :‬‬
‫الترقيم الدولي‪ISBN 978-9938-88-665-8 :‬‬
‫رقم الناشر‪15/427-73 :‬‬
‫الطبعة‪ :‬األولى ‪2015‬‬

‫جميع الحقوق محفوظة ©‬


‫الناشر‪:‬‬
‫دار التنوير للطباعة والنشر‬
‫موقع إلكتروني‪www.dar-altanweer.com :‬‬

‫تونس‪ ،24 :‬نهج سعيد أبو بكر – ‪1001‬تونس تلفاكس‪0021670315690 :‬‬

‫بريد إلكتروني‪tunis@dar-altanweer.com :‬‬

‫لبنان‪ :‬بيروت – الجناح – مقابل السلطان ابراهيم ‪ -‬سنتر حيدر التجاري – الطابق الثاني‬
‫هاتف وفاكس‪009611843340 :‬‬

‫بريد إلكتروني‪darattanweer@gmail.com :‬‬

‫مصر‪ :‬القاهرة – وسط البلد ‪ 19 -‬عبد السالم عارف (البستان سابقًا) – الدور ‪ – 8‬شقة ‪82‬‬

‫هاتف‪0020223921332 :‬‬

‫بريد إلكتروني‪cairo@dar-altanweer.com :‬‬

‫‪2‬‬
‫سعيد ناشيد‬

‫الحدا َثة وال ُقرآن‬

‫‪3‬‬
https://www.facebook.com/1New.Library/

https://telegram.me/NewLibrary

https://twitter.com/Libraryiraq

4
‫اإليمان تعبير عفويّ‬
‫قد يستدعي الخروج عن النص‬

‫‪5‬‬
6
‫�شكر وتنويه‬

‫ال سهالً‪ .‬وهذا‬ ‫لم يكن العثور على ناشر لهذه األوراق عم ً‬
‫تو ّقعته منذ البداية؛ فقد ال يوجد ناشر يجازف من أجل كتاب‬
‫قد ُيمنع في أكثر من بلد عربي‪ .‬وبالفعل كنت أرسلت الكتاب‬
‫إلى أكثر من ناشر‪ ،‬وبينهم َمن قر َأ مسودة الكتاب كلمة كلمة‪،‬‬
‫وبعد شهور من انتظار اإلصدار عاد الناشر إلى االعتذار‪ .‬وأحيان ًا‬
‫ثم يتعدّ ى االنتظار‬ ‫يتم إعالمي ّ‬
‫بأن الكتاب قيد الطباعة‪ ،‬فأنتظر‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫ثم يكون الر ّد اعتذار ًا مفاجئ ًا‬
‫حوال كامال‪ ،‬ثم أسأل عن المآل‪ّ ،‬‬
‫وتمني ًا لي بأن أجد ناشر ًا بديال‪ .‬وأذهب الى ناشر آخر‪ ،‬ويعتذر‬
‫أيض ًا‪.‬‬
‫وبالفعل‪ ،‬فقد ن ّبهني صديقي المفكر السوري جورج‬
‫طرابيشي إلى أن منسوب الجرأة في هذا الكتاب يفوق المعدّ ل‬
‫يصر على تسميته‬‫العربي المسموح‪ ،‬ال سيما بالنّظر إلى هذا الذي ّ‬
‫ّ‬
‫بـ»الخريف العربي»‪ .‬لكني اعتبرت ذلك التّحذير حافز ًا لي قصد‬
‫المحاولة‪ ،‬وعساني ُأساهم في إقناع صاحب «نقد نقد العقل‬
‫الربيع ال يزال ربيع ًا‪ ،‬ولو قليال‪ ،‬وفقط تتخلله أشت ّية‬ ‫العربي» ّ‬
‫بأن ّ‬
‫‪7‬‬
‫وأعاصير‪ .‬هذا‪ ،‬وال أملك في كل األحوال إال أن أشدّ على يديه‬
‫وأقدِّ ر مالحظاته التي أفادتني كثير ًا كثير ُا‪.‬‬
‫كما أشكر صديقي الباحث والمستشرق ستيفن ألف الذي‬
‫شجعني على المضي قدم ًا في بناء فرضياتي حول العالقة بين‬ ‫ّ‬
‫تكرم بترجمة بعض فصول‬‫الرباني والقرآن المحمدي‪ ،‬وقد ّ‬‫الوحي ّ‬
‫هذا العمل ونشرها باللغة االنجليزية‪.‬‬
‫أوجه تحية خاصة لألستاذ حسن‬ ‫كما ال يفوتني في األخير أن ّ‬
‫ياغي من دار التنوير الذي تمكّن بفعل قراءته النقدية من إنقاذ هذا‬
‫العمل من هنّات وهفوات كادت تعتوره‪ .‬ما يعني أني كسبت منه‬
‫سلف ًا ومسبق ًا ما لم أكسبه من ناشرين آخرين‪ .‬وإن ُوجدت أخطاء‬
‫أتحمل مسؤوليتها الكاملة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫باقية فوحدي‬
‫سر ذلك أني‬‫وإن ُقدِّ ر لهذا العمل أن يخرج للوجود‪ ،‬لعل ّ‬
‫لم أيأس في أي لحظة من ال ّلحظات رغم كل الكوابح والكبوات‪،‬‬
‫مرة أخرى‪ ،‬بأسلوب‬ ‫الكرة ّ‬
‫والمحاذير والتحذيرات‪ .‬وها أنا أعيد ّ‬
‫مختلف‪ ،‬ومع منشورات تحمل اسم ًا يعني الكثير‪ ،‬التنوير‪.‬‬
‫ِ‬
‫أخف يوم ًا إيماني بالله‬ ‫وإن كان األمل من اإليمان‪ ،‬فأنا لم‬
‫الواحد األحد‪ .‬فقط ‪-‬وكما أردد دوم ًا‪ -‬دون الله‪ ،‬ال قداسة لشيء‪،‬‬
‫ذاك سقفي الوحيد‪ ،‬ذاك خطي األحمر‪.‬‬
‫وبه وجب التنويه والسالم‪.‬‬
‫شالّالت أوزد‪ ،‬وسط المغرب‬
‫بتاريخ ‪2014 /06 /16‬‬

‫‪8‬‬
‫تقديم‬

‫أحاول في هذا الكتاب أن أستلهم مقاربات كل من الفارابي‬


‫النبوة‪ ،‬وكذلك أستلهم آراء عدد من‬
‫وابن عربي وسبينوزا لمفهوم ّ‬
‫المصلحين أمثال عبد الكريم سروش ومحمد الشبستري وأحمد‬
‫القبانجي‪ ،‬وأيض ًا أستثمر بعض المفاهيم والتصورات التراثية التي‬
‫صاغها جورج طرابيشي في مشروعه النقدي‪ ،‬وقبل هذا وذاك‬
‫أعتمد أساس ًا على علماء القرآن القدماء (السيوطي والقرطبي‬
‫والسجستاني وغيرهم)‪ ،‬وصوال إلى بعض المستشرقين على‬
‫رأسهم تيودور نولدكه‪ ،‬لكي أستنتج في األخير أطروحة متكاملة‬
‫قد تساعدنا في إعادة بناء العالقة مع النص القرآني على أساس‬
‫تع ّبدي قد يساهم في طمأنينة النفس‪ ،‬بعيد ًا عن أي توظيف‬
‫سياسي أو تحريضي أو إيديولوجي قد ينتج البغضاء والطغيان‬
‫والتطرف‪.‬‬
‫ّ‬
‫أقول ‪:‬‬
‫يع ِّبر القرآن الكريم عن ثالث قضايا متفاوتة‪ ،‬ال يجوز بأي‬
‫نستمر في الخلط بينها ‪ :‬أوالً‪ ،‬قضية الوحي‬
‫ّ‬ ‫حال من األحوال أن‬
‫‪9‬‬
‫المحمدي؛ ثالث ًا‪ ،‬قضية المصحف‬
‫ّ‬ ‫اإلالهي؛ ثاني ًا‪ ،‬قضية القرآن‬
‫العثماني‪.‬‬
‫اِنّنا نعتبر قضية الوحي اإلالهي بمثابة قضية منفصلة ومستقلة‬
‫عن قضية القرآن المحمدي‪ ،‬فالقرآن خطاب لغوي قام به النبي‬
‫القرشي للصور الوحيانية‪ ،‬خضع في كل صوره وأطواره للظروف‬
‫الرسول عليه السالم ‪:‬‬
‫الذاتية والموضوعية لشخص ّية ّ‬
‫‪ -‬الظروف الذاتية‪ ،‬تتعلق بمزاج وثقافة وشخصية وانفعاالت‬
‫الرسول‪ ،‬وهذا ما يفسر التفاوت العاطفي واالنفعالي والنّفسي بين‬
‫ّ‬
‫مختلف آيات وسور الخطاب القرآني‪ .‬وهذا باعتراف الخطاب‬
‫القرآني نفسه كما سنرى‪.‬‬
‫‪ -‬الظروف الموضوعية‪ ،‬تتعلق عموم ًا بأسباب النزول وسياق‬
‫التنزيل ومالبسات األسئلة‪ ،‬والظروف الواقعية والتاريخية‪ ،‬وهذا‬
‫ما يفسر اختالف األحوال وتضارب األحكام واشتباه المعاني‬
‫مرة أخرى‪ ،‬باعتراف الخطاب القرآني‬ ‫واحتمال األوجه‪ .‬وهذا ّ‬
‫نفسه كما سنرى‪.‬‬
‫وهناك أيض ًا قضية المصحف العثماني من حيث كونها‬
‫الزمان واألحوال‪ ،‬وفي المضامين‬ ‫قضية منفصلة ومستقلة في ّ‬
‫واألشكال‪ ،‬عن قضية الوحي الر ّباني بكل تأكيد‪ ،‬وأيض ًا عن قضية‬
‫القرآن المحمدي على وجه التحديد‪ ،‬وهي ثمرة اجتهاد تاريخي‬
‫أنجزه المسلمون على مدى سنوات طويلة‪.‬‬
‫إذ ًا‪ ،‬نحن ال نعرف القرآن الكريم على وجه الدقة والتّحديد‬
‫إال من خالل تمظهره األخير‪ :‬المصحف العثماني‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫ّ‬
‫إن القرآن ترجمة بشرية للصور الوحيان ّية‪ ،‬التي لها مصدر‬
‫الرسول نفسه في‬
‫إلهي ور ّباني بالفعل‪ ،‬غير أنها ترجمة أنجزها ّ‬
‫وجهه إلى الناس في تلك العصور القديمة الماضية وفق‬ ‫خطاب ّ‬
‫ثقافتهم وظروفهم ومدركاتهم‪.‬‬
‫تمت صياغة الوحي الر ّباني‬
‫وألن األمر كذلك‪ ،‬فقد ّ‬‫ّ‬
‫باستعمال المعطيات التالية ‪:‬‬
‫أوال‪ ،‬باستعمال لغة عربية بليغة بالفعل‪ ،‬غير أنها تنتمي إلى‬
‫مرحلة ما قبل قواعد النحو‪.‬‬
‫ثانيا‪ ،‬باستعمال مفاهيم سياسية واضحة بالفعل‪ ،‬غير أنها‬
‫تنتمي إلى مرحلة ما قبل دولة المؤسسات‪.‬‬
‫ثالث ًا‪ ،‬باستعمال مفاهيم علمية يدركها الناس‪ ،‬غير أنها تنتمي‬
‫إلى مرحلة ما قبل مناهج العلم‪.‬‬
‫لهذا السبب‪ ،‬ال يجوز لنا بأي حال من األحوال أن نق ِّيم القرآن‬
‫بمقاييس الحداثة السياسية والثورة العلمية وحقوق اإلنسان‪ ،‬وال‬
‫كنص في العلم أو السياسة أو األخالق‪.‬‬ ‫يجوز لنا أن نتعامل معه ّ‬
‫وإذا فعلنا ذلك فإنّنا سنقترف جرم ًا كبير ًا‪ ،‬وسنظلم القرآن ظلم ًا‬
‫عظيم ًا‪ .‬كما يحاول أن يفعل بعض الذين يقدّ مون تفسيرات لبعض‬
‫االكتشافات العلمية عن طريق ربطها بالقرآن‪ ،‬مثل الحديث‬
‫الذرة والكواكب واالكتشافات الط ّبية‪ ..‬وغير ذلك‪ .‬وهي‬ ‫عن ّ‬
‫معرضة للتجاوز عن طريق اكتشافات جديدة تُخ ّطئها‬ ‫اكتشافات ّ‬
‫أو تنفيها‪ ،‬وتجعل القرآن الكريم الذي هو خطاب تع ّبدي عرضة‬
‫لتأويالت متهافتة تدّ عي لنفسها العلم في حين أنها ال تتسق أبد ًا مع‬
‫‪11‬‬
‫شروط العلم‪ .‬بل هي تأويالت تضع القرآن في مواضع تق ّلل من‬
‫قيمته مدّ عية تأكيد ما جاء فيه‪ ،‬وهو عمل ال يطلبه الخطاب القرآني‬
‫نفسه‪.‬‬
‫القرآن خطاب تع ّبدي خالص‪.‬‬
‫وحس ًا سليم ًا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وهذا يكفي لمن يملك إيمان ًا سوي ًا‬

‫‪12‬‬
‫الق�شم الأول‬

‫الن�ص اإلى الأدلجة‬


‫ّ‬ ‫من‬

‫‪13‬‬
14
‫ما ُ‬
‫القراآن؟‬

‫خطأ شائع يحتاج إلى تصويب ‪ :‬عندما نتكلم عن القرآن‪،‬‬


‫ال ومضمون ًا‪ .‬بل‪،‬‬ ‫عادة ما نخلط بين ثالث ظواهر مختلفة شك ً‬
‫مجرد خطأ طارئ‪ ،‬لعله خطيئة أصلية تتوارثها‬ ‫قد ال يكون األمر ّ‬
‫أبحاث القرآن ‪-‬بما في ذلك األبحاث العقالنية‪ -‬فتأتي النّتائج في‬
‫السلفي واألصولي‪ .‬وتحديد ًا‪َ ،‬أمامنا مس ّلمة‬
‫مرة لفائدة الفكر ّ‬
‫كل ّ‬
‫تشبه الحلقة المفرغة التي تعيدنا بعد كل جهد تجديدي إلى نقطة‬
‫المس ّلمة مستلهمة من اآلية التي تقول َحرفي ًا وبالفهم‬ ‫الجمود‪ُ .‬‬
‫الحرفي‪ٌّ :‬‬
‫(كل من عند الله) سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.78‬‬ ‫َ‬
‫وغايتنا مساءلة المس ّلمة‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬أليس القرآن كالم الله بالتمام والكمال؟ أليس الله‬
‫ضمير المتكلم الك ّلي‪ ،‬حتى حين يتكلم بضمير الغائب‪ ،‬ور ّبما‬
‫بضمير الغيب تحديد ًا؟‬
‫لن نصادر على المطلوب‪ .‬والمطلوب أن نتفكّر في العبارة‬
‫أن المصحف الذي‬ ‫ٌ‬
‫(كل من عند الله)‪ :‬هل المقصود بالعبارة ّ‬
‫‪15‬‬
‫بين أيدينا‪ ،‬بترتيبه وتبويبه وقواعد كتابته ورسمه وخطه وتنقيطه‬
‫وتنوينه‪ ،‬هو أيض ًا من عند الله؟‬
‫واقعة قديمة وشمت ذاكرتي‪ ،‬أذكرها قبل المتابعة ‪:‬‬
‫كنّا في مرحلة الدراسة اإلعدادية نقرأ سورة المعارج بقراءة‬
‫ورش التي ال نعرف غيرها في المغرب‪ ،‬فخطر لي أن أسأل أستاذ‬
‫التربية اإلسالمية ‪ :‬لماذا ال نضيف الهمزة إلى (سال سائل‪)...‬‬
‫فنقول (سأل سائل)‪ ،‬وهكذا يكون المعنى أوضح؟ أجابني بحسم‪:‬‬
‫ال يجوز لنا وألي سبب كان أن نبدل كالم الله‪ .‬قلت‪ :‬ولو بهمزة‬
‫واحدة!؟ فر ّد غاضب ًا‪ :‬ولو بنصف همزة‪ ،‬ولو ُبربع همزة‪ ،‬ولو بقطرة‬
‫مداد من الهمزة‪ .‬وخطر لي أن أسأله‪ :‬ومن أدرانا أن الله أمالها‬
‫بدون همزة؟ فما كان منه إالّ أن صفعني على خدِّ ي ثم طردني من‬
‫الفصل رافض ًا استقبالي إالّ باعتذار‪.‬‬
‫الشعور باإلهانة‪ .‬لكني أذكر فقط‬ ‫يت ّ‬‫ال أذكر كيف تخ ّط ُ‬
‫وأحسست أني أمام ِس ٍّر ال ُيراد لي أن‬
‫ُ‬ ‫بالسؤال‪،‬‬
‫كيف َزادت قناعتي ّ‬
‫أقربه‪ .‬وهكذا كان‪.‬‬
‫ُ‬
‫مرت سنوات طوال على تلك الواقعة قبل أن أفهم في‬ ‫ّ‬
‫األخير‪ ،‬بكل بساطة وبداهة ومعقولية‪ ،‬بأن الله ال عالقة له بأي‬
‫بأي همزة تُكتب أو ال تُكتب فوق أو تحت األلف‪ ،‬وال عالقة‬
‫له بالكثير من التفاصيل اإلمالئية والكالمية والنصية‪ ،‬وهذه ك ّلها‬
‫والسلفي‪.‬‬‫ّ‬ ‫تدخل ضمن األساطير المؤسسة للفكر األصولي‬
‫أساطير إن لم نتجاوزها عن طريق فتح النقاش حولها لن يكون‬
‫ينورون‪،‬‬ ‫في مجتمعاتنا تجديد وال َمن يجدِّ دون وال تنوير وال َمن ِّ‬
‫‪16‬‬
‫وسنبقى خاضعين لذلك الفكر السلفي األصولي الذي يرى أن‬
‫على المسلمين العودة لالحتكام‪ ،‬بل وللعيش‪ ،‬وفق عقلية وأحكام‬
‫تلك الفترة التي أحكم فيها هذا التفكير السلفي األصولي سيطرته‪،‬‬
‫وأغرقنا في قرون طويلة من الحدود التي يضعها للدولة ولطرق‬
‫العيش وللقانون –عفو ًا الشريعة‪ ..-‬وللتفكير‪.‬‬
‫إجراء بسيط ‪:‬‬
‫(كل من عند الله) إلى حدودها القصوى‬ ‫إذا دفعنا مس ّلمة ٌّ‬
‫فسنقع في مستنقع اآلراء األكثر سذاجة‪ ،‬والتي تظ ّن بأن المصحف‬
‫كل من عند الله!‬‫بخطه وأوراقه‪ ،‬ور ّبما بمداده أيض ًا‪ٌّ ،‬‬
‫ومن ثم فقد كان األجدر بنا أن نسميه بالمصحف الرباني‬
‫أو اإللهي! إالّ أن الواقع يؤكده اإلصطالح نفسه ‪ :‬المصحف‬
‫العثماني‪.‬‬
‫إذ ًا‪ ،‬نحتاج للقيام بخطوة إلى الوراء ومساءلة المس ّلمة بدء ًا‬
‫بالسؤال ‪ :‬هل القرآن فعال كالم الله؟ هل القرآن نص أ ْملته الذات‬
‫اإللهية بالتمام والكمال؟‬
‫السؤال مكر ًا خفي ًا‪ ،‬وذلك حين يشل‬
‫لكن‪ ،‬أال يحتمل هذا ّ‬
‫قدراتنا على اإلبداع ويضعنا بين جوابين يقينيين متطرفين ال ثالث‬
‫وضعاني مطلق؟‬
‫ّ‬ ‫غيبي مطلق أو نفي‬
‫بينهما أو دونهما ‪ :‬إما تأكيد ّ‬
‫ال بد من قدر من التّنسيب‪.‬‬
‫في كل األحوال‪ ،‬ال توجد أجوبة جيدة عن أسئلة سيئة‪.‬‬
‫يتوجب علينا أن نسائل السؤال أوالً‪.‬‬
‫لذلك ّ‬
‫‪17‬‬
‫ما المقصود بالقرآن؟‬
‫بمعزل عن النّزعات االختزالية‪ ،‬في ش ّقيها الغيبي‬
‫والوضعاني‪ّ ،‬‬
‫يدل القرآن كما سبق القول على ثالث ظواهر متباينة‬
‫ال يجوز الخلط بينها ‪:‬‬
‫‪ -1‬الوحي الرباني‪ ،‬وهو يحيل إلى الصور الوحيانية التي‬
‫قوته التخييلية كما يقول ٌّ‬
‫كل‬ ‫الرسول وتم ّثلها‪ ،‬إما عبر ّ‬
‫استشعرها ّ‬
‫النبوة‪ ،‬أو عبر القلب‬
‫من الفارابي وابن عربي وسبينوزا عن تجارب ّ‬
‫والوجدان كما يشرح أحمد القبانجي‪ .‬وفي األخير فإن كالم القرآن‬
‫هو كالم النبي المؤ َّيد باإلرادة اإللهية كما يوضح محمد مجتهد‬
‫الشبستري‪.‬‬
‫الرسول في تأويل‬ ‫المحمدي‪ ،‬وهو ثمرة جهد ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪ -2‬القرآن‬
‫الوحي وترجمة اإلشارات اإللهية إلى عبارات بشرية‪ ،‬انطالق ًا من‬
‫وعيه وثقافته ومزاجه وشخصيته وقدراته التّأويلية‪ .‬وقد استغرق‬
‫الزمن‪ .‬والمؤكد أن هذا الفارق‬‫هذا الجهد ما يقارب ُربع قرن من ّ‬
‫بين القرآن المحمدي والوحي الرباني قد سبق إلى التعبير عنه‬
‫المصلحان الدينيان اإليرانيان عبد الكريم شروس(‪ )1‬والشيخ‬
‫(‪)2‬‬
‫محمد مجتهد الشبستري‬
‫‪ -3‬المصحف العثماني‪ ،‬وهو ثمرة جهد المسلمين في‬
‫تحويل القرآن المحمدي –خالل مرحلة أولى‪ -‬من آيات شفهية‬
‫(‪ )1‬عبد الكريم شروس‪ ،‬بسط التجربة النبوية‪ ،‬ترجمة أحمد القبانجي‪ ،‬منشورات الجمل‪ ،‬بيروت‬
‫‪ -‬بغداد‪.2009 ،‬‬
‫(‪ )2‬الشيخ محمد مجتهد الشبستري‪ ،‬قراءة بشرية للدين‪ ،‬ترجمة أحمد القبانجي‪ ،‬منشورات‬
‫الجمل‪ ،‬بيروت ‪ -‬بغداد ‪.2009‬‬

‫‪18‬‬
‫ثم –خالل مرحلة ثانية‪ -‬من‬ ‫متناثرة إلى مصاحف متعددة‪ّ ،‬‬
‫مصاحف متعددة إلى مصحف واحد وجامع‪ ،‬وفق نمط مع ّين‬
‫من التأليف والتبويب والتّرتيب‪ ،‬وبحسب قواعد محدّ دة في اللغة‬
‫والكتابة والخط‪ .‬وقد استغرق هذا الجهد زهاء نصف قرن من‬
‫تمت مفهمة هذا الجهد على يد‬ ‫الزمن على األقل‪ .‬وللتذكير‪ ،‬فقد ّ‬
‫جورج طرابيشي‪ ،‬في حديثه عن « َم ْص َحفة القرآن»(‪.)1‬‬
‫نعيد القول بعبارة أخرى ‪ :‬عند الكالم عن الخطاب القرآني‪،‬‬
‫نحن أمام ثالثة مستويات من التمظهر ‪ :‬أوالً‪ ،‬الوحي الرباني‪ ،‬وهو‬
‫الرسول ويحاول‬ ‫عبارة عن صور وحيانية «فيها غموض» يستشعرها ّ‬
‫التعبير عنها انطالق ًا من ثقافته ولغته وبيئته؛ ثاني ًا‪ ،‬القرآن المحمدي‪،‬‬
‫وهو عبارة عن آيات شفهية في الغالب متفرقة في الصدور وبعض‬
‫األدوات‪ ،‬بما فيها اآليات التي ُيفترض أو ُيحتمل أنها نُسخت أو‬
‫ننسها‪ )...‬اآلية ‪106‬من‬ ‫ربما يعتقد أنها نُسيت (ما ننسخ من آية أو ِ‬
‫ُ‬
‫سورة البقرة؛ ثالث ًا‪ ،‬المصحف العثماني وهو الذي اتخذ شكل نص‬
‫ونونه ون ّقطه المسلمون بعد وفاة‬ ‫رسمي‪ ،‬جمعه ورتبه وشكّله ّ‬
‫الرسول‪ ،‬وعبر مسار استغرق عشرات السنين‪.‬‬ ‫ّ‬
‫المشكلة بكل وضوح أن تعا ُملنا مع القرآن لم يعد ممكن ًا إالّ‬
‫من خالل تمظهره األخير‪ ،‬أي المصحف العثماني‪ .‬بل‪ ،‬حتى هذا‬
‫المستوى ال ندركه إالّ تجاوز ًا‪ ،‬طالما أن النّسخ األصلية لمصحف‬
‫عثمان كانت وال تزال في حكم المفقودة‪ ،‬ولسنا نملك اليوم من‬
‫تمت إعادة كتابتها عقب‬ ‫أمرها سوى النّسخ المتأخرة‪ ،‬وهي نسخ ّ‬
‫(‪ )1‬جورج طرابيشي‪ ،‬إشكاليات العقل العربي‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬بيروت ‪ -‬لندن‪ ،‬الطبعة الرابعة ‪،2011‬‬
‫ص ‪.63 :‬‬

‫‪19‬‬
‫تقعيد اللغة والكتابة والخط‪ ،‬وعلى األرجح في زمن خالفة عبد‬
‫الملك بن مروان‪.‬‬
‫السؤال ‪ :‬أين «كالم الله» من كل هذا؟‬
‫اإلجابة ‪ :‬إننا ال نملك من «كالم الله» غير «كالم رسول الله»‬
‫على وجه التّحديد‪.‬‬
‫وهذا ما ينسجم إلى حد ما مع االتجاه الذي يدعو إليه الشيخ‬
‫محمد الشبستري حين كتب يقول ‪« :‬من الواضح أنّنا لو تبنّينا هذا‬
‫فإن الكالم الوحياني الذي نقله النبي للناس يصبح كالم‬ ‫االتجاه ّ‬
‫ذلك االنسان النبي الذي يتميز بتأييد اإلرادة اإللهية له‪ ،‬وفي هذه‬
‫الصورة‪ ،‬وبما أن هذا الكالم هو كالم بشر‪ ،‬فسوف يكون من‬
‫الممكن فهمه من خالل المعايير الموجودة لفهم كالم اإلنسان»(‪.)1‬‬
‫لكن‪ ،‬رغم ذلك‪ ،‬يبقى المشكل شائك ًا بعض ّ‬
‫الشيء!‬
‫مبسط وعبر طرح سؤال‬
‫أقترح إعادة مقاربة المسألة بأسلوب ّ‬
‫واضح حول عالقة الخبز بالقمح‪.‬‬
‫بكل تأكيد‪ ،‬لوال القمح لما كان هناك خبز‪ .‬لكن هل هذا‬
‫يكفي حتى نقول إن المزارع هو صانع الخبز!؟‬
‫ليس ثمة من شك في أن صانع الخبز هو الخ ّباز وليس‬
‫المزارع‪ ،‬ولكن ما كان لهذا األخير أن يصنع الخبز لوال الما ّدة‬
‫األولية التي هي القمح‪.‬‬
‫(‪ )1‬الشيخ محمد الشبستري‪ ،‬قراءة بشرية للدين‪ ،‬ترجمة أحمد القبانجي‪ ،‬منشورات الجمل‬
‫بيروت‪-‬بغداد‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،2009 ،‬ص ‪.199 :‬‬

‫‪20‬‬
‫وهكذا‪..‬‬
‫نسبة القرآن إلى الله هي على نحو نسبة الخبز إلى المزارع‪.‬‬
‫بمعنى ‪:‬‬
‫لوال وجود الله لما ُوجد القرآن‪ ،‬لكن ليس القرآن كالم‬
‫الله‪ ،‬مثلما ليس الخبز صنيعة المزارع‪ .‬الله هو ُمنتج الما ّدة الخام‬
‫التي هي الوحي‪ ،‬مثلما أن المزارع هو منتج المادة الخام التي هي‬
‫حول القمح إلى خبز وفق رؤيته‬ ‫القمح‪ .‬وكما أن الخ ّباز هو الذي ّ‬
‫الرسول هو‬ ‫الخاصة ومهاراته الفنية وقدراته اإلبداعية‪ ،‬كذلك فإن ّ‬
‫َم ْن قام بتأويل الوحي وتحويله إلى عبارات وكلمات وفق رؤيته‬
‫الخاصة‪.‬‬
‫الرسول محمد‬ ‫أن القرآن هو كالم ّ‬ ‫نستخلص من ذلك ّ‬
‫عليه السالم‪ ،‬كالمه الذي ُيع ّبر عن ثقافته ولغته وشخصيته وبيئته‬
‫وعصره‪ .‬وهذا دون أن ننفي دور الله الذي هو الموحي ومصدر‬
‫الما ّدة الخام‪.‬‬
‫وباألحرى‪ ،‬حين نضع نصب أعيننا أنّنا ال نعرف من أمر‬
‫المدون على نحو مع ّين‬ ‫ّ‬ ‫الخطاب القرآني سوى المصحف‬
‫من قواعد الكتابة وضوابط اإلمالء وظروف الجمع وخلف ّيات‬
‫الترتيب‪ ،‬يكون بوسعنا القول إنّنا أمام نص بشري بال خالف‪ ،‬أو‬
‫هكذا ُيفترض‪.‬‬
‫عود على بدء‪.‬‬
‫ر ّبما تبدو األمور أكثر وضوح ًا اآلن‪ ،‬فعند الكالم عن القرآن‬
‫ال يجوز الخلط بين ثالثة مستويات ‪:‬‬
‫‪21‬‬
‫الرسول‪ ،‬و ُيمثل الما ّدة‬
‫ألهم ّ‬‫أوالً‪ ،‬الوحي اإلالهي الذي َ‬
‫المحمدي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الخام‪ ،‬وال نعرفه إالّ عبر التّأويل‬
‫ثاني ًا‪ ،‬القرآن المحمدي‪ ،‬وهو نتاج تأويل ّ‬
‫الرسول إلشارات‬
‫الوحي اإللهي‪ ،‬وهو بــدوره ال نعرفه إالّ من خالل التأويل‬
‫المصحفي‪.‬‬
‫ثالث ًا‪ ،‬المصحف العثماني‪ ،‬ويمثل الصياغة النصية ّ‬
‫الرسمية‬
‫للقرآن المحمدي‪ ،‬الذي هو بدوره أيض ًا تأويل للوحي‪.‬‬
‫هذا يعني أننا ال نملك من أمر القرآن اليوم سوى ٍ‬
‫نسخ لنسخ‪،‬‬
‫وال نعرف عنه سوى تأويالت لتأويالت‪ .‬وهذا يكفي لكي نقول إن‬
‫نُسخ المصحف العثماني التي صارت بين أيدينا –باختالفها في‬
‫القراءات‪ -‬نصوص بشرية تاريخية تراثية وأرض ّية‪ ،‬بكل ما تعنيه‬
‫إلهي‪ ،‬لكن‬
‫األول إلهام ّ‬
‫أن منبعها ّ‬ ‫الكلمات من دالالت‪ .‬صحيح ّ‬
‫ال ماء يعود إلى السماء غيم ًا كما كان‪.‬‬
‫واألصح أن نقول ‪:‬‬
‫الرسول عليه السالم قرآن ًا‬‫إن الوحي اإلالهي بعد أن ص ّيره ّ‬
‫نص ًا بشري ًا‬
‫محمدي ًا‪ ،‬ثم ص ّيره المسلمون مصحف ًا عثماني ًا‪ ،‬صار ّ‬
‫بلغة البشر وعلى قدر أفهامهم‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫هل هناك ن�ص ّ‬
‫مقد�ص؟‬

‫سمو‬
‫ّ‬ ‫كانت األديان ‪-‬ولعلها ال تزال‪ -‬ثورة روح ّية غايتها‬
‫الوجدان وتهذيب االنفعاالت البدائية لإلنسان‪ .‬لكنها ظهرت‬
‫في مجتمعات العالم القديم‪ ،‬عالم ما قبل الحداثة وما قبل دولة‬
‫المؤسسات والحق والقانون‪ ،‬ما قبل الثورة الكوبرنيكية والعصر‬
‫الصناعي والعلم الحديث‪ ،‬وما قبل اإلعالن العالمي لحقوق‬
‫اإلنسان وق َيم المواطنة وحقوق المرأة والفرد واألقليات والطفل‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬جاءت األديان موسومة بميسم القدامة‪ ،‬أي بمفاهيم‬
‫نجمدها في زمانها ونمدّ هذا‬
‫وقيم العالم القديم‪ ،‬وبذلك عندم ِّ‬
‫الزمان إلى كل عصر تبدو وكأنها أمست عائق ًا يحول دون بلوغنا‬
‫مرحلة الحداثة‪.‬‬
‫ر ّبما نحن نقف اليوم على أبواب الحداثة‪ ،‬أو هكذا ُيفترض‪،‬‬
‫لكنّنا نقف عاجزين مترددين‪ ،‬خائفين متوجسين‪ ،‬نتقدّ م بمقدار‪،‬‬
‫الرجوع‪.‬‬
‫ونتر ّدد أو نرتدّ بمقادير‪ .‬ال نجرؤ على الولوج وال نستطيع ّ‬
‫أمامنا عقبة كأداء تعيقنا وتمنعنا ‪ :‬النص الديني‪ ،‬بكل تراكماته‬
‫ومتفرعاته‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪23‬‬
‫الرهان على مرجعية الخطاب القرآني لتقويض سلطة‬ ‫إمكانية ِّ‬
‫النص الحديثي‪ ،‬واالنعتاق من َأسر نصوص الحديث التي شهدت‬
‫المسوغ لمشروع المفكر العربي‬ ‫ِّ‬ ‫تضخم ًا تصاعدي ًا‪ ،‬هي المنطلق‬
‫جورج طرابيشي‪ ،‬والمتو ّلد عن ملحمة نقد نقد العقل العربي‪ ،‬بدء ًا‬
‫من نظرية العقل وانتهاء إلى من إسالم القرآن إلى إسالم الحديث‪.‬‬
‫جل القرآنيين‪ ،‬أو نحسب األمر كذلك‪.‬‬ ‫وفي هذا يوافقه ّ‬
‫لكن يبقى إجراء آخر‪ ،‬خطوة أخرى قبل الخروج من عتمة‬
‫القدامة ودخول عتبة الحداثة‪ .‬ذلك أن االنغالق الالّهوتي الذي‬
‫حصلة انقالبين قديمين‬ ‫ال نزال نتخبط في ظلمته إلى اليوم هو ُم ِّ‬
‫مجرد انقالب واحد‪ .‬نعم‪ ،‬هناك «انقالب سنّي»‪ ،‬استعرضه‬ ‫وليس ّ‬
‫الرسول إلى أقنوم‬ ‫حول ّ‬ ‫طرابيشي بإسهاب‪ ،‬وهو االنقالب الذي ّ‬
‫ثان يجاور الذات اإللهية بل يجاوزها أحيان ًا‪ ،‬ما أفسد مبدأ التوحيد‬ ‫ٍ‬
‫الربوبي الذي هو القصد والغاية‪ .‬لكن الحاصل أيض ًا «انقالب‬ ‫ّ‬
‫مصحفي» بموجبه أصبح النص القرآني ذاته أقنوم ًا ثاني ًا أو ثالث ًا‪.‬‬
‫الرباني النقالبين متواليين أو‬ ‫إجماالً نقول‪ّ ،‬‬
‫تعرض اإلسالم ّ‬
‫متوازيين ‪ :‬انقالب سني‪ /‬أصحاحي‪ ،‬وانقالب قرآني‪ /‬مصحفي‪.‬‬
‫حمل المسلمون النص القرآني على كل الوجوه المحتملة‪،‬‬ ‫َ‬
‫جربوا جميع المستويات‬ ‫طرقوا كل الممكنات التفسيرية المتاحة‪ّ ،‬‬
‫التأويلية‪ ،‬من مناهج الظاهر إلى مدارج الباطن‪ ،‬مدّ دوا القياس الى‬
‫أبعد مدى ممكن‪ ،‬جربوا االنتقائية بكافة متاحاتها‪ ،‬لكن ال جدوى‬
‫تُرجى‪ .‬كما لو كانوا يحملون صخرة سيزيف إلى األعلى ثم‬
‫تتدحرج‪ ،‬فيعودون إليها من جديد‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫تمر عبر طريق‬
‫هل المقصود أن قدر الحداثة اإلسالمية أن ّ‬
‫الخروج على الدين؟‬
‫فرق بين الخروج على الدين والخروج من الدين‪ ،‬كما‬
‫أوضح طرابيشي في أكثر من مناسبة‪ .‬الخروج على الدين قرار‬
‫شخصي يعلنه الفرد في أي لحظة‪ ،‬والخروج من الدين مشروع‬
‫مجتمعي ينطلق من «ديانة الشعب» ويسعى إلى أن يضفي عليها‬
‫أكبر قدر من المعقولية والعلمنة‪.‬‬
‫الحس السليم‪ ،‬ال مشكلة في أن نؤمن بالله‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫من وجهة نظر‬
‫بل قد يمثل اإليمان بالله خبرة روح ّية مفتوحة على سمو الشخص‬
‫وتسامي النّفس وسعة الخيال‪ .‬إنما المشكلة كل المشكلة أن نؤمن‬
‫بنصوص دينية قديمة ومتقادمة تُك ِّبل العقل وتشل اإلرادة وتقتل‬
‫اإلبداع‪ ،‬ثم نقول عنها إنها نصوص الله‪ .‬كما لو كان الله كاتب ًا أو‬
‫مدون ًا؟ وهذا ال يقبله العقل السليم إال من باب التسليم‬‫مؤلف ًا أو ِّ‬
‫االنقيادي الذي قد يفتح باب اإليمان األعمى بأي شيء‪ .‬وهنا‬
‫تتجلى إحدى ثغرات العقالنية الكانطية‪.‬‬
‫معضلة النصوص الدينية لكافة األديان (مثل المصاحف‬
‫واألناجيل واألسفار والوصايا والصحف والزبور‪ )...‬أنها كُتِبت‬
‫في مرحلة كان فيها المجتمع بال مؤسسات‪ ،‬والسلطة بال قوانين‪،‬‬
‫والمعرفة بال مناهج‪ ،‬واللغة بال قواعد‪ .‬وبالتالي‪ ،‬طبيعي أن تبدو‬
‫لنا تلك النصوص اليوم قاصرة عن إنتاج أي نظام ِق َيمي أو معرفي‬
‫ف ّعال‪ ،‬بقدر ما تبدو للبعض أنها قابلة لكل التأويالت والتفسيرات‬
‫مهما بدت متناقضة‪.‬‬
‫‪25‬‬
‫غير أن الحديث عن القصور ليس انتقاص ًا من الذات اإللهية‬
‫كما يظ ّن « َع َبدة النصوص»‪ ،‬لكنّه تأكيد لحقيقة بديهية ‪ :‬الكمال‬
‫للخالق دون المخلوق‪.‬‬
‫بكل تأكيد‪ ،‬القرآن مخلوق كما أكد المعتزلة قديم ًا‪ .‬ونضيف‬
‫بأن جميع المخلوقات محكوم عليها بالنقص والنسبية وال َع َرضية‬
‫والزوال‪ .‬وإذا كان هذا شأن كل مخلوق‪ ،‬بما في ذلك المخلوق‬
‫وحي‬
‫ٌ‬ ‫البشري أيض ًا‪ ،‬فما بالك بالقرآن‪ ،‬وهو ‪-‬في بدئه ومنتهاه‪-‬‬
‫نبي «يمشي في األسواق»‪ ،‬ثم تم ّثله وفق تصوراته‪،‬‬ ‫إشاري تل ّقاه ّ‬
‫تأوله تبع ًا لثقافته‪ ،‬ثم صاغه في شكل عبارات بحسب المتاح‬ ‫ثم ّ‬
‫دونه المدونون باعتماد أدوات بعيدة‬ ‫اللغوي والمفاهيمي لديه‪ ،‬ثم ّ‬
‫عن الدِّ ّقة (عظام وأوراق أشجار وصفائح حجرية‪ ،)...‬ثم ُجمع‬
‫ّأول األمر كيفما أمكن‪ ،‬ثم‪ ..‬للحكاية تفاصيل سنأتي على ذكرها‬
‫أو ذكر بعضها‪.‬‬
‫في كل األحوال‪ ،‬ال وجود لكالم كامل ومكتمل‪.‬‬
‫هكذا حال القرآن الذي هو كالم ُأنشئ بلغة أنشأها البشر‪.‬‬
‫ال مثالي ًا لمعضلة التفاهم؛‬ ‫فضال عما قيل‪ّ ،‬‬
‫فإن الكالم ليس ح ً‬
‫إذ يتيح التّحاور بقدرما يضع ألغام ًا في طريق التفاهم‪.‬‬
‫الكالم اصطالح ًا يعني الجرح واأللم‪.‬‬
‫هكذا يكون اإلشكال في النص القرآني مزدوج ًا؛ فهو أوالً‪،‬‬
‫يسري على سائر المخلوقات‪ ،‬وهو‬ ‫نص مخلوق يسري عليه ما ْ‬
‫ثاني ًا‪ ،‬نص قيل وكُتب بلغة بشرية‪ ،‬طبيعية‪ ،‬وضعية‪ ،‬كانت ال تزال‬
‫قيد التقعيد‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫وهو خطاب يعكس في مضمونه مفاهيم وقيم العالم‬
‫القديم‪ ،‬عالم ما قبل نشوء الدولة‪ ،‬وما قبل نشوء العلم‪ ،‬وما قبل‬
‫قيم المواطنة‪.‬‬
‫األصل في الخطاب القرآني ‪-‬باعتباره وحي ًا إلهي ًا صار كالم ًا‬
‫مخلوق ًا ومؤ ّلف ًا بلغة بشرية‪ -‬هو نقص التعبير وسوء الفهم‪ .‬لذلك‪،‬‬
‫وأدق وأعمق ما قيل عنه إن آياته حمالة أوجه‪ ،‬وهذا ما قاله‬ ‫أصدق ّ‬
‫اإلمام علي بن أبي طالب‪.‬‬
‫في المقابل‪ ،‬جانبان باقيان ما بقي القرآن ‪ :‬اإليقاع الشعري‬
‫الجمالي ال سيما في اآليات المكيات‪ ،‬والو ْقع التع ّبدي االبتهالي في‬
‫مجمل القرآن‪ .‬بل‪ ،‬لعل األمر متعلق بشكل واحد‪ ،‬هو نفس الشكل‪،‬‬
‫طالما الجمال واالبتهال سيان‪ .‬وذلك هو الروح اإلالهي فيه‪.‬‬
‫هذا يعني أن المضامين المعرفية والتشريعية المحضة للنص‬
‫الزوال‪ ،‬بل لعلها تبدلت وزال بعضها‬
‫الديني آيلة إلى التبدل أو ّ‬
‫بزوال أسباب نزولها‪.‬‬
‫لقد ظهرت األديان في مرحلة ما قبل الدولة الحديثة وما قبل‬
‫العلم الحديث‪ .‬وطبيعي أن تتأثر بمفاهيم وقيم العالم القديم‪ ،‬سواء‬
‫من حيث عالقة اإلنسان باإلنسان‪ ،‬أو عالقة اإلنسان بالطبيعة‪ ،‬أو‬
‫عالقة اإلنسان بالله‪ .‬لذلك‪ ،‬جاءت النصوص الدينية موسومة‬
‫بميسم النظرة السحرية للعالم‪.‬‬
‫َ‬
‫فإن اإلصالح الديني –الذي لم يكتمل في الغرب‬‫هكذا‪ّ ،‬‬
‫لكنه في اإلسالم لم يبدأ بعد‪ -‬رهين بتحرير الخطاب الديني‬
‫من مفاهيم وقيم العالم القديم‪ ،‬أي تحريره من مفاهيم الطاعة‬
‫‪27‬‬
‫والوالء والتحريم‪ ،‬ومن قيم العار والعورة والتابو‪ ،‬ومن وساوس‬
‫التعويذات والرقية والتنجيم‪.‬‬
‫عدا هذا‪ ،‬لن يكون هناك إصالح ديني وال هم يحزنون‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬هل أفق كهذا ممكن اآلن؟‬
‫الممكن هنا يخدش الحساسية الدينية‪ .‬لكن‪ ،‬هل بغير‬‫لعل ُ‬
‫هذا يكون إصالح ًا ؟‬
‫ال ‪ :‬إذا كان الدين ينتمي إلى العالم‬ ‫رب سائل يتساءل قب ً‬
‫ّ‬
‫القديم؟ وإذا كان مكان األديان متحف التاريخ ؟ فما جدوى هذا‬
‫الوقت المبذول في التفكير في الدين واإلصالح الديني إذ ًا؟‬
‫تصور وجود عالم بال‬ ‫ّ‬ ‫حقا‪ ،‬ال أملك خياالً يمكّنني من‬
‫أديان‪ .‬لكني في المقابل سيكون وعيي جامد ًا متجمد ًا حتى أظ ّن‬
‫أن األديان ستدوم بنفس تصوراتها السحرية إلى األبد‪.‬‬
‫ينطبق هذا القول على اإلسالم أيض ًا‪ .‬بل هو عليه أشدّ‬
‫انطباق ًا‪.‬‬
‫عمر اإلسالم طويالً‪ .‬لكن للبقاء ثمن‪ ،‬إذ‬
‫الراجح أن ُي ِّ‬
‫من ّ‬
‫الكثير من «مس َّلمات» اإلسالم فنيت‪ ،‬والكثيرمنها ستفنى ولن‬
‫يبقى منها سوى أضغاث أوهام‪.‬‬
‫ماذا سيبقى من هذا اإلسالم؟‬
‫الربوبي‬
‫ببساطة‪ ،‬مبدأ أساس يستحق البقاء ‪ :‬مبدأ التّوحيد ّ‬
‫الخالص (ال إله إال الله)‪ ،‬بال زوائد تنتمي في الغالب أو على‬
‫األرجح إلى العالم القديم‪ .‬عالم كان يوازنه األنبياء كما كان يفعل‬
‫ذلك اآللهة من قبل‪ .‬في المقابل‪ ،‬هناك ما ينتظر شهادة الوفاة‪:‬‬

‫‪28‬‬
‫شريعة األحكام البدوية والبدائية‪ ،‬من قبيل القصاص والفيء‬
‫والرجم أو الجلد‪ ،‬وكل ما ينتمي إلى‬‫والحدود والجزية والسبي ّ‬
‫أزمنة ما قبل الدولة‪ ،‬بل باألحرى ما قبل دولة القانون‪.‬‬
‫مشكلة األصوليين أنهم قلبوا وشقلبوا المعادلة‪ ،‬وبدل‬
‫التركيز على العقيدة التي هي جوهر رسالة اإلسالم‪ ،‬فقد شغلوا‬
‫الناس بكثرة الكالم عن الشريعة‪ ،‬والتي هي كالم الفقهاء على‬
‫وجه التحديد‪ ،‬بمعنى أنها ثمرة جهد الفقهاء على مدى الف عام أو‬
‫يزيد لغاية استنباط أحكام وقوانين وتشريعات من النص القرآني‬
‫والحديثي وحتى الصحابي أو التابعي في بعض األحيان‪ .‬ولم يكن‬
‫ذلك بريئ ًا‪ ،‬بل لم يكن لوجه الله‪ ،‬إنما هو في غالبيته‪ ،‬إن لم يكن‬
‫كله‪ ،‬لوجه السلطة والسلطان‪ .‬في المقابل‪ ،‬أمست العقيدة هي‬
‫المسكوت عنه داخل الخطاب األصولي‪ .‬لماذا؟ من جهة أولى‪،‬‬
‫ألن الشريعة تمثل ال ُبعد التس ّلطي المنسجم مع المزاج األصولي؛‬
‫الربوبي‪،‬‬
‫التحرري للتوحيد ّ‬
‫ّ‬ ‫ومن جهة ثانية‪ ،‬ألن العقيدة تمثل ال ُبعد‬
‫ينصبون‬
‫وتفضح‪ ،‬ابتداء من يزعمون الكالم باسم الدين ومن ِّ‬
‫حراس الدين‪ ،‬ومن يدّ عون أنهم هم أهل الدِّ ين‪.‬‬ ‫أنفسهم ّ‬
‫نتصور‬
‫ّ‬ ‫بالطبع‪ ،‬سنحتاج إلى غير قليل من الخيال حتى‬
‫إسالم ًا جديد ًا مختلف ًا عن اإلسالم الذي ورثناه عن تراثنا‪ .‬لكن‪،‬‬
‫أليس الخيال نفسه جوهر التجربة الدينية كما كان يرى ابن عربي‪،‬‬
‫والفارابي‪ ،‬وسبينوزا وغيرهم؟‬
‫حراسه منعوا النّاس من إِعمال‬
‫في مقابل ذلك‪ ،‬آفة الدين أن ّ‬
‫المحال‪ ،‬ومن ثم حرموا الدين من‬‫الخيال وإِجالل الجمال وطلب ُ‬
‫مجرد شعائر شكلية وصلوات‬
‫روح التطور وطاقة اإلبداع‪ ،‬وجعلوه ّ‬
‫‪29‬‬
‫ُرسخ الزمن الدائري في‬ ‫صورية وتعاليم م ِّيتة وحركات تكرارية ت ِّ‬
‫الوعي وفي األفعال‪.‬‬
‫آفة الدين «إيمان العجائز» الذي ُيع ِّطل الطموح ويقتل اإلبداع‬
‫ويردد في كل مناسبة أو من دون مناسبة ‪ :‬كل بدعة ضاللة‪ ،‬وكل‬
‫ضاللة في النار‪ .‬وإيمان أولئك الذين يقتلون كل إيمان‪ ،‬ألئك الذين‬
‫فيحولونهم إلى تابعين لهم‬
‫ّ‬ ‫تصورهم لإليمان‬
‫يفرضون على الناس ّ‬
‫وآلرائهم بدل أن يتبعوا جوارحهم التي تد ّلهم إلى اإليمان الحقيقي‪.‬‬
‫آفتنا أن فقهاءنا المتأخرين أغلقوا باب النقاش في كل‬
‫المسائل ‪ :‬الذات اإللهية وصفاتها‪ ،‬والمصاحف واختالفاتها‪،‬‬
‫واألصحاح وإسناداتها‪ ،‬إلخ‪ .‬في المقابل‪ ،‬لم يكن االنغالق‬
‫العقائدي داخل تراثنا المبكِّر بهذا النحو الذي صار عليه اليوم‪ ،‬بل‬
‫كان مجال النقاش أوسع وأرحب‪.‬‬
‫الرؤية واتسعت العبارة (إذا‬
‫فهل ضاقت الصدور؟ أم ضاقت ّ‬
‫قلبنا مقولة النفري الشهيرة)؟‬
‫من أمثلة هذا الضيق أن كان علماء القرآن والمصاحف‬
‫والتفسير في الماضي أمثال السجستاني والطبري والقرطبي‪ ،‬وحتى‬
‫المتأخرون منهم مثل السيوطي‪ ،‬يتكلمون بال حرج عن اآليات التي‬
‫ضاعت أو ُفقدت‪ ،‬أو األخطاء النحوية في المصحف العثماني‪ ،‬أو‬
‫المجاز القصصي في القرآن‪ ،‬بل حتى المجاز األخروي‪ ،‬ومسائل‬
‫كثيرة في اإللهيات والنقليات واألخرويات‪ ،‬من دون أدنى حرج‪ .‬أما‬
‫اليوم فيعدّ الخوض في مثل هذه القضايا ضرب ًا من الكفر واإلساءة‬
‫للمشاعر الدينية «الهشة» للمسلمين‪ .‬كما لو أننا أصبحنا فجأة أ ّمة‬
‫من المعاقين واليتامى وممن تجب مراعاة مشاعرهم‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫هل هي أعراض متأخرة لمرض الهزيمة‪ ،‬تلك الهزيمة التي‬
‫انتقلت من واقعة تاريخية لتغدو جرح ًا نرجسي ًا‪ ،‬فعصاب ًا وسواسي ًا‪،‬‬
‫ثم نكوص ًا جماعي ًا؟‬
‫مشكلتنا أنّنا حبسنا أنفاسنا وحاصرنا أنفسنا في المغاور‬
‫الرحبة وخرير المياه‬
‫المقفرة‪ .‬وبدل البحث عن الله في سعة الحياة ّ‬
‫الرطبة‪ ،‬بدل أن نبحث عن الله في الجمال‬ ‫العذبة وعذوبة الشفاه ّ‬
‫واالبداع وشاعرية وشغف الحياة‪ ،‬أصبحنا نفتش عنه في نصوص‬
‫الموتى‪ ،‬نردد ما قالوا‪ ،‬نؤ ّيد ما فعلوا‪ ،‬نق ّلد ما علموا وما جهلوا‪ ،‬ال‬
‫نَجرؤ على عصيانهم وال نقدر على إحيائهم‪ .‬وبهذا النحو تنقلب‬
‫الرجوع إلى السلف الميت بدي ً‬
‫ال‬ ‫اآلية (وإليه ترجعون)‪ ،‬ليصبح ّ‬
‫الحي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عن مرجعية الله‬
‫باسم اإلسالم وبدعوى حماية اإلسالم ((ممن!؟)) جاءت‬
‫المرة نحو عصور العشائر البدائية‪ ،‬حيث ال تبدو السلفية‬
‫ر ّدتنا هذه ّ‬
‫أكثر من ديانة بدائية أساسها عبادة األسالف‪.‬‬
‫إنها فضيحة بكل المقاييس‪.‬‬
‫في هذا المنحدر النكوصي ارتدّ ت الثقافة الدينية اإلسالمية‬
‫الربوبي‪ ،‬وسقطت سهو ًا أو قصد ًا في شرك‬ ‫عن مبدأ التوحيد ّ‬
‫تقديس بل تأليه النص الديني‪ .‬مع أن النص الديني هو في األخير‬
‫مجموعة نصوص تنتمي إلى عالم ما قبل دولة المؤسسات‪ ،‬وما‬
‫قبل العلم الحديث‪ ،‬وما قبل اإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان‪.‬‬
‫لقد أوصلنا تقديس النص الديني والعجز عن تخطي أحكامه‬
‫إلى ُسبات العقل‪ ،‬وجمود الوجدان‪ ،‬وضمور اإلرادة‪ .‬أوصلنا إلى‬
‫إيمان العجائز‪ ،‬ذلك اإليمان القائم على الخوف‪.‬‬
‫‪31‬‬
‫مثل هذا الوضع ال يترك للحس السليم مجاالً ألي كالم زائد‬
‫أو ساقط في أسواق المزاد الديني؛ إذ سيحاسبنا الله‪ ،‬والتاريخ‬
‫أيض ًا‪ ،‬عن ضياع الوقت الباقي وهو قليل‪.‬‬
‫صدق ًا نقول ‪ :‬فكرة وجود الله (الواحد األحد‪ ،‬والذي ال‬
‫إله إال هو) فكرة نبيلة وجميلة‪ ،‬بل لعلها من أنبل وأجمل ما أبدع‬
‫الفالسفة واألنبياء على السواء‪ ،‬وهي أساس النزعة اإلنسانية‪ ،‬بل‬
‫أساس النزعة العقالنية أيض ًا‪ .‬لكن األسلوب الذي تناولت به كافة‬
‫النصوص الدينية فكرة التوحيد الربوبي ال يناسب في الغالب سوى‬
‫المستوى اإلدراكي والخلفية األخالقية والذوق الجمالي إلنسان‬
‫العالم القديم ‪ :‬عالم المشكاة والهودج والقبيلة والسيف والطاعة‬
‫والقصاص والجن والعفاريت والشياطين والسحرة والرقية‪.‬‬
‫وإذا كانت البشرية ال تزال بحاجة إلى الله‪ ،‬سواء بسبب رهبة‬
‫الموت وقلق العدم والمعقولية الطبيعة والكون وشاعرية الحياة‪،‬‬
‫مجرد نقص في األصل ولغز بال حل‪ ،‬فإن‬ ‫أو بسبب أن الوجود ّ‬
‫النّصوص الدينية «المقدّ سة» لكافة األديان‪ ،‬ومن ضمنها اإلسالم‪،‬‬
‫تنتمي إلى السياق التواصلي والق َيمي للعالم القديم‪ .‬وهي ما‬
‫عادت تلبي احتياجات مجتمعات الحداثة السياسية والديمقراطية‬
‫والحريات الفردية وحقوق اإلنسان‪.‬‬
‫المطلوب بالتالي‪ ،‬أن نخ ِّلص فكرة الله من كل مفاهيم وقيم‬
‫العالم القديم‪.‬‬
‫وإالّ‪..‬‬
‫ما معنى عبارة (الله أكبر) إن لم تكن تعني أن الله أكبر من كل‬

‫‪32‬‬
‫الكلمات واألشياء‪ ،‬وأكبر من التراث واألصحاح والمصاحف‪،‬‬
‫وأكبر من مكتسبات السلف خيرها وشرها؟‬
‫ما معنى عبارة (وإليه ترجعون) أو (إلينا مرجعكم)‪ ،‬التي‬
‫تتكرر في النص القرآني مرار ًا‪ ،‬إن لم تكن تعني أن ال مرجع دائم‬ ‫ّ‬
‫وال مرجعية أبدية ألي شيء آخر إال الله؟‬
‫التحول منها‬
‫ّ‬ ‫بل‪ ،‬حتى الذات اإللهية نفسها هي أقرب إلى‬
‫إلى الثبات‪ .‬ويكفينا بيان ًا أن الله يصف نفسه في القرآن الكريم بأنه‬
‫(كل يوم هو في شأن) الرحمان‪.29 -‬‬
‫ولست أدري إن كان بوسعي أن أجازف قليال بالقول إنه‬ ‫ُ‬
‫ما (كان عرشه على الماء) إالّ من حيث الصورة الوحيانية‪ ،‬ولما‬
‫يرمز له ركوب الماء من غياب للثبات وانعدام لالستقرار‪ ،‬بخالف‬
‫الرسول قد تم َّثل الصورة‬
‫اليابسة حيث الثبات واالستقرار‪ .‬ولعل ّ‬
‫«ح ْرف َّية»‪.‬‬
‫الوحيانية هنا بعبارات َ‬
‫وفي كل األحوال‪ ،‬ترتبط الصور الوحيانية بتمثالت ثقافية‬
‫وحدسية محدّ دة في الزمان والمكان‪ .‬فلقد كان مبدأ األلوهية في‬
‫العالم القديم يقوم على أساس مفاهيم العبودية‪ ،‬بما يعنيه ذلك من‬
‫تسليم وخضوع وخشوع‪ .‬وهذا ما كان ينسجم مع التركيبة النفسية‬
‫إلنسان العالم القديم‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬مثل هذا لم يعد يناسب إنسان الحداثة‪.‬‬
‫ما نحرص على تأكيده هو أن تقديس النص الديني الكتابي‬
‫–وهو تقديس ال يجوز لغير الذات اإللهية‪ -‬قد حرم فكرة الله‬
‫من ذلك االمتياز الشفوي الذي كان يسمح لها بأن تواكب النمو‬
‫العقلي والمعرفي واألخالقي لإلنسان‪.‬‬
‫‪33‬‬
‫ولذلك‪ ،‬فإن انتقال فكرة الله في اإلسالم من مستوى‬
‫الخطاب الوحياني واآليات ال َب ِّينات ذات الطابع الشفوي‪ ،‬كما‬
‫الرسول األمين قبل وفاته‪ ،‬في مجتمع قائم على الشفوية‪،‬‬ ‫تركها ّ‬
‫جمد‬
‫إلى مستوى نص كتابي ثابت ومقدَّ س ومحكم اإلغالق‪ ،‬قد ّ‬
‫األلوهية عند مستوى النمو العقلي واألخالقي للحظة تدوين النص‬
‫القرآني‪ .‬أي‪ ،‬لحظة « َم ْص َحفة القرآن»‪.‬‬
‫بالجملة التّوكيدية نقول ‪ :‬إلهنا أو ر ّبنا أو خالقنا ‪-‬أو الذي‬
‫الرؤى األكثر دقة وإشراق ًا‪ -‬بات محتَجز ًا داخل‬ ‫هو بال تعيين وفق ّ‬
‫سياج مفاهيم وتصورات نصوص تنتمي عموم ًا إلى العالم القديم‪،‬‬
‫عالم القدامة‪.‬‬
‫بأن انتقال فكرة الله من عالم القدامة‬ ‫لذلك‪ ،‬نؤكد مجدّ د ًا ّ‬
‫البائدة إلى عالم الحداثة المتجددة هو مشروع نبيل وجميل‬
‫أيض ًا‪ ،‬لكنّه يستدعي في المقابل قدرتنا على تحرير صورة الله‬
‫الربوبي من شوائب‬ ‫من تصورات التراث‪ ،‬وتخليص مبدأ التوحيد ّ‬
‫تقديس نصوص الموتى‪.‬‬
‫نتجرأ على النظر إلى أحكام‬
‫بمعنى أوضح‪ ،‬يتوجب علينا أن ّ‬
‫ما ُيسمى بالشريعة‪ ،‬فنتجاوز ما اليمكن قبوله‪ ،‬وما ينتمي الى‬
‫القدامة‪ ،‬أو يكفي أن نسقطها بالتقادم‪.‬‬
‫هذا واجب أخالقي‪ ،‬ومصلحة واقعية‪ ،‬وضرورة عقلية‪.‬‬
‫وال غرو‪ ،‬إذ (يبقى وجه ربك ذو الجالل واإلكرام) ‪ ،‬سورة‬
‫الرحمان‪ ،‬اآلية ‪.27‬‬

‫‪34‬‬
‫ما الوحي؟‬

‫«الحضارة اإلسالمية‪ ...‬حضارة فقه»‪ ،‬يقول الجابري(‪.)1‬‬


‫لكن‪ ،‬لر ّبما كان محمد علي الطباطبائي أكثر دقة –ربما من حيث ال‬
‫يحتسب‪ -‬حين قال ‪« :‬الحضارة اإلسالمية إنما هي حضارة النص‪،‬‬
‫وعلى رأسه نص القرآن الكريم»(‪ .)2‬غير أن السلطة المعرفية للنص‬
‫الديني لم تترك للعقل العربي اإلسالمي من هامش لحرية التفكير‬
‫فالراجح أن لحظة‬
‫خارج نطاق تفسير وتأويل «النص التأسيسي»‪ّ .‬‬
‫تدوين القرآن تمثل نسق اإلسناد المعرفي والفعلي للعقل اإلسالمي‪،‬‬
‫خالف ما يسميه الجابري وقبله أحمد أمين‪ ،‬بـ «عصر التدوين»‪ ،‬الذي‬
‫امتدّ بين منتصف القرن الثاني ومنتصف القرن الثالث الهجريين‪.‬‬
‫ليس تاريخ الثقافة اإلسالمية سوى تاريخ تفاسير وتأويالت‬
‫وشروحات ظ ّلت تحوم‪ ،‬وعي ًا أو الوعي ًا‪ ،‬حول نص تأسيسي أو‬
‫جسد‬
‫مرجعي كان وال يزال يمثل نسق اإلسناد المعرفي‪ ،‬ومن ثم ُي ِّ‬
‫عقال النظر العقلي ولجام االجتهاد الشرعي‪.‬‬
‫(‪ )1‬محمد عابد الجابـري‪ ،‬تكوين العقل العربي‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة األولى ‪،1984‬‬
‫ص‪.96 :‬‬
‫(‪ )2‬آية الله محمد علي الطباطبائي‪ ،‬مجلة البصائر‪ ،‬بيروت‪ ،‬العدد ‪ ،22‬شتاء ‪ ،97‬ص ‪.127 :‬‬

‫‪35‬‬
‫هكذا‪ ،‬مع استنفاذ ممكنات التفسير والتأويل عن مواجهة‬
‫المعضالت التي فرضها العصر الحديث‪ ،‬توقف العقل اإلسالمي‬
‫عن الحركة‪ ،‬وأصابه العطب‪.‬‬
‫وإذ يظن محمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد وأبو‬
‫يعرب المرزوقي ومحمد شحرور‪ ،‬وكثيرون غيرهم‪ّ ،‬‬
‫أن معركة‬
‫تأويل النص الديني ال تزال مفتوحة على ممكنات االستئناف‪،‬‬
‫وهي مفتوحة حتى أمام القوى العقالنية والعلمانية لتخوضها‬
‫أفضل اقتراح فرضيات‬‫وتدلو بدلوها‪ ،‬فإني‪ ،‬خالف ذلك الظ ّن‪ِّ ،‬‬
‫عمل أكثر معقولية وتواضع ًا‪.‬‬
‫تجرد‪ ،‬وبعد كل هذا التاريخ الطويل للنص القرآني الذي‬ ‫بكل ّ‬
‫ص ّيره المسلمون نص ًا مغلق ًا‪ ،‬بل سلطة مطلقة‪ ،‬يتوجب االعتراف‬
‫بأن تفسيرات وتأويالت الخطاب القرآني قد استنفدت‬ ‫في األخير ّ‬
‫محاوالت العصرنة والتحيين‪ ،‬وما عاد يفيد بالتالي أن نضيف إليه‬
‫فهم ًا جديد ًا سواء باعتماد التأويل الباطني (الفرق الباطنية)‪ ،‬أو التفسير‬
‫الظاهري (ابن حزم)‪ ،‬أو التفسير اإلشهادي (ابن عربي)‪ ،‬أو التفسير‬
‫البالغي (الزمخشري)‪ ،‬أو التفسير الفلسفي (فخر الدين الرازي)‪،‬‬
‫أو تفسير القرآن بالقرآن (محمد حسين الطباطبائي) أو التفسير‬
‫االجتماعي (محمد عبده)‪ ،‬أو التفسير الحركي (محمد حسين فضل‬
‫الله)‪ ،‬أو التفسير االصطالحي (محمد شحرور)‪ ،‬أو نحو ذلك‪ .‬فمن‬
‫خالل كل األوجه المتاحة والممكنة‪ ،‬يبدو أن المحاوالت الجديدة‪،‬‬
‫لم تستطع أن تنجح في دفع المجتمع اإلسالمي نحو عالم الحداثة‬
‫السياسية وتق ّبل الحريات الفردية وحقوق اإلنسان‪ ،‬بل ظلت هامشية‬
‫وعاجزة عن انتاج قوى حقيقية في هذا المجتمع تستطيع مواجهة‬

‫‪36‬‬
‫قوة التأثير التي يمثلها اإلسالم األصولي والسلفي الذي أنكر حتى‬
‫مشروعية هذه المحاوالت ووصفها بصفات تمتد ما بين الرفض‬
‫والخروج على الدين والكفر‪ .‬ولم يخرج حتى «اإلسالم المعتدل»‬
‫عن دائرة هذا التفسير‪ .‬بل وبسبب الخوف من قول الحقيقة عارية‪،‬‬
‫غابت النصوص التي تذهب الى لب المشكلة‪ :‬مواجهة مقولة‬
‫اإلسالم دين ودنيا‪ ،‬أي مواجهة حصر الدين بالعبادات والطقوس‬
‫من جهة‪ ،‬والشريعة من جهة أخرى‪ .‬هكذا غاب الدين الذي قوامه‬
‫اإليمان بالله‪ ،‬وهو إيمان فردي ال يمر عبر أي نص أو داعية أو‬
‫مؤسسة‪ ،‬أمام دين الدنيا الذي قوامه الشريعة والتكاليف‪.‬‬
‫تصور أي‬
‫وعلى سبيل االستدالل‪ ،‬لسنا بقادرين اليوم على ّ‬
‫تأويل حقوقي ومساواتي لآلية ( للذكر مثل حظ األنثيين) سورة‬
‫النساء‪ ،‬اآلية ‪ ،11‬إالّ أن يكون تبرير ًا لظروف نزول اآلية بالنظر‬
‫الرسول‪ ،‬مثلما‬ ‫إلى الوضع االجتماعي واالقتصادي القائم زمن ّ‬
‫يفعل ‪-‬بصيغ مختلفة‪ -‬كل من أبي يعرب المرزوقي ومحمد‬
‫الح َرج عن هذا‬
‫عابد الجابري ومحمد شحرور‪ ،‬وذلك ابتغاء رفع َ‬
‫يلتف عليه حتى المسلمون أنفسهم بتبريرات التتفق‬ ‫ّ‬ ‫الحكم الذي‬
‫يورث خالف ًا لحكم اآلية مع أن عمله‬ ‫مع النص‪ ،‬فال ُيعاقب الذي ّ‬
‫نص صريح‪ .‬إالّ أننا بهذا المنطق التبريري نقف‬‫مخالفة لحكم فيه ّ‬
‫موقف التماس األعذار والبحث عن ظروف تخفيفية ألحكام‪،‬‬
‫وردت في القرآن‪ ،‬تبدو وكأنها مجحفة بمقاييس العصر‪ .‬بل لعلها‬
‫تنكأ الجرح الذي تطلق عليه رجاء بن سالمة بـ «جرح التفضيل‬
‫اإللهي» للذكور على اإلناث(‪ .)1‬ذلك الجرح الذي ليس بوسع أي‬
‫(‪ )1‬رجاء بن سالمة‪ ،‬جرح التفضيل اإللهي‪ ،‬موقع األوان‪ 01 ،‬آذار (مارس) ‪.2007‬‬

‫‪37‬‬
‫تأويل جديد بلسمته‪ ،‬عدا اللجوء إلى آلية التعطيل‪ ،‬أو تجميد حكم‬
‫السوي‬
‫ّ‬ ‫اآلية‪ .‬إالّ أن حيلة التعطيل تطرح إشكاالت ال تقنع العقل‬
‫وال هي ترضي الفطرة السليمة‪.‬‬
‫إذ ًا‪ ،‬ال بد أن نواجه السؤال ‪ :‬ما مصير «النص الديني»؟‬
‫بالتأكيد‪ ،‬القرآن كالم نتلوه ونرتّله في صلواتنا ونتع َّبد به‪،‬‬
‫هكذا كنا وال نزال‪ .‬وهذا ال يطرح أي مشكلة دينية أو سياسية‪.‬‬
‫لكننا حين نضفي عليه صفة الدستور اإللهي فإننا ال نفعل سوى أن‬
‫وتصورات تنتمي إلى عصر‬ ‫ّ‬ ‫نق ِّيد آراءنا ومواقفنا السياسية بمفاهيم‬
‫نزول القرآن‪ ،‬عصر ما قبل نشوء الدولة الحديثة‪.‬‬
‫ولعل التعصب الذي يبديه عدد من المسلمين غالب ًا أو أحيان ًا‬
‫حول المفاهيم السياسية (وتحديد ًا ما قبل السياسية) الواردة في‬
‫نص ص ّيرناه‬ ‫الخطاب القرآني‪ ،‬ال يعدو أن يكون تغطية على أحكا ِم ٍّ‬
‫«مقدس ًا»‪ ،‬وجعلناه مؤ َّبد ًا‪ ،‬مع أنه ال يناسب سوى المستوى النفسي‬
‫واالجتماعي واللغوي إلنسان العالم القديم‪.‬‬
‫ولسنا نجد من حيلة لتحيين أحكامه أو لعصرنتها سوى‬
‫التحايل وااللتفاف عليها وتعطيل بعضها أو أكثرها‪ .‬ثم يسكت‬
‫ال مؤقت ًا‬
‫اإلسالميون النّفعيون عن هذا التعطيل أو يسمونه تعطي ً‬
‫لغاية تحقيق يوطوبيا المجتمع المسلم «جد ًا» في ميقات يوم غير‬
‫جل اإلسالميين اليوم‪ .‬لكن مثل هذا‬ ‫معلوم‪ .‬هكذا يقول لسان حال ّ‬
‫اإلخراج المهدوي ال يخفف شيئ ًا من اإلحراج ما دمنا نعتبر النص‬
‫وصايا وأحكام ًا إلهية مطلقة الصالحية التشريعية في كل زمان‬
‫ومكان‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫لذلك‪ ،‬داخل سياج النص‪ ،‬عادة ما ينهزم أنصار العقل أمام‬
‫أنصار النقل بفارق كبير في النقاط‪ .‬بل عادة ما ينهزم حتى أنصار‬
‫الحرفي‪ .‬ال ّلهم ّإال اذا ّقررنا في‬
‫النقل المعرفي أمام أنصار النقل َ‬
‫األخير تحييد النص عن حلبة الصراع السياسي‪ .‬وهذا خيار عملي‬
‫لكنه يحتاج لسند نقلي‪ .‬وال بأس في ذلك‪.‬‬
‫تجرد‪ ،‬أيض ًا‪ ،‬مشكلتنا مع الخطاب القرآني أننا لم نعد‬‫بكل ّ‬
‫نعيش في زمن السبي والفيء والجزية و(ما ملكت أيمانكم)؛ لم‬
‫نعد نعيش في زمن (النفاثات في العقد) و(عتق رقبة) وزواج أو‬
‫طالق (الالئي لم يحص ّن)‪ ...‬إلخ‪ .‬لذلك أصبحنا أمام الكثير من‬
‫األحكام والمفاهيم والتصورات القرآنية نشعر بالحرج واالرتباك‪،‬‬
‫وأصبحنا ندرك غربة «النص المقدس» في العالم الجديد‪ .‬وأحيان ًا‪،‬‬
‫نناور باللغة الى حد اللغو كما يفعل محمد شحرور وآخرون‪.‬‬
‫وهكذا يبدو «المعتدلون» في موقع التبرير والتحايل‪ ،‬وفي‬
‫المقابل‪ ،‬يبدو السلفيون المتشدّ دون وكأنهم صادقون مصدِّ قون‬
‫لما بين أيديهم من صريح النص!‬
‫إزاء هذا الموقف‪ ،‬ال يملك «المعتدلون» من فرصة للتخفيف‬
‫الح َرج سوى ادعاء أن تلك األحكام‪ ،‬التي تحاور مجتمعا بدوي ًا‬‫من َ‬
‫من مجتمعات العالم القديم‪ ،‬تحتاج إلى اجتهاد ال يزال مع َّلق ًا أو‬
‫مفتوح ًا على أفق «غير منظور»‪ .‬أو إنهم‪ ،‬أحيان ًا‪ ،‬يلوذون بالصمت‪.‬‬
‫سأحاول أن أبسط فرضيات حول الخطاب القرآني‪ .‬لكن‪،‬‬
‫قبل ذلك‪ ،‬أو ّد التذكير بمنهجية بالغة الوضوح واألهمية ‪:‬‬
‫نستطيع أن نحكم على كل فرضية جديدة بأنها صالحة أو‬
‫تفسر عدد ًا أكبر من الظواهر‬
‫أكثر صالحية‪ ،‬حين يكون بوسعها أن ِّ‬
‫‪39‬‬
‫وتحل عددا أكبر من المسائل‪ .‬وعلى هذا النحو سنرى كيف أن‬
‫ّ‬
‫وتحل عدد ًا أكبر‬ ‫تفسر عدد ًا أكبر من الظواهر‬
‫فرضيتنا بوسعها أن ِّ‬
‫من المسائل‪ .‬وعلى األقل‪ ،‬فإنها تفعل ذلك بنحو أكثر معقولية‬
‫وانسجام ًا‪.‬‬
‫وأيض ًا‪ ،‬أرى لزام ًا أن أثير اعتراف ًا صريح ًا‪ ،‬من باب صدق‬
‫األقوال على األقل‪:‬‬
‫لست أزعم لنفسي أي جدّ ة عدا إعادة تنظيم بعض‬‫ُ‬ ‫هنا‬
‫المعطيات التي ذكرها كل من عبد الكريم سروش في كتابه بسط‬
‫التجربة النبوية‪ ،‬والشيخ محمد مجتهد الشبستري في كتابه قراءة‬
‫بشرية للدين‪ ،‬فضال عن بعض محاضرات أحمد القبانجي‪.‬‬
‫ملخص ما يقوله المصلحان الدينيان اإليرانيان عبد الكريم‬
‫شروس والشيخ محمد مجتهد الشبستري‪ ،‬وكذلك ما يردده عالم‬
‫أن القرآن صادر عن نور إلهي‬ ‫الدين العراقي أحمد القبانجي‪ ،‬هو ّ‬
‫فعال لكنه ليس كالم الله في األخير‪ .‬إنه ‪-‬يقول القبانجي‪ -‬وحي‬
‫نابع من وجدان الرسول‪ .‬ولذلك يكون الوحي تابع ًا لشخصية‬
‫الرسول –يقول سروش‪ -‬وليس العكس‪ ،‬ولذلك أيضا –وكما‬ ‫ّ‬
‫يوضح الشبستري‪ -‬فإن األوامر والنواهي في القرآن ليست أوامر‬
‫ونواهي الله لكنها أوامر ونواهي النبي المؤ َّيد من الله‪ ،‬أي أنها‬
‫الرسول‪.‬‬
‫أوامر ونواهي مق َّيدة بقيم عصر ّ‬
‫على الرغم من أن رؤية هؤالء المصلحون غير مقبولة من‬
‫الرسمي‪ ،‬فإن ميزة سروش أنه يقول ذلك القول وهو يحمل‬ ‫التشيع ّ‬
‫صفة عالم دين‪ ،‬وميزة الشبستري أنه يقول ما يقوله وهم يحمل لفب‬

‫‪40‬‬
‫شيخ ديني‪ ،‬وميزة القبانجي أنه يستطيع أن يقول رأيه وهو يرتدي‬
‫ج ّبة رجال الدين‪ ،‬أما أنا فلست أحظى بمثل هذه الميزات‪ .‬لكني‬
‫من دون هذه المميزات‪ ،‬وانعكاساتها في الذهن وفي االجتماع‪،‬‬
‫ربما أذهب غير مذهبهما العرفاني‪ ،‬وربما أبعد من ذلك قليال أو‬
‫هكذا آمل‪.‬‬
‫مقصود القول ‪ :‬إننا‪ ،‬وعلى سبيل التوضيح‪ ،‬نستطيع أن نقول‬
‫تجرد ‪ :‬مثال‪ ،‬ليس الله تعالى ِذكره هو الذي قال حرفي ًا (ويل‬
‫بكل ّ‬
‫لكل همزة لمزة) كما وردت في القرآن المحمدي! لكن مثل هذا‬
‫الرسول للتعبير عن‬‫األسلوب يظل الصياغة اللغوية التي اختارها ّ‬
‫إشارات الوحي اإللهي كما تم ّثلها‪.‬‬
‫الرسول ليس سوى‬ ‫ما يعتبره القبانجي نور ًا إلهي ًا يغمر قلب ّ‬
‫تعبير‪ ،‬قد ال يخلو من غموض‪ ،‬عما يسميه الفارابي وابن سينا‬
‫وصدر الدين الشيرازي وابن عربي والكثير من الفالسفة شرق ًا‬
‫وغرب ًا‪ ،‬بالقوة التخييلية لألنبياء ّ‬
‫والرسل‪.‬‬
‫الرسل ‪-‬حسب تأكيد ابن عربي‬ ‫أهم ميزة تُميز ّ‬
‫أيا يكن‪ّ ،‬‬
‫وتوضيح سبينوزا‪ -‬ليست العلم أو المعرفة‪ ،‬وإنما هي َم َلكة‬
‫الخيال‪ ،‬التي هي وسيلة االتصال بالصور الوحيانية واإلشارات‬
‫الربانية‪ .‬يقول سبينوزا عن آيات الوحي إنها‪ ،‬نظر ًا إلى أن مقصودها‬
‫ّ‬
‫لم يكن سوى إقناع األنبياء‪ ،‬فقد «كانت تتفاوت تبع ًا آلراء األنبياء‬
‫وقدراتهم‪ ،‬بحيث ال يمكن لآلية التي تعطي اليقين لهذا النبي أن‬
‫تقنع آخر مشبعا بآراء مختلفة‪ .‬لذلك‪ ،‬اختلفت اآليات باختالف‬
‫األنبياء وكذلك اختلف الوحي عند كل نبي طبق ًا لمزاجه على‬
‫‪41‬‬
‫ُ‬
‫الحوادث‬ ‫توحى إليه‬‫النحو التالي‪ :‬إذا كان النبي ذا مزاج مرح َ‬
‫التي تعطي الناس الفرح مثل االنتصارات والسالم‪ .‬وبالفعل‬
‫نجد أن من لهم هذا المزاج قد اعتادوا أن يتخيلوا أمور ًا كهذه‪.‬‬
‫توحى إليه‬
‫وعلى العكس من ذلك‪ ،‬إذا كان النبي ذا مزاج حزين َ‬
‫النبي رحيم ًا ألوف ًا غضوب ًا‬
‫ّ‬ ‫الشرور كالحرب والعذاب‪ .‬وإذا كان‬
‫ُ‬
‫قاسي ًا‪ ...‬كان قادر ًا على تلقي هذا الوحي أو ذاك‪ .‬كذلك فإن‬
‫فوارق الخيال تكون على النحو اآلتي ‪ :‬إذا كان النبي مرهف ًا‬
‫مرهف أيضا‪ .‬وإذا كان‬ ‫فإنه يدرك فكر الله ويع ّبر عنه بأسلوب َ‬
‫مهوش ًا‪ .‬ومثل هذا يصدق على الوحي الذي‬ ‫مهوشا[!] أدركه َّ‬
‫َّ‬
‫يتمثل بالصورة المجازية‪ :‬فإذا كان النبي من أهل الريف كانت‬
‫متضمنة لألبقار والجاموس‪ ،‬وإذا كان جنديا تكون‬ ‫ِّ‬ ‫صورة الوحي‬
‫صورة قواد وجيش‪ ،‬وأخير ًا إذا كان رجل بالط تم َّثل له عرش‬
‫ملك وما شابه ذلك»(()‪.‬‬
‫هذه األطروحة قد نجد لها جذور ًا أو إرهاصات في التراث‬
‫الصوفي اإلسالمي‪ .‬إذ كتب عبد الكريم شروس في أحد هوامش‬
‫بسط التجربة النبوية‪« :‬مما يجدر ذكره كالم سلطان ولد‪ ،‬ابن‬
‫الرومي‪ ،‬في بيان العالقة بين الشرائع السماوية‬
‫موالنا جالل الدين ّ‬
‫وصفات األنبياء وخصوصياتهم‪ .‬يقول ‪ :‬إن اختالف الشرائع يعود‬
‫إلى اختالف خصال األنبياء‪ ،‬فكل شريعة جاءت متناسبة مع مزاج‬
‫وطبيعة النبي المبعوث بها»(()‪.‬‬
‫(‪ )1‬باروخ سبينوزا‪ ،‬رسالة في الالهوت والسياسة‪ ،‬ترجمة وتقديم حسن حنفي‪ ،‬دار التنوير‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،2005 ،‬ص ‪.146 :‬‬
‫(‪ )2‬عبد الكريم شروس‪ ،‬بسط التجربة النبوية‪ ،‬ترجمة أحمد القبانجي‪ ،‬منشورات الجمل‪ ،‬بيروت‪-‬‬
‫بغداد ‪ ،2009‬ص ‪.26 :‬‬

‫‪42‬‬
‫على ضوء هذه األطروحة التي تحاول قدر اإلمكان تحرير‬
‫الدين من السحر‪ ،‬بوسعنا أن نالحظ كيف أن الوحي عند خاتم‬
‫ال لكل ذلك التنوع في الخيال والمشاعر‬‫والرسل جاء شام ً‬ ‫األنبياء ّ‬
‫الحساسة التي‬
‫ّ‬ ‫واالنفعاالت‪ ،‬وذلك بسبب شخصية النبي محمد‬
‫جعلته سريع التفاعل مع مختلف الظواهر االجتماعية التي كان‬
‫ُيعاينها‪ .‬وكثيرا ما كان يدخل في صراع نفسي مع رغباته ونزواته‬
‫المتنافرة أحيانا‪ ،‬وكثير ًا ما و ّبخه وأنّبه الوحي القرآني نفسه في‬
‫لنبي اإلسالم من‬
‫إطار الصراع النفسي الذي كان يعيشه‪ .‬وإن كانت ّ‬
‫شهامة مشهودة‪ ،‬فإنها تتج ّلى في كونه لم ّ‬
‫يتحرج من تضمين القرآن‬
‫سور ًا وآيات تو ِّبخه وتؤنِّبه‪ ،‬ليقرأها الناس حتى في المساجد وأثناء‬
‫صلواتهم‪.‬‬
‫عموم ًا‪ ،‬انعكست تلك التوتّرات اإلنسانية على المزاج العام‬
‫لآليات القرآنية‪ ،‬والتي جاء بعضها حا ّد ًا عنيف ًا‪ ،‬وبعضها اآلخر جاء‬
‫مرن ًا متسامح ًا‪ ،‬وأحيان ًا يكاد بعضها يناقض بعضها اآلخر‪ ،‬وهكذا‬
‫دواليك‪.‬‬
‫سحري محفوظ‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫ليس القرآن إذن بنص مكتوب على لوح‬
‫الرسول‪ ،‬بل القرآن الكريم‬
‫ثم نزل من السماء العليا إلى مسامع ّ‬
‫الرسول‪ ،‬عبر‬ ‫خطاب لغوي وبشري للوحي الرباني‪ ،‬خطاب أنجزه ّ‬
‫قوته التخييلية‪ ،‬وانطالق ًا من ثقافته وبيئته ولغته وشخصيته‪.‬‬
‫ّ‬
‫وفي ذلك نالحظ وجود أربع سمات طبعت آيات القرآن ‪:‬‬
‫(‪ -‬إنها لم تكن دائم ًا على نفس المرتبة من القوة واإلتقان‪.‬‬
‫وهذا ما يفسر ظاهرة وجود آيات محكمات وآيات متشابهات‪ .‬وهو‬
‫‪43‬‬
‫ما تع ِّبر عنه اآلية ‪( :‬هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات‬
‫وأخر متشابهات) سورة آل عمران‪ ،‬اآلية ‪.7‬‬
‫ٌ‬ ‫هن أم الكتاب‬
‫يقول جالل الدين السيوطي‪« :‬قال تعالى هو الذي‬
‫أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات ه َّن أ ّم الكتاب وأخر‬
‫متشابهات‪ .‬وقد حكى ابن حبيب النيسابوري في المسألة ثالثة‬
‫أقوال‪ ،‬أحدها أن القرآن كله ُم ْحكَم لقوله تعالى كتاب أحكمت‬
‫آياته؛ الثاني كله متشابه لقوله تعالى كتابا متشابها مثاني؛ الثالث‬
‫وهو الصحيح انقسامه إلى محكم ومتشابه لآلية المصدر بها‪.)((».‬‬
‫وإن اختلف العلماء في تحديد اآليات المحكمات واآليات‬
‫المتشابهات‪ ،‬فقد اتفقوا عموما حول أن اآليات المتشابهات هي‬
‫األقل وضوح ًا‪ .‬ويعرض السيوطي ألهم األراء التي تبين ذلك‬
‫االتفاق ‪:‬‬
‫«وقد اختُلف في تعيين المحكم والمتشابه على أقوال‪ .‬فقيل‬
‫المحكم ما ُعرف المراد منه إما بالظهور وإما بالتأويل‪ ،‬والمتشابه‬
‫ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة وخروج الدجال والحروف‬
‫المق َّطعة في أوائل السور‪ .‬وقيل المحكم ما وضح معناه‪ ،‬والمتشابه‬
‫نقيضه‪ .‬وقيل المحكم ما ال يحتمل من التأويل إال وجها واحدا‪،‬‬
‫والمتشابه ما احتمل أوجها»(‪.)2‬‬
‫‪ -2‬انها ليست دائما على نفس المستوى من القيمة‬
‫واألفضلية‪ ،‬وأن هناك آيات «خير» من آيات أخرى‪ ،‬بحسب ما تعبر‬
‫(‪ )1‬جالل الدين السيوطي‪ ،‬اإلتقان في علوم القرآن‪ ،‬تحقيق سعيد المندوب‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬لبنان‪،‬‬
‫الطبعة األولى‪ ،1996 ،‬ج‪ ،2:‬ص ‪.5 :‬‬
‫(‪ )2‬السيوطي‪ ،‬اإلتقان في علوم القرآن‪ ،‬ج ‪ ،2 :‬ص ‪ 4 :‬و‪5‬‬

‫‪44‬‬
‫عنه اآلية (ما ننسخ من آية أو ن ِ‬
‫ُنسها نأت بخير منها أو مثلها) البقرة‪-‬‬
‫‪ .106‬وهناك آيات «أحسن» من آيات أخرى‪ ،‬بحسب ما تؤكده‬
‫اآلية (واتّبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) الزمر‪ ،‬اآلية ‪.55‬‬
‫ثم إن الرسول نفسه يعترف بأن بعض السور واآليات القرآنية‬
‫تتمتع باألفضلية‪ ،‬مثل آية الكرسي وسورة اإلخالص‪ .‬بل كان يصر‬
‫على اعتبار الفاتحة هي أم القرآن‪ ،‬وهي السبع المثاني‪ ،‬وهي القرآن‬
‫العظيم‪ ،‬في صيغ كثيرة رواها البخاري ومسلم وغيرهما‪ .‬وفي كل‬
‫«المفضلة» ال تدخل ضمن األحكام‬
‫َّ‬ ‫األحوال‪ ،‬إن اآليات والسور‬
‫والشرائع وإنما ضمن آيات التع ّبد الربوبي الخالص‪.‬‬
‫‪ -3‬انها ليست معصومة عن الخطأ‪ ،‬سواء بسبب الصراع‬
‫النفسي الذي عانى منه الرسول‪ ،‬أو جراء ظروف إمالء وكتابة‬
‫المصاحف قبل ظهور قواعد جامعة للغة العربية‪ .‬وهذان االعتباران‬
‫يفسران ظاهرتين اثنتين‪:‬‬
‫تسرب بعض اآليات الشيطانية قبل نسخها‪،‬‬ ‫أوالهما‪ّ ،‬‬ ‫ ‬
‫في ما تبرره اآلية (ما أرسلنا من قبلك من رسول وال نبي‬
‫إالّ إذا تمنّى ألقى الشيطان في أمنيته فنسخ الله ما يلقي‬
‫الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم) سورة‬
‫الحج‪ ،‬اآلية ‪.52‬‬
‫تسرب الكثير من الهفوات والهنات النحوية إلى‬
‫ثانيهما‪ّ ،‬‬ ‫ ‬
‫مصحف عثمان‪ ،‬باعتراف القدامى أنفسهم‪ .‬سنذكرها‬
‫في سياق تناول الموضوع‪.‬‬
‫‪ -4‬إن الرسول قد اكتفى أحيان ًا لدى صياغة بعض اآليات‬

‫‪45‬‬
‫بما بلغ إلى مسامعه من عبارات قالها آخرون من الصحابة‪ ،‬في‬
‫ما اصطلح عليه بـ«ما نزل من القرآن على لسان بعض الصحابة»‪.‬‬
‫وعلى سبيل االستدالل نذكر‪ ،‬ضمن ما أورده السيوطي في االتقان‬
‫في علوم القرآن‪ ،‬ما يلي ‪:‬‬
‫«أخرج الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله قال إن الله جعل‬
‫الحق على لسان عمر وقلبه‪ .‬قال ابن عمر وما نزل بالناس أمر قط‬
‫فقالوا له وقال إال نزل القرآن على نحو ما قال عمر»‪.‬‬
‫وأخرج ابن مردويه عن مجاهد قال‪« :‬كان عمر يرى الرأي‬
‫فينزل به القرآن»‪.‬‬
‫وأخرج البخاري وغيره عن أنس قال‪ ،‬قال عمر ‪ :‬وافقت‬
‫ربي في ثالث‪ ،‬قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم‬
‫مصلى فنزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى‪ ،‬وقلت يا رسول‬
‫الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن‬
‫فنزلت آية الحجاب‪ ،‬واجتمع على رسول الله نساؤه في الغيرة‬
‫فقلت لهن عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن‬
‫فنزلت كذلك‪.‬‬
‫وأخرج مسلم عن ابن عمر عن عمر قال ‪ :‬وافقت ربي في‬
‫ثالث في الحجاب وفي أسارى بدر وفي مقام إبراهيم‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس قال قال عمر‪« :‬وافقت ربي‬
‫أو وافقني ربي في أربع‪ ،‬نزلت هذه اآلية ولقد خلقنا اإلنسان‬
‫من ساللة من طين ‪،‬اآلية‪ ،‬فلما نزلت قلت أنا فتبارك الله أحسن‬
‫الخالقين فنزلت فتبارك الله أحسن الخالقين»‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫وأخرج عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن يهودي ًا لقي عمر بن‬
‫عدو لنا فقال عمر‬
‫الخطاب فقال ‪ :‬إن جبريل الذي يذكر صاحبكم ّ‬
‫من كان عدوا لله ومالئكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو‬
‫للكافرين قال فنزلت على لسان عمر‪.‬‬
‫وأخرج ُسنَ ْيد في تفسيره عن سعيد بن جبير أن سعد بن‬
‫معاذ لما سمع ما قيل في أمر عائشة قال سبحانك هذا بهتان عظيم‬
‫فنزلت كذلك‪.‬‬
‫وأخرج ابن أخي ميمي في فوائده عن سعيد بن المسيب قال ‪:‬‬
‫كان رجالن من أصحاب النبي إذا سمعا شيئا من ذلك قاال سبحانك‬
‫هذا بهتان عظيم ‪ :‬زيد بن حارثة وأبو أيوب‪ ،‬فنزلت كذلك‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال ‪ :‬لما أبطأ على النساء‬
‫أحد خرجن يستخبرن فإذا رجالن مقبالن على بعير‬ ‫الخبر في ُ‬
‫حي قالت فال أبالي يتخذ الله‬
‫فقالت امرأة ما فعل رسول الله قال ّ‬
‫من عباده الشهداء فنزل القرآن على ما قالت ويتخذ منكم شهداء‪.‬‬
‫وقال ابن سعد في الطبقات أخبرنا الواقدي حدثني إبراهيم‬
‫بن محمد بن شرحبيل العبدري عن أبيه قال ‪ :‬حمل مصعب بن‬
‫عمير اللواء يوم أحد فقطعت يده اليمنى فأخذ اللواء بيده اليسرى‬
‫وهو يقول وما محمد إال رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات‬
‫أو ُقتل انقلبتم على أعقابكم ثم قطعت يده اليسرى فحنا على اللواء‬
‫وضمه بعضديه إلى صدره وهو يقول وما محمد إال رسول‪ ،‬اآلية‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ثم قتل فسقط اللواء ‪ ،‬قال محمد بن شرحبيل ‪ :‬وما نزلت هذه اآلية‬
‫‪47‬‬
‫وما محمد إال رسول يومئذ‪ ،‬حتى نزلت بعد ذلك»(‪.)1‬‬
‫إذ ًا‪ ،‬ليس الخطاب القرآني خطبة إلهية نزلت من السماء‬
‫جاهزة ناجزة وألقيت على السامعين كما أنزلت بالتمام‪ ،‬إنما القرآن‬
‫إبداع تم ّثلي وتأويلي أنجزه الرسول انطالق ًا من الطاقة الوحيانية‬
‫التي تملكها‪ ،‬وفي سياق نفسي واجتماعي وثقافي محدّ د‪.‬‬

‫(‪ )1‬جالل الدين السيوطي‪ ،‬اإلتقان في علوم القرآن‪ ،‬تحقيق سعيد المندوب‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬لبنان‪،‬‬
‫الطبعة األولى ‪ ،1996‬ج‪ ،1:‬ص ‪.102 ،101 :‬‬

‫‪48‬‬
‫الن�ص وال ّنق�ص‬
‫ّ‬

‫النبوة رديف ًا لكمال النص‬


‫هناك رأي شائع يجعل من ختم ّ‬
‫القرآني‪ ،‬ومن ثم تبقى أحكام القرآن مرجع ًا مطلق الصالحيات إلى‬
‫أن يرث الله األرض وما عليها!‬
‫الرأي إلى ترجيح الخيار الكهنوتي الذي‬ ‫عادة ما ينتهي هذا ّ‬
‫يستند إلى سلطة النص من أجل تسويغ سلطة كهنوتية باسم النص‪.‬‬
‫قبل أن نسائل هذا الرأي‪ ،‬نريد أن نستفسر أوال ‪ :‬كيف كان‬
‫الرسول ُيترجم‬ ‫ّ‬
‫إشارات الوحي اإللهية إلى عبارات بشرية؟‬
‫ال جواب في المنقوالت‪ ،‬ال جواب في المرويات‪.‬‬
‫ال سبيل لنا إلى التماس الجواب من دون االستعانة بالحدس‬
‫العقالني‪ .‬هذا اإلجراء ليس عيب ًا‪ ،‬وسنرى‪:‬‬
‫ألجل تقريب الصورة بنحو أكثر معقولية‪ ،‬نستطيع أن نتمثل‬
‫األمثلة التالية‪:‬‬
‫للرسول في‬ ‫من المحتمل أن تكون اإللوهية قد تم ّثلت ّ‬
‫ً‬
‫نوعأ من الروح الكلية أو الكونية‬ ‫شكل شعور وجداني بأن هناك‬
‫‪49‬‬
‫التي تسري في الوجود‪ ،‬وهو الشعور الذي استوعبه بما كان متاح ًا‬
‫له وقتها من أدوات وألفاظ وعبارات وأساليب تعبيرية وتصورات‬
‫ذهنية‪ ،‬ثم حاول ترجمة ذلك الشعور إلى كلمات تصف الله بأنه‬
‫(هو األول واآلخر والظاهر والباطن) سورة الحديد‪ ،‬اآلية ‪.3‬‬
‫وأيض ًا‪ُ ،‬يحتمل أن تكون األلوهية الكونية قد تم ّثلت له في‬
‫شكل شعور يوحي بحالة الصيرورة الكونية الجارفة‪ ،‬التي تكلم‬
‫عنها الحكيم هيراقليطس قديم ًا‪ ،‬لكن الرسول لم يجد ضمن‬
‫المتاح اللغوي والثقافي العربي وقتئذ ما يعبر به عن ذلك الشعور‬
‫سوى عبارة بسيطة ولطيفة تصف الله بأنه (كل يوم هو في شأن)‬
‫سورة الرحمان‪ ،‬اآلية ‪.29‬‬
‫وربما تمثلت له األلوهية في شكل الشعور بمقام ملك‬
‫تصوره أو تخ َّيله‪ .‬غير أنه لم‬
‫عظيم جالس على عرشه‪ ،‬أو هكذا َّ‬
‫يجد ضمن الجهاز المفاهيمي للغة التي كانت وقتها ال تزال في‬
‫مستواها الحسي ما يعبر به عن مثل هذا التمثل سوى أن يكتفي‬
‫حسي ومباشر يقول عن الله ‪( :‬ثم استوى على العرش)‬ ‫بتوصيف ّ‬
‫(الرحمان على العرش استوى)‬ ‫سورة األعراف‪ ،‬اآلية ‪ ،54‬أو ّ‬
‫سورة طه‪ ،‬اآلية ‪.5‬‬
‫مجرد أداة للتعبير عن الصور الوحيانية‬ ‫ّ‬ ‫بل ليست اللغة‬
‫التي يتلقاها الوجدان أو المخيلة‪ ،‬وإنما هي الوعاء الذي يمنح‬
‫للتمثالت شكلها التعبيري‪ .‬ولذلك‪ ،‬إن اللغة العربية التي كانت‬
‫ال تزال في المستوى الشفهي أوال‪ ،‬وفي المستوى الحسي ثاني ًا‪ ،‬قد‬
‫منحت للوحي اإلسالمي شكال تعبيريا محدّ د ًا ومحدود ًا‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫وبهذا المعنى‪ ،‬جاء التعبير النصي عن الوحي اإللهي تعبير ًا‬
‫«محدد ًا ومحدود ًا»‪.‬‬
‫وال يظنّن أحد أن في هذا انتقاص من الذات اإللهية‪ .‬كال‪ ،‬هو‬
‫باألحرى دليل على نقص اللغة وعوز العقل البشري‪ ،‬ودليل على‬
‫انفراد الله بمطلق الكمال الوجودي‪ ،‬وبأن القدرة البشرية مهما‬
‫بلغت من مراتب‪ ،‬تبقى أعجز من التماهي مع القدرة اإلالهية‪.‬‬
‫لقد فهم المسلمون مفهوم ختم النبوة بنحو خاطئ‪ ،‬إذ ظنّوه‬
‫رديف ًا الكتمال وكمال الوحي اإلالهي‪ ،‬ومن ثم اعتقدوا بضرورة‬
‫االعتماد على مرجعية الوحي في حركاتهم وسكناتهم إلى أن يرث‬
‫النبوة ال يعني كمال الوحي‪.‬‬
‫الله األرض ومن عليها‪ .‬إال أن كمال ّ‬
‫ولربما كان محمد إقبال أول من تن ّبه إلى خطأ الخلط بين‬
‫كمال النبوة وكمال الوحي‪ .‬إذ كتب يقول ‪« :‬إن النبوة في اإلسالم‬
‫لتبلغ كمالها في إدراكها الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها‪ .‬وهو أمر‬
‫ينطوي على إدراكها العميق الستحالة بقاء الوجود معتمد ًا إلى‬
‫يحصل كمال معرفته‬ ‫األبد على مقود يقاد منه‪ ،‬وأن اإلنسان‪ ،‬لكي ِّ‬
‫لنفسه‪ ،‬ينبغي أن ُيترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو»(‪.)1‬‬
‫مستمدّ ة من العقل‬ ‫ّ‬ ‫فما عساها تكون تلك الوسائل إن لم تكن‬
‫الذي هو َمناط التكليف‪ ،‬ومن الحكمة اإلنسانية الموصوفة قرآني ًا‬
‫بالخير الكثير‪ ،‬ومن الضمير األخالقي الذي يسميه الفقهاء بالوازع‪،‬‬
‫ومن القدرة على اإلبداع التي ينكرها الكثيرون َلغو ًا أو ُغ ّ‬
‫لو ًا!؟‬
‫(‪ )1‬محمد إقبال‪ ،‬تجديد التفكير الديني في اإلسالم‪ ،‬ترجمة عباس محمود‪ ،‬دار الهداية للطباعة‬
‫والنشر والتوزيع‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪ ،2006‬ص ‪.149 :‬‬

‫‪51‬‬
‫وكيف لهذه الوسائل أن تكون وسائل اإلنسان إذا كانت‬
‫محصورة فت التأويالت والتفسيرات واألحكام القاطعة والنهائية‬
‫للنص الديني كما فهمه الفقهاء وزاد فيه المك ِّفرون‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫ُ‬
‫القراآن لي�ص هو الوحي‬

‫إذا استثنينا اجتهادات عدد من المفكرين المعاصرين‪،‬‬


‫كالذين ذكرناهم أمثال محمد الشبستري وأحمد القبانجي وعبد‬
‫فإن كل ما قيل عن القرآن الكريم منذ وفاة‬ ‫سروش‪ّ ،‬‬ ‫الكريم ّ‬
‫الرسول إلى اليوم‪ ،‬لم يخرج عن مس ّلمات القدامة الدينية‪ ،‬وعن‬
‫النظرة السحرية الى العالم‪ ،‬بحيث يبدو القرآن كأنه «كالم» و«لغة»‬
‫مدون‬
‫و«أسلوب» الله الذي ال يخلو من ثالث حاالت ‪ :‬أما أنه ّ‬
‫في اللوح المحفوظ (حسب الخطاب الفقهي)‪ ،‬أو صاغه الله في‬
‫ظروف طارئة (حسب الخطاب الكالمي)‪ ،‬أو فاض باللفظ أو‬
‫بالمعنى عن الذات اإللهية (حسب الخطابين الصوفي والفلسفي)‪.‬‬
‫وفي كل أحواله ‪ ،‬كان القرآن ُيعتبر «كالما» صادر ًا عن‬
‫«وعي» الله‪ ،‬بكل ما يعنيه ذلك من مفاهيم وتصورات‪.‬‬
‫إنه نفس نموذج (باراديغم) القدامة الذي دفع كال من محمد‬
‫شحرور ومحمد عابد الجابري إلى التسليم بأن القرآن ليس جزء ًا‬
‫من التراث‪ .‬وهذا خطأ في التقدير‪ ،‬وعطب في التفكير‪.‬‬
‫فقد أكد محمد شحرور في مقدمة كتابه الكتاب والقرآن‬

‫‪53‬‬
‫أنه «ال يعتبر الكتاب (يقصد القرآن) تراث ًا‪ ،‬وإنما التراث هو الفهم‬
‫النسبي للناس في عصر من العصور»(‪.)1‬‬
‫وهو نفس التأكيد الذي أعلنه الجابري في الجزء األول من‬
‫مدخل إلى القرآن الكريم حين كتب يقول ‪« :‬لقد أكدنا مرار ًا أننا‬
‫ال نعتبر القرآن جزءا من التراث‪ .‬وهذا شيء نؤكده هنا من جديد‪،‬‬
‫وفي نفس الوقت نؤكد أيضا ما سبق أن قلناه في مناسبات سابقة من‬
‫أننا نعتبر جميع أنواع الفهم التي ش ّيدها علماء المسلمين ألنفسهم‬
‫حول القرآن‪ ...‬هي كلها تراث»(‪.)2‬‬
‫وهكذا‪ ،‬يتعاطى شحرور والجابري مع األمر كمس َّلمة‬
‫من مس َّلمات اإلسناد‪ ،‬إال أن تعطيل قدرة العقل على مساءلة‬
‫المسلمات ومراجعة المرجعيات ال يجيزه العقل السليم‪.‬‬
‫ما لم يدركه شحرور والجابري وغيرهما هو أننا لن نتمكن‬
‫من تجاوز خطاب القدامة وتخليص اإلسالم من النظرة السحرية‬
‫الى العالم‪ ،‬ما لم نتجاوز الفرضيات التأسيسية التي انبنت عليها‬
‫نظرة القدامة إلى القرآن‪.‬‬
‫ليس الخطاب القرآني هو «كالم الله» النازل‪ ،‬صدفة أو‬
‫قصد ًا‪ ،‬من سماء الغيب كما تزعم القدامة الدينية‪ ،‬وإنما هو ثمرة‬
‫لقدرة النفس على الصعود واالرتقاء لغاية تحقيق االتصال‪ .‬إال‬
‫أن الصعود هنا ‪-‬وبخالف الفلسفة‪ -‬ال يكون برهاني ًا‪ ،‬بل حدسي ًا‬
‫مستند ًا إلى َم َلكة الخيال‪.‬‬
‫(‪ )1‬الدكتور محمد شحرور‪ ،‬الكتاب والقرآن‪ ،‬شركة المطبوعات للتوزيع والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة‬
‫التاسعة ‪ ،2009‬ص ‪.36 :‬‬
‫(‪ )2‬محمد عابد الجابري‪ ،‬مدخل إلى القرآن الكريم‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬دار النشر المغربية‪ ،‬الدار‬
‫البيضاء‪ ،‬شتنبر ‪ ،2006‬ص ‪.19 :‬‬

‫‪54‬‬
‫النبوة‪ ،‬كما يقول أبو نصر الفارابي‪ ،‬هي أكمل المراتب التي‬
‫يبلغها اإلنسان بقوة المخ ّيلة(‪ .)1‬والنبوة‪ ،‬كما يؤكد سبينوزا‪« ،‬ال‬
‫تتطلب ذهنا كامال بل خياال خصب ًا»(‪.)2‬‬
‫ما يعني أن القرآن المحمدي ليس الوحي اإللهي على وجه‬
‫المطابقة المطلقة‪ ،‬وليس كتاب ًا كتبه الله وأنزله من ملكوت السماء‬
‫الرسول‪ ،‬إنما هو ثمرة مجهود‬ ‫إلى السماء الدنيا أو إلى مسامع ّ‬
‫وتأول اإلشارات الربانية‬
‫تخييلي قام به الرسول األمين ألجل تمثل ّ‬
‫كما التقطها من معارج الفيض اإللهي‪ .‬وإذا كانت مراتب القوة‬
‫التخييلية تتفاوت بحسب األحوال‪ ،‬فقد انعكس ذلك على اآليات‬
‫القرآنية‪ ،‬فجاءت متفاوتة في الدقة التعبيرية واإلتقان البالغي‪ .‬إنه‬
‫التفاوت الذي نجمت عنه مرتبتان من مراتب التنزيل‪ ،‬هما بحسب‬
‫التعبير القرآني ‪( :‬آيات ُمحكَمات) تمثل النواة الصلبة للقرآن‪،‬‬
‫وآيات (متشابهات) تمثل الدوائر األكثر «هشاشة» في القرآن‬
‫المحمدي‪.‬‬
‫بل إن مفهوم اآليات الر ّبانية لهو أوسع داللة من القرآن‬
‫المحمدي‪ ،‬والذي هو محض تأويل لبعض تلك اآليات‪.‬‬
‫فإن اآليات وفق‬‫والحال‪ ،‬إذا كان الوحي الر ّباني آيات‪ّ ،‬‬
‫التّحديد القرآني ليست نص ًا مغلق ًا أو نصا مقدسا‪ ،‬وال هي َّ‬
‫مدونة‬
‫أحكام كونية وأوامر أبدية‪ ،‬وإنما هي محض إيحاءات إلهية‪ .‬ثم إن‬

‫(‪ )1‬أبو نصر الفارابي‪ ،‬آراء أهل المدينة الفاضلة‪ ،‬تقديم وتحقيق الدكتور ألبير نصري نادر‪ ،‬دار‬
‫المشرق‪ ،‬بيروت‪ ،1986 ،‬ص ‪.116 :‬‬
‫(‪ )2‬باروخ سبينوزا‪ ،‬رسالة في الالهوت والسياسة‪ ،‬ترجمة وتقديم حسن حنفي‪ ،‬دار التنوير‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬الطبعة األولى ‪ ،2005‬ص ‪.129 :‬‬

‫‪55‬‬
‫الوحي وفق التوصيف القرآني ‪ ،‬كما يقول محمد إقبال‪ ،‬هو «صفة‬
‫عامة من صفات الوجود»(‪.)1‬‬
‫( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر) سورة فصلت‪،‬‬
‫اآلية ‪.37‬‬
‫(ومن آياته خلق السماوات واألرض واختالف ألسنتكم‬
‫وألوانكم) سورة الروم‪ ،‬اآلية ‪.32‬‬
‫ّ‬
‫(ان في اختالف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات‬
‫واألرض آليات لقوم يتّقون) سورة يونس‪ ،‬اآلية ‪.6‬‬
‫بعض تلك اآليات والعالمات واإلشارات الربانية منظور‬
‫ومرئي للجميع‪ ،‬وأما بعضها اآلخر فال ُيدرك إالّ عبر القوة‬
‫ّ‬
‫التخييلية‪.‬‬
‫والسؤال اآلن‪ ،‬هل بوسعنا القول إن الخطاب القرآني خطاب‬
‫فوق التاريخ وفوق التراث وفوق القدامة وفوق الزمان والمكان‪،‬‬
‫ومن ثمة فهو معاصر لكل العصور ومجايل لكل األجيال؟‬
‫تحديد ًا أو على سبيل االستدالل‪ ،‬هل بوسعنا أن نعتبر‬
‫المفاهيم والقيم السياسية الواردة فيه (من قبيل الطاعة‪ ،‬والبيعة‪،‬‬
‫والجزية‪ ،‬والشورى‪ ،‬والغنيمة‪ ،‬والفيء‪ ،‬والنفقة‪ )...‬مفاهيم‬
‫معاصرة لنا أيض ًا؟‬
‫ربما يبدو السؤال محرج ًا‪ ،‬لكن الذي يجعله كذلك أننا دأبنا‬
‫على اعتبار الخطاب القرآني نصا مقدَّ سا يعبر عن «أحكام الله»‬
‫(‪ )1‬المصدر نفسه ‪ ،‬ص ‪.148 :‬‬

‫‪56‬‬
‫المطلقة بصرف النظر عن الزمان والمكان‪ .‬وهذا خطأ معرفي‪،‬‬
‫إضافة الى أنه خطيئة الهوتية‪.‬‬
‫المحمدي كالم صدر أو فاض مباشرة‬ ‫ّ‬ ‫حين نظ ّن أن القرآن‬
‫عن الذات اإللهية‪ ،‬ونزل بالتمام والكمال وبالمعنى الحرفي‪ ،‬فإننا‬
‫ننتهي إلى تقديس كل أفعال األمر الواردة فيه باعتبارها أوامر الله‬
‫إلى اإلنسان‪ ،‬أو هكذا نظ ّن‪ .‬وبالتالي يتحول الخطاب القرآني من‬
‫رسالة تع ّبدية تنطلق من جوارح المؤمن‪ ،‬إلى وصايا أبدية تع ّطل‬
‫اإلبداع وتشل اإلرادة‪ .‬وبهذا النحو فإن أولئك الذين يعتبرون هذه‬
‫يحولون القرآن إلى عائق من عوائق التحديث‪.‬‬ ‫األحكام أبدية َّ‬
‫المشكلة باألحرى هي حين نعتقد بأن التقابل هو بين مفاهيم‬
‫الخالفة والبيعة والشورى واإلمامة والطاعة من جهة‪ ،‬وبين مفاهيم‬
‫الديمقراطية واالنتخابات والتصويت والتعددية والتداول على‬
‫السلطة من جهة ثانية‪ ،‬هو تقابل بين جهاز مفاهيمي ديني أو إسالمي‬
‫يمثل مضمون الوحي الر ّباني‪ ،‬وجهاز مفاهيمي مدني أو غربي‬
‫يمثل جوهر الثقافة الغربية‪ .‬وهكذا تحديد ًا‪ ،‬سيبدو التقابل وكأنه‬
‫بين إرادة الله من جهة وإرادة الحضارة الغربية من جهة ثانية‪ .‬وهذا‬
‫أيض ًا خطأ جسيم‪ ،‬بل خطيئة كبيرة‪ .‬وعندها ماذا سنقول عن كل‬
‫تلك المجتمعات اإلسالمية التي تتبنّى الديمقراطية حسب فهمها‪،‬‬
‫بل وتطبيقها‪ ،‬الغربي؟ وماذا سنقول عن كل أولئك المسلمون‬
‫الذين يعيشون في مجتمعات متعددة أو في الغرب ويلتزمون بتلك‬
‫القوانين؟ وماذا سنقول عن كل أولئك األفراد من المسلمين الذين‬
‫يتبنّون علن ًا هذه المفاهيم ويدافعون عنها بقدر ّ‬
‫تمسكهم بإيمانهم؟‬
‫هل كلهم كفرة؟‬
‫‪57‬‬
‫صحيح أن القرآن استعمل تلك المفاهيم ضمن مجاله‬
‫التواصلي‪ ،‬غير أن االستعمال ليس دليال على الملكية أو التملك‪.‬‬
‫إذ ال يكفي أن يستعمل القرآن مفهوم ًا من المفاهيم حتى يصير ذلك‬
‫المفهوم مفهوم ًا ديني ًا أو إسالمي ًا أو قرآنيا‪ ،‬أو يغدو هوية راسخة لنا‪.‬‬
‫والحال أن إبداع أو إعادة إنتاج المفاهيم ليس وظيفة الحقل الديني‪،‬‬
‫وباألحرى ليس وظيفة الخطاب القرآني‪ ،‬إنما إنتاج المفاهيم كان‬
‫وال يزال يتم داخل حقل معرفي آخر‪ ،‬هو الفلسفة حصر ًا‪.‬‬
‫أما اإلسالم فهو مبدأ اعتقادي غايته توحيد وتنزيه الذات‬
‫اإللهية‪ .‬وعدا هذا القصد‪ ،‬تظل قضايا الشريعة والمعامالت ونظام‬
‫ّ‬
‫وحظ األنثى‬ ‫العقوبات ومسائل الحدود والقصاص وتقسيم اإلرث‬
‫الزوج ومعها كل المفاهيم‬ ‫وشهادة المرأة وطاعة الحاكم وقوامة ّ‬
‫مجرد تأويالت َع َرضية‬ ‫والتصورات الواردة في «إسالم النص»‪ّ ،‬‬
‫وفرعية لإلسالم الرباني‪ .‬وهي تندرج ضمن السياق التداولي الذي‬
‫يناسب المستوى العقلي والوجداني إلنسان العالم القديم‪ .‬وهذا‬
‫ما أكدته دراسات كثيرة تناولت ظروف التنزيل وأسباب التنزيل‬
‫فصله‬
‫وارتباط آيات األحكام بالمجتمع الذي أنزلت فيه آخرها ما ّ‬
‫على نحو مم ّيز عبد الجوا ياسين في كتابه «الدين والتد ّين»‪.‬‬
‫لم يكن العالم القديم عالم ًا أبدي ًا‪ ،‬ولم ُيقدّ ر له أن يكون‬
‫كذلك‪ .‬بل‪ ،‬قدَ ر الوجود أن « لكل شيء إذا ما تم نقصان»‪ ،‬وفق‬
‫تعبير بليغ ألحد شعراء األندلس‪ .‬العالم القديم شأنه في ذلك شأن‬
‫سائر العوالم البشرية‪ ،‬عالم َع َرضي ونسبي ومحكوم عليه بالزوال‬
‫الرحمان‪.26 -‬‬ ‫كما جاء في الخطاب القرآني (كل من عليها فان) ّ‬
‫‪58‬‬
‫حين ال نرقى إلى مستوى الوعي بالصيرورة التي هي قدر‬
‫الروح اإللهية وفق‬
‫الوجود كما يرى هايدجر‪ ،‬بل هي جوهر ّ‬
‫منطلقات هيجل‪ ،‬بل هي جوهر األلوهية نفسها وفق تصريح صريح‬
‫للقرآن يصف الله بأنه (كل يوم هو في شأن) الرحمان‪ ،29 -‬وحين‬
‫ال ندرك الصيرورة والتغ ّير والتحول والتبدّ ل كقدر إلهي‪ ،‬عندئذ‬
‫مجرد عصاب وسواسي ينتج‬ ‫يصبح الحنين إلى عالم األسالف ّ‬
‫العنف العبثي والموت المجاني‪ ،‬أو وهم بأن عالم األسالف هو‬
‫عالم السعادة والنقاء واإلنتصار ناتج عن حالة الضعف والبؤس‪.‬‬
‫ولكن هذا وذاك ال ُينتج إال مزيد ًا من العنف والموت ومزيد ًا من‬
‫الضعف واإلنكسار‪.‬‬
‫ال يكمن الفرق بين مفاهيم الخالفة والبيعة والطاعة والشورى‬
‫واإلمامة والجماعة من جهة‪ ،‬ومفاهيم الديمقراطية والتعددية‬
‫واالنتخابات والتصويت والتداول على السلطة من جهة ثانية‪ ،‬في‬
‫أن هناك مفاهيم دينية أو إلهية أو غيبية أو إسالمية أو إنها تنتمي إلى‬
‫اإلسالم حصر ًا أو يمكن وصفها باإلسالمية‪ ،‬مقابل مفاهيم مدنية‬
‫أو وضعية أو بشرية أو غربية أو إنها تنتمي إلى الغرب حصر ًا‪ ،‬أو‬
‫يمكن وصفها بأنها غربية؛ بل يكمن الفرق بكل بساطة ووضوح‪،‬‬
‫في أن هناك جهاز ًا مفاهيمي ًا ينتمي إلى العالم القديم بمختلف‬
‫دياناته وثقافاته ومرجعياته‪ ،‬مقابل جهاز مفاهيمي ينتمي إلى العالم‬
‫الجديد بمختلف دياناته وثقافاته ومرجعياته‪.‬‬
‫هذا يعني‪ ،‬بواضح اإلشارة وصريح العبارة‪ ،‬إننا حين نقرر‬
‫استبدال مفاهيم القدامة السياسية الواردة في القرآن المحمدي‪،‬‬
‫من قبيل البيعة والطاعة والرعية والردة والجزية وأهل الذمة‪ ،‬وما‬
‫‪59‬‬
‫إلى ذلك من مفاهيم سياسية (أو األحرى ما قبل سياسية) تنتمي‬
‫إلى العالم القديم وتعيق تطور الوعي الديمقراطي وقيم الحداثة‬
‫السياسية‪ ،‬فإننا لن نكون قد تخلينا عن كالم الله كما يتوهم‬
‫الكثيرون‪ ،‬وإنما نكون قد ّقررنا فقط االبتعاد عن االستغالل‬
‫نص ينتمي إلى‬ ‫السياسوي والتوظيف اإليديولوجي لمفاهي ِم ٍّ‬
‫العالم القديم‪ ،‬وال يملك وظيفة أخرى غير الوظيفة التع ّبدية‪،‬‬
‫إضافة إلى وظيفة أخالقية ليست محصورة باإلسالم بل موجودة‬
‫في كل األديان‪.‬‬
‫وحين نتبنى مفاهيم الحداثة السياسية‪ ،‬من قبيل الديمقراطية‬
‫واالنتخابات والتّعددية وتــداول السلطة وحقوق اإلنسان‬
‫والموا ّطنة‪ ،‬فإننا نكون إزاء تبني مفاهيم تنتمي إلى العالم الجديد‪،‬‬
‫الذي هو عالمنا الحقيقي وإن كره الكارهون‪ .‬وال يتعارض تبنّي‬
‫هذه المفاهيم مع اإليمان بواحدية الله‪.‬‬
‫المطلوب باألحرى أن ندرك أننا أبناء العالم الجديد بمفاهيمه‬
‫وق َيمه‪ ،‬ولم يقدَّ ر لنا أن نكون في غير عالم اليوم‪ ،‬الذي هو عالم‬
‫اإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان والحريات الفردية وفصل‬
‫السلطات وصناديق االقتراع والمساواة في الحقوق بين النساء‬
‫والرجال‪.‬‬
‫أما العالم القديم‪ ،‬عالم البيعة والجماعة والطاعة والخالفة‪،‬‬
‫فأبلغ القول أن نقول ما قاله القرآن ‪( :‬تلك أمة قد خلت لها ما‬
‫كسبت ولكم ما كسبتم وال تسألون عما كانوا يعملون) البقرة‪-‬‬
‫‪.134‬‬

‫‪60‬‬
‫الم�شحف لي�ص هو القراآن‬

‫تيسر لنا أن‬


‫مجرد سؤال ‪ :‬هذا المصحف الذي نقرأ فيه ما ّ‬ ‫ّ‬
‫عوذتين‪ ،‬أو نقسم‬
‫الم ّ‬‫نقرأ أو نرتله ترتيال مسترسال من الفاتحة إلى ُ‬
‫به في بعض األحيان‪ ،‬هل هو بالتمام والكمال القرآن نفسه كما‬
‫تركه لنا خاتم األنبياء‪ ،‬ترتيب ًا وتبويب ًا وكتاب ًا وإعراب ًا؟‬
‫هل مصحف عثمان هو نفسه قرآن محمد بال خالف؟‬
‫الجواب‪ ،‬ال النافية‪ ،‬وبالخط العريض أيضا‪.‬‬
‫لماذا؟‬
‫‪ /1‬لنبدأ من حيث يجب أن نبدأ؛ ترتيب القرآن‪ ،‬هل هكذا‬
‫كان في زمن النبي محمد؟‬
‫ِ‬
‫وجعله في شكل‬ ‫ليس يخفى أن قرار جمع وترتيب القرآن‬
‫مصحف جامع‪ ،‬مشروع شاق ومع َّقد بدأه المسلمون عقب وفاة‬
‫الرسول‪ ،‬إ ّبان خالفة أبي بكر الصديق‪ ،‬وتم إنجازه في زمن خالفة‬
‫عثمان بن عفان‪ ،‬ثم خضع النص العثماني بعد ذلك لتقلبات كتابية‬
‫أي‬
‫ونحوية وخطية كثيرة على مر العصور‪ ،‬بحيث ال نملك اليوم ّ‬
‫‪61‬‬
‫يقين حول شكل النسخ األصلية التي أشرف عليها الخليفة عثمان‪.‬‬
‫منجمة‪ ،‬متناثرة‪ ،‬متفرقة‪ ،‬غالبا ما‬ ‫النبي قرآنه آيات ّ‬
‫عدا ذلك‪ ،‬ترك ُّ‬
‫كانت شفهية‪ ،‬واتسمت باألسلوب الشفهي‪ ،‬ومات ولم يجمعها‬
‫أو يرتّبها في أي كتاب جامع أو نص محدّ د‪ ،‬وال هو أوصى بذلك‪.‬‬
‫كتب القرطبي يقول ‪« :‬كان القرآن في مدّ ة النبي(ص) متفرق ًا في‬
‫صدور الرجال‪ ،‬وقد كتب الناس منه في ُصحف وفي جريد وفي‬
‫لخاف (حجارة بيض رقاق) و ُظرر (حجر له حد كحد السكين)‬
‫بالقراء يوم اليمامة في‬
‫استحر القتل ّ‬ ‫ّ‬ ‫وفي خزف وغير ذلك‪ .‬فلما‬
‫زمن الصديق رضي الله عنه‪ ،‬و ُقتل منهم في ذلك اليوم فيما قيل‬
‫سبعمائة‪ ،‬أشار عمر بن الخطاب على أبي بكر الصديق رضي الله‬
‫بي وابن‬ ‫عنهما بجمع القرآن مخافة أن يموت أشياخ القراء‪ُ ،‬‬
‫كأ ّ‬
‫مسعود وزيد‪ ،‬فندبا زيد بن ثابت إلى ذلك‪ ،‬فجمعه غير مرتَّب‬
‫السور‪ ،‬بعد تعب شديد رضي الله عنه»(‪.)1‬‬
‫تحول القرآن إلى مصحف لم يتحقق إال في زمن‬ ‫غير أن ّ‬
‫الخليفة الثالث عثمان بن عفان‪ .‬وفي هذا األمر رواية يرويها‬
‫الكثيرون على النحو التالي‪:‬‬
‫«قال ابن شهاب‪ :‬ثم أخبرني أنَس بن مالك األنصاري أنه‬
‫اجتمع لغزوة أذربيجان وأرمينية أهل الشام وأهل العراق‪ ،‬قال‪:‬‬
‫فركب حذيفة بن اليمان‪ ،‬لما رأى من اختالفهم في القرآن‪ ،‬إلى‬
‫عثمان‪ ،‬فقال‪ :‬إن الناس قد اختلفوا في القرآن حتى والله ألخشى‬
‫أن يصيبهم ما أصاب اليهود والنصارى من االختالف‪ ،‬قال ‪ :‬ففزع‬
‫(‪ )1‬القرطبي‪ ،‬الجامع ألحكام القرآن‪ ،‬مراجعة وضبط محمد ابراهيم الحفناوي‪ ،‬دار الحديث‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ ،1996‬ص ‪.67 :‬‬

‫‪62‬‬
‫لذلك عثمان فزع ًا شديد ًا‪ ،‬فأرسل إلى حفصة فاستخرج الصحيفة‬
‫التي كان أبو بكر أمر زيدا بجمعها(‪ ،)1‬فنسخ منها مصاحف فبعث‬
‫بها إلى اآلفاق»(‪.)2‬‬
‫يتم بنحو توافقي‪،‬‬
‫بل ليس يخفى أن ترتيب بعض اآليات كان ّ‬
‫بل «اعتباطي» في بعض األحيان‪ .‬ومن أمثلة ذلك ما أورده أبو بكر‬
‫بن أبي داود السجستاني في روايته ‪:‬‬
‫«أراد عمر بن الخطاب أن يجمع القرآن فقام في الناس فقال‬
‫‪ :‬من كان تل ّقى من رسول الله(ص) شيئا من القرآن فليأتنا به‪ ،‬وكانوا‬
‫كتبوا ذلك في المصحف واأللواح والعسب‪ ،‬وكان ال يقبل من أحد‬
‫شيئا حتى يشهد شهيدان‪ ،‬ف ُقتل وهو يجمع ذلك‪ ،‬فقام عثمان بن‬
‫عفان رضي الله عنه فقال ‪ :‬من كان عنده من كتاب الله شيئا فليأتنا‬
‫به‪ ،‬وكان ال يقبل من ذلك شيئا حتى يشهد عليه شاهدان‪ .‬فجاء‬
‫خزيمة بن ثابت فقال ‪ :‬إني قد رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬وما هما؟ قال تلقيت من رسول الله(ص)‪( :‬لقد جاءكم رسول‬
‫من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف‬
‫رحيم) إلى آخر السورة‪ .‬قال عثمان ‪ :‬وأنا أشهد أنهما من عند الله‪،‬‬
‫فأين ترى أن نجعلهما؟ قال‪ :‬اختم بهما آخر ما نزل من القرآن‪،‬‬
‫فختم بهما براءة»(()‪.‬‬
‫(‪ )1‬هي النسخة التي كانت عند أبي بكر في خالفته‪ ،‬ثم ظلت عند عمر في خالفته‪ ،‬ثم تركها عمر‬
‫عند حفصة‪.‬‬
‫(‪ )2‬أبو بكر بن أبي داود السجستاني‪ ،‬كتاب المصاحف‪ ،‬تحقيق د‪ .‬محب الدين عبد السبحان‬
‫واعظ‪ ،‬دار البشائر اإلسالمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ ،2002‬ج‪ ،1:‬ص ‪.202 :‬‬
‫(‪ )3‬أبو بكر بن أبي داود السجستاني‪ ،‬كتاب المصاحف‪ ،‬تحقيق د‪ .‬محب الدين عبد السبحان‬
‫واعظ‪ ،‬دار البشائر اإلسالمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ ،2002‬ج‪ ،2:‬ص ‪ 224 :‬و‪.225‬‬

‫‪63‬‬
‫أن هذه الرواية‪ ،‬التي اتفقت حولها معظم كتب التراث‪،‬‬ ‫غير ّ‬
‫تثير مسألة بالغة التعقيد‪ ،‬إذ إننا حتى لو افترضنا تجاوز ًا ّ‬
‫أن اشتراط‬
‫شاهدين اثنين لتصحيح اآلية قبل تدوينها يكفي لضمان عدم‬
‫الشرط ال يحقق لنا‬‫تسرب آيات غير قرآنية إلى القرآن‪ ،‬إالّ أن هذا ّ‬‫ّ‬
‫هدفين أساسيين‪:‬‬
‫أوالً‪ ،‬ال يضمن لنا عدم وجود ثغرات في الذاكرة اإلمالئية‬
‫للقائم باإلمالء‪ ،‬أو في التقديرات النحوية للقائم بالكتابة‪ ،‬ال سيما‬
‫أن اللغة العربية لم تكن قد خضعت للتقعيد‪ ،‬أو ليس بعد‪.‬‬
‫ثاني ًا‪ ،‬ال يضمن لنا عدم إهمال آيات قد تكون جزء ًا من‬
‫القرآن المحمدي لكنها لم تجد الشاهدين االثنين‪ ،‬أو لم تجد‬
‫أحدهما‪ .‬ولعل اآلية السابقة التي أحضرها خزيمة بن ثابت قبل‬
‫االتفاق على وضعها في آخر سورة براءة‪ ،‬كادت تُهمل لو لم‬
‫يتطوع عثمان ليشهد بأنها من عند الله‪ .‬علما بأنه شهد بأنها من عند‬
‫َّ‬
‫الله‪ ،‬ولم يشهد بأنه سمعها من رسول الله‪ ،‬كما هي العادة في مثل‬
‫هذا الموقف‪.‬‬
‫‪ /2‬ثانيا‪ ،‬من حيث الحجم والمضمون‪ ،‬هل يتضمن‬
‫المصحف الذي بين أيدينا جميع آيات القرآن المحمدي؟‬
‫نحن متأكدون من شيء واحد‪ ،‬هو أن حجم المصحف‬
‫الذي وصلنا أصغر بكثير من حجم القرآن المحمدي‪ ،‬أي أنه أقل‬
‫من مجموع اآليات التي نزلت على الرسول عليه السالم‪ .‬وذلك‬
‫لشاهدين نصيين أساسيين‪:‬‬
‫أ‪ -‬على األقل‪ ،‬ال توجد ضمن المصحف العثماني‬

‫‪64‬‬
‫اآليات المنسوخة وال اآليات المنسية‪ .‬فمن المعلوم‬
‫أن ضمن الناسخ والمنسوخ آيات نُسخت لفظ ًا وقراءة‬
‫وكتابة‪ ،‬وهناك آيات نسيها الرسول قبل أن يحفظها أو‬
‫قبل أن يمليها أو قبل أن يكتبها كتبة الوحي‪ ،‬وربما نسيها‬
‫الجميع بعد ذلك‪ ،‬ولم تعاود النزول ثانية‪ ،‬أو أنها على‬
‫األقل لم تعاود النزول بنفس األسلوب‪ .‬وهو ما تؤكده‬
‫اآلية ‪( :‬ما ننسخ من آية أو ن ِ‬
‫ُنسها نأت بخير منها أو مثلها)‬
‫سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.106‬‬
‫تنوع األساليب واأللفاظ‬ ‫ب‪ -‬على األقل‪ُ ،‬حذف منه ّ‬
‫التي نزلت بها بعض أو معظم اآليات‪ .‬فالقرآن أنزل على‬
‫سبعة أحرف كما هو معلوم ومذكور‪ ،‬ما يعني أن كثير ًا‬
‫مرة بألفاظ وعبارات ومفردات‬ ‫من اآليات نزلت أكثر من ّ‬
‫مختلفة‪ .‬إال أنه أثناء جمع المصحف تم االستغناء عن‬
‫التنوع اللغوي لفائدة حرف وحيد وواحد‪ ،‬هو لسان‬‫ذلك ّ‬
‫قريش‪.‬‬
‫هذا في الحد األدنى الذي تؤكده شواهد النص‪ .‬لكن‬
‫ترجح الدراسات القرآنية‬
‫األمر في ما يبدو أكبر من ذلك‪ ،‬حيث ِّ‬
‫أن تكون بعض اآليات أو السور قد ضاعت‪ .‬ولم يكن هذا األمر‬
‫يحرج المسلمين الذين كانوا يتق ّبلون مثل ذلك الضياع تحت طائلة‬
‫تم نسيانه‪ ،‬تبع ًا للموقف القرآني نفسه ‪( :‬وما‬
‫ما نُسخ لفظه‪ ،‬أو ما ّ‬
‫ننسخ من آية أو ننسها‪ )...‬اآلية‪.‬‬
‫التحول من القرآن المحمدي إلى المصحف العثماني‬
‫ّ‬
‫‪65‬‬
‫مشروع طويل شاق‪ ،‬وشائك مليء بالمخاطر‪ ،‬وهو المشروع الذي‬
‫اصطلح على تسميته المفكر جورج طرابيشي باسم «مصحفة‬
‫القرآن»(‪ .)1‬ولسنا نبالغ‪ ،‬ونحن نستلهم هذا المفهوم‪ ،‬إذا قلنا إن‬
‫المصحفة استمرت إلى ما بعد عثمان‪ ،‬حيث خضع مصحف‬
‫عثمان نفسه لتغيرات رافقت تطور اللغة وانتقال الثقافة العربية‬
‫من المرحلة الشفهية إلى المرحلة الكتابية‪ .‬فبين النسخ األولى‬
‫للمصحف العثماني والنسخ المتأخرة‪ ،‬مرت تسمية السور بعدة‬
‫إجراءات‪ ،‬وشهد تنقيط الحروف عدة مراحل‪ ،‬وخضعت كتابة‬
‫بعض الحروف للكثير من التعديالت‪ ،‬إلخ‪.‬‬
‫تحول منذ زمن عثمان بن‬ ‫المشكلة أن القرآن المحمدي َّ‬
‫عفان إلى مصحف «مقدَّ س» ‪-‬زادت من قداسته قصة المصحف‬
‫المل ّطخ بدم عثمان‪ ،-‬وأصبح نص ًا مغلقا في ترتيب آياته وسوره‪،‬‬
‫ولم يعد يمنحنا أي فرصة إلعادة تركيب أجزائه بنحو يختلف عن‬
‫المصحف الرسمي‪ .‬وبالتالي‪ ،‬خسر المسلمون اإلمكانات التأويلية‬
‫التي كان يتيحها لهم الطابع المتناثر آليات القرآن المحمدي‪ .‬وهو‬
‫األمر الذي أفقر في األخير إمكانيات تأويل الخطاب القرآني‬
‫وحصرها داخل دائرة ضيقة‪ ،‬زاد من ضيقها أن مصحفة القرآن‬
‫تمت في العالم القديم‪ ،‬وجاءت من ثم موسومة بميسم القدامة‬ ‫ّ‬
‫شكال ومضمون ًا‪.‬‬
‫إذ ًا‪ ،‬المصحف الذي بين أيدينا هو أقل بكثير من حجم‬
‫القرآن الذي نزل على النبي محمد‪ ،‬وآياته ليست جميعها على‬
‫(‪ )1‬جورج طرابيشي‪ ،‬إشكاليات العقل العربي‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬بيروت‪ -‬لندن‪ ،‬الطبعة الرابعة ‪،2011‬‬
‫ص ‪.63 :‬‬

‫‪66‬‬
‫نفس القيمة واألهمية ودرجة اإلتقان؛ فمنها األكثر واألقل إحكام ًا‬
‫أو إتقانا‪ ،‬ومن بينها األكثر واألقل «خير ًا»‪ .‬ثم إن ترتيبها في شكل‬
‫نص جامع مانع لم يكن قرار الله أو الرسول‪ ،‬وإنما هو اجتهاد‬
‫المسلمين‪ ،‬فبأي معنى نقول عنه إنه كتاب «من تأليف» الله!؟‬
‫متفرقا ومتناثر ًا‪ .‬نزل في أوقات متنوعة‪،‬‬
‫منجم ًا‪ِّ ،‬‬
‫لقد نزل القرآن َّ‬
‫وفي مواجهة مواقف مختلفة‪ ،‬وظروف متفاوتة‪ .‬لذلك كان خاضعا‬
‫لمبدأ الواقع الى درجة أنه لم يتخذ شكل حكاية كبرى مسترسلة‬
‫في الزمان‪ .‬لكنه نزل أيضا يحمل زمنه الخاص في بنائه وتركيبه‪.‬‬
‫متكسر ومتقطع وشديد االلتواءات واالنقطاعات‪ .‬حتى‬ ‫ِّ‬ ‫إنه زمن‬
‫وخ ّطي‪.‬‬‫قصصه وحكاياته ال تمتثل في الغالب ألي زمن انسيابي َ‬
‫زمن القرآن هو زمن الحلم‪ .‬إنه زمن «الالوعي الكوني»‪ ،‬حيث‬
‫تتداخل كل األزمنة وتشتبك مع بعضها البعض‪ ،‬منذ بدء الخليقة‬
‫إلى غاية الوعود األخروية‪ .‬ليس لترتيب اآليات والسور أي مسار‬
‫خ ّطي تنتظم وفقه األحداث‪ .‬وهذا بخالف بنية الزمن الخطي في‬
‫كل من األناجيل وأسفار التوراة‪ ،‬بل وفي «الكتاب المقدس» بر ّمته‪.‬‬
‫لم تنطلق سيرورة «مصحفة القرآن» خالل حياة الرسول؛ إذ‬
‫الرسول يكتب الوحي بنفسه‪ .‬ولو كان قد كتب الوحي‬ ‫لم يكن ّ‬
‫بيديه لوجدنا أنفسنا منذ الوهلة األولى أمام «نص مقدس»‪ .‬كان‬
‫الرسول شيئ ًا من الوحي بنفسه ‪( :‬وما كنت تتلو‬
‫القرار أن ال يكتب ّ‬
‫من َق ْبله من كتاب وال تخ ّطه بيمينك إذ ًا الرتاب المبطلون) سورة‬
‫الرسول إلى االستعانة ببعض‬ ‫العنكبوت‪ ،‬اآلية ‪ .48‬وحين لجأ ّ‬
‫أبي بن كعب األنصاري‪ ،‬زيد‬ ‫كتّاب الوحي (علي بن أبي طالب‪ّ ،‬‬
‫بن ثابت‪ ،‬عبد الله بن سعد بن أبي سرح‪ ،‬عثمان بن عفان‪،)...‬‬
‫‪67‬‬
‫كثير ًا ما كان يتغيب بعضهم عن عدد من «الحصص» لسبب أو‬
‫آلخر‪ ،‬ما جعل «أرشيف» كل كاتب يختلف في بعض أجزائه عما‬
‫دونه اآلخرون‪ .‬وأيض ًا‪ ،‬إن جل اآليات التي تم حذفها بقرار من‬ ‫ّ‬
‫تعرضت للنّسخ اللفظي (قراءة وكتابة)‪ ،‬بقيت‬ ‫الوحي‪ ،‬أي أنها ّ‬
‫ضمن «أرشيف» بعض كتاب الوحي‪ ،‬بل ظلت في صدور من‬
‫حفظوها عن ظهر قلب‪ .‬وكان كتّاب الوحي يكتبون على أدوات‬
‫متناثرة (ألواح‪ ،‬جلود‪ ،‬جريد النخل‪ ،‬أحجار‪ ،‬عظام‪ ،‬وقطع قماش‬
‫حريرية‪ ،)...‬يكدسونها في بيوتهم كيفما اتفق من دون تنظيم‬
‫الرسول يقول لهم‪:‬‬ ‫واضح ومتفق عليه‪ .‬وفي المقابل‪ ،‬قليال ما كان ّ‬
‫ضعوا هذه اآلية في موضع كذا‪ ،‬أو الموضع الذي ذكر فيه كذا‪،‬‬
‫إلدراكه أن هذا الطلب ليس عملي ًا‪ ،‬بسبب ظروف الكتابة خالل‬
‫ذلك الوقت‪ ،‬وبسبب عدم االكتراث بأهمية التدوين لغلبة الثقافة‬
‫الشفهية‪.‬‬
‫الرسول عمل على تحويل‬ ‫صراحة‪ ،‬ال شيء يدل على أن ّ‬
‫القرآن إلى «نص مقدّ س»‪ ،‬أو أنه حاول ذلك‪ .‬لم يكن يرغب في‬
‫إضفاء أي قدسية على لحظة كتابة الوحي‪ ،‬ال شكال وال مضمون ًا‪،‬‬
‫لم يكن يهتم بأدوات ووسائل وخطوط وفضاء الكتابة‪ ،‬لم يسع إلى‬
‫إضفاء أي شكل من القدسية على أولى الصفحات المكتوبة‪ .‬كان‬
‫همه األساس أال تتالشى آيات اإلعجاز البياني‪ .‬لذلك كان يهتم‬
‫ّ‬
‫بأن يحفظ كل واحد ما تيسر له حفظه‪.‬‬
‫ومن جهة ثانية‪ ،‬ال شيء يؤكد أن المسلمين األوائل قد تعاملوا‬
‫مع القرآن كـ«نص مقدس»‪ ،‬وهم الذين اختلفوا في بعض اآليات‬
‫والسور القرآنية من دون أدنى إحساس بـ«التدنيس» أو شعور‬

‫‪68‬‬
‫يتحرج وهو يقول ‪ :‬صلينا باآلية كذا أو‬
‫بالذنب‪ .‬ولم يكن بعضهم َّ‬
‫قرأنا بها قبل نسخها زمن الرسول‪ ،‬أو حذفها من مصحف عثمان‪.‬‬
‫كان النسخ والحذف والنسيان ظواهر «طبيعية» ضمن ظاهرة‬
‫نتحرج‪ ،‬أو نمتنع‪،‬‬
‫تشكل اآليات القرآنية‪ .‬وإن كنا قد أصبحنا اليوم َّ‬
‫من مجرد التفكير في ذلك‪ ،‬فالسبب أننا لم نعد ننظر إلى القرآن إال‬
‫كـ«نص مقدّ س»‪.‬‬
‫الحديث المشهور عن عائشة حول اآليتين اللتين قيل إنهما‬
‫(الرجم ورضاع الكبير عشر) يؤكد عدم إضفاء‬ ‫ضاعتا من القرآن ّ‬
‫أي قدسية على النص‪ ،‬ليس من جهة ضياع اآليتين وحسب‪ ،‬وإنما‬
‫وأولهم النبي‪ ،‬مع اآليات‬
‫باألحرى لجهة ظروف تعامل المسلمين‪َّ ،‬‬
‫المدونة‪ .‬فقد ورد في مسند أحمد‪ ،‬عن عائشة ‪« :‬لقد أنزلت‬
‫َّ‬ ‫القرآنية‬
‫عشر‪ ،‬فكانت في ورقة تحت سرير في‬ ‫آية الرجم‪ ،‬ورضعات الكبير ٌ‬
‫بيتي‪ .‬فلما اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشاغلنا بأمره‪،‬‬
‫ودخلت دويبة لنا فأكلتها»‪ .‬وفي سنن ابن ماجة «فلما مات رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم وتشاغلنا بموته دخل داجن فأكلها»(‪.)1‬‬
‫وهما اآليتان اللتان اكتفى الكثيرون بالقول إنهما نسخ لفظهما‪ ،‬أو‬
‫تعرضتا لإلنساء (بذلك النحو!)‪.‬‬
‫مقصود القول‪ ،‬إن الورقة الوحيدة التي كتبت فيها اآليتان‬
‫ظلت لفترة معينة تحت السرير الذي كان ينام عليه الرسول مع‬
‫عائشة في بيتها‪ ،‬قبل أن يأتي حيوان ليلتهمها‪ .‬وهو وضع ال يسمح‬
‫با ّدعاء أي قداسة لـ «النص»‪.‬‬
‫(‪ )1‬رواه أحمد وابن ماجة‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫فضال عما قيل في الموضوع‪ ،‬لسنا نملك من دليل على‬
‫أن الرسول كان حريصا على مراجعة اآليات والسور المدونة‬
‫بعد الفراغ من إمالئها‪ .‬وال شيء يشير إلى أنه ك ّلف مشرف ًا على‬
‫مراجعة تدوينات َكتَبة الوحي‪ .‬لعل هذا ال يدخل ضمن تقاليد‬
‫ثقافة يغلب عليها الطابع الشفهي‪ .‬بل الجدير بالمالحظة أيض ًا‬
‫أنه حتى احتمال وجود اختالفات نوعية أو كمية بين أولى نسخ‬
‫القرآن المحمدي –أكان هذا بسبب تغ ّيب بعض كتبة الوحي عن‬
‫بعض جلسات اإلمالء‪ ،‬أو لغلبة الطابع الشفهي على اللغة العربية‬
‫وقتها وعلى لغة القرآن على وجه الخصوص‪ -‬لم يكن مما يزعج‬
‫الرسول أو يثير هواجسه؛ فقد كانت التبريرات موجودة‪ :‬من قبيل‬
‫مسألة األحرف السبعة‪ ،‬وحسابات الناسخ والمنسوخ‪ ،‬وتقديرات‬
‫المحكم والمتشابه‪ ،‬ونحو ذلك من مقتضيات ثقافة كانت تحتفي‬
‫بغلبة الظن‪ ،‬وأفعال الترجيح‪ ،‬وتكافؤ األدلة‪ ،‬واختالف الروايات‪،‬‬
‫قبل أن تنقلب إلى ثقافة النص الواحد‪ ،‬والرواية الواحدة‪ ،‬والحقيقة‬
‫الواحدة‪ ،‬وأخيرا الصوت الواحد‪.‬‬
‫مجمل القول‪ ،‬ال شيء يؤكد قداسة أو عصمة النص المكتوب‪.‬‬
‫لكن بسبب ذلك الجهد الذي اصطلح عليه جورج طرابيشي‬
‫نص ًا‪ ،‬وأمسى النص سلطة‬
‫باسم «مصحفة القرآن»‪ ،‬أصبح القرآن ّ‬
‫ال سحري ًا لكل مشاكل الحياة والسياسة‬
‫مطلقة ومرجع ًا مقدَّ س ًا وح ً‬
‫واالقتصاد‪.‬‬
‫وربما كان لـ «دم عثمان»‪ ،‬الذي وشم إحدى نسخ المصحف‬
‫والرغبة في‬
‫العثماني‪ ،‬داللة رمزية زادت من حجم الشعور باإلثم ّ‬
‫التكفير‪ ،‬ومن ثم الحاجة إلى نوع من إضفاء القداسة على النص‬

‫‪70‬‬
‫العثماني‪ ،‬ال سيما بعد أن صار عثمان رمز ًا لإلمام المغدور‪.‬‬
‫وللحكاية أثر بليغ على مصائر الوعي اإلسالمي‪.‬‬
‫غير أننا‪ ،‬في غمرة المزاد الديني العلني‪ ،‬نسينا األساس‪،‬‬
‫إذ ليس القرآن غاية في ذاته‪ .‬غاية القرآن –بما هو تأويل قام به‬
‫الرسول لإلشارات اإللهية‪ -‬هي ترسيخ مبدأ التوحيد اإلالهي في‬
‫مجرد وسائل‬
‫وجدان اإلنسان‪ .‬وأما التفاصيل فال تعدو أن تكون ّ‬
‫فرعية ومق َّيدة بظرفي الزمان والمكان‪.‬‬
‫انطالق ًا من هذا التّحديد‪ ،‬يجب أن يتجه مجهودنا اليوم نحو‬
‫تحرير العقل اإلسالمي من حالة الوالء لسلطة النص ‪-‬هذا النص‬
‫الذي صار أقنوم ًا ثاني ًا أو ثالث ًا من أقانيم األلوهية‪ -‬ومن ثم التوجه‬
‫الربوبي الخالص‪ .‬ما‬
‫نحو ربط وجدان اإلنسان المسلم بالتوحيد ّ‬
‫الربوبي‪،‬‬
‫يعني حاجتنا إلى االنتقال من إسالم النص إلى اإلسالم ّ‬
‫وفق الغاية السامية التي تحددها العبارة القرآنية ‪( :‬ولكن كونوا‬
‫ر ّبانيين) سورة آل عمران‪ ،‬اآلية ‪.79‬‬

‫‪71‬‬
72
‫ّ‬
‫وال�شخ�ص‬ ‫الن�ص‬
‫ّ‬

‫أن ال ُقرآن تأويل نبوي للوحي اإللهي‪ ،‬تأويل‬ ‫سبق الكالم عن ّ‬


‫الرسول أثناء تل ّقيه لإلشارت اإللهية واجتهاده في ترجمتها‬ ‫أنجزه ّ‬
‫الرسول‬ ‫إلى عبارات بشرية‪ .‬لذلك جاء القرآن انعكاس ًا لشخصية ّ‬
‫القرشي عليه السالم‪.‬‬
‫الرسول نشأ يتيم ًا في صغره‪ ،‬وامتهن‬ ‫أن ّ‬‫إذا استحضرنا ّ‬
‫ال أو داعي ًا إلى‬
‫التجارة داخل مجتمع يقوم على التجارة‪ ،‬وكان مقات ً‬
‫القتال في مجتمع يقوم على شريعة القتال‪ ،‬فإننا نستطيع أن نتب ّين‬
‫الرسول‪ ،‬ومن ثم على‬ ‫أثر هذه الخلفية السوسيوثقافية على مخ ّيلة ّ‬
‫النص القرآني ‪:‬‬
‫النبي ال َيتيم‪:‬‬
‫‪ّ 1-‬‬
‫ال ُيتم موضوع ثري من جملة المواضيع اإلحسانية في القرآن‬
‫المحمدي‪ ،‬بل لعله الموضوع اإلحساني األكثر ثراء وتكرار ًا‪.‬‬
‫وبوسعنا أن نحصي حوالي عشرين آية قرآنية تدعو بصيغ تعبيرية‬
‫مختلفة‪ ،‬إلى إكرام ال َيتيم واإلحسان إليه‪ .‬بل نالحظ أن التوصيات‬
‫اإلحسانية واإلكرامية غالب ًا ما تذكر اليتيم قبل المسكين‪.‬‬
‫‪73‬‬
‫مثال‪:‬‬
‫(‪ ...‬ال تعبدون إالّ الله وبالوالدين إحسان ًا وذي القربى‬
‫واليتامى والمساكين‪ )...‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.82‬‬
‫البر من آمن بالله واليوم اآلخر والمالئكة والكتاب‬
‫(‪ّ ...‬‬
‫والنبيئين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى‬
‫والمساكين‪ )...‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.177‬‬
‫(يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين‬
‫واألقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل‪ )...‬سورة البقرة‪،‬‬
‫اآلية ‪.215‬‬
‫(ويسألونك عن اليتامى قل إصالح لهم خير وإن‬
‫تخالطوهم فإخوانكم‪ )...‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.220‬‬
‫(وآتوا اليتامى أموالهم‪ )...‬سورة النساء اآلية ‪.2‬‬
‫(وإن خفتم أال تُقسطوا في اليتامى‪ )...‬سورة النساء‪،‬‬
‫اآلية ‪.3‬‬
‫(وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح‪ )...‬سورة النساء‪،‬‬
‫اآلية ‪.6‬‬
‫(وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين‪)...‬‬
‫سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.8‬‬
‫(‪ ...‬وبالوالدين إحسانا وبــذي القربى واليتامى‬
‫والمساكين‪ )...‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.36‬‬
‫(وال تقربوا مال اليتيم إال بالتي هي أحسن حتى يبلغ‬
‫أشده) سورة األنعام‪ ،‬اآلية ‪.153‬‬

‫‪74‬‬
‫(واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول‬
‫ولذي القربى واليتامى والمساكين‪ )...‬سورة األنفال‪ ،‬اآلية‬
‫‪.41‬‬
‫(كال بل ال تكرمون اليتيم) سورة الفجر‪ ،‬اآلية ‪.17‬‬
‫(ألم يجدك يتيما فآوى) سورة الضحى‪ ،‬اآلية ‪.6‬‬
‫(فأما اليتيم فال تقهر) سورة الضحى‪ ،‬اآلية ‪.9‬‬
‫يدع اليتيم)‬ ‫(أفرأيت الذي ِّ‬
‫يكذب بالدين‪ ،‬فذلك الذي ّ‬
‫سورة الماعون‪ ،‬اآلية ‪.2‬‬
‫(إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في‬
‫بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.10‬‬
‫وأغلب الظن أن اآلية األخيرة هي التي دفعت الفقهاء إلى‬
‫االستنتاج بأن أكل مال اليتيم كبيرة من كبائر اإلسالم‪ ،‬وهي عشر‬
‫حسب البعض وسبع في رواية أخرى‪.‬‬
‫‪ّ 2-‬‬
‫النبي التّاجر ‪:‬‬
‫الرسول التجارة داخل قبيلة عربية يقوم نشاطها‬ ‫امتهن ّ‬
‫السوسيواقتصادي على التجارة (إليالف قريش‪ ،‬إليالفهم رحلة‬
‫الشتاء والصيف) سورة قريش‪ ،‬اآليتان ‪ 1‬و‪ .2‬ولذلك بوسعنا أن‬
‫نرى في القرآن الكريم –إضافة إلى نفحته الربانية‪ -‬ثمرة لنمط‬
‫إنتاج تجاري‪ .‬وجاء على نحو «مليء بالحواريات التجارية»(‪،)1‬‬
‫(‪ )1‬عبد الكريم شروس‪ ،‬بسط التجربة النبوية‪ ،‬ترجمة أحمد القبانجي‪ ،‬منشورات الجمل‪ ،‬بيروت‪-‬‬
‫بغداد‪ ،2009 ،‬ص ‪.65 :‬‬

‫‪75‬‬
‫وبالمصطلحات التجارية –كما يالحظ المصلح الديني اإليراني‬
‫الكبير عبد الكريم شروس‪ -‬من قبيل «خسر‪ ،‬ربح‪ ،‬تجارة‪ ،‬قرض‪،‬‬
‫ربا‪ ،‬بيع‪ ،‬شراء‪ ،‬أجر‪ ،‬وأمثال ذلك»(‪ .)1‬وبوسعنا أن نضيف إلى ذلك‬
‫وسائل قياس األوزان‪ ،‬من قبيل الوزن‪ ،‬الميزان‪ ،‬الكيل‪ ،‬المكيال‪،‬‬
‫المثقال‪ ،‬إلخ‪.‬‬
‫أربع مالحظات‪:‬‬
‫المالحظة األولى‪ ،‬يتكلم القرآن المحمدي عن التجارة أكثر‬
‫مما يتكلم عن أي حقل إنتاجي آخر‪ .‬واآليات كثيرة‪ ،‬مثال ‪:‬‬
‫ُون تِ َج َار ًة َعن‬
‫(الَ ت َْأ ُك ُلو ْا َأ ْم َوا َلك ُْم َب ْينَك ُْم بِا ْل َباطِ ِل إِالَّ َأن َتك َ‬
‫اض ِّمنك ُْم) سورة النساء اآلية ‪.29‬‬ ‫ت ََر ٍ‬
‫َخ َش ْو َن كسادها) سورة‬ ‫وها َوتِ َج َار ٌة ت ْ‬ ‫(و َأ ْم َو ٌال ا ْقت ََر ْفت ُُم َ‬ ‫َ‬
‫التوبة اآلية ‪.24‬‬
‫(ر َج ٌال َّال ُت ْل ِه ِيه ْم تِ َج َار ٌة َو َال َب ْي ٌع َعن ِذك ِْر ال َّل ِه) سورة‬ ‫ِ‬
‫النور‪ ،‬اآلية ‪.37‬‬
‫( َيا َأ ُّي َها ا َّل ِذي َن آ َمنُو ْا َأ ِنف ُقو ْا ِم َّما َر َز ْقنَاكُم ِّمن َق ْب ِل َأن َي ْأتِ َي‬
‫َي ْو ٌم الَّ َب ْي ٌع فِ ِيه َوالَ خالل) سورة البقرة اآلية ‪.»254‬‬
‫الر َبا) سورة البقرة اآلية‪.275‬‬ ‫(و َأ َح َّل ال ّل ُه ا ْل َب ْي َع َو َح َّر َم ِّ‬
‫َ‬
‫( ِّمن َق ْب ِل َأن َي ْأتِ َي َي ْو ٌم الَّ َب ْي ٌع فِ ِيه َوالَ ِخال ٌَل) سورة إبراهيم‬
‫اآلية‪.31‬‬
‫(‪ )1‬عبد الكريم شروس‪ ،‬بسط التجربة النبوية‪ ،‬ترجمة أحمد القبانجي‪ ،‬منشورات الجمل‪ ،‬بيروت‬
‫بغداد‪ ،2009 ،‬ص ‪.65 :‬‬

‫‪76‬‬
‫(وإن رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها‪ )...‬سورة الجمعة‪،‬‬
‫اآلية ‪.11‬‬
‫(‪ ...‬إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه‪ )...‬سورة‬
‫البقرة‪ ،‬اآلية ‪.282‬‬
‫المالحظة الثانية‪ ،‬كثيرا ما يتكلم القرآن المحمدي عن مسائل‬
‫العقيدة والعالقة مع الله برؤية تجارية‪ .‬مثال ‪:‬‬
‫(من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا‬
‫كثيرة) سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.245‬‬
‫(‪ ...‬وأقرضتم الله قرضا حسنا‪ )...‬سورة المائدة‪ ،‬اآلية‬
‫‪.13‬‬
‫(يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من‬
‫عذاب أليم) سورة الصف‪ ،‬األية ‪.10‬‬
‫ات ال ّل ِه َوال ّل ُه‬‫َّاس من ي ْش ِري َن ْفسه ابتِ َغاء مر َض ِ‬
‫َْ‬ ‫َ ُ ْ‬ ‫(وم َن الن ِ َ َ‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫وف بِا ْلع َباد) سورة البقرة اآلية ‪.207‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َر ُؤ ٌ‬
‫ال َل َة بِا ْل ُهدَ ى َف َما َربِ َحت‬ ‫( ُأ ْو َل ِـئ َك ا َّل ِذي َن ْاشت َُر ُو ْا َّ‬
‫الض َ‬
‫تج َارت ُُه ْم َو َما كَانُو ْا ُم ْهت َِدي َن»‪ .‬سورة البقرة اآلية‪.16‬‬ ‫َ‬
‫المالحظة الثالثة‪ ،‬كثير ًا ما يستعمل القرآن الكريم نفس‬
‫الوسائل واألدوات التي يستعملها التاجر‪ ،‬مثل الميزان والمكيال‬
‫والمثقال‪ ،‬سواء في حديثه عن التجارة أو حديثه عن العقيدة‪ .‬مثال‪:‬‬
‫(والَ تَن ُق ُصو ْا ا ْل ِم ْك َي َال َوا ْل ِم َيز َ‬
‫ان إِن َِّي َأ َراكُم بِ َخ ْي ٍر َوإِن َِّي‬ ‫َ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َأ َخ ُ‬
‫اب َي ْو ٍم ُّمحيط) سورة هود‪ ،‬اآلية ‪.84‬‬ ‫اف َع َل ْيك ُْم َع َذ َ‬
‫‪77‬‬
‫ان بِا ْل ِقس ِ‬
‫ط َوالَ َت ْب َخ ُسو ْا‬ ‫(و َيا َق ْو ِم َأ ْو ُفو ْا ا ْل ِم ْك َي َال َوا ْل ِم َيز َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اءه ْم َوالَ َت ْع َث ْو ْا في األَ ْر ِ‬
‫ض ُم ْفسدي َن) سورة هود‪،‬‬ ‫َّاس َأ ْش َي ُ‬
‫الن َ‬
‫اآلية ‪.85‬‬
‫(ويل للمصطفين‪ ،‬الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون‪،‬‬
‫وزنوهم ُيخسرون) سورة المصطفين‪ ،‬اآليات‬ ‫وإذا كالوهم أو ّ‬
‫‪ 1‬و‪ 2‬و‪.3‬‬
‫َاب بِا ْل َح ِّق َوا ْل ِم َيز َ‬
‫ان َو َما ُيدْ ِر َ‬
‫يك َل َع َّل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫(ال َّل ُه ا َّلذي َأ َنز َل ا ْلكت َ‬
‫يب) سورة الشورى اآلية‪. 17‬‬ ‫السا َع َة َق ِر ٌ‬
‫َّ‬
‫ان لِي ُقوم النَّاس بِا ْل ِقس ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ط‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َاب َوا ْلم َيز َ َ َ‬ ‫(و َأ َنز ْلنَا َم َع ُه ُم ا ْلكت َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َو َأ َنز ْلنَا ا ْل َحديدَ فيه َب ْأ ٌس َشديدٌ ) سورة الحديد‪ ،‬اآلية ‪.25‬‬‫ِ‬

‫ف َن ْفس ًا إِالَّ‬ ‫ان بِا ْل ِقس ِ‬


‫ط الَ ُن َك ِّل ُ‬ ‫(و َأ ْو ُفــو ْا ا ْل َك ْي َل َوا ْل ِم َيز َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ُو ْس َع َها) سورة األنعام‪ ،‬اآلية ‪.152‬‬
‫َّاس َأ ْش َي ُ‬
‫اءه ْم َوالَ‬ ‫ان َوالَ َت ْب َخ ُسو ْا الن َ‬ ‫( َف َأ ْو ُفو ْا ا ْل َك ْي َل َوا ْل ِم َيز َ‬
‫ض) سورة األعراف‪ ،‬اآلية ‪.85‬‬ ‫ُت ْف ِسدُ و ْا فِي األَ ْر ِ‬
‫(و َم ْن َخ َّف ْت َم َو ِازينُ ُه َف ُأ ْو َل ِـئ َك ا َّل ِذي َن َخ ِس ُرو ْا َأن ُف َس ُهم)‬ ‫َ‬
‫األعراف‪ ،‬اآلية ‪.9‬‬
‫(والسماء رفعها ووضع الميزان‪ ،‬أال تطغوا في الميزان‪،‬‬
‫ان) سورة الرحمن‪،‬‬‫ُخ ِس ُروا ا ْل ِم َيز َ‬ ‫و َأ ِقيموا ا ْلو ْز َن بِا ْل ِقس ِ‬
‫ط َو َال ت ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬
‫اآليات ‪ 7‬و‪ 8‬و‪.9‬‬
‫الرابعة‪ ،‬إن نظام العقوبات في النص القرآني غالب ًا‬
‫والمالحظة ّ‬
‫ما جاء بنحو يرضي مزاج التاجر‪ ،‬داخل سياق سوسيواقتصادي‬

‫‪78‬‬
‫أدل على ذلك من أن جرائم السرقة‬‫يقوم أساس ًا على التجارة‪ .‬وال ّ‬
‫وقطع الطريق‪ ،‬وهي أخشى ما يخشاه التاجر‪ ،‬تندرج ضمن نظام‬
‫الحدود‪ ،‬التي ال يجوز فيها العفو أو التساهل‪ ،‬وتكون عقوبتها‬
‫بقطع يد السارق‪ ،‬وبقطع أطراف قاطع الطريق (حد الحرابة)‪.‬‬
‫وفي المقابل‪ ،‬رغم تجريم الربا وتحريمها القطعي في النص‬
‫القرآني (‪...‬أحل الله البيع وحرم الربا‪ )...‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪275‬‬
‫و( يمحق الله الربا‪ )...‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪ ،276‬فإن النص القرآني‬
‫لم يحدد للربا أي حد من الحدود‪ ،‬وال أي عقوبة من العقوبات‪.‬‬
‫والرشوة واالحتكار‪ ،‬وهي‬ ‫وكذلك األمر بالنسبة لجرائم الغش ّ‬
‫جرائم اقتصادية قد يقترفها التاجر‪ ،‬وذكرها النص القرآني بالتنديد‪،‬‬
‫مثل اآلية (ويل للمصطفين‪ ،‬الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون‪،‬‬
‫وزنوهم ُيخسرون) سورة المصطفين‪ ،‬اآليات ‪1‬‬ ‫وإذا كالوهم أو ّ‬
‫و‪ 2‬و‪ ،3‬إال أنها جرائم من دون عقوبات قرآنية محددة‪ ،‬وقد‬
‫أدرجها الفقهاء ضمن العقوبات التعزيرية‪ ،‬وهي عقوبات اجتهادية‬
‫مخففة بالمقارنة مع حد السرقة وحد الحرابة‪.‬‬
‫‪3-‬عقيدة القتال ‪:‬‬
‫يكف الخطاب القرآني عن الدّ عوة إلى القتال‪ .‬بل يقول‬
‫ّ‬ ‫ال‬
‫في إحدى آياته (كتب عليكم القتال) سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.216‬‬
‫واستناد ًا إلى هذا التصريح الصريح‪ ،‬استنتج داعية التطرف الديني‬
‫عبد السالم فرج في كتابه الفريضة الغائبة أن القتال فرض عين على‬
‫كل إنسان مسلم‪ ،‬قياس ًا على اآلية (كتب عليكم الصيام) سورة‬
‫البقرة‪ ،‬اآلية ‪.183‬‬
‫‪79‬‬
‫صدق ًا‪ ،‬نحن أمام مفارقة فقهية تحترم قواعد القياس المنطقي‬
‫لتخلص إلى أن الصيام والقتال هما على نفس الدرجة من الوجوب‬
‫الشرعي‪.‬‬
‫بل نحن في ورطة تشريعية تُوازن بين الدعوة للقتال وفريضة‬
‫الصيام‪.‬‬
‫ما الحل إذ ًا؟‬
‫تقول قواعد المنطق ‪ :‬عندما ننتهي إلى المفارقة‪ ،‬من الواجب‬
‫مراجعة المنطلقات‪.‬‬
‫المشكلة أن بعضنا يظن أن آيات التحريض على القتال في‬
‫الخطاب القرآني تم ّثل «وجهة نظر» الله في بعض األمور البشرية‪.‬‬
‫حري بنا أن ندرك أن التحريض‬
‫ّ‬ ‫إالّ أن األمر على خالف من ذلك‪.‬‬
‫القرآني على القتال‪ ،‬أيا كانت مسوغاته ومبرراته‪ ،‬ال يعكس‬
‫«وجهة نظر» الله تعالى‪ ،‬وإنما يعكس ‪-‬بكل بساطة‪ -‬شخصية‬
‫الرسول للوحي اإللهي‪ .‬وطبيعي أن يكون التأويل خاضع ًا‬ ‫تأويل ّ‬
‫لشخصية الرسول‪ ،‬وأن تكون هذه الشخصية خاضعة لمؤثرات‬
‫الرسول‪ ،‬عصر‬ ‫الثقافة التقليدية والقتالية للعصر الذي عاش فيه ّ‬
‫عنف ما قبل نشوء الدولة‪ ،‬وبالتالي ما قبل دولة الحق والقانون‬
‫بعدّ ة قرون‪.‬‬
‫ذلك أن القرآن –وهذا ما نحرص على تأكيده‪ -‬ليس قانون ًا‬
‫أبدي ًا نازالً‪ ،‬كما هو‪ ،‬كامالً‪ ،‬من السماء‪ ،‬كما يظ ّن أصحاب النظرة‬
‫الرسول كالم ًا‬
‫السحرية إلى الدين‪ ،‬وإنما هو إشراقات قلبية ص ّيرها ّ‬
‫مدون ًا‪ ،‬قبل‬
‫مجازي ًا تع ّبدي ًا‪ ،‬ثم ص ّير المسلمون ذلك الكالم مصحف ًا ّ‬
‫‪80‬‬
‫نص ًا مقدس ًا‪ .‬وكل هذا جرى في سياق تأويلي‬
‫أن يص ّيروا المصحف ّ‬
‫ولغوي وثقافي وسياسي بالغ التعقيد‪.‬‬
‫على هذا النحو‪ ،‬بوسعنا أن ندرك المفاهيم القتالية الواردة‬
‫في النص القرآني ليس باعتبارها أوامر «عسكرية» إلهية‪ ،‬كما ظن‬
‫تخص بيئة‬
‫ّ‬ ‫مجرد تدابير فرعية‬
‫الفقهاء واعتقد السلفيون‪ ،‬وإنما هي ّ‬
‫الرسول وتناسب ُعنف ما قبل الدولة‪.‬‬
‫ومن دون شك‪ ،‬فقد جرت عادة المجتمعات القديمة أن ُيغ ْير‬
‫بعضها على بعض‪ .‬بل ال نجانب الصواب إن قلنا إن القتال في‬
‫مجرد نشاط تكميلي‪ ،‬بل يمثل‪ ،‬من جهة‬ ‫العالم القديم لم يكن ّ‬
‫أولى‪ ،‬نشاط ًا اقتصادي ًا أساسي ًا‪ ،‬بالنظر إلى المحصول الذي تم ّثله‬
‫الغنيمة والفيء والسبي‪ .‬ويمثل ‪ ،‬من جهة ثانية‪ ،‬نمط إنتاج ثقافي‪،‬‬
‫بالنظر إلى قيم البطولة‪ ،‬ومالحم الثأر واالنتقام‪ ،‬وأشعار الحماسة‬
‫والرثاء‪ ،‬التي هي ثقافة العالم القديم‪.‬‬
‫تحرض على‬
‫لذلك‪ ،‬طبيعي أن يحتوي القرآن على آيات ِّ‬
‫القتال‪ .‬مثل اآليات التالية ‪:‬‬
‫(كتب عليكم القتال وهو كره لكم‪ ،‬وعسى أن تكرهوا شيئا‬
‫وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم‬
‫ال تعلمون) سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪. 216‬‬
‫حرض المؤمنين على القتال‪ ،‬إن يكن منكم‬ ‫(يا أيها النبي ّ‬
‫عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من‬
‫الذين كفروا‪ )...‬سورة األنفال‪ ،‬اآلية ‪. 65‬‬
‫(وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم وال تعتدوا إن الله ال‬
‫يحب المعتدين) سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.190‬‬
‫‪81‬‬
‫(واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم‬
‫والفتنة أشد من القتل وال تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى‬
‫يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين) سورة‬
‫البقرة‪ ،‬اآلية ‪. 191‬‬
‫(وقاتلوهم حتى ال تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فال‬
‫عدوان إال على الظالمين) سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪. 193‬‬
‫(وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم) سورة‬
‫البقرة‪ ،‬اآلية ‪.244‬‬
‫لكن ما هو غير منطقي هو أن نجعل هذه اآليات أوامر‬
‫«عسكرية» إلهية ال تقبل العصيان‪ ،‬وترقى بالتالي إلى مستوى‬
‫العقيدة‪ .‬وهذا خطأ مدمر لألمن واالستقرار‪.‬‬
‫مثل تلك اآليات‪ ،‬رغم أنها مشفوعة أحيان ًا باجتناب االعتداء‬
‫والعدوان‪ ،‬إال أن هذا ال يكفي إلزالة أثرها على «عسكرة» الوعي‬
‫اإلسالمي‪ ،‬ال سيما في شقه الفقهي والسلفي‪ .‬وهكذا‪ ،‬ال بد من‬
‫خيار أكثر معقولية ومصداقية‪ ،‬ال بد من موقف اجتهادي حازم‬
‫وحاسم‪.‬‬
‫ما عساني أقول؟‬
‫عليـنا أن نـدرك أن الوحي القرآني قـد انـتقل إلينـا‪ ،‬لـيس‬
‫الرسـول‪ ،‬وإنما جـاء الخطاب القـرآني في‬ ‫فقط بواسـطة لغة ّ‬
‫األول واألخير ثمرة لتلك «الوساطة» نفسها؛ إذ ليس ثمة لغة‬
‫محايدة‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫وعليه‪ ،‬لنا أن نستنتج أن آيات الدعوة إلى القتال في القرآن‬
‫مجرد توصيات‬‫ال تمثل أي قانون مقدس أو تشريع إلهي‪ ،‬بل هي ّ‬
‫الرسالة‪ ،‬عصر ال وجود فيه لدولة‬ ‫فرعية تناسب ثقافة عصر ّ‬
‫المؤسسات‪ ،‬ومفاهيم الحق والقانون والمؤسسات لم تكن‬
‫معروفة آنذاك‪ .‬وليس في حكم الوارد أن يخاطب الدين الناس بما‬
‫الرسول على معرفة بها‪.‬‬
‫ال يعرفون‪ ،‬وال ضمن المتاح أن يكون ّ‬
‫اليوم يتخذ الصراع السياسي من هذه اآليات مط ّية للتحريض‬
‫على أقصى وأبشع أنواع العنف‪ ،‬ويتم تقديمها على ما عداها‪.‬‬
‫ولهذا السبب‪ ،‬عندما يفقد القرآن الكريم وظيفته األصلية‪ ،‬وهي‬
‫ويتم توظيفه في حقل الحراك‬ ‫تأكيد وحدانية الله والتع ُّبد والصالة‪ّ ،‬‬
‫السياسي والصراع من أجل السلطة‪ ،‬يصبح عائق ًا ثقافي ًا أمام بناء‬
‫دولة المؤسسات‪ ،‬مثلما يحدث اليوم في أفغانسان والصومال‬
‫وغزة والعراق وسوريا وليبيا وغيرها‪.‬‬

‫‪83‬‬
84
‫لي�ص القراآن د�شتوراً‬

‫ك ّلما عال شعار «القرآن دستورنا» إالّ وكان مدخ ً‬


‫ال إلى‬
‫صراعات وفتن‪ .‬وها نحن اليوم نرى نتائجها على نحو مؤلم‬
‫وبشع‪.‬‬
‫كلما ُحمل القرآن باألكف‪ ،‬أو ُرفع على السيوف‪ ،‬أ ّدى إلى‬
‫تناحر ُينتج المآسي التي تؤدي إلى مزيد من التناحر الذي يترك‬
‫آثاره على مدى تاريخنا‪.‬‬
‫كلما ُدعي إلى تحكيم القرآن في االختالف بين الفرقاء كان‬
‫ذلك مبعث ًا لخالف ال ّأول له وال آخر‪.‬‬
‫لماذا؟‬
‫حمالة أوجه‪ ،‬بعضها ُيعارض بعضها‬ ‫ّ‬
‫ألن آيات القرآن الكريم ّ‬
‫اآلخر‪ ،‬وبعضها ينسخ بعضها اآلخر‪ ،‬وبعضها ُيع ِّطل بعضها اآلخر؛‬
‫وقد أنزلت على سبعة أحرف‪ ،‬معظمها آيات متشابهات‪ ،‬مبهمة‬
‫منجمة متناثرة‪ ،‬وكتبت على‬ ‫المعنى ملتبسة الداللة‪ ،‬كما أنزلت ّ‬
‫رقا ٍع متفرقة وبلغة كانت ال تزال بال قواعد‪ .‬وحتى باعتماد الحرف‬
‫‪85‬‬
‫الواحد الباقي‪ ،‬انفجرت عشر قراءات على األقل‪ ،‬وتطايرت‬
‫عشرات التفاسير‪ .‬وبين ثنايا تفسير كل آية من اآليات الزم ٌة أجمع‬
‫عليها كافة المفسرين وتكرس أزمة اليقين إذ تقول‪« :‬اختلف علماء‬
‫األمة في قراءة هذا اللفظ (أو ذاك)‪ ،‬أو تحديد معنى هذه اآلية (أو‬
‫تلك)»‪.‬‬
‫فهل هذا دستور؟!‬
‫دي خالص‪ ،‬لكنه في‬ ‫تذكير ًا نقول‪ :‬القرآن الكريم كالم تع ُّب ٌ‬
‫المستوى المعرفي يصبح صعب المراس‪ ،‬غارق ًا في االلتباس‪،‬‬
‫ال بالمقابل لكل توصيف أو توظيف في أي اتجاه نبتغي أو‬ ‫وقاب ً‬
‫الرحمة والتسامح وجدنا آيات تدعو لذلك‪،‬‬ ‫ال نبتغي‪ .‬إن ابتغينا ّ‬
‫وإن قصدنا العنف والقتال ألفينا آيات تأمر بذلك‪ .‬وفي زحمة‬
‫الرحمة والغفران‪ ،‬تمنحنا الكثير من العبارات‬ ‫آيات العنف وآيات ّ‬
‫إمكانية تقويلها ما ال تقوله إمالء أو إيماء‪.‬‬
‫لكن المؤكد أن التوظيف اإليديولوجي للنص القرآني يجعل‬
‫القرآن الكريم يبدو وكأنه ط ِّيع في أيدي األصوليين األكثر أصولية‪،‬‬
‫والسلفيين األكثر سلفية‪ ،‬وذلك ما دام س ّلم قيمه «السياسية» ال‬
‫يتخطى سقف البيئة القروية التي نزل فيها‪ ،‬بيئة الطاعة والبيعة‬
‫والحاكمية والقوامة والوالء والبراء والغلبة واالتِّباع‪ ،‬إلخ‪.‬‬
‫رغم ما قيل ويقال‪ ،‬فالمؤكد أن شعار «القرآن دستورنا» ما‬
‫هو بشعار قرآني وال هو بشعار دستوري ‪:‬‬
‫إذ المالحظ‪ ،‬من جهة أولى‪ ،‬أن الدّ ستور ليس مفهوما قرآني ًا‪،‬‬
‫الذكر الحكيم‪ ،‬كما لم يرد في أي‬ ‫طالما لم يرد في أي آية من آيات ِ‬

‫‪86‬‬
‫تفسير من التفاسير القديمة أو المحدثة‪ ،‬بل دخل إلى العربية الحق ًا‬
‫من باب المفاهيم المستوردة‪.‬‬
‫والمؤكّد‪ ،‬من جهة ثانية‪ ،‬أن القرآن ليس مفهوم ًا دستوري ًا‪،‬‬
‫طالما أن من بين الخصائص األساسية لبنود الدستور أن تكون‪،‬‬
‫أوالً‪ ،‬مصاغة بلغة تخلو من المجاز واالستعارة وال تحتمل سوى‬
‫هامش ضيق من الخالف في التأويل‪ ،‬وليس هذا حال القرآن الذي‬
‫نصا مجازيا من ألفه إلى يائه؛ وأن تكون‪ ،‬ثاني ًا‪ ،‬قابلة‬
‫يكاد يكون ّ‬
‫للتعديل تبع ًا للمعطيات ولما تقتضيه األحوال‪ ،‬وبالتأكيد ليست‬
‫آيات القرآن على ذلك الوجه‪.‬‬
‫رغم ذلك‪ ،‬ال تخلو األجواء من تشويش مقصود‪ ،‬إذ يرتفع‬
‫الشعار مدوي ًا ‪« :‬القرآن دستورنا» بدون أن يعرف أهل العقل‬
‫النص‬
‫والحكمة منّا كيف يعترضون‪ ،‬وبأي وجه ير ّدون‪ ،‬ما دام ّ‬
‫القرآني يتبدّ ى وكأنه جامع لألحكام والشرائع‪ ،‬وشامل لقواعد‬
‫ٍ‬
‫ومستوف لكل القوانين والشرائع والقواعد‬ ‫السلوك والمعامالت‪،‬‬
‫التي أرادها الله للمسلمين أجمعين‪ ،‬بل للبشرية جمعاء‪ ،‬والتي‬
‫أحكامها تصلح لكل زمان ومكان‪.‬‬
‫لكن المعادلة تقول ‪:‬‬
‫‪-‬أي نص كيفما كان‪ -‬محدودة‪ ،‬وأشياء‬ ‫ّ‬ ‫كلمات النص‬
‫الواقع العيني غير محدودة؛ كلمات النص ‪-‬أي نص كيفما كان‪-‬‬
‫ثابتة في مواضعها‪ ،‬وأشياء الواقع العيني تتبدل على الدوام‪ .‬وكما‬
‫صرح األصوليون االجتهاديون‪ ،‬النصوص تنتهي وحوادث العباد‬ ‫ّ‬
‫ال تنتهي‪ .‬النتيجة‪ ،‬إذ ًا‪ ،‬من المحال أن يكون النص –أي نص‬
‫‪87‬‬
‫كيفما كان‪ -‬مرجع ًا مطلق ًا وصالح ًا لتفسير أو تدبير كل الحاالت‬
‫واألحوال‪.‬‬
‫تصرف الفقهاء؟‬
‫إزاء هذا اإلشكال‪ ،‬كيف ّ‬
‫لم يظهر الفقه ّأول األمر إالّ أم ً‬
‫ال في تقليص الفارق المتعاظم‬
‫بين النص والواقع‪ ،‬أي توسيع مجال سلطة النص لتشمل أقصى‬
‫ما يمكن من المستجدات والمستحدثات‪ .‬وذلك بواسطة آلية‬
‫القياس‪.‬‬
‫طيب‪ ،‬أين المشكل؟‬
‫الزمني بين النص الديني والواقع العيني‪،‬‬
‫كلما اتسع الفارق ّ‬
‫اتسعت مساحة الفراغ التشريعي‪ ،‬ومن ثم استعصى القياس‪ .‬بل قد‬
‫ال ينتج القياس إزاء اتساع الفارق الزمني بين النص والواقع غير‬
‫المرة أحيان ًا‪ .‬من قبيل حكاية «عشر رضعات للكبير» في‬
‫السخرية ّ‬ ‫ّ‬
‫«زوجتك نفسي» في‬ ‫مجال العالقات بين الموظفين والمهنيين‪ ،‬أو ّ‬
‫مجال الحياة الجامعية‪ ،‬أو تلقي معونات من السفارات األمريكية‬
‫على أنها باب من أبواب الجزية‪ ،‬إلخ !‬
‫تلك أزمة االجتهاد الديني اليوم والذي كثير ًا ما ُيدعى إليه‬
‫وال ُيستجاب‪.‬‬
‫غير أن الوعي بأزمة صالحيات النص بدأ منذ الوهلة األولى‪،‬‬
‫مع ظهور ما ُيعرف بـ «أسباب النزول»‪ .‬ذلك أن الجهد المبذول‬
‫في تحديد أسباب النزول يفضح وعي ًا ‪-‬مسكوت ًا عنه‪ -‬بمحدودية‬
‫ما ُيعرف باألحكام الشرعية‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫لماذا؟‬
‫عندما ُيقدَّ م أي نص قانوني باعتباره تشريع ًا كوني ًا وأبدي ًا‬
‫وصالح ًا لكل زمان ومكان‪ ،‬فمن العبث أن نبحث عن أسباب نزوله‬
‫الراجح أن طابع الكونية واإلطالق يستدعيان‬ ‫لغاية تفعيله‪ .‬بل ّ‬
‫تجريد النص القانوني إلى أبعد مدى ممكن من سياقه النّزولي‪.‬‬
‫لكننا نضطر للعود إلى أسباب النزول عندما ندرك محدودية‬
‫الحكم‪ ،‬فنحاول تجاوز تلك المحدودية عبر آليات القياس كما‬
‫يفعل الفقهاء‪ ،‬أو عبر تعطيل الحكم «الشرعي» كما درجت عليه‬
‫«العادة السرية» ّ‬
‫لجل المسلمين وإن كانوا قليال ما يبوحون‪.‬‬
‫إننا نعلم أيض ًا إن اإلصرار على ترسيم القرآن كدستور إلهي‬
‫هو محصلة مسار طويل من االنتقال من إسالم الفطرة والقلب إلى‬
‫الرسول‪ ،‬حين تحول‬ ‫ِ‬
‫إسالم الحبر والورق‪ .‬إنه مسار بدأ عقب وفاة ّ‬
‫الرباني إلى قرآن محمدي‪ ،‬وإلى ُمصحف عثماني‪ ،‬وإلى‬ ‫الوحي ّ‬
‫نص رسمي وسلطة مطلقة ومق ِّيدة للعقل والجسد والوجدان‪.‬‬
‫في السياق ذاته‪ ،‬انتقل مركز ثقل الثقافة اإلسالمية من‬
‫التوحيد الربوبي‪ ،‬حسب إسالم الفطرة وتبع ًا لمباحث علم الكالم‪،‬‬
‫إلى النص الديني‪ ،‬حسب إسالم الورق وتبع ًا لمباحث الفقه‬
‫التي ض ّيعت القلب وأغرقت العقل في ركام من الشرائع والسنن‬
‫واألحكام ‪.‬‬
‫ومن دالئل العجز العلمي أن ينظر المسلم إلى القرآن كما‬
‫لو أنه مغارة علي بابا‪ ،‬في داخله كل شيء؛ أو كأنه عصا موسى أو‬
‫خاتم سليمان‪ ،‬بضربة سحرية ُيقدم الحلول الناجعة لكافة المشاكل‬
‫‪89‬‬
‫االجتماعية والسياسية واالقتصادية‪ ،‬بل يعتبره البعض ترياق ًا شافي ًا‬
‫أو ُرقية واقية من األمراض الجسمية والنفسية وحتى العقلية !‬
‫وهذا منتهى الالمعقول‪.‬‬
‫ولعل الصعود االنتخابي لإلسالميين في أول انتخابات‬
‫حرة في مصر وتونس ‪-‬ليس على أساس أي برنامج تنموي‪ -‬إنما‬
‫ّ‬
‫يعكس هذا الرهان السحري على الخالص الديني‪.‬‬
‫الروحي‬ ‫تحديد ًا‪ ،‬انتقل القرآن الكريم من آيات للتع ّبد ّ‬
‫الروحية المتحررة من مغريات السلطة وجشع‬ ‫الخالص‪ ،‬وللصالة ّ‬
‫المال‪ ،‬ومن اتصال بين العابد والمعبود يطمئن النفس ويدخل اليها‬
‫األمان الذي تحتاجه‪ ،‬إلى نص مقدس ووصايا إلهية قاهرة للعقل‬
‫والوجدان‪.‬‬
‫مجرد ضرب من ضروب الشرك‪ ،‬وال شك في ذلك‪.‬‬
‫هذا ّ‬

‫‪90‬‬
‫عبادة الن�ص!‬

‫وقفة قصيرة قبل أن نستأنف الكالم‪ ،‬لكي نقول ‪:‬‬


‫نعم‪ ،‬ينبغي العمل على تحرير العقل اإلسالمي من مرجعية‬
‫ومرة أخرى يبرز السؤال‪ ،‬أال يكون الخروج‬‫النص الديني‪ .‬لكن‪ّ ،‬‬
‫من النص الديني‪ ،‬ال سيما النص القرآني‪ ،‬خروج ًا من اإلسالم أو‬
‫من اإليمان‪ ،‬أو باألحرى خروج ًا عن اإلسالم أو عن اإليمان؟‬
‫ال‪..‬‬
‫ليس الخروج عن مرجعية النص الديني عموما أو القرآني‬
‫على وجه التحديد خروج ًا من اإلسالم أو من اإليمان‪ ،‬وال خروج ًا‬
‫عن اإلسالم أو عن اإليمان‪.‬‬
‫مرة أخرى‪..‬‬
‫ّ‬
‫موقف القرآن الكريم واضح صريح‪ ،‬إذ يقول ‪( :‬ومن الناس‬
‫من يعبد الله على حرف)‪ ،‬بمعنى على وجه مضبوط‪ ،‬بمعنى وفق‬
‫أسلوب محدّ د‪ ،‬بمعنى تبع ًا لطريقة معينة‪ ،‬إلخ‪ .‬وليس هذا هو الوجه‬
‫المطلوب بأي حال‪ .‬لماذا؟ ّ‬
‫ألن التع ّبد تعبير إبداعي عفوي تلقائي‬
‫‪91‬‬
‫يستدعي في مجمل األحوال قدرة المؤمن على الخروج من النص‬
‫والتخلص من أي طريق أو خارطة طريق قد تكون مرسومة سلف ًا‬
‫وبنحو حرفي‪.‬‬
‫اإليمان إبحار بال بوصلة‪ ،‬لقاء بال موعد‪ ،‬رحلة بال طريق‪،‬‬
‫كشف بال هدف‪ ،‬انكشاف ذاتي‪ ،‬حدس شخصي‪ ،‬ال مكان فيه‬
‫ألي قيادة أو انقياد‪ ،‬وال ألي سلطة أو تس ّلط‪ ،‬وال مكان فيه لتجارة‬
‫رابحة أو خاسرة‪ ،‬وليس فيه خوف بل طمأنينة في أحلك األوقات‪.‬‬
‫والقرآن الكريم نفسه لم ينزل من السماء دفعة واحدة مثل‬
‫وصايا موسى‪ ،‬لم تكتبه «يد الله» على الصخر أو األلواح‪ ،‬وإنما‬
‫بالتدرج في سياق السجال مع تساؤالت رجال ونساء مق ّيدين‬
‫ّ‬ ‫تكون‬
‫ّ‬
‫بظرفي الزمان والمكان‪ .‬وبكل تأكيد‪ ،‬لو كانت األسئلة مختلفة من‬
‫حيث الصياغة أو السياق الختلفت األجوبة أيض ًا‪ ،‬ولجاء الخطاب‬
‫القرآني في األخير بأسلوب مختلف وبصياغة أخرى ومضامين‬
‫مغايرة‪ .‬ومثال‪ ،‬لو أمكن لرسول اإلسالم عليه السالم أن يصغي‬
‫ألسئلتنا اليوم حول الديمقراطية والتنمية والتعددية واالنتخابات‬
‫والبيئة‪ ،‬ثم حول أهوال داعش والنصرة وبوكو حرام والقاعدة‬
‫ومشاكل التطرف الديني واإلرهــاب العالمي‪ ،‬لجاء الخطاب‬
‫القرآني بنحو مختلف من حيث اللفظ والمعنى واألحكام أيض ًا‪.‬‬
‫إننا لن ننتقص من الذات اإللهية إذا قلنا إن القرآن الكريم‬
‫–بحكم طبيعته النصية‪ -‬يظل خطاب ًا نسبي ًا أمام إطالقية الذات‬
‫اإللهية ومحدود ًا أمام المحدودية العوالم الممكنة‪ .‬وهذا ما‬
‫ينسجم مع منطوق اآلية الكريمة (قل لو كان البحر مداد ًا لكلمات‬

‫‪92‬‬
‫ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدد ًا)‪.‬‬
‫وليس هذا بسبب حجم األفكار الالمتناهية في العقل اإللهي‪،‬‬
‫مجرد خواطر إلهية‪ ،‬وهذا ما ال تؤكده‬
‫وإال لكان الخطاب القرآني ّ‬
‫أسباب النزول‪ ،‬وإنما يرتبط األمر بالمحدودية الوقائع والنوازل‬
‫والظروف اإلنسانية‪ .‬فلو كان يلزم أن يصدر الوحي الرباني حكم ًا‬
‫في كل نازلة من النوازل باختالف األزمنة واألمكنة وبتفاوت‬
‫الظروف والسياقات‪ ،‬لما كفته كل بحار األرض أن تكون مداد ًا‪.‬‬
‫وهو ما يعني استحالة وجود نص مرجعي يؤطر سلوك اإلنسان‬
‫مرة‬ ‫بنحو مطلق‪ ،‬حتى ولو كان القرآن الكريم نفسه‪ ،‬والذي نقول ّ‬
‫أخرى أنه ال يمكن أن يكون دستور ًا بأي حال‪ ،‬وأما وظيفته فهي أن‬
‫نتع ّبد به وليس أن نعبده‪.‬‬

‫‪93‬‬
94
‫لي�ص القراآن ِعلم ًا‬

‫كثير ًا ما يتحدّ ث القرآن الكريم عن الشمس والقمر‬


‫روج أنصار خرافة اإلعجاز‬
‫والكواكب والنجوم‪ ،‬لكنه خالف ما ُي ِّ‬
‫أي نظرية علمية في‬
‫العلمي‪ ،‬ال يقدم –وليست وظيفته أن يقدم‪ّ -‬‬
‫الفيزياء أو الفلك‪.‬‬
‫عدا التّلميح الى كرو ّية األرض‪ ،‬وهي فرض ّية شائعة عند‬
‫بعض ُمتَعلمي العصور القديمة‪ ،‬ال أثر ألي ثورة على التصور‬
‫دامي لنظام المجموعة الشمسية‪ ،‬حيث كانت الشمس الجارية‬ ‫ال َق ّ‬
‫الراسية والمستقرة‪.‬‬
‫والسابحة تتحرك حول األرض ّ‬
‫ّ‬
‫بل في أدق وأصدق المالحظات‪ ،‬يمكن القول ‪ :‬ينتمي‬
‫تصور الخطاب القرآني لنظام الكون إلى تصورات إنسان العصر‬ ‫ّ‬
‫الوسيط‪ ،‬وإلى مفاهيم ما قبل الثورة الكوبرنيكية‪ .‬وهذا طبيعي‬
‫أن دور القرآن ليس الكشف عن الحقائق العلمية‪،‬‬ ‫بالنّظر إلى ّ‬
‫الربوبية (ال إله إال الله)‬
‫وإنّما دوره األساس هو التبشير بتوحيد ّ‬
‫ضمن تصورات ثقافية تنتمي في مجملها إلى النظرة العلمية‬
‫القديمة‪.‬‬
‫‪95‬‬
‫المحمدي‪ ،‬نستنتج ثالث‬
‫ّ‬ ‫وباألحرى‪ ،‬حين نعود إلى القرآن‬
‫خالصات ‪:‬‬
‫أوال‪ ،‬األرض ليست كوكبا في السماء‪.‬‬
‫أي آية تعتبر األرض كوكب ًا كسائر الكواكب‪.‬‬
‫بحيث ال توجد ّ‬
‫أن األرض ليست ضمنأأ الكواكب‬ ‫بل يغلب على التصور القرآني ّ‬
‫الموجودة في السماء‪ .‬إذ يقول ‪:‬‬
‫(إنّا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان‬
‫مارد ال يسمعون الى المأل األعلى ويقذفون من كل جانب دحورا‬
‫ولهم عذاب واصب إال من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب)‬
‫سورة الصافات‪ ،‬اآليات من ‪ 5‬إلى ‪.10‬‬
‫مستقرة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ثاني ًا‪ ،‬الشمس تجري‪ ،‬واألرض‬
‫الراجح أن األرض‬‫ال توجد آية تؤكد أن األرض تتحرك‪ ،‬بل ّ‬
‫ثابتة إلى أن يشاء الله‪ .‬وخالف ذلك‪ ،‬كثيرة هي اآليات التي تؤكد‬
‫حركة الشمس‪ .‬نذكر من بينها ما يلي ‪:‬‬
‫القمر دائبين) سورة ابراهيم‪ ،‬اآلية‬
‫َ‬ ‫(وسخر لكم الشمس و‬‫ّ‬
‫‪ .33‬دائبين ‪ :‬أي يسيران ال يفتران‪.‬‬
‫ٍ‬
‫لمستقر لها) سورة يس‪ ،‬اآلية ‪.38‬‬ ‫(و الشمس تجري‬
‫الليل سابق النهار‬ ‫(ال الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر وال ُ‬
‫فلك يسبحون) سورة يس‪ ،‬اآلية ‪.40‬‬ ‫وكل في ٍ‬
‫ٌّ‬
‫كل في َف َل ٍك‬
‫والقمر ٌّ‬
‫َ‬ ‫(وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس‬
‫يسبحون) سورة األنبياء‪ ،‬اآلية ‪.33‬‬

‫‪96‬‬
‫(يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس‬
‫ٍ‬
‫ألجل مسمى) سورة فاطر‪ ،‬اآلية ‪.33‬‬ ‫كل يجري‬ ‫والقمر ُّ‬
‫مسمى) سورة‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫ألجل‬ ‫(وسخر الشمس والقمر ٌّ‬
‫كل يجري‬
‫الرعد‪ ،‬اآلية ‪.2‬‬
‫إذ ًا حركة الشمس مظهر واضح وصريح في النص القرآني‪.‬‬
‫في المقابل‪ُ ،‬ذكرت األرض في القرآن الكريم أكثر من أربع‬
‫المرات بالحركة والدّ وران‬‫مرة من ّ‬ ‫مرة‪ ،‬ولم تُقرن في أي ّ‬ ‫مئة ّ‬
‫والجريان‪ .‬بل‪ ،‬خالف ذلك‪ ،‬عادة ما يأتي ذكر األرض مقرون ًا‬
‫بأفعال الثبات واالستقرار‪ ،‬كما تب ِّين اآليات التالية ‪:‬‬
‫(جعل لكم األرض قرار ًا والسماء بناء) سورة غافر‪ ،‬اآلية‬
‫‪.64‬‬
‫(أمن جعل االرض قرار ًا وجعل خاللها انهارا وجل لها‬
‫رواسي) سورة النمل‪ ،‬اآلية ‪.61‬‬
‫(واألرض مددناها وألقينا فيها رواسي‪ )...‬سورة الحجر‪،‬‬
‫اآلية ‪.19‬‬
‫الرحمان‪ ،‬اآلية ‪.10‬‬
‫(واألرض وضعها لآلنام) سورة ّ‬
‫ثالثا‪ ،‬الكون امتداد عمودي‪.‬‬
‫لنبدأ بسؤال بسيط ويبدو ساذج ًا ‪ :‬داخل تصورات العالم‬
‫القديم أين كان يبدأ العالم وأين ينتهي؟‬
‫في المستوى األفقي‪ ،‬ال أحد كان يعلم أين يبدأ العالم وأين‬
‫ينتهي‪ ،‬لكن الغالب على ظن اإلنسان القديم أن العالم تحدّ ه‬
‫‪97‬‬
‫البحار أو الصحاري أو الظلمات أو الخواء أو األرواح‪ ،‬إلخ‪ .‬لكن‪،‬‬
‫في المستوى العمودي‪ ،‬كان العالم يمتدّ بكل وضوح من األرض‬
‫أو من حفرة الجحيم تحت سطح األرض‪ ،‬إلى غاية السماء الثالثة‬
‫أو السابعة أو العاشرة أو الثانية عشر‪ ،‬باختالف تمثالت الطوائف‬
‫واألديان‪.‬‬
‫على نفس المنوال‪ ،‬يتصور الخطاب القرآني الكون باعتباره‬
‫امتداد ًا صاعد ًا من قشرة األرض إلى السماء السابعة‪.‬‬
‫وتدرجي من‬
‫فالغالب على الكون القرآني أنّه امتداد عمودي ّ‬
‫الروحانية‪ ،‬إلى العوالم التحتية‪،‬‬
‫العوالم الفوقية‪ ،‬اإللهية‪ ،‬النورانية‪ّ ،‬‬
‫البشرية‪ ،‬المادية‪ .‬وليس يخفى أن هذا التصور الكوسمولوجي‬
‫للكون باعتباره طبقات عمودية متفاوتة في الطبيعة والجوهر‪،‬‬
‫وإضفاء الطابع األخالقي على هذا التفاوت‪ ،‬يتناغم إلى حد ما مع‬
‫فيزياء أرسطو التي سادت العالم القديم واستمر تأثيرها إلى حدود‬
‫فيزياء نيوتن‪.‬‬
‫وفي كل األحــوال‪ ،‬طبيعي أن يعكس القرآن المحمدي‬
‫تصورات البشر الذين كان يخاطبهم بنحو مباشر‪ ،‬بشر ما قبل العلم‬
‫الحديث‪.‬‬
‫مثل ما جاء في اآليتين التاليتين ‪:‬‬
‫( الذي خلق سبع سماوات طباق ًا ما ترى في خلق الرحمان‬
‫من تفاوت‪ )...‬سورة الملك‪ ،‬اآلية ‪.3‬‬
‫( ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباق ًا) سورة نوح‬
‫اآلية ‪.15‬‬

‫‪98‬‬
‫محصلة القول‪ ،‬يقوم التصور القرآني لنظام المجموعة‬
‫الشمسية على أربع مس َّلمات‪ ،‬وهي على النحو التالي ‪:‬‬
‫‪ -1‬ان السماوات شيء واألرض شيء آخر‪.‬‬
‫‪ -2‬السماوات طبقات من الكون عمودية‪ ،‬من األعلى إلى‬
‫األدنى أو العكس‪.‬‬
‫‪ -3‬األرض مستقرة مباشرة تحت السماء الدنيا‪.‬‬
‫‪ -4‬الكواكب موجودة في السماء الدنيا زينة لها ولحفظ‬
‫السماء من كل شيطان مارد‪.‬‬
‫هكذا‪ ،‬يصعب أن نلوي الكلمات ونستخرج منها إعجاز ًا‬
‫كوبرنيكي ًا مزعوم ًا‪ .‬بل‪ ،‬سيكون هذا ضرب ًا من العبث بالقرآن‬
‫الكريم وبوظيفته األساسية‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬نريد أن نقول بكل وضوح وشفافية‪ ،‬إننا حين‬
‫ننظر إلى النص القرآني بمنظار النظريات العلمية الحديثة‪ ،‬فإننا‬
‫نظلم القرآن ونظلم العلم ونحكم على أنفسنا بالفصام بين ما نقوله‬
‫أو نسمعه في حصص الفيزياء‪ ،‬وبين ما نقوله أو نسمعه في خطب‬
‫الجمعة‪.‬‬
‫ولغاية تجاوز هذا الوعي الفصامي بين أن تكون السماء‬
‫فوقنا (وفق منطوق الخطاب الديني) وأن نكون نحن اآلن في‬
‫السماء ندور حول الشمس (حسب تصورات الخطاب العلمي)‪،‬‬
‫ال يكفي أن ندعو إلى الفصل بين قبعة العلم وعمامة الدين‪ ،‬ال‬
‫بد من مبرر اجتهادي لهذا الفصل حتى تبقى العالقة بين خطاب‬
‫‪99‬‬
‫العقل وخطاب الوجدان عالقة متوازنة‪ .‬وهذا ما أومن بإمكانية‬
‫تحققه وأناضل من أجل المساهمة في إنجازه‪.‬‬
‫ال بدّ أن يدرك الناس والمثقفون والفقهاء والمتعلمون‬
‫والمسؤولون عن السياسات التعليمية واإلعالمية والثقافية أن‬
‫فصل الدين عن العلم ال يعني إقصاء الدين‪ ،‬بأي حال من األحوال‪.‬‬
‫تمام ًا مثلما نستطيع أن نفصل المجاز الشعري عن مجال الخطاب‬
‫العلمي من دون أن يزعم أي أحد أننا بذلك نقصي الشعر أو ننتقص‬
‫من عظمته‪.‬‬
‫صح أن الحديث عن طبقات السماء‬ ‫على هذا األساس‪ ،‬إذا ّ‬
‫وعن االمتداد األفقي في المجموعة الشمسية يندرج ضمن المجاز‬
‫االبتهالي‪ ،‬فالنتيجة أن نعتبر أن القرآن الكريم ال يقدم أي نظرية‬
‫علمية‪ ،‬وال يمكن أن يكون مرجع ًا ألي معرفة علمية‪.‬‬
‫عدا ذلك‪ ،‬حين نعلم علم الحس السليم بأن الخطاب القرآني‬
‫الرسول الكريم أثناء تم ّثل اإلشارات الربانية‪،‬‬
‫تأول قام به ّ‬
‫محض ّ‬
‫أن الخطاب القرآني يعكس‬ ‫بوسعنا أن نفهم‪ ،‬دون عناء ُيذكر‪ ،‬كيف ّ‬
‫الرسول‪ ،‬وهو‬ ‫منذ البدء المستوى العلمي للعصر الذي عاش فيه ّ‬
‫عصر سبق العلم‪ ،‬وسبق الفيزياء‪ ،‬وسبق الثورة الكوبرنيكية بمئات‬
‫السنين‪.‬‬
‫إنه عصر القدامة العلمية‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫لي�ص القراآن نحواً‬

‫أن المصحف هو المرجع األمثل‬ ‫كثيرون الذين يظنّون ّ‬


‫والنّموذج األكمل للنص العربي الفصيح والمطابق لقواعد اللغة‬
‫العربية كتابة ونحو ًا‪ ،‬طالما الكالم «كالم الله» في األول وفي‬
‫األخير‪ .‬فال يمكن أن يكون الله تعالى قد «تك ّلم» كالم ًا فيه‬
‫أخطاء أو هفوات أو ما شابه‪ .‬كما ال يمكن أن يكون الله تعالى‬
‫هو مؤلف وكاتب وناسخ وناشر القرآن الكريم ! فهذا منتهى‬
‫العبث‪.‬‬
‫غير ّ‬
‫أن قدماء النّحاة أنفسهم هم ّأول من اصطدم بوجود‬
‫هنات نحوية في المصحف العثماني‪ّ ،‬‬
‫تعذر تقعيدها وامتنع‬
‫تقويمها‪.‬‬
‫يتحرج الكثيرون من هذه الظاهرة التي تبدو لـ « َع َبدة‬‫ّ‬ ‫وإذ‬
‫المصحف» كأنها تشكيك في الوحي اإللهي نفسه‪ ،‬فإننا نرى األمر‬
‫ال على نقص اللغة الطبيعية نفسها وال عالقة لها بمسألة الوحي‪.‬‬ ‫دلي ً‬
‫أن اللغة العربية وقتها كانت ال تزال في طور االنتقال من‬‫ال سيما ّ‬
‫العصر الشفوي إلى العصر الكتابي ‪:‬‬
‫‪101‬‬
‫فقد كُتب المصحف بلغة عربية كانت ال تزال بال قواعد‪،‬‬
‫ترسخت‪ .‬لذلك ليس غريب ًا أن توجد‬ ‫ولم تكن التقاليد الكتابية قد َّ‬
‫هنات كتابية‪ ،‬باعتراف علماء القرآن األقدمين أنفسهم‪.‬‬
‫األمثلة معروفة‪ ،‬لكنها قليال ما تُثار ألجل النقاش الهادئ‪.‬‬
‫نذكر بعضها على سبيل االستدالل كما يلي ‪:‬‬
‫‪ 1-‬رفع المعطوف على المنصوب‪:‬‬
‫جاء في سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪( : 69‬إِ َّن ا َّل ِذي َن آ َمنُوا َوا َّل ِذي َن‬
‫اآلخ ِر َو َع ِم َل‬
‫ُون والنَّصارى من آمن بِال َّل ِه وا ْليو ِم ِ‬
‫َ َْ‬ ‫الصابِئ َ َ َ َ َ ْ َ َ‬ ‫َها ُدوا َو َّ‬
‫َصالِ ًحا َفال َخ ْو ٌ‬
‫ف َع َل ْي ِه ْم َوال ُه ْم َي ْح َزن َ‬
‫ُون)‪.‬‬
‫إن بحيث‬‫والسؤال‪ ،‬لماذا لم ينصب المعطوف على اسم ّ‬
‫يقال‪ :‬والصابئين‪ ،‬تمام ًا مثلما عطفه في آية مماثلة من سورة أخرى‬
‫في قوله (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من‬
‫آمن بالله واليوم اآلخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم‪)...‬‬
‫سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪62‬؟‬
‫‪ 2-‬نصب الفاعل ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫(وإِذ ا ْب َت َلى إِ ْب َراه َ‬
‫يم َر ُّب ُه‬ ‫جاء في سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪َ : 124‬‬
‫َّاس إِ َما ًما َق َال َو ِم ْن ُذ ِّر َّيتِي َق َال‬
‫اع ُل َك لِلن ِ‬
‫ات َف َأتَمهن َق َال إِنِّي ج ِ‬
‫َ‬ ‫َّ ُ َّ‬
‫بِك َِلم ٍ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ال َين َُال َع ْهدي ال َّظالم َ‬
‫ين)‪.‬‬
‫والسؤال ‪ :‬لماذا لم يرفع الفاعل فيقال‪ :‬الظالمون؟‬
‫‪ 3-‬تذكير خبر االسم المؤنث‪:‬‬
‫(وال ُت ْف ِسدُ وا فِي األَ ْر ِ‬
‫ض‬ ‫جاء في سورة األعراف‪ ،‬اآلية ‪َ : 56‬‬
‫‪102‬‬
‫يب ِم َن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َب ْعدَ إِ ْصالح َها َوا ْد ُعو ُه َخ ْو ًفا َو َط َم ًعا إِ َّن َر ْح َم َت ال َّله َق ِر ٌ‬
‫ا ْل ُم ْح ِسنِي َن)‪.‬‬
‫إن اسمها في التأنيث فيقال‪:‬‬ ‫والسؤال‪ ،‬لماذا لم يتبع خبر ّ‬
‫قريبة؟‬
‫‪ 4-‬تأنيث العدد وجمع المعدود ‪:‬‬
‫(و َق َّط ْعن ُ‬
‫َاه ُم ا ْث َن َت ْي َع ْش َر َة‬ ‫جاء في سورة األعراف‪ ،‬اآلية ‪َ : 160‬‬
‫است َْس َقا ُه َق ْو ُم ُه َأ ِن ْ‬ ‫ِ‬
‫اك‬‫اض ِر ْب بِ َع َص َ‬ ‫وسى إِذ ْ‬
‫َأ ْس َبا ًطا ُأ َم ًما َو َأ ْو َح ْينَا إِ َلى ُم َ‬
‫ا ْل َح َج َر‪.)...‬‬
‫والسؤال‪ ،‬لماذا لم يذكر العدد ويأتي بمفرد المعدود بحيث‬
‫يقال ‪ :‬اثني عشر سبط ًا؟‬
‫‪ 5-‬جمع الضمير العائد على المثنى ‪:‬‬
‫اخت ََص ُموا‬ ‫ان ْ‬ ‫ان َخصم ِ‬ ‫(ه َذ ِ‬
‫جاء في سورة الحج‪ ،‬اآلية ‪َ : 19‬‬
‫ْ َ‬
‫ب ِم ْن َف ْوقِ‬ ‫َار ُي َص ُّ‬
‫ِ‬
‫اب م ْن ن ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫في َر ِّب ِه ْم َفا َّلذي َن َك َف ُروا ُق ِّط َع ْت َل ُه ْم ث َي ٌ‬
‫ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم)‪.‬‬ ‫ُر ُءوس ِه ُم ا ْل َحم ُ‬
‫والسؤال‪ ،‬لماذا لم يثنّى الضمير العائد على المثنّى بحيث‬
‫يقال ‪ :‬خصمان اختصما في ربهما؟‬
‫‪ 6-‬جاء باسم الموصول العائد على الجمع مفرد ًا ‪:‬‬
‫جاء في سورة التوبة‪ ،‬اآلية ‪( :69‬كَا َّل ِذي َن ِم ْن َق ْب ِلك ُْم كَانُوا َأ َشدَّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫است َْم َت ُعوا بِ َخالق ِه ْم َف ْ‬
‫است َْم َت ْعت ُْم‬ ‫منْك ُْم ُق َّو ًة َو َأ ْك َث َر َأ ْم َواال َو َأ ْوال ًدا َف ْ‬
‫الق ِه ْم َو ُخ ْضت ُْم كَا َّل ِذي‬ ‫القكُم كَما استَمتَع ا َّل ِذين ِمن َقب ِلكُم بِ َخ ِ‬
‫َ ْ ْ ْ‬ ‫ْ َ ْ ْ َ‬
‫بِ َخ ِ‬
‫اآلخ َر ِة َو ُأو َل ِئ َك ُه ُم‬‫اضوا ُأو َل ِئ َك حبِ َط ْت َأ ْعما ُلهم فِي الدُّ ْنيا و ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫َخ ُ‬
‫اس ُر َ‬
‫ون)‪.‬‬ ‫ا ْل َخ ِ‬

‫‪103‬‬
‫والسؤال‪ ،‬لماذا لم يجمع اسم الموصول العائد على ضمير‬
‫الجمع بحيث يقال ‪ :‬خضتم كالذين خاضوا؟‬
‫‪ 7-‬جزم الفعل المعطوف على المنصوب ‪:‬‬
‫(و َأن ِْف ُقوا ِم َّما َر َز ْقنَاك ُْم‬
‫جاء في سورة المنافقون‪ ،‬اآلية ‪َ : 10‬‬
‫ول َر ِّب َل ْوالَ َأ َّخ ْرتَنِي إِ َلى َأ َج ٍل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫م ْن َق ْب ِل َأ ْن َي ْأت َي َأ َحدَ ك ُُم َ‬
‫الم ْو ُت َف َي ُق َ‬
‫الصالِ ِحين)‪.‬‬ ‫ِ‬
‫يب َف َأ َّصدَّ َق َو َأك ُْن م َن َّ‬ ‫َق ِر ٍ‬
‫والسؤال‪ ،‬لماذا لم ينصب الفعل المعطوف على المنصوب‬
‫بحيث يقال ‪َ :‬فأ ّصدّ ق و َأكون من الصالحين؟‬
‫‪ 8-‬جعل الضمير العائد على المفرد جمع ًا‪.‬‬
‫ِ‬
‫جاء في سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪َ ( : 17‬م َث ُل ُه ْم ك ََم َث ِل ا َّلذي ْ‬
‫است َْو َقدَ‬
‫ُور ِهم وتَركَهم فِي ُظ ُلم ٍ‬
‫ات‬ ‫َ‬ ‫ب ال َّل ُه بِن ِ ْ َ َ ُ ْ‬ ‫َارا َف َل َّما َأ َضا َء ْت َما َح ْو َل ُه َذ َه َ‬
‫ن ً‬
‫ال ُي ْب ِص ُر َ‬
‫ون)‪.‬‬
‫والسؤال‪ ،‬لماذا لم يأت الضمير العائد على المفرد مفرد ًا‬
‫بحيث يقال يقال ‪ :‬ذهب الله بنوره؟‬
‫‪ 9-‬نصب المعطوف على المرفوع ‪:‬‬
‫ون فِي‬ ‫اس ُخ َ‬‫جاء في سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪َ ( : 162‬ل ِك ِن الر ِ‬
‫َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُون ُي ْؤ ِمن َ‬
‫ُون بِ َما ُأن ِْز َل إِ َل ْي َك َو َما ُأن ِْز َل م ْن َق ْبل َك‬ ‫الم ْؤ ِمن َ‬ ‫ِ ِ‬
‫الع ْل ِم من ُْه ْم َو ُ‬
‫الله واليو ِم ِ‬
‫اآلخ ِر‬ ‫ُون بِ ِ‬ ‫الم ْؤ ِمن َ‬ ‫الم ْؤت َ‬ ‫و ِ ِ‬
‫َ َْ‬ ‫الزكَا َة َو ُ‬ ‫ُون َّ‬ ‫الص َال َة َو ُ‬
‫ين َّ‬ ‫المقيم َ‬
‫َ ُ‬
‫ُأو َل ِئ َك َسن ُْؤت ِيه ْم َأ ْجر ًا َعظيم ًا)‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬

‫والسؤال‪ ،‬لماذا لم يرفع المعطوف على المرفوع بحيث يقال‪:‬‬


‫والمقيمون الصالة؟‬

‫‪104‬‬
‫‪ 10-‬نصب المضاف إليه ‪:‬‬
‫اء‬ ‫(و َل ِئ ْن َأ َذ ْقنَا ُه َن ْع َما َء َب ْعدَ َ‬
‫ض َّر َ‬ ‫جاء في سورة هود‪ ،‬اآلية ‪َ : 10‬‬
‫ور) ‪.‬‬ ‫ات َعنِّي إِ َّن ُه َل َف ِر ٌح َف ُخ ٌ‬‫الس ِّي َئ ُ‬
‫ب َّ‬‫َم َّس ْت ُه َل َي ُقو َل َّن َذ َه َ‬
‫ِ‬
‫ضراء؟‬ ‫يجر المضاف إليه بحيث يقال ‪ :‬بعد‬ ‫والسؤال‪ ،‬لماذا لم َّ‬
‫‪ 11-‬أتى بجمع كثرة حيث أريد القلة ‪:‬‬
‫(و َقا ُلوا َل ْن ت ََم َّسنَا الن َُّار إِال‬ ‫جاء في سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪َ : 80‬‬
‫َّخ ْذت ُْم ِعنْدَ ال َّل ِه َع ْهدً ا َف َل ْن ُي ْخ ِل َ‬
‫ف ال َّل ُه َع ْهدَ ُه َأ ْم‬ ‫َأ َّيا ًما َم ْعدُودَ ًة ُق ْل َأت َ‬
‫ون َع َلى ال َّل ِه َما ال َت ْع َل ُم َ‬
‫ون)‪.‬‬ ‫َت ُقو ُل َ‬
‫والسؤال‪ ،‬لماذا لم يتم جمعها جمع قلة بحيث يقال ‪ :‬أيام ًا‬
‫معدودات؟‬
‫‪ 12-‬جمع اسم علم حيث يجب إفراده‪:‬‬
‫اس َل ِم َن‬‫(وإِ َّن إِ ْل َي َ‬
‫جاء في سورة الصافات‪ ،‬اآلية ‪َ : 123-132‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫الم ْر َس ِلي َن‪َ ...‬س َ‬
‫الم ْؤمنين)‪.‬‬ ‫ين‪ ...‬إِ َّن ُه م ْن ع َبادنَا ُ‬
‫ال ٌم َع َلى إِ ْل َياس َ‬ ‫ُ‬
‫والسؤال‪ ،‬لماذا جاء إلياسين بالجمع عن إلياس المفرد‪ ،‬رغم‬
‫أنه اسم الع َلم؟‬
‫‪ 13-‬نصب المعطوف على المرفوع ‪:‬‬
‫وهك ُْم‬ ‫جاء في سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪َ ( : 177‬ل ْي َس ا ْلبِ َّر َأ ْن ت َُو ُّلوا ُو ُج َ‬
‫ب و َل ِكن ا ْلبِر من آمن بِال َّل ِه وا ْليو ِم ِ‬ ‫ِ‬
‫اآلخ ِر‬ ‫َ َْ‬ ‫ق َب َل ا ْل َم ْش ِر ِق َوا ْل َم ْغ ِر ِ َ َّ َّ َ ْ َ َ‬
‫َاب َوالنَّبِ ِّيي َن َوآتَى ا ْل َم َال َع َلى ُح ِّب ِه َذ ِوي ا ْل ُق ْر َبى‬ ‫الئك َِة َوا ْل ِكت ِ‬
‫وا ْلم ِ‬
‫َ َ‬
‫اب َو َأ َقا َم‬ ‫الر َق ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫السبِ ِ‬ ‫ِ‬
‫السائلي َن َوفي ِّ‬ ‫يل َو َّ‬ ‫َوا ْل َيتَا َمى َوا ْل َم َساكي َن َوا ْب َن َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين في‬ ‫الصابِ ِر َ‬
‫اهدُ وا َو َّ‬ ‫ون بِ َع ْهده ْم إِ َذا َع َ‬‫الزكَا َة َوا ْل ُمو ُف َ‬
‫الصال َة َوآتَى َّ‬‫َّ‬
‫‪105‬‬
‫الض َّر ِاء َو ِحي َن ا ْل َب ْأ ِ‬
‫س ُأو َل ِئ َك ا َّل ِذي َن َصدَ ُقوا َو ُأو َل ِئ َك ُه ُم‬ ‫ِ‬
‫ا ْل َب ْأ َساء َو َّ‬
‫ا ْل ُم َّت ُق َ‬
‫ون)‪.‬‬
‫والسؤال‪ ،‬لماذا لم يرفع المعطوف على المرفوع فيقال ‪:‬‬
‫والصابرون؟‬
‫‪ 14-‬وضع الفعل المضارع بدل الماضي ‪:‬‬
‫(إن م َثل عيسى عند الله‬
‫جاء في سورة آل عمران‪ ،‬اآلية ‪ّ : 59‬‬
‫ك ََم َث ِل آ َد َم َخ َل َق ُه ِم ْن ت َُر ٍ‬
‫اب ُث َّم َق َال َل ُه ُك ْن َف َيك ُ‬
‫ُون)‪.‬‬
‫والسؤال‪ ،‬لماذا لم يتم اعتبار المقام الذي يقتضي صيغة‬
‫الماضي ال المضارع‪ ،‬بحيث يقال ‪ :‬قال له كن فكان؛ أو يتم تعديل‬
‫الصيغة لتدل على المضارع فيقال ‪ :‬يقول له كن فيكون؟‬
‫لما‪.‬‬
‫‪ 15-‬لم يأت بجواب ّ‬
‫جاء في سورة يوسف‪ ،‬اآلية ‪َ ( : 15‬فـ َل ّما َذ َه ُبوا بِ ِه َو َأ ْج َم ُعوا َأ ْن‬
‫ب َو َأ ْو َح ْينَا إِ َل ْي ِه َل ُتنَ ِّب َئن َُّه ْم بِ َأ ْم ِر ِه ْم هذا َو ُه ْم الَ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َي ْج َع ُلو ُه في َغ َيا َبة ُ‬
‫الج ِّ‬
‫َي ْش ُع ُر َ‬
‫ون) ‪.‬‬
‫لما؟ علم ًا أنه لو حذف الواو التي قبل‬ ‫والسؤال‪ ،‬أين جواب ّ‬
‫أوحينا الستقام المعنى وانتهى المشكل‪.‬‬
‫‪َّ 16-‬نون الممنوع من الصرف ‪:‬‬
‫اف َع َل ْي ِه ْم بِآنِ َي ٍة ِم ْن‬
‫(و ُي َط ُ‬
‫جاء في سورة اإلنسان‪ ،‬اآلية ‪َ :15‬‬
‫َت َق َو ِار َير ًا)‪.‬‬ ‫فِ َّض ٍة َو َأك َْو ٍ‬
‫اب كَان ْ‬
‫والسؤال‪ ،‬لماذا جاءت قوارير منونة مع أنها ال ُتن َّون المتناعها‬
‫عن الصرف؟‬

‫‪106‬‬
‫وجاء في سورة اإلنسان‪ ،‬اآلية ‪( :4‬إِنَّا َأ ْعتَدْ نَا ل ْلكَافِ ِري َن‬
‫الالً َو َس ِعير ًا)‪.‬‬ ‫َسال َِس ً‬
‫ال َو َأ ْغ َ‬
‫ُنون المتناعها من‬ ‫والسؤال‪ ،‬لماذا نونت سالسل‪ ،‬مع أنها ال ت َّ‬
‫الصرف؟‬
‫‪ 17-‬تذكير خبر االسم المؤنث ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫جاء في سورة الشورى‪ ،‬اآلية ‪( : 17‬الل ُه الذي َأن َْز َل الكت َ‬
‫َاب‬
‫ان َو َما ُيدْ ِر َ‬ ‫بِالح ِّق و ِ‬
‫يب)‪.‬‬ ‫السا َع َة َق ِر ٌ‬
‫يك َل َع َّل َّ‬ ‫الم َيز َ‬ ‫َ َ‬
‫والسؤال‪ ،‬لماذا لم يتبع خبر لعل اسمها في التأنيث بحيث‬
‫يقال‪ :‬قريبة؟‬
‫‪ 18-‬أتَى باسم جمع بدل المثنى‪:‬‬
‫جاء في سورة التحريم‪ ،‬اآلية ‪( :4‬إِ ْن َتتُو َبا إِ َلى ال َّل ِه َف َقدْ َص َغ ْت‬
‫اه َرا َع َل ْي ِه َفإِ َّن ال َّل َه ُه َو َم ْوال ُه َو ِج ْب ِر ُيل َو َصالِ ُح‬‫ُق ُلو ُبك َُما َوإِ ْن َت َظ َ‬
‫الئ َك ُة َب ْعدَ َذلِ َك َظ ِه ٌير)‪.‬‬
‫ا ْلم ْؤ ِمنِين وا ْلم ِ‬
‫َ َ َ‬ ‫ُ‬
‫موجه لحفصة وعائشة‪ ،‬وهو في كل األحوال موجه‬ ‫الخطاب ّ‬
‫الثنين أو الثنتين‪ .‬والسؤال‪ ،‬لماذا جاءت كلمة قلوبكما في صيغة‬
‫الجمع بدل المثنّى‪ ،‬رغم أن المقصود شخصان ليس لهما أكثر من‬
‫قلبين إثنين؟‬
‫جاء في سورة الحجرات اآلية ‪( :‬وإن طائفتان من المؤمنين‬
‫اقتتلوا فاصلحوا بينهما)‪ .‬والسؤال‪ ،‬لماذا قيل اقتتلوا ولم يقل‬
‫اقتتلتا؛ طالما يتعلق األمر بطائفتين اثنتين؟‬
‫‪ 19-‬وقوع المفعول موقع الفاعل ‪:‬‬
‫إذ جاء في سورة اإلسراء‪ ،‬آية ‪( : 45‬حجاب ًا مستور ًا)‪.‬‬
‫‪107‬‬
‫والسؤال‪ ،‬لماذا جاءت كلمة مستورا بصيغة المفعول ولم‬
‫تأتي بصيغة الفاعل فيقال ‪ :‬حجابا ساتر ًا؟‬
‫جاء في سورة الكهف‪ ،‬اآلية ‪َّ ( :5‬ما َل ُهم بِ ِه ِم ْن ِع ْل ٍم َو َال ِآل َب ِائ ِه ْم‬
‫ون إِ َّال ك َِذ ًبا)‪.‬‬ ‫َخرج ِمن َأ ْفو ِ‬
‫اه ِه ْم إِن َي ُقو ُل َ‬ ‫ِ‬
‫َك ُب َر ْت كَل َم ًة ت ْ ُ ُ ْ َ‬
‫والسؤال‪ ،‬لماذا جاءت كلمة (كلمة) منصوبة بالفتحة‪ ،‬في‬
‫الوقت الذي يفترض أن تكون فيه مرفوعة على أنها فاعل؟‬
‫الهنات أحيان ًا من باب ال ّطعن في صدقية أو‬ ‫وإذ تثار هذه ِ‬
‫مصداقية القرآن‪ ،‬فلن يكون هذا هو مقصدنا بأي حال من األحوال‪،‬‬
‫إنما غايتنا األسمى رفع الحرج اإليماني النّاجم عن الخلط بين‬
‫تأليه الوحي (وهذا يجوز) وتأليه النص (وهذا ال يجوز)‪ .‬ذلك‬
‫أن ألوهية الوحي ال تعني بالضرورة وال يجب أن تعني بأي حال‬
‫ألوهية النص القرآني؛ عندما نعتبر أن القرآن ثمرة تأويل رسولي‬
‫وإبداع بشري داخل سياق ثقافي ولغوي محدّ د‪.‬‬
‫مجمل تلك الهنات تنتمي إلى غلبة األسلوب التداولي‬
‫مبررة باعتبار‬ ‫الشفهي على األلسن في عصر الرسول وما تاله‪ .‬وهي ّ‬
‫أن القرآن الكريم كُتب قبل تقعيد اللغة العربية‪ ،‬وقبل انتقالها الكامل‬
‫من العصر الشفهي إلى العصر الكتابي‪ .‬بل لنقل إنها هنات ال تتعلق‬
‫بالقرآن وإنما تتعلق بالمصحف على وجه التحديد‪ ،‬ما يؤكد وجود‬
‫مسافة فارقة بين كل من الوحي والقرآن والمصحف‪ ،‬ومن ثم جاء‬
‫ال بالتالي لهنات اللغة الطبيعية للبشر‪.‬‬ ‫المصحف تأليف ًا بشري ًا وحام ً‬
‫لكن المشكلة أننا صرنا نقدِّ س النص المصحفي مثلما‬
‫نص ًا مطلق ًا وأبدي ًا وسرمدي ًا يجاور‬ ‫الذات اإللهية‪ ،‬ونعتبره ّ‬ ‫نقدس ّ‬
‫الذات اإللهية منذ األزل‪ .‬وبذلك فإننا نقع في الحرج‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫المشكلة أن تقديس النص واعتباره هو نفسه «كالم الله»‬
‫بالتمام والكمال‪ ،‬قاد في النهاية إلى اإلبقاء على «الهنات»‬
‫النحوية كما هي طالما الله «ال يخطئ»‪ ،‬وكالمه ال يقبل أي‬
‫تعديل‪ .‬أما مجمل التفاسير فهي لم تزد تلك الهنات المصحفية‬
‫إال التباس ًا‪.‬‬
‫مثال‪ ،‬بالنسبة لآلية (ال ينال عهدي الظالمين) سورة البقرة‪،‬‬
‫فضل ابن كثير في تفسيره عدم التطرق إلعراب اآلية‪،‬‬‫اآلية ‪ّ ،124‬‬
‫بينما ارتأى الطبري أن يجعل (عهدي) فاعال و(الظالمين) مفعوال‬
‫به!‬
‫قد يبدو اقتراح الطبري ُمرضي ًا للكثيرين‪ ،‬لكنه ليس مقنع ًا؛‬
‫والمتداول‬
‫َ‬ ‫طالما أنه يخالف المعهود التداولي‪ .‬فالمعروف‬
‫والبديهي أيض ًا أن اإلنسان هو الذي ينال العهد وليس العهد هو‬
‫الذي ينال اإلنسان‪.‬‬
‫وألجل استذكار بعض االفتراضات المعقولة‪ ،‬يمكننا القول‪،‬‬
‫لو أننا لم نكن نقدِّ س المصحف العثماني لكان بوسعنا أن نفترض‬
‫ب ُيسر وسهولة أن التعبير الصائب هو التعبير الذي اعترف الطبري‬
‫والزمخشري في تفسيريهما لآلية بوجوده في بعض المصاحف‬
‫األخرى ‪ :‬ال ينال عهدي الظالمون‪.‬‬
‫بعيد ًا عن منطق القداسة‪ ،‬هناك تصورات أكثر معقولية ال‬
‫الرؤية اإليمانية‪ ،‬شريطة أن ننزع طابع العصمة والقداسة‬
‫تعارض ّ‬
‫عن المصحف المكتوب‪ ،‬والذي هو منتوج اجتهادي كما سبق‬
‫الذكر‪.‬‬
‫‪109‬‬
‫أما بعد‪..‬‬
‫فال يجوز بأي حال أن ننسى أن كتّاب الوحي كانوا يكتبون‬
‫الوحي قبل عشرات السنين من ظهور قواعد اللغة العربية‪ .‬وإن‬
‫كان تقعيد اللغة العربية قد اعتمد اعتماد ًا كبير ًا على لغة القرآن‪،‬‬
‫إال أن القرآن ومثلما استعمل مفاهيم «سياسية» تنتمي إلى مرحلة‬
‫ما قبل الدولة‪ ،‬كما سبق أن أوضحنا‪ ،‬فإنه استعمل أيضا أساليب‬
‫«نحوية» تنتمي إلى مرحلة ما قبل قواعد اللغة‪ .‬وهذا ما يفسر أوجه‬
‫المدون‪.‬‬
‫ّ‬ ‫االختالل واألخطاء في النص‬
‫الرصيد‬‫فضال عما قيل‪ ،‬كثير ًا ما استعمل الخطاب القرآني ّ‬
‫اللغوي الشفهي المنتشر‪ ،‬والمتنافر في بعض األحيان‪ ،‬لمختلف‬
‫قبائل عدنان وقحطان‪ .‬وليس يخفى أن ما قد يبدو نحو ًا عند‬
‫البعض قد يكون لحن ًا عند البعض اآلخر‪ ،‬وما صار خطأ من منظور‬
‫ومرة‬
‫المرحلة الكتابية‪ ،‬لم يكن خطأ من منظور المرحلة الشفوية‪ّ .‬‬
‫أخرى‪ ،‬يبدو كل هذا معقوالً ومقبوالً فيما لو ّ‬
‫حررنا النص الديني‬
‫من التفسير السحري‪.‬‬
‫أدق تعبير ًا عن الموقف‪ ،‬فيما‬ ‫ور ّبما كان عثمان بن عفان ّ‬
‫رواه أبو بكر بن أبي داود السجستاني عندما قال ‪« :‬لما ُفرغ من‬
‫المصحف أتي به عثمان فنظر فيه فقال‪ :‬أحسنتم وأجملتم‪ ،‬أرى‬
‫ستقومه العرب بألسنتها»(‪.)1‬‬
‫ّ‬ ‫فيه شيئ ًا من لحن‬
‫سمى األشياء بمسمياتها وتحدَّ ث عن أخطاء في‬
‫بل‪ ،‬ثمة من ّ‬
‫المصحف المكتوب‪ .‬فقد ورد «عن هشام بن عروة عن أبيه قال ‪:‬‬

‫(‪ )1‬أبو بكر بن أب داود السجستاني‪ ،‬كتاب المصاحف‪ ،‬تحقيق د‪ .‬محب الدين عبد السبحان‬
‫واعظ‪ ،‬دار البشائر اإلسالمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ ،2002‬ج‪ ،2:‬ص ‪.228 :‬‬

‫‪110‬‬
‫سألت عائشة عن لحن القرآن ‪( :‬إن هذان لساحران)‪ ،‬وعن قوله ‪:‬‬
‫(والمقيمين الصالة والمؤتون الزكاة)‪ ،‬وعن قوله ‪( :‬والذين هادوا‬
‫والصابئون)‪ ،‬فقالت ‪ :‬يا ابن أختي هذا عمل الكتّاب أخطأوا في‬
‫الكتاب»(‪.)1‬‬
‫علما بأن الهفوات النحوية أو «حروف من اللحن»‪ ،‬كما رآها‬
‫البعض‪ ،‬في مصحف عثمان‪ ،‬والتي أرهق إعرابها المفسرين‪ ،‬غير‬
‫موجودة في بعض المصاحف األخرى‪ .‬مثال يؤكد كل من الطبري‬
‫والزمخشري في تفسيرهما لآلية (ال ينال عهدي الظالمين) سورة‬
‫البقرة‪ ،‬اآلية ‪ ،124‬أن في بعض المصاحف األخرى‪ ،‬التي أحرقها‬
‫عثمان‪ ،‬كانت العبارة الواردة هي ‪ :‬ال ينال عهدي الظالمون‪.‬‬
‫وأخير ًا‪ ،‬إن «سعيد بن جبير قال‪ :‬في القرآن أربعة أحرف‬
‫لحن‪( :‬الصابئون)‪( ،‬المقيمين)‪( ،‬فأصدق وأكن من الصالحين)‪،‬‬
‫و( إن هذان لساحران)»(‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬السجستاني‪ ،‬كتاب المصاحف‪ ،‬ج‪ ،2:‬ص ‪ .235 :‬والمقصود بالكتاب هنا الكتابة‪.‬‬
‫(‪ )2‬السجستاني‪ ،‬كتاب المصاحف‪ ،‬ج‪ ،2:‬ص ‪.232 :‬‬

‫‪111‬‬
112
‫لي�ص القراآن قانون ًا جنائي ًا‬

‫أن تحرير العقاب من قبضة الغرائز‬ ‫من نافل القول ّ‬


‫والمؤسسات‪ُ ،‬يعدّ‬
‫ّ‬ ‫واالنفعاالت وإدراجه ضمن مجال القوانين‬
‫إنجاز ًا من منجزات الحداثة السياسية‪.‬‬
‫في العالم القديم‪ ،‬كان العقاب امتداد ًا لغرائز االنتقام‬
‫البدائية‪ ،‬حيث منطق القصاص والعين بالعين‪ ،‬ومشاهد الجلد‬
‫والمارة والفضوليين‪،‬‬
‫ّ‬ ‫والرجم والقطع والحرق‪ ،‬أمام أعين المأل‬‫ّ‬
‫وأحيان ًا بمشاركة الجمهور في تطبيق العقاب‪.‬‬
‫ذلك هو التصور العقابي الذي يحمله النص القرآني‪،‬‬
‫وهذا ما نراه اليوم من أولئك الذين يعتبرون أنفسهم أنهم‬
‫يط ّبقون شرع الله‪ ،‬حيث يقومون بعمليت الذبح والجلد أمام‬
‫الناس‪ ،‬بل يجبرون الناس على حضور ومشاهدة هذه األعمال‬
‫تحت طائلة العقاب ألن من اليحضر فإنه يرفض شرع الله‪.‬‬
‫ونرى النتائج السلبية المؤذية التي تنعكس على المسلمين‬
‫جميع ًا بسبب هذه األعمال الناتجة عن ّ‬
‫تصور أن هذه األحكام‬
‫إلهية‪.‬‬
‫‪113‬‬
‫ويقول الحكم على سبيل المثال ‪:‬‬
‫(الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة وال‬ ‫ّ‬
‫تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم اآلخر‪،‬‬
‫وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) سورة النور‪ ،‬اآلية ‪.2‬‬
‫مستمر ًا إلى اليوم من أجل‬
‫ّ‬ ‫بالطبع‪ ،‬ال يزال النضال اإلنساني‬
‫تحرير العدالة من بقايا الغرائز البدائية‪ .‬وهو المنحى الذي يتجلى‬
‫من خالل مثالين ‪:‬‬
‫أوالً‪ ،‬النضال الحقوقي من أجل إلغاء عقوبة اإلعدام‪ ،‬وهي‬
‫عقوبة ال تخفى طبيعتها االنتقامية‪.‬‬
‫ثاني ًا‪ ،‬النضال الحقوقي من أجل إلغاء تجريم الممارسات‬
‫التي تدخل ضمن الخصوصيات الفردية وال تسيء للفضاء‬
‫العمومي المشترك‪ ،‬من قبيل ما يتعلق بالعالقات وبالميول الجنسية‬
‫على سبيل المثال‪.‬‬
‫في العالم القديم‪ ،‬لم يكن هناك أدنى تمييز حقوقي بين‬
‫الفضاء العمومي والمجال الخاص‪ ،‬كان نظام العقوبات يستند إلى‬
‫غريزة الخوف البدائي من انتقام الله (أو اآللهة) من كافة أعضاء‬
‫العشيرة بسبب تصرفات البعض‪ ،‬حتى ولو كانت تلك التصرفات‬
‫ضمن المجال الخاص جدّ ًا‪ .‬لذلك كانت العقوبة التّأديبية ضدّ‬
‫تقرب ًا إلى الله‬
‫«األشرار» نوع ًا من الطقس التّطهيري الجماعي‪ّ ،‬‬
‫وإطفاء لنار غضبه‪.‬‬
‫انطالق ًا من ذلك النمط البدائي من العالقة بين اإلنساني‬
‫واإللهي ‪-‬وهو النّمط الذي ال يزال يلقي بثقله على الجموع‬

‫‪114‬‬
‫المتد ّينة‪ -‬ليس غريب ًا أن نرى السلفيين الدّ عويين أو الجهاديين‪،‬‬
‫بين الفينة واألخرى‪ ،‬ينشطون كميليشيات تطهيرية في األزقة‬
‫والشوارع‪ ،‬ليس ضدّ النفايات التي تؤذي وال يكترثون بها‪ ،‬وإنما‬
‫ضد «المنكر» الذي ال يؤذي أحد ًا وال يغضب سواهم‪.‬‬
‫المسألة‪ ،‬أنهم بكل بساطة‪ ،‬يحملون غريزة الخوف البدائي‬
‫من أن يغضب الله على الجميع بسبب تصرفات البعض‪.‬‬
‫وإذا كانت األحكام العقابية في القرآن المحمدي قد جاءت‬
‫متسمة بميسم القدامة‪ ،‬فهذا هو الجانب المثير إلحراج الكثيرين‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬هذا أيض ًا دليل على أن العدالة في النص القرآني ّ‬
‫مجرد شكل‬
‫لإلناء القدامي الذي ُوضعت فيه روح العدالة اإللهية‪.‬‬
‫وإذا كان الماء يأخذ شكل ولون اإلناء الذي ُوضع فيه‪ ،‬فلعلنا‬
‫نحتاج اليوم إلى إناء قادر على استيعاب روح العدالة اإللهية داخل‬
‫عصرنا‪ ،‬والذي هو عصر الحريات الفردية والمجتمعات المتعددة‬
‫وحقوق اإلنسان‪ ..‬نحتاج إلناء حداثي إلعادة تشكيل مظهر الدين‪.‬‬

‫‪115‬‬
116
‫الولء وال َبراء ‪ُ :‬عقدة اأم َعقيدة؟‬

‫«إني خ ّيرتك فاختاري‪ ...‬ال توجد منطقة ُوسطى ما بين‬


‫الجنة والنار»‪ :‬هكذا أنشد نزار قباني يقول‪.‬‬
‫جميل‪ ،‬لكن ماذا عندما يصبح منطق «ال توجد منطقة‬
‫وسطى» هو نمط التفكير الديني السائد لدى أمة من باب المفارقة‬
‫أنها تعتبر نفسها أمة وسط ًا؟‬
‫في الحقيقة‪ ،‬نحن أمة ال تؤمن بوجود أي منطقة وسطى‬
‫بين الحق والباطل‪ ،‬بين الكفر واإليمان‪ ،‬بين حزب الله وحزب‬
‫الشيطان‪ ،‬بين دار اإلسالم ودار الحرب‪ ،‬وبالتأكيد بين الجنة والنار‬
‫–وهذا على األقل منذ االنقالب على المعتزلة‪ -‬مع ذلك نظ ّن أن‬
‫الله ج َعلنا أ ّمة وسط ًا‪ .‬فعن أي وسطية نتحدث أو يتحدثون؟‬
‫ولعل النص الديني الذي ينتمي إلى المجال ِ‬
‫الق َيمي للقدامة‪،‬‬
‫ظل وفي ًا لمنطق التقاطب الحاد‪ ،‬على طريقة إما وإما المانوية ‪ :‬إما‬
‫الجنة وإما النار‪ ،‬إما الكفر وإما اإليمان‪ ،‬إما حزب الله وإما حزب‬
‫الشيطان‪.‬‬
‫‪117‬‬
‫كرس العقل الفقهي خطاب ًا ثنائي‬ ‫الغلو‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫وعلى منهاج‬
‫ِ‬
‫الق َيم بنحو أشدّ حدّ ة أحيانا وأكثر احتراب ًا في بعض األحيان‪.‬‬
‫لكنه خطاب مزدوج يحتفي بالوسطية ويغتالها في اآلن نفسه‪ .‬أنه‬
‫الحق وفي غيره الباطل‪ ،‬فهو حزب‬ ‫احترابي يرى في نفسه ّ‬
‫ّ‬ ‫خطاب‬
‫الله وغيره حزب الشيطان‪ ،‬هو الهدى وغيره الظالل‪...‬‬
‫الحق والباطل‬
‫‪ّ 1-‬‬
‫في معظم األحيان‪ ،‬ال يكاد يرد مصطلح الحق في القرآن‬
‫ويحول الفقهاء ومدّ عي النطق بأحام‬
‫ّ‬ ‫إال مقرون ًا بمصطلح الباطل‪.‬‬
‫الله هذه ثنائية الحق والباطل إلى ثنائية مؤسسة للسلوك االحترابي‬
‫لإلنسان المسلم‪ ،‬مستندين إلى اآليات التالية‪:‬‬
‫(ذلك بأن الذين كفروا اتّبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتّبعوا‬
‫الحق من ربهم) سورة محمد‪ ،‬اآلية ‪.3‬‬‫ّ‬
‫(ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون) سورة‬
‫األنفال‪ ،‬اآلية ‪.8‬‬
‫(وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) سورة‬
‫اإلسراء‪ ،‬اآلية‪.81‬‬
‫(بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) سورة‬
‫األنبياء‪ ،‬اآلية ‪.18‬‬
‫(قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد) سورة سبأ‪ ،‬اآلية‬
‫‪.49‬‬
‫(ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته) سورة الشورى‪،‬‬
‫اآلية ‪.24‬‬

‫‪118‬‬
‫‪ 2-‬الوالء والبراء‬
‫من بين المفاهيم القرآنية التي يتم توظيفها تلك المفاهيم‬
‫التي تنتمي إلى المنطق االحترابي للعالم القديم‪ ،‬عالم القبيلة‬
‫والعقيدة والغنيمة وفق مفاهيم محمد عابد الجابري‪ ،‬وهو مفهوم‬
‫تعرض للكثير من التوظيف اإليديولوجي الشنيع‪ ،‬وأحدث خراب ًا‬ ‫َّ‬
‫في الدنيا والدين‪ ،‬في العمران واإلنسان‪ ،‬في العقل والوجدان‪ ،‬هو‬
‫مفهوم الوالء‪ ،‬والذي يقابله قرآني ًا مفهوم البراء‪.‬‬
‫وجــراء التوظيف اإليديولوجي آليات الــوالء والبراء‪،‬‬
‫من طرف فقهاء السنة والشيعة على حد سواء‪ ،‬ومن طرف سائر‬
‫المجاني‬
‫ّ‬ ‫حركات اإلسالم السياسي‪ ،‬يكاد األمر يبلغ حد الحقد‬
‫والتعصب األعمى‪ ،‬بحيث تتعطل َم َلكة الفهم ومهارة التواصل‬
‫والقدرة على التعايش‪.‬‬
‫وفي كل هذا يتم اإلستناد إلى النص القرآني الذي يكثر فيه‬
‫استعمال مفهو َم ْي الوالء والبراء‪ ،‬على منوال اآليات التالية‪:‬‬
‫(الله ولي الذين آمنوا‪ )...‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.257‬‬
‫(يا أيها الذين آمنوا ال تتخذوا اليهود والنصارى أولياء‪،‬‬
‫بعضهم أولياء بعض‪ ،‬ومن يتولهم منكم فإنه منهم‪ )...‬سورة‬
‫المائدة‪ ،‬اآلية ‪.51‬‬
‫( يا أيها الذين آمنوا ال تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون‬
‫إليهم بالمودة) سورة الممتحنة‪ ،‬اآلية ‪.1‬‬
‫(براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين)‬
‫سورة التوبة‪ ،‬اآلية ‪.1‬‬
‫‪119‬‬
‫‪ 3-‬حزب الله وحزب الشيطان‬
‫حزب الله‪ ،‬وجند الله‪ ،‬وأولياء الله‪ ...‬مقابل حزب الشيطان‪،‬‬
‫جند الشيطان‪ ،‬أولياء الشيطان‪ ...‬هكذا هو البناء ِ‬
‫الق َيمي للنص‬
‫القرآني‪ ،‬على منوال اآليات التالية ‪:‬‬
‫(ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم‬
‫الغالبون) سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪.56‬‬
‫(‪...‬أولئك حزب الله‪ ،‬أال إن حزب الله هم الغالبون)‬
‫(أال إن أولياء الله ال خوف عليهم وال هم يحزنون) سورة‬
‫يونس‪ ،‬اآلية ‪.62‬‬
‫(وإن جندنا لهم الغالبون) سورة الصافات‪ ،‬اآلية ‪.173‬‬
‫ان هم ا ْل َخ ِ‬
‫اس ُر َ‬ ‫ِ‬ ‫(‪َ ...‬أال إِ َّن ِح ْز َب َّ‬
‫ون) سورة المجادلة‪،‬‬ ‫الش ْي َط ُ ُ‬
‫اآلية ‪.19‬‬
‫(‪ ...‬فقاتلوا أولياء الشيطان‪ )...‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.76‬‬
‫هكذا‪ ،‬ينتظم العقل المسلم وفق ثنائية احترابية حادة بين‬
‫معسكرين متقاتلين ‪ :‬معسكر جند وأولياء وحزب الله‪ ،‬مقابل‬
‫معسكر يضم جند وأولياء وحزب الشيطان‪ .‬وال شك أن هذا‬
‫الوعي االحترابي يعيق قدرة العقل اإلسالمي على الحوار الحر‬
‫والتوافق الخالّق والعيش المشترك‪.‬‬
‫غير أن الشفاء من هذه الثنائية المزمنة ال يكون إالّ من خالل‬
‫العودة لحالة الوجدان الشعري‪ ،‬ليس على طريقة «ال توجد منطقة‬
‫وسطى ما بين الجنة والنار»‪ ،‬وإنما على طريقة أن (لكل جعلنا‬

‫‪120‬‬
‫شرعة ومنهاجا) ولكل واحد من الناس (صراط مستقيم) يناسب‬
‫حاجاته وإمكاناته‪ ،‬وبالجملة‪ ،‬على طريقة التعددية الدينية لشيخ‬
‫العارفين محي الدين بن عربي يوم أنشد يقول ‪:‬‬
‫لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي‬
‫إذا لم يكن ديني إلى دينه دانـــي‬
‫وقــد صــار قلبي قابال كــل صــورة‬
‫فمرعى لــغــزالن وبيت ألوثـــان‬
‫وديــر لرهبان وكعبة طائـــــــف‬
‫وألـــواح تــوراة ومصحف قـــرآن‬
‫أدين بدين الحب أنّى توجهـــــت‬
‫ركائبه أرسلت ديني وإيمانـــي‬

‫‪121‬‬
122
‫وهم ال ّتف�شير‬

‫تقوم مشروعية السلطة الدينية على أساس االدعاء بأنها قادرة‬


‫على فهم معاني القرآن‪ .‬لكن خطوة إضافية قد تخطوها غالب ًا أو‬
‫دائم ًا‪ ،‬فتزعم أنها ليست قادرة وحسب‪ ،‬وإنما هي األقدر على فهم‬
‫وشرح وتفسير «كالم الله»‪.‬‬
‫مجرد تس ّلط كهنوتي‪.‬‬
‫بعد هذه الخطوة تصبح السلطة الدينية ّ‬
‫بين السلطة الدينية والتسلط الكهنوتي نفس الفرضية‬
‫المشتركة‪ .‬إنها الفرضية التي تزعم بأن تفسير «كالم الله» متاح‬
‫فعال‪ ،‬لكنه متاح فقط للقليلين‪ .‬وبهذا المنطق تتحول المعرفة‬
‫الدينية إلى سلطة دينية واجتماعية وأخالقية وسياسية تمارسها‬
‫أقلية القلة على أكثرية الكثرة‪.‬‬
‫متى أدركنا هذا المنطق‪ ،‬صار بوسعنا كشف األساطير‬
‫المؤسسة للسلطة الدينية‪ ،‬داخــل الكثير من المجتمعات‬
‫والجماعات‪ ،‬والمنظمات والتنظيمات‪ ،‬وحتى داخل الكثير من‬
‫الدّ ول على امتداد العالم اإلسالمي‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬كيف يمكننا ّ‬
‫فك أسرار تفسير «كالم الله»؟‬
‫‪123‬‬
‫أمامنا خياران‪ :‬إما أن نذهب بالمنهج الظاهري إلى أقصى‬
‫ميسر لسائر الناس‬
‫مداه فنقرر أن «كالم الله» واضح بسيط‪ ،‬وفهمه َّ‬
‫بال استثناء‪ ،‬ومن دون حاجة لوكالء في الشرح والتفسير؛ وإما أن‬
‫نذهب بالمنهج الباطني إلى مداه األقصى فنقرر استحالة التفسير‪،‬‬
‫بحيث نعتبر أن «كالم الله» ال يمكن ألي إنسان‪ ،‬كيفما كان‪ ،‬أن‬
‫يدرك معناه ويبلغ فحواه‪ ،‬إمام ًا كان أم عالما أم واعظا أم كاهنا أم‬
‫كائنا من كان‪.‬‬
‫الخيار األول قد يبدو مغري ًا ألول وهلة؛ ألنه يتيح لكافة الناس‬
‫‪-‬وعلى قدم المساواة‪ -‬إمكانية فهم واستيعاب «كالم الله» من‬
‫دون حاجة إلى أي مرجعية تفسيرية أو سلطة تأويلية من شأنهما أن‬
‫الحجر والوصاية لبعض العقول على سائر بقية العقول‪ .‬إال‬ ‫ْ‬ ‫تفرضا‬
‫أن القدرات اإلقناعية لهذا الخيار تصطدم بعقبتين‪:‬‬
‫العقبة األولى‪ ،‬تتعلق بالهشاشة التي قد تبدو عليها الكثير من‬
‫اآليات القرآنية إن ُحملت على محمل الظاهر‪ ،‬مثل آيات االستواء‬
‫على العرش‪ ،‬على سبيل االستدالل‪.‬‬
‫والعقبة الثانية‪ ،‬تتعلق بالغموض الشديد الذي يكتنف الكثير‬
‫من العبارات القرآنية‪ ،‬إن بسبب األصول اللغوية لبعض األلفاظ‪،‬‬
‫أو بسبب قوة المجاز واالستعارة في عدد من اآليات القرآنية‪ .‬وفي‬
‫كل األحوال‪ ،‬إن الخيار الظاهري في التفسير قد ُج ِّرب في تاريخ‬
‫الثقافة اإلسالمية مرار ًا‪ ،‬ولم يكن يمنع طائفة من الناس أن تدَّ عي‬
‫امتالك الفهم الصحيح للنص كلما اختلف سائر الناس في التأويل‪.‬‬
‫أما عن الخيار الثاني‪ ،‬حول عدم قابلية القرآن ألي تفسير‬

‫‪124‬‬
‫بشري‪ ،‬فنحن هنا أمام فرضية قد تبدو جديدة‪ ،‬لكنها تقوم على‬
‫بداهة قديمة وتكاد تكون منسية‪.‬‬
‫ال يمكن ألي سلطة وال ألي شخص‪ ،‬أن يزعما القدرة على‬
‫تفسير معاني القرآن الكريم‪ ،‬وذلك انسجاما مع ما يقوله القرآن عن‬
‫والراسخون في العلم) سورة آل‬ ‫نفسه (وما يعلم تأويله إال الله ّ‬
‫عمران‪ ،‬اآلية ‪ ،7‬وبالنظر إلى اختالف التفاسير بشأن «الراسخون‬
‫في العلم»‪ ،‬وتماشي ًا أيضا مع أن القرآن محض ترجمة رسولية‬
‫محمدية قرشية للصور الوحيانية‪ ،‬والتي ال نعرف عنها أي شيء‪.‬‬
‫وألنه ما من شك ّبأن الحروف الغامضة والمبهمة (فواتح‬
‫السور) التي تبدأ بها زهاء تسعة وعشرين سورة من سور القرآن‬
‫(ألم‪ ،‬حم‪ ،‬حمعسق‪ ،‬كهيعص‪ ،‬طسم‪ )...‬هي إشــارات على‬
‫اإلصرار على الغموض واالمتناع عن التفسير‪ّ ،‬‬
‫فإن هذا يشير إلى‬
‫اقتصار القرآن على القراءة التعبدية‪ ،‬ليس إال‪.‬‬
‫وقد وردت هذه الحروف الغامضة وتكرر ورودها في القرآن‪،‬‬
‫مثل ‪:‬‬
‫(ألم) التي ترد في مطلع ست سور (البقرة‪ ،‬آل عمران‪،‬‬ ‫ ‬
‫العنكبوت‪ ،‬الروم‪ ،‬لقمان‪ ،‬السجدة)‪.‬‬
‫(حم) التي ترد في مطلع ست سور (غافر‪ ،‬فصلت‪،‬‬ ‫ ‬
‫الزخرف‪ ،‬الدخان‪ ،‬الجاثية‪ ،‬األحقاف)‪.‬‬
‫(ألر) التي وردت في مطلع خمس سور (يونس‪ ،‬هود‪،‬‬ ‫ ‬
‫يوسف‪ ،‬إبراهيم‪ ،‬الحجر)‪.‬‬
‫‪...‬‬
‫‪125‬‬
‫بل ترد حروف أكثر غموض ًا وأشد «طلسمية»‪.‬‬
‫مثل‪:‬‬
‫(حمعسق) التي وردت في مطلع سورة الشورى‪.‬‬ ‫ ‬
‫(كهيعص) التي وردت في مطلع سورة مريم‪.‬‬ ‫ ‬
‫(طسم) التي وردت في مطلع سورة القصص‪.‬‬ ‫ ‬
‫‪...‬‬
‫وإذ اختلف المفسرون القدماء حول دالالتها ومعانيها‪،‬‬
‫فقد تواضعوا على أنها شديدة الغموض واإلبهام‪ .‬وسواء كانت‬
‫تلك الحروف تُحيل إلى بعض حروف أسماء الله‪ ،‬أو األدعية‪ ،‬أو‬
‫للقسم اإللهي‪ ،‬أو ما إلى ذلك من محاوالت‬
‫هي حروف مبعثرة َ‬
‫التفسير التي اقترحها البعض‪ ،‬إال أن كل ذلك ال ينفي عنها طابعها‬
‫«الطلسمي»‪.‬‬
‫وربما كانت تذكِّرنا بتقاليد التصوف اليهودي في تعاطيه مع‬
‫األبجدية العبرية‪.‬‬
‫لكن المؤكد أن إصرار البعض على التفسير قد أوقعه في ما‬
‫يسمى بـ«غرائب التفسير»‪:‬‬
‫«من ذلك قول من قال في حمعسق إن الحاء حرب علي‬
‫ومعاوية والميم والية المروانية والعين والية العباسية والسين‬
‫والية السفيانية والقاف قدوة مهدي‪ ،‬حكاه أبو مسلم ثم قال أردت‬
‫بذلك أن يعلم أن فيمن يدعي العلم حمقى‪ .‬ومن ذلك قول من‬

‫‪126‬‬
‫قال في آلم معنى ألف‪ ،‬ألف الله محمدا فبعثه نبيا‪ ،‬ومعنى الم المه‬
‫الجاحدون وأنكروه‪ ،‬ومعنى ميم ميم الجاحدون المنكرون من‬
‫الموم‪ ،‬وهو البرسام»(‪.)1‬‬
‫وإن كان التفسير هنا ضربا من التخبط العشوائي‪ ،‬فمن العبث‬
‫أيضا أن نتساءل حول األحكام التي يمكننا أن نستخلصها من تلك‬
‫الكلمات أو اآليات المبهمة‪.‬‬
‫لكننا نستطيع أن نتساءل ‪-‬بنحو أكثر معقولية‪ -‬عما إذا كان‬
‫هدف تلك الكلمات أن تبعث الشعور بالغموض؟‬
‫أليست تلك الكلمات ثمرات الغموض الصوفي والغنوصي‬
‫أحسه الرسول أثناء تمثله لإلشارات اإللهية؟‬
‫والباطني الذي ّ‬
‫أال يملك الغموض وظيفة تع ّبدية؟‬
‫وأخير ًا‪ ،‬هل ثمة وظيفة للقرآن أسمى وأبقى من الوظيفة‬
‫التع ّبدية‪ ،‬بمعزل عن كافة أشكال االستغالل السياسي والتوظيف‬
‫األيديولوجي؟‬

‫(‪ )1‬جالل الدين السيوطي‪ ،‬اإلتقان في علوم القرآن‪ ،‬تحقيق سعيد المندوب‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬لبنان‪،‬‬
‫الطبعة األولى‪ ،1996 ،‬ج‪ ،1:‬ص ‪.491 :‬‬

‫‪127‬‬
128
‫الفاتحة والوظيفة التع ّبدية‬

‫هناك تساؤل يثيره البعض‪ ،‬حسب روايــة من روايات‬


‫القرطبي‪ ،‬حول ما إذا كانت سورة الفاتحة جزء ًا من القرآن؛ إذ‬
‫هناك من يرى أنها «لو كانت قرآنا ألثبتها عبد الله بن مسعود في‬
‫مصحفه»(‪)1‬؟‪..‬‬
‫للتبرك قبل الشروع في‬
‫مجرد دعاء لالفتتاح وصالة ّ‬
‫أم أنها ّ‬
‫تالوة القرآن؟‬
‫اعتبارات الشك كثيرة ‪:‬‬
‫أوالً‪ ،‬تحمل سورة الحمد اسم الفاتحة‪ ،‬أو فاتحة الكتاب‪،‬‬
‫وهو اسم غير مستمد من أي كلمة من الكلمات الواردة داخل‬
‫السورة‪ ،‬بخالف سائر السور األخرى‪ ،‬وإنما يحيل اإلسم إلى‬
‫الصفة االفتتاحية التي اتخذتها سورة الحمد بعد االنتهاء من ترتيب‬
‫كافة السور‪.‬‬
‫ثاني ًا‪ ،‬عادة ما ننهي تالوة الفاتحة بكلمة آمين‪ .‬وهذه الكلمة‪،‬‬
‫(‪ )1‬القرطبي‪ ،‬الجامع ألحكام القرآن‪ ،‬تحقيق محمد ابراهيم الحفناوي‪ ،‬دار الحديث‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫الطبعة الثانية ‪ ، 1996‬ص‪132 ،131 :‬‬

‫‪129‬‬
‫وإن لم تكن مكتوبة في المصحف وإنما ننطقها شفوي ًا‪ ،‬إال أنها‬
‫للتبرك والتع ّبد‪.‬‬
‫مجرد دعاء ّ‬‫ترجح احتمال أن يكون األمر ّ‬
‫أن ترتيب السور في المصحف العثماني‬ ‫ثالثا‪ ،‬من الواضح ّ‬
‫‪-‬وإن ليس دائم ًا‪ -‬لمعيار الطول‪ .‬بحيث وضعت‬‫ْ‬ ‫خضع في الغالب‬
‫األول‪ ،‬إلى غاية السور القصار في األخير‪ .‬وبهذا‬
‫السور الطويلة في ّ‬
‫النحو‪ ،‬كان سيبدو وضع سورة الحمد في أول القرآن خروج ًا عن‬
‫منهجية الترتيب فيما لو كان األمر يتعلق بسورة كسائر السور‪.‬‬
‫رابعا‪ ،‬تختلف سورة الحمد عن البنية الخطابية لكافة سور‬
‫المرحلة المكية األولى؛ فهذه السورة ال تتحدث إلى شخص‬
‫محدد أو أشخاص معينين‪ ،‬وال تتحدث عن أي شخص محدّ د أو‬
‫عن أشخاص معينين‪ .‬في المقابل‪ّ ،‬‬
‫فإن سائر سور المرحلة المكية‬
‫األولى ال تخلو من أحد الوجوه التالية‪:‬‬
‫‪-‬تتكلم إلى النبي باستعمال فعل من أفعال األمر (قل هو‬
‫الله أحد‪ ،‬قل أعوذ برب الناس‪ ،‬قل أعوذ برب الفلق‪ ،‬قم فأنذر‪،‬‬
‫إقرأ باسم ربك‪.)...‬‬
‫‪-‬تتكلم عن النبي لتواسيه أو تؤنبه (عبس وتولى‪ ،‬ألم يجدك‬
‫يتيما فآوى‪.)...‬‬
‫‪-‬تخبرنا عن شخص أو أشخاص معينين (ت ّبت يدا أبي لهب‪،‬‬
‫إليالف قريش‪.)...‬‬
‫الرسول‪،‬‬
‫‪-‬تتحدّ ث إلى جماعة معينة (أصحاب النبي‪ ،‬نساء ّ‬
‫الذين آمنوا ‪.)...‬‬

‫‪130‬‬
‫وبالمقارنة‪ ،‬تبدو سورة الحمد وكأنها دعاء خالص من دون‬
‫أفعال أمر‪ ،‬ومن دون مخاطب محدّ د‪ ،‬ومن دون جمل خبرية أو‬
‫الربوبي‪.‬‬
‫إخبارية‪ ،‬وكأنها في األخير محض صالة للتعبد ّ‬
‫إالّ أن مشروعية مثل هذه المالحظات والتساؤالت ال تضعنا‬
‫السورة موضوعة أو‬ ‫بالضرورة أمام فرضية وحيدة‪ ،‬وهي أن تكون ّ‬ ‫ّ‬
‫مقحمة في القرآن‪ .‬بل ثمة فرضية أخرى أكثر مالءمة ‪:‬‬
‫الفاتحة ليست سورة من بين سائر السور االعتيادية للقرآن‪،‬‬
‫لكنها أيضا ليست سورة خارج أو على هامش القرآن‪ ،‬وإنما هي‬
‫سورة فوق‪-‬قرآنية‪ .‬إنها على وجه الترجيح «أم القرآن»‪ ،‬كما كان‬
‫الرسول‪.‬‬
‫يقول ّ‬
‫عن أبي سعيد بن المع ّلى قال‪« :‬كنت أصلي فدعاني‬
‫النبي(ص) فلم أجبه‪ ،‬قلت‪ :‬يا رسول الله إني كنت أصلي‪ .‬فقال‪:‬‬
‫وللرسول إذا دعاكم»‪ .‬ثم قال ‪« :‬أال‬‫«ألم يقل الله استجيبوا لله ّ‬
‫أع ّلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد»‪ .‬فأخذ‬
‫قلت ‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬إنك قلت أال‬ ‫بيدي‪ .‬فلما أردنا أن نخرج ُ‬
‫أعلمك أعظم سورة من القرآن‪ .‬فقال‪( :‬الحمد لله رب العالمين)‬
‫هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيتُه»‪ .‬رواه البخاري في‬
‫صحيحه(‪ ،)1‬و أورده القرطبي في الجامع ألحكام القرآن(‪ ،)2‬وذكره‬
‫ابن كثير في تفسيره(‪.)3‬‬
‫(‪ )1‬اإلمام البخاري‪ ،‬صحيح البخاري‪ ،‬المجلد الثالث‪ ،‬منشورات محمد علي بيضون‪ ،‬دار الكتب‬
‫العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬طبعة جديدة بدون تاريخ‪ ،‬كتاب تفسير القرآن‪ ،‬ص ‪.173 :‬‬
‫(‪ )2‬القرطبي‪ ،‬الجامع ألحكام القرآن‪ ،‬تحقيق محمد ابراهيم الحفناوي‪ ،‬دار الحديث‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫الطبعة الثانية ‪،1996‬ص‪.125 :‬‬
‫(‪ )3‬ابن كثير‪ ،‬تفسير القرآن العظيم‪ ،‬كتب هوامشه وضبطه حسين بن ابراهيم زهران‪ ،‬دار الفكر‪،‬‬
‫بيروت‪ ،1994 ،‬المجلد األول‪ ،‬ص ‪.16 :‬‬

‫‪131‬‬
‫وأما لفظ المثاني الذي اختلف القدماء في فهمه‪ ،‬فقد حاول‬
‫الشهيد محمود محمد طه مقاربة معناه في قوله ‪« :‬ومعنى مثاني أنه‬
‫تنزل للعبد»(‪.)1‬‬
‫ذو معنيين‪ .‬معنى بعيد عند الرب‪ ،‬ومعنى قريب ّ‬
‫وبلغتنا‪ ،‬نستطيع الحديث عن معنى وحياني عميق ومعنى نصي‬
‫ض ِّيق‪.‬‬
‫مرة أخرى بأن آيات القرآن الكريم ليست‬ ‫وهكذا نتأكد ّ‬
‫جميعها على نفس القدر من العمق والدقة واإلتقان؛ إذ ثمة آيات‬
‫أكثر إتقانا ((المحكمات))‪ ،‬وآيات ((خير)) من أخرى‪ ،‬بل ثمة‬
‫باألحرى سورة تع ّبدية تتألف من سبع آيات هي «أم القرآن»‪،‬‬
‫بمعنى أنها أعظم ما فيه‪ ،‬بل لعلها «القرآن العظيم»‪.‬‬
‫المالحظ أن سورة الفاتحة التي ال تخاطب أحد ًا محدد ًا‬
‫وال تخبر عن أحد بعينه‪ ،‬تمتلك وظيفة تعبدية خالصة‪ .‬وهي تتخذ‬
‫طابع صالة ربانية ال تصح الصالة من دونها‪ .‬وبهذا النحو‪ ،‬فإن‬
‫وضعيتها االفتتاحية أو فوق‪ -‬القرآنية تؤكد الوظيفة التعبدية لسائر‬
‫سور وآيات القرآن الكريم‪.‬‬
‫إن إعادة المصحف إلى وظيفته التعبدية من شأنها أن تخلصه‬
‫حولته إلى وسيلة أسطورية‬
‫من كل االستعماالت «السحرية» التي ّ‬
‫لحل كل مشاكل السياسة والسلطة واالقتصاد والصناعة والمال‬
‫والفالحة والصيد البحري‪ ،‬بل وحتى مشاكل الصحة الجسمية‬
‫والنفسية والعقلية ونحو ذلك‪.‬‬
‫(‪ )1‬محمود محمد طه‪ ،‬نحو مشروع مستقبلي لإلسالم‪ ،‬المركز الثقافي العربي (بيروت) ودار‬
‫قرطاس (الكويت) الطبعة األولى ‪ ،2002‬ص‪.168:‬‬

‫‪132‬‬
‫أبد ًا‪..‬‬
‫ليست وظيفة المصحف أن نقيم باالستناد إليه دوالً وننشئ‬
‫مؤسسات ونس ّن قوانين وتشريعات‪ .‬إذ ليس من وظائف الخطاب‬ ‫ّ‬
‫القرآني نفسه االشتغال بقضايا السياسة واالقتصاد والعلم‬
‫والمعرفة‪ ،‬وإنما وظيفة المصحف على وجه التحديد‪ ،‬أن نقرأه‬
‫يسرنا القرآن للذكر فهل من‬ ‫قراءة تع ّبدية‪ ،‬مصداق ًا لآلية ‪( :‬ولقد ّ‬
‫مذكر) سورة القمر‪ ،‬اآلية ‪.17‬‬

‫‪133‬‬
134
‫جغراف ّية الج ّنة المحمدية‬

‫المحمدي تأويل قام به النبي العربي‬


‫ّ‬ ‫إذا علمنا ّ‬
‫أن القرآن‬
‫وتأوله أقواالً‪ ،‬وإذا استحضرنا‬
‫للوحي الرباني‪ ،‬والذي تَم ّثله خياالً ّ‬
‫القوة والفتور‪ ،‬والصفاء‬
‫النبي عليه السالم كان يتراوح بين ّ‬
‫أن خيال ّ‬
‫والضمور‪ ،‬حسب األحوال النفسية والمؤثرات الخارجية ‪-‬وهو‬
‫ما انعكس على تفاوت المستوى البالغي لآليات القرآنية‪ -‬بوسعنا‬
‫الرسول هي آيات‬ ‫تفوق فيها خيال ّ‬‫أن نالحظ أن أكثر اآليات التي ّ‬
‫تصوير تفاصيل الحياة داخل الجنة‪.‬‬
‫تفاصيـل حياة الجنــة كثيــرة ومبهـرة‪ .‬بوسعنا أن نختار‬
‫منها نموذج ًا محدّ د ًا‪ ،‬يتعلق بوصف الخطاب القرآني لخمور‬
‫الجنة‪.‬‬
‫لنتأ ّمل مث ً‬
‫ال في اآليات التالية ‪:‬‬
‫(وأنهار من خمر ّلذة ّ‬
‫للشاربين) سورة محمد‪ ،‬اآلية ‪.18‬‬
‫(يسقون من رحيق مختوم‪ ،‬ختامه مسك) سورة المصطقين‪،‬‬
‫اآليتين ‪ 25‬و‪.26‬‬
‫‪135‬‬
‫(يطوف عليهم ولدان مخ ّلدون‪ ،‬بأكواب وأباريق وكأس من‬
‫معين‪ ،‬ال يصدعون عنها وال ينزفون) سورة الواقعة‪ ،‬اآليات ‪،17‬‬
‫‪ 18‬و‪.19‬‬
‫سم خمريات القرآن هو عين‬
‫أليس مثل هذا المجاز الذي َي ُ‬
‫اإلعجاز البالغي؟‬
‫عموم ًا‪ ،‬جاء تصوير القرآن المحمدي للجنة خارق ًا في‬
‫خياله‪ ،‬مبهر ًا في إبداعه‪ ،‬غير أنه كسائر الوحي‪ ،‬يعكس ثقافة وبيئة‬
‫الرسول ومجتمعه الصحراوي‪.‬‬ ‫ومدركات ّ‬
‫األمثلة كثيرة‪ ،‬على غرار اآليات التي تصف “حور” الجنة‬
‫وصف ًا يناسب خيال رجل الصحراء العربية‪ ،‬مثل اآليات التالية ‪:‬‬
‫(حور مقصورات في الخيام) سورة الرحمان‪ ،‬اآلية ‪.72‬‬
‫(متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان) سورة الرحمان‪،‬‬
‫اآلية ‪.76‬‬
‫(بأكواب وأباريق وكأس من معين) سورة الواقعة‪ ،‬اآلية ‪.18‬‬
‫(فيهن قاصرات الطرف لم يطمتهن إنس قبلهم وال جان)‬
‫سورة الرحمان‪ ،‬اآلية ‪.56‬‬
‫في كل األحوال‪ ،‬إن مضامين الخطاب القرآني تؤكد بما ال‬
‫يدع مجاال للشك‪ ،‬كيف أن جنة الخطاب القرآني هي ثمرة خيال‬
‫رجل الصحراء العربية‪ .‬من بين ذلك ما يتعلق بالحضور القوي‬
‫والمميز ألشجار النخيل في الخطاب القرآني‪ ،‬وتحديد ًا داخل‬
‫الجنة القرآنية‪ .‬ما يكشف لنا بجالء كيف أن خيال الجنة‪ ،‬حتى‬

‫‪136‬‬
‫في جوانبه المبهرة‪ ،‬ظل خياال وف ّي ًا لجغرافية صحراء شبه الجزيرة‬
‫العربية‪ .‬لذلك‪ ،‬ال نرى في جنة الخطاب القرآني أي نوع من أنواع‬
‫الشجر أو النبات يفوق شجر النخل تعداد ًا وتمجيد ًا‪ .‬واآليات‬
‫كثيرة‪ ،‬على غرار اآليات التالية ‪:‬‬
‫(فيها فاكهة والنخل ذات األكمام) سورة ّ‬
‫الرحمان‪ ،‬اآلية ‪.11‬‬
‫(فيها فاكهة ونخل ورمان) سورة ّ‬
‫الرحمان‪ ،‬اآلية ‪.68‬‬
‫(أيو ّد أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من‬
‫تحتها األنهار) سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.266‬‬
‫(فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم‪ )...‬سورة‬
‫المؤمنون‪ ،‬اآلية ‪.19‬‬
‫ال يوجد إعجاز قرآني سوى في مستوى المجاز الشاعري‪،‬‬
‫وهو المجاز الذي تَج ّلى بنحو أشدّ براعة أثناء تم ّثل الصور الوحيانية‬
‫حول السعادة األخروية‪ .‬وإذا كان من طبيعة الوحي الغموض‪ ،‬كان‬
‫طبيعي ًا أن يأتي التأويل خاضع ًا لثقافة رجل بادية الصحراء‪ .‬فقد كان‬
‫الرسول الكريم نفسه رجال من الصحراء العربية‪.‬‬
‫بشري العبارات‪ .‬نعم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫إلهي اإلشارات‬
‫الخطاب القرآني وحي ّ‬
‫هو نفحات من روح الغيب التي تغمر القلوب‪ ،‬لكنه في األخير‬
‫الرسول أثناء تم ّثل ّ‬
‫وتأول ُرؤى الوحي اإللهي‪ .‬ولذلك‬ ‫ثمرة خيال ّ‬
‫الرسول‬‫جاء الخطاب القرآني إبداع ًا ديني ًا يعكس ذوق وثقافة وبيئة ّ‬
‫عليه السالم‪.‬‬

‫‪137‬‬
138
‫الق�شم الثاني‬

‫العبور اإلى الحداثة‬

‫‪139‬‬
140
‫اأخالق الحداثة واأخالق القدامة‬

‫أن الله لم يخلق الجمهور إالّ ّ‬


‫ليجر عربة‬ ‫ال َّ‬
‫ظ ّن الصينيون طوي ً‬
‫اإلمبراطور‪ .‬وظ ّن المسلمون طويال أن الله لم يخلق العوام إالّ‬
‫لبيعة اإلمام وطاعة الحكام‪ .‬ورأت جل الشعوب قديم ًا أن الله‬
‫الزوج ورعاية األبناء‪ .‬وهكذا‪ ،‬في‬ ‫لم يخلق النساء إالّ لخدمة ّ‬
‫كافة مجتمعات العالم القديم لم يكن الناس ينظرون إلى أنفسهم‬
‫مجرد أدوات‪.‬‬‫كذوات‪ ،‬وإنما ّ‬
‫بالتأكيد‪ ،‬ال يزال هناك سادة وعبيد‪ ،‬وإن اختلفت المعاني‬
‫والدالالت‪ ،‬وبهذا المعنى ال تزال قيم التنوير تمثل أفق ًا لم يتم‬
‫استنفاده‪ .‬ولهذا السبب أيض ًا‪ ،‬يقول هابرماس ‪ :‬الحداثة مشروع‬
‫لم يكتمل بعد‪.‬‬
‫رغم ذلك‪ ،‬فمن حيث مستوى الوعي واإلدراك‪ ،‬ال شك أننا‬
‫تصور العالم القديم لإلنسان المخلوق ألجل طاعة سيد‬ ‫تجاوزنا ّ‬
‫التصور الذي أ ّطر رؤية الخطاب القرآني‬
‫ّ‬ ‫معين أو سادة معينين‪ ،‬ذلك‬
‫لإلنسان‪ ،‬الذي استُمدّ من تقاليد الحياة حينها من خالل التركيز‬
‫على مفاهيم الطاعة والجماعة والعصمة والقوامة واالستخالف‬
‫واإلتباع والوالء والبراء‪ ،‬إلخ‪.‬‬
‫‪141‬‬
‫يتم التعامل مع الفرد كذات‬
‫داخل العالم القديم لم يكن ّ‬
‫مجرد وسيلة لتحقيق غايات مرسومة‬
‫عاقلة ومستقلة بذاتها‪ ،‬وإنما ّ‬
‫سلف ًا‪ .‬كل فرد يولد لكي يسير على الصراط المستقيم الذي يرسمه‬
‫األسالف ويباركه الكهنة والقادة‪.‬‬
‫هذا الموقف انتهى اليوم‪..‬‬
‫ربما‪ ،‬انتهى نظري ًا‪ .‬والبد أن ينتهي عملي ًا‪.‬‬
‫درك كل فرد أن وجوده غير خاضع لغاية‬ ‫في عالم الحداثة ُي ِ‬
‫محدّ دة سلف ًا‪ ،‬وال طريق مرسومة مسبقا‪ ،‬وال صراط محدّ د ليعبر‬
‫عليه الجميع‪ .‬و على كل فرد يولد أن يحدد غايته بنفسه‪ ،‬ويرسم‬
‫طريقه بإرادته‪ ،‬ويقيم صراطه الذي يناسب طموحه وقدرته‬
‫وميوله وذكاءه‪ .‬وبذلك يكون إنسان الحداثة سيد نفسه‪ ،‬يعيش مع‬
‫الجماعة وفق قوانين شارك في وضعها‪ ،‬وتكون عالقته بالجماعة‬
‫عالقة شراكة ال عالقة إذعان‪.‬‬
‫هنا بالذات يتحدّ د ثمن الحرية‪ ،‬وثمن أن يكون كل فرد سيد ًا‬
‫على نفسه‪ ،‬بمعنى أن يكون صانع ًا لوجوده ولغاياته‪ ،‬ربما بالشراكة‬
‫مع اآلخرين ‪-‬هذا مأمول‪ -‬لكن ليس بالتفويض ألي أحد‪.‬‬
‫القدرة على امتالك الوعي بالذات كفاعلية مستقلة‪ ،‬هي‬
‫الفيصل بين العالم ْين القديم والجديد‪ ،‬وهي الشرط الوجودي‬
‫بالحرية وبالكرامة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والوجداني للوعي‬
‫مرت الحداثة الغربية بلحظة الوعي بالذات‬ ‫وبالفعل‪ ،‬فقد ّ‬
‫وممهدة للوعي بالحرية‪ .‬لكنها كانت أيض ًا مرحلة‬
‫ّ‬ ‫كمرحلة أولية‬
‫ثورية في تاريخ الوعي اإلنساني‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫إن جذور الوعي بالذات تعود إلى سقراط يوم‬ ‫يمكننا القول ّ‬
‫إعرف نفسك بنفسك‪ .‬وإنها أينعت مع ديكارت في صيغة أنا‬ ‫ْ‬ ‫قال ‪:‬‬
‫أفكّر‪ /‬أنا موجود‪ .‬وأعقبت ديكارت مرحلة الوعي بالحرية‪ ،‬بدء ًا‬
‫من سبينوزا الذي اعتبر الحرية هي الغاية الحقيقية لبناء الدولة‪ ،‬ثم‬
‫كانط الذي يعتبر الحرية ضمن المسلمات التأسيسية لألخالق‪،‬‬
‫وهيجل الذي يرى أن التاريخ ما هو إال تاريخ الوعي بالحرية‪،‬‬
‫وصوالً إلى سارتر الذي يؤكّد أنّنا محكوم علينا بالحرية‪.‬‬
‫هكذا‪ ،‬يبدو تاريخ الحداثة السياسية وكأنه تاريخ مفهوم‬
‫الحرية‪ .‬بل‪ ،‬لعل األمر كذلك بالفعل‪.‬‬
‫ّ‬
‫في العالم القديم‪ ،‬عاد ًة ما كانت حرية الفرد تأتي في أدنى‬
‫س ّلم القيم‪ .‬بل‪ ،‬لم يكن الفرد موجود ًا باألساس‪ .‬كان «الفرد»‬
‫مجرد تابع وخاضع للجماعة والعشيرة والطائفة واألمة‪ .‬لذلك‪،‬‬ ‫ّ‬
‫بوسعنا القول‪ ،‬الفرد هو ابن الحداثة‪.‬‬
‫وإذا كانت هناك بعض ِ‬
‫القيم التقليدية «اإليجابية»‪ ،‬مثل كرم‬
‫الضيافة‪ ،‬والعفو عند المقدرة‪ ،‬وك ْظم الغيظ‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬فإنّها ال‬
‫تبدو فقط غير كافية ألجل بناء نسق أخالقي يناسب عصر المواطنة‬
‫ودولة المؤسسات‪ ،‬وإنما هي تحايث ِق َيم ًا أخرى تمثل عائقا أمام‬
‫والدة الفرد الواعي بذاته وبحريته‪.‬‬
‫ور ّبما‪ ،‬بشيء من التوضيح‪ ،‬يمكننا أن نأخذ كمثال ثالث‬
‫قيم مركزية في القرآن الكريم تنتمي إلى القدامة األخالقية‪ ،‬وقد‬
‫أعاقت تحقيق وعي اإلنسان المسلم بذاته كإنسان وكفرد وككينونة‬
‫مستقلة‪ ،‬ومن ثمة أجهضت إمكانية الوعي بالحرية‪.‬‬
‫‪143‬‬
‫‪ - 1‬مفهوم الطاعة‬
‫بمعايير القدامة األخالقية‪ ،‬كانت الطاعة المطلقة (طاعة‬
‫الزوج أو كائن ًا من كان) فضيلة أخالقية‪ .‬لكنها‬
‫الحاكم أو األب أو ّ‬
‫مجرد بؤس وضعف‪ .‬طالما أن «السر»‬ ‫بمعايير الحداثة األخالقية‪ّ ،‬‬
‫الذي أفشته الحداثة هو أن الحرية ليس فقط ال تعارض األخالق‪،‬‬
‫وإنما هي شرط تأسيسي لألخالق‪.‬‬
‫وفي الواقع‪ ،‬تقود الطاعة إلى ذوبان الفرد داخل الجماعة‪،‬‬
‫ولي األمر أو ولي النعمة في بعض‬‫وا ّمحاء الذات أمام مشيئة ّ‬
‫الزوج أو الشيخ أو‬
‫األحيان‪ ،‬والذي هو األب أو السلطان أو ّ‬
‫المرجع أو الزعيم أو الله‪.‬‬
‫من وجهة نظر النص القرآني‪ ،‬قد تكون الطاعة محظورة‬
‫حين يطيع الفرد أهل «الباطل» كما في اآليتين التاليتين ‪:‬‬
‫(وإن تطع أكثر من في األرض يض ّلوك‪ )...‬سورة األنعام‪،‬‬
‫اآلية ‪.116‬‬
‫(وإن جاهداك على أن أن تشرك بي ما ليس لك به علم فال‬
‫تطعهما‪ )...‬سورة لقمان‪ ،‬اآلية ‪.15‬‬
‫لكن الطاعة مطلوبة حين يطيع الفرد أهل «الحق» كما في‬
‫اآليات ‪:‬‬
‫( من يطع الرسول فقد أطاع الله‪ )...‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.79‬‬
‫( ‪ ...‬أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى األمر منكم‪)...‬‬
‫سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.59‬‬

‫‪144‬‬
‫(ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله‬
‫عليهم‪ )...‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.69‬‬
‫(‪ ...‬واهجروهن في الضاجع واضربوهن‪ ،‬فإن أطعنكم فال‬
‫تبغوا عليهن سبيال‪ )...‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.34‬‬
‫‪ 2-‬مفهوم ملك اليمين‬
‫بهذا المفهوم القدامي‪ ،‬تتالشى ذاتية المرأة في سياق‬
‫العبودية المباحة أو المتاحة‪ .‬فقد ذكر النص القرآني « َما َم َلك ْ‬
‫َت‬
‫مرة‪ ،‬نذكر منها‬ ‫َأ ْي َما ُنك ُْم‪ /‬أيمانهم‪ /‬أيمانهن» نحو خمس عشرة ّ‬
‫اآليات التالية ‪:‬‬
‫(‪ ...‬فإن خفتم أال تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم‪)...‬‬
‫سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.3‬‬
‫(والمحصنات من النساء إال ما ملكت أيمانكم‪ )...‬سورة‬
‫النساء‪ ،‬اآلية ‪.24‬‬
‫(‪ ...‬ومن لم يستطع َط ْوال أن ينكح المحصنات المؤمنات‬
‫فمن ما ملكت أيمانكم‪ )...‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.25‬‬
‫بالجنب وابن السبيل وما‬
‫الجنب والصاحب َ‬ ‫(‪ ...‬والجار ُ‬
‫ملكت أيمانكم‪ )...‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.36‬‬
‫(إال على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم‪ )...‬سورة المؤمنون‪،‬‬
‫اآلية ‪ .6‬وسورة المعراج‪ ،‬اآلية ‪.30‬‬
‫(‪ ...‬أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن‪ )...‬سورة النور‪ ،‬اآلية‬
‫‪.31‬‬
‫‪145‬‬
‫(‪ ...‬والــذيــن يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم‬
‫فكاتبوهم‪ )...‬سورة النور‪ ،‬اآلية ‪.33‬‬
‫(يا أ ّيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك الالتي آتيت أجورهن‬
‫وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك‪ )...‬سورة األحزاب‪،‬‬
‫اآلية ‪.50‬‬
‫(‪ ...‬قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت‬
‫أيمانهم‪ )...‬سورة األحزاب‪ ،‬اآلية ‪.50‬‬
‫(‪ ...‬ولو أعجبك حسنهن إال ما ملكت يمينك‪ )...‬سورة‬
‫األحزاب‪ ،‬اآلية ‪.52‬‬
‫‪...‬‬
‫أن اإلسالم قد دعا إلى احترام األسرى والنساء‬ ‫شك ّ‬
‫ال ّ‬
‫أن وجود آيات تبيح‪ ،‬أو على األقل تتسامح مع‬ ‫والعبيد‪ ،‬غير ّ‬
‫الرق واالسترقاق كممارسة اجتماعية رائجة‪ ،‬يؤكد أننا أمام‬
‫نص ينتمي في صياغته إلى مرحلة القدامة األخالقية‪.‬‬
‫طبيعي أنّنا ال نجد ضمن المذاهب اإلسالمية‬ ‫ّ‬ ‫لذلك‪،‬‬
‫أي مذهب أعلن صراحة تجريم أو تحريم االسترقاق‪.‬‬ ‫المعروفة ّ‬
‫الرسول الكريم في تشجيع النّاس‬ ‫وهذا رغم بعض مبادرات ّ‬
‫على عتق العبيد‪ ،‬إالّ أن تلك المبادرات المحمودة لم تستند إلى‬
‫نصي قد يستوجب معاقبة ممتهني تجارة العبيد ومن‬ ‫أي تحريم ّ‬
‫ثم القضاء على الظاهرة‪.‬‬
‫وبالمناسبة‪ ،‬كثيرة هي األسئلة والتساؤالت المحرجة التي‬
‫أقرأها يوميا على الفايسبوك حول هذا الموضوع وغيره‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫مثال‪ ،‬ياسمينة الفرح‪ ،‬شابة سورية‪ ،‬تطرح على صفحتها‬
‫بالفايسبوك عدد ًا من األسئلة‪ ،‬وأنا أنقلها حرفي ًا ‪:‬‬
‫‪ -‬هل هناك مشهد أكثر إثارة لالستهجان من مشهد امرأه تقرأ‬
‫آية «واضربوه ّن»؟ خطاب من إله «ذكر» إلى الرجال يأمرهم‬
‫بتعنيف ذلك الكائن الغائب عن النص إن هو عصا‪ .‬كيف يمكن‬
‫يحرضه على‬ ‫لي أن يتراءى لسمعي كالم شخص لشخص آخر ِّ‬
‫ضربي وأبقى أكن له االحترام والتبجيل؟‬
‫ما هو مرض المرأة المسلمة؟‬
‫‪ -‬حسنا‪ ،‬كفاكم صخبا‪ ً:‬سنطبق الشريعه االسالمية‪ .‬كيف‬
‫نثبت الزنا اذا كان يحتاج ألربعه شهود‪ ،‬ونحن لم نعد نسكن‬
‫في الخيام التي يط ّير قماشها الهواء فيظهر باطنها ويرى المار‬
‫بسهوله ويسر ما يحدث داخلها؟‬
‫‪ -‬كيف نقنن عقوبة المغتصب وهي غير مذكورة في القرآن‬
‫وال في السنة؟‬
‫األسئلة‪ ،‬على عفويتها‪ ،‬واضحة وصريحة‪ .‬وهي تذكّرنا بأن‬
‫هناك مشكلة ما‪.‬‬
‫مرة أخرى‪ ،‬ليست المشكلة أن يتحدّ ث النص القرآني‬ ‫ّ‬
‫وتصورات تنتمي إلى نظرة رجل العالم القديم‬
‫ّ‬ ‫انطالق ًا من مفاهيم‬
‫للمرأة ‪-‬فذلك هو السياق الثقافي لنص ديني يمثل بيئة وخيال‬
‫الرسول‪ -‬لكن العيب‪ ،‬كل العيب‪ ،‬نزوع الكثيرين نحو‬ ‫ومزاج ّ‬
‫أدلجة وتسييس وأسطرة خطاب يظل في مستوى الشكل تع ّبدي ًا‪،‬‬
‫لكنه في مستوى المضامين يعكس نوازل ونوازع العالم القديم‪.‬‬

‫‪147‬‬
‫المشكلة أن هناك من ُيخرج القرآن من السياق االبتهالي‬
‫التع ّبدي‪ ،‬ويستغله ألجل كسب بعض النقاط في الصراع السياسي‬
‫واأليديولوجي من أجل السلطة‪.‬‬
‫المشكلة أيضا أننا نقدِّ س قيم النص القرآني‪ ،‬علم ًا أنها قيم‬
‫العالم القديم‪ ،‬وقد نسينا األساس‪ .‬واألساس أن القرآن هو أثر‬
‫كالمي من آثار شوق الوجود «النسبي» إلى الوجود «المطلق» (إليه‬ ‫ّ‬
‫مرجعكم‪ -‬اآلية)‪.‬‬
‫قوة القرآن ليست في مضامين الخطاب التقليدي الذي‬
‫يحمله‪ ،‬بل هي في ذلك األثر الوجداني الذي تتركه القراءة في‬
‫قلب القارئ‪.‬‬
‫ولذلك‪ُ ،‬سمي القرآن قرآن ًا‪ ،‬ألنه ُيقرأ‪.‬‬
‫غير أن تقديس وتأليه النص القرآني‪ ،‬ووضعه في مقام أقنوم ثان‬
‫أو ثالث من أقانيم األلوهية‪ ،‬قد أتاح للفقهاء التحريضيين والدّ عاة‬
‫الغوغائيين والوعاظ االستعراضيين فرصة استغالله ألجل الكذب‬
‫والخداع‪ ،‬ولغاية شل نشاط السامع‪ ،‬وتعطيل إرادته‪ ،‬وإحباط‬
‫طموحاته‪ ،‬فيصبح اإلنسان المسلم في آخر المطاف إنسان ًا خانع ًا‬
‫خاضع ًا تابع ًا‪ ،‬بل خامال مثل جماعة من السالحف على ضفاف‬
‫ماء آسن‪.‬‬
‫«التشوه الخلقي» الذي أ ْل َحق وال يزال ي ْل ِحق ضرر ًا‬
‫ّ‬ ‫هذا هو‬
‫بليغ ًا بصورة اإلسالم‪ ،‬وبصورة اإلنسان في اإلسالم‪ ،‬بل بكرامة‬
‫اإلنسانية جمعاء‪.‬‬
‫إن المطلوب اآلن هو العمل على بلورة خطاب ديني جديد‪،‬‬ ‫ّ‬
‫حرض الناس على الفتنة‪ ،‬وال ُيحرضهم على الطائفية‪ ،‬وال‬ ‫ال ُي ِّ‬

‫‪148‬‬
‫ُيد ِّمر الدّ ول ألجل أن تعلو كلمة الله! ‪-‬أين تعلو كلمة الله؟ فوق‬
‫الخرائب‪ ،-‬وال يفسد الثورات ويحرفها عن موضعها فيضيع معنى‬
‫اإلنسان‪ .‬خطاب ال يحرض الدّ هماء على النساء‪ ،‬وال األكثرية على‬
‫يورط‬
‫األقلية‪ ،‬وال الجاهلين على الفنّانين والمثقفين‪ ،‬خطاب ال ِّ‬
‫الشعوب في معارك وهمية‪ ،‬وال ُيبدد زمن الشعوب في حمالت‬ ‫ّ‬
‫وسواسية على تنورة قصيرة هنا أو سروال ض ّيق هناك‪ .‬وإن كان‬
‫وال بدّ من تحريض فليكن التّحريض على البناء والنماء واالرتقاء‪.‬‬
‫وفي ذلك فليتنافس العقالء‪.‬‬
‫إن المطلوب هو استبدال كل مفاهيم القدامة في الخطاب‬ ‫ّ‬
‫الديني من قبيل الوالء والبراء‪ ،‬ودار الحرب ودار اإلسالم‪ ،‬والطاعة‬
‫والزحف والنّفير‪ ،‬والحريم والعورة‪ ..‬وأشياء أخرى‪،‬‬ ‫والجماعة‪ّ ،‬‬
‫بمفاهيم تنتمي إلى حقل الحداثة والمواطنة وحقوق اإلنسان‪.‬‬
‫الكف عن التعامل مع المصطلحات كأوثان‬ ‫ّ‬ ‫وبكل تأكيد‪ ،‬يجب‬
‫مقدَّ سة‪ ،‬أو كعجل ذهبي‪ ،‬أو كهيكل سليمان‪ ،‬فليست المصطلحات‬
‫مجرد‬
‫معبودات‪ ،‬حتى ولو كانت واردة في الكتب المقدسة؛ إلنّها ّ‬
‫وسائل بالغية ترتبط بسياقات تداولية وتواصلية محدّ دة‪.‬‬

‫‪149‬‬
150
‫ِّ‬
‫المت�شدد يق�شد ما يقول‬ ‫وحده‬

‫جرت العادة على تصنيف اإلسالم السياسي إلى قسمين‬


‫رئيسيين‪ ،‬قسم لإلسالميين المعتدلين بكافة أصنافهم وأطيافهم‪،‬‬
‫وقسم لإلسالميين المتشدِّ دين بكافة ألوانهم وأنواعهم‪ .‬ظاهري ًا‬
‫يبدو هذا التقسيم معقوال ومقبوال‪ ،‬ال شك فيه وال خالف‬
‫يسمون أنفسهم‬‫أن اإلسالميين الذين ّ‬ ‫عليه‪ .‬لك ّن المالحظ أيض ًا ّ‬
‫بالوسطيين‪ ،‬أو يسميهم البعض بالمعتدلين‪ ،‬ال يزالون إلى حد‬
‫الساعة ال يملكون خطاب ًا متجانس ًا وقادر ًا على مجابهة خطاب‬
‫اإلسالميين المتشددين‪ .‬لقد انتجوا الكثير من األدب ّيات في الرد‬
‫على العلمانيين واليساريين والشيوعيين والقوميين والناصريين‬
‫والليبراليين‪ ،‬لكنهم ال ُيسمع لهم سوى صوت خفيض حين يتعلق‬
‫األمر بالرد على المتشددين والجهاديين المتطرفين‪ .‬وهذا ما يجعل‬
‫خطاب التشدّ د اليوم –رغم ق ّلة مؤيديه‪ -‬هو األكثر إثارة وحضور ًا‪.‬‬
‫لقد كان دور اإلسالميين الوسطيين ينحصر غالب ًا في محاولة‬
‫إمساك العصا من الوسط بين طرف القدامة وطرف الحداثة‪ .‬وقد‬
‫الحظنا ذلك الجهد المضني الذي بذله بعضهم خالل السنوات‬
‫‪151‬‬
‫األخيرة بحثا عن ذلك الوسط المفقود بين قدامة ميتة وحداثة لم‬
‫تولد بعد‪ ،‬في إطار شعار غامض يردده بعضهم بنشوة المنتصر على‬
‫طواحين الهواء ‪« :‬ال قندهار وال باريس»! إنه في أوضح األحوال‬
‫وسط منزوع المواقف‪.‬‬
‫هكذا‪ ،‬وبصرف النظر عن مدى نجاعتهم في الرد على‬
‫العلمانيين‪ ،‬ال يملك اإلسالميون الوسطيون رد ًا حازم ًا وجازم ًا على‬
‫التذرع بفن الممكن وقواعد التمكين‪.‬‬ ‫اإلسالميين المتشددين‪ ،‬غير ّ‬
‫في واقع الحال‪ ،‬هناك أسئلة دقيقة بقدر ما يجيب عنها‬
‫اإلسالمي المتشدد بوضوح‪ ،‬ال يملك اإلسالمي الوسطي إزاءها‬
‫ما يقوله سوى َل ْوك الكالم‪ .‬مثال‪ :‬حين نسأل اإلسالمي الوسطي‪:‬‬
‫هل الدّ ولة في اإلسالم دولة دينية أم ال؟ فإنه ير ّد بالنفي‪ ،‬مردد ًا «ال‬
‫كهنوت في اإلسالم»‪ ،‬و«ال رجال دين في اإلسالم»‪ ،‬و«ال سلطة‬
‫دينية في اإلسالم»‪ .‬ثم نسأله ‪ :‬الدّ ولة في اإلسالم دولة غير دينية‬
‫إذ ًا؟ فير ّد بكالم على هذا النحو ‪ :‬لكن ليس بمعنى االنفصال عن‬
‫الدين وإنما بمعنى التكامل والتفاعل و‪ ...‬إلخ‪ .‬ثم نقول له ‪ :‬نعيد‬
‫السؤال‪ ،‬هل الدّ ولة في اإلسالم دولة دينية أم دولة غير دينية؟ فنسمع‬
‫خطابا غامضا ومتلعثما‪ .‬وهنا أزمة «الوسطية»‪ .‬على أن الوضوح هو‬
‫المطلب األول للعقل‪ ،‬وللعقل التواصلي على وجه التأكيد‪.‬‬
‫أما جواب اإلسالمي المتشدد فهو صريح وواضح ‪ :‬الدولة‬
‫في اإلسالم دولة دينية‪ ،‬بل المجتمع والقوانين كلها دينية؛ ّ‬
‫ألن‬
‫الدين يهيمن على كل شيء‪ ،‬الحياة والعلم والفكر والثقافة والطب‬
‫والتاريخ والماضي والحاضر والمستقبل‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫صحيح ّ‬
‫أن المسلم العادي ال يميل إلى خطاب التشدّ د‪ ،‬غير‬
‫أن خطاب التشدد يستطيع في األخير أن يمأل الفراغ ويحتل مقدمة‬
‫المشهد بفعل وضوحه على األقل‪ .‬وفي المقابل‪ ،‬ينتظر الناس‬
‫سماع خطاب معتدل وواضح أيضا‪ .‬وهذا غير متوفر في الواقع‬
‫أو ليس بعد‪.‬‬
‫يريد الناس خطابا واضحا يقول لهم إن الباب مفتوح‪ ،‬أو إن‬
‫الباب مغلق‪ .‬ولن يقتنع الناس بالخطاب الذي يلوك الكالم على‬
‫طريقة إن الباب قد يكون مغلقا ولكنه في ظروف رؤية معينة قد‬
‫يبدو مفتوحا‪!...‬‬
‫طبيعي إذ ًا أن الصوت المسموع اآلن في العالم اإلسالمي‬
‫يسمون بأنصار الشريعة‪.‬‬
‫هو صوت اإلسالميين المتشددين ممن ّ‬
‫نعم إنهم قلة –قلة عددية! ربما‪ -‬إال أن خطابهم يبقى هو األكثر‬
‫وضوحا‪ .‬فحين يقولون للناس مثال‪ ،‬يجب أن نحكم بما أنزل الله‪،‬‬
‫وإن الله يقول (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)‪،‬‬
‫فإن اإلسالمي الوسطي ال يملك رد ًا واضح ًا على هذا الكالم‬
‫سوى القول ‪ :‬نعم‪ ،‬ولكن يجب أن يتم هذا على مراحل‪ ،‬وأن‬
‫يقتنع به الناس أوالً‪ ،‬وال بأس أن نجتهد في بعض األحكام‪ ،‬وقد ال‬
‫نجعل الشريعة هي المصدر الوحيد للتشريع‪ ،‬فقد نجعلها مصدرا‬
‫من بين مصادر أخرى للتشريع كالحكمة والمصلحة والواقع إلخ‪.‬‬
‫غير أن المتشدّ د يستطيع أن ير ّد بالقول‪ :‬الشريعة فرضها الله وهي‬
‫كاملة غير منقوصة وصالحة لكل زمان ومكان ولكل الظروف‬
‫وال تحتاج إلى أي اجتهاد أو إضافة أو حذف أو نسخ أو إبطال‬
‫‪153‬‬
‫أو تعطيل أو تعديل‪ .‬وإن عالقة اإلنسان بالله هي عالقة تنفيد‬
‫لألوامر‪ .‬وهل يحق لإلنسان الضعيف والصغير والفقير أن يجادل‬
‫الله القوي والكبير والغني!؟‬
‫فما هو ر ّد اإلسالمي الوسطي!؟‬
‫صحيح ّ‬
‫أن هذا األخير قد يضطر في بعض األحيان إلى مجابهة‬
‫المتطرف‪ ،‬حتى بالقوة كما حدث في تونس‪ ،‬غير أنه ال‬
‫ِّ‬ ‫اإلسالمي‬
‫يملك رغم ذلك أي خطاب واضح وقادر على مجابهة الخطاب‬
‫المتشدد والحلول محله في المساجد والجوامع والمدارس‬
‫واإلعالم‪.‬‬
‫الوضوح مطلب أساس‪.‬‬
‫نعم‪..‬‬
‫اإلسالمي المعتدل واإلسالمي المتشدد كالهما يقول ‪ :‬القرآن‬
‫دستورنا‪ .‬لكن المتشدد يفهم من ذلك أن كل عبارة في القرآن تمثل‬
‫بند ًا يجب تطبيقه بحذافيره‪ .‬مثال‪« ،‬قرن في بيوتك ّن» تعني بالنسبة‬
‫للمتشدّ د حرمان الفتيات من الذهاب الى المدرسة وحرمان المرأة‬
‫من السياقة‪ ،‬وحرمانها من السفر بال محرم‪ ،‬وحرمانها من العمل‪..‬‬
‫إلخ؛ و«الالئي لم يحضن» تعني لدى السلفيين المتشددين جواز‬
‫تزويج الطفالت الصغيرات؛ و«كتب عليكم القتال» تعني لدى‬
‫الجهاديين المتشددين أن القتال فرض عين على كل مسلم‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫إذ ًا‪..‬‬
‫الوسطي والمتشدد كالهما يقول «القرآن دستورنا»‪ .‬لكن‬
‫وحده المتشدِّ د يقصد ما يقول‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫الحداثة‬
‫المدخل الأخالقي اإلى َ‬

‫المدخل األســاس والمنسي إلى الحداثة هو المدخل‬


‫األخالقي‪ .‬إذ ال حداثة فعلية من دون حداثة أخالقية‪.‬‬
‫هذا الدرس نسيناه أو تناسيناه‪ ،‬ظنا منا أن النص الديني يكفل‬
‫لنا اكتفا ًء ذاتي ًا ال يضاهى من األخالق‪ ،‬بل يكاد يبلغ حد التّخمة‬
‫ّ‬
‫والتضخم‪.‬‬
‫يرسخه ِصنفان من الناس‪:‬‬ ‫وهم ّ‬
‫وهذا ٌ‬
‫أوالً‪ ،‬المحافظون والمحافظون الدينيون بكافة أطيافهم‬
‫أخالقي مرفوض‪ ،‬ومن ثم‬
‫ّ‬ ‫والذين يظنون بأن الحداثة عمل ال‬
‫الرصيد األخالقي للنص الديني‪.‬‬
‫يؤكدون الحاجة للعودة إلى ّ‬
‫ثاني ًا‪ ،‬بعض اليساريين النيتشويين والذين يعتقدون أن كل‬
‫القواعد األخالقية سواء كانت نقلية أم عقلية‪ ،‬ليست سوى عائق‬
‫أمام حرية اإلنسان وطموحه‪ .‬لذلك يظ ّن بعض هؤالء أن الحداثة‬
‫(التي نريد) بدأت فعلي ًا مع نيتشه‪ ،‬وليس مع سبينوزا أو روسو أو‬
‫كانط‪.‬‬
‫‪155‬‬
‫درء ًا للخلط‪ ،‬هناك قضية أساسية قد نغفلها‪ ،‬إما في غمرة الفهم‬
‫السطحي لفلسفة نيتشه (على طريقة اليسار النيتشوي في فرنسا)‬
‫أو في سياق تجريم الحداثة (على طريقة المحافظين الجدد في‬
‫أمريكا) أو تكفيرها (على طريقة السلفيين في العالم اإلسالمي)‪:‬‬
‫الحرية لدى سبينوزا وروسو ولوك وكانط ليست واقع ًا يقابل أو‬
‫يعارض األخالق‪ ،‬كما هي نظرة القدامة إلى العالقة بين الحرية‬
‫واألخالق‪ .‬بل‪ ،‬مع التأسيس األخالقي للحداثة‪ ،‬أصبحت الحرية‬
‫شرط ًا أولي ًا وأساسي ًا ألخالق المواطنة والسلوك المدني‪ .‬يقول‬
‫الحرة واإلرادة الخاضعة لقوانين أخالقية شيء‬ ‫ّ‬ ‫كانط‪« :‬اإلرادة‬
‫واحد»(‪.)1‬‬
‫تبسيط السؤال قد ينتهي إلى أجوبة سطحية‪ .‬لذلك نوضح‪،‬‬
‫ليست المشكلة مع أو ضد األخالق‪ .‬وإنما السؤال‪ ،‬عن أي أخالق‬
‫نتحدّ ث‪ ،‬أخالق المواطنين األحرار والذين يتّفقون ويتعاقدون‬
‫ويلتزمون بوعي وحرية ومسؤولية‪ ،‬أي أخالق الحداثة السياسية‪،‬‬
‫الرعايا والعبيد الخائفين والخانعين والذين يمارسون‬
‫أم أخالق ّ‬
‫والمكر والكتمان‪ ،‬أي أخالق القدامة‪ ،‬من‬
‫السياسة بغرائز الكيد َ‬
‫قبيل «فلتة السقيفة»‪ ،‬و«فتنة الخديعة»‪...‬؟‬
‫الر ّد الحداثي واضح وصريح‪ ،‬إذ يقول سبينوزا ‪« :‬ال يتصرف‬
‫بمكر أبد ًا»(‪.)2‬‬
‫اإلنسان الحر َ‬
‫(‪ )1‬إيمانويل كانط‪ ،‬تأسيس ميتافزيقا األخالق‪ ،‬ترجمة ع‪ .‬الغفار مكاوي‪ ،‬منشورات الجمل‪،‬‬
‫كولونيا (ألمانيا)‪ ،2002 ،‬ص ‪.146 :‬‬
‫(‪ )2‬باروخ سبينوزا‪ ،‬علم األخالق‪ ،‬ترجمة جالل الدين سعيد‪ ،‬المنظمة العربية للترجمة‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫تشرين األول (أكتوبر) ‪ ،2009‬ص ‪.299 :‬‬

‫‪156‬‬
‫لم يكن نيتشه َيقبل بقيم الغدر والخديعة والمسكنة‪ .‬كانت‬
‫غايته تحرير المنظومة األخالقية الحداثية من الرواسب القدامية‬
‫التي قد تد ِّمر طموح الفرد وتشل طاقته الحيوية وتصيبه بالخمول‬
‫والتواكل‪ .‬فقد كان نيتشه‪ ،‬عكس التأويل السطحي لمشروعه‪ ،‬يقدم‬
‫درس ًا متقدم ًا في أخالق التنوير‪ ،‬أخالق الفرد الحر‪ ،‬المستقل‪،‬‬
‫الطموح‪ ،‬المبادر‪ ،‬والمبدع‪.‬‬
‫مشكلتنا نحن المسلمين أننا بالفعل ال ننكر تخ ّلفنا العلمي‬
‫والتقني والصناعي والسياسي والحقوقي‪ ،‬إلخ‪ ،‬لكننا في المقابل‬
‫ننكر تخ ّلفنا األخالقي‪ .‬بل نتوهم أننا أكثر شعوب األرض أخالقا‪،‬‬
‫ونظن أن منطق «الحاكمية والعبودية لله» يغنينا عن أي تأسيس‬
‫مقومات السلوك الحسن‪:‬‬ ‫أخالقي للمواطنة؛ ففي النص الديني كل ِّ‬
‫(بالوالدبن إحسان ًا)‪( ،‬أما السائل فال تنهر)‪( ،‬العفو عند المقدرة)‪،‬‬
‫(عتق رقبة)‪( ،‬إطعام ستين مسكين ًا)‪( ،‬الذين هم ُيراؤون ويمنعون‬
‫الماعون)‪ ،‬إلخ‪.‬‬
‫لكن الحقيقة أيض ًا‪ ،‬إن هذه األخالقيات تناسب بالكاد‬
‫مجتمعا قروي ًا بسيطا تُختزل عالقاته في عبارت مثل ‪« :‬زوجتك‬
‫علي كظهر أمــي»‪« ،‬أبسط يدك‬ ‫ّ‬ ‫ابنتي»‪« ،‬أنت طالق»‪« ،‬أنت‬
‫أبايعك»‪ ،‬إلخ‪ .‬إنه مجتمع ما قبل بناء الدولة‪ ،‬وباألحرى ما قبل‬
‫بناء دولة المؤسسات بقرون طويلة‪ ،‬وما قبل المجتمعات التي‬
‫وتنوعت اعتقاداتهم وعاداتهم وتغ ّيرت معامالتهم‬‫تكاثر سكانها ّ‬
‫التجارية وفهمهم للعالقات بين الرجال والنساء واعالقات‬
‫التبادلية والتواصلية المع ّقدة بين بشر ومجتمعات اليوم‪....‬‬
‫‪157‬‬
‫المؤكد أن العقل األخالقي البشري يتطور ‪-‬بسرعة أحيان ًا‪-‬‬
‫عبر مجرى التاريخ‪ .‬لذلك فالكثير من األفعال التي كانت مقبولة‬
‫تصورهم للخير والفضيلة‪ ،‬لم تعد‬
‫لدى القدماء‪ ،‬بل وتندرج ضمن ّ‬
‫كذلك اليوم‪.‬‬
‫في المجتمعات القديمة كان تزويج طفلة في سن الثانية‬
‫الرابعة عشر في‬‫عشر يعدّ فضيلة‪ ،‬وكانت مشاركة أطفال دون سن ّ‬
‫األعمال القتالية يعدّ بطولة‪ ،‬وكان القتل واالغتصاب أثناء الحروب‬
‫والغزوات حق ًا من حقوق المنتصرين‪ ،‬وكان تنفيذ عقوبة اإلعدام‬
‫أمام مرأى الجمهور نوع ًا من اإلنصاف‪ .‬لكن ضمائرنا‪ ،‬وحتى بنيتنا‬
‫الغصبية‪ ،‬لم تعد تتحمل اليوم مثل هذه األعمال‪ .‬فقد صرنا ميالين‬
‫إلى تجريم الكثير من فضائل القدماء‪ .‬ما يؤكد أن العقل األخالقي‬
‫أزلي بتلك‬
‫تمسك ّ‬ ‫يتغ ّير عبر التاريخ‪ .‬إذا‪ ،‬ليست السلفية بما هي ّ‬
‫األخالق ال َق َبلية القديمة‪ ،‬سوى فرصة لتعطيل األخالق‪.‬‬
‫والمحصلة‪ ،‬إن المصدر الوحيد واألساس للتشريع األخالقي‬
‫أي نص من نصوص الماضي‪ ،‬كيفما كان‪،‬‬ ‫ال يمكن أن يكون ّ‬
‫طالما أنها تع ّبر عن مستوى العقل األخالقي لعصرها‪ .‬ولذلك‬
‫فإن تحديد معايير الحكم األخالقي مهمة دائمة ومتجددة للعقل‬
‫األخالقي البشري على وجه التّحديد‪ .‬وبسبب ذلك نستطيع أن‬
‫نقول بكل حزم وجزم ‪ :‬العقل هو المصدر الوحيد للتشريع‪ .‬وهذا‬
‫هو المدخل األساس إلى الحداثة السياسية‪.‬‬
‫كمثال على ذلك‪ ،‬يقول سيد قطب ‪« :‬ليس عبد ًا لله وحده من‬
‫يتلقى الشرائع القانونية من أحد سوى الله»(‪.)1‬‬
‫(‪ )1‬سيد قطب‪ ،‬معالم في الطريق‪ ،‬دار الشروق بيروت ودار الثقافة الدار البيضاء‪ ،1993 ،‬ص ‪.94 :‬‬

‫‪158‬‬
‫مرة أخرى أن ليس للقرآن وظيفة‬ ‫قبل متابعة التحليل‪ ،‬نؤكد ّ‬
‫أخرى غير الوظيفة التع ّبدية‪ .‬وهي أقوى وأتقى وأبقى وظيفة‪ .‬وكل‬
‫مجرد تضارب بآيات «حمالة أوجه»‪.‬‬ ‫إقحام للقرآن في أمور السياسة ّ‬
‫انطالق ًا من معايير النص الديني‪ ،‬ال يمكننا أن نرفض تزويج‬
‫طفلة من مغتصبها‪ ،‬وال يمكننا أن نر ّد رغبة المجرم في دفع الدية‬
‫الزواج العرفي غير المو َّثق‪،‬‬ ‫الجتناب العقاب‪ ،‬وال يمكنننا أن نرفض ّ‬
‫وال يمكننا أن نرفض عقود عمل ال تضمن أي تعويض عن حوادث‬
‫الشغل‪ ،‬إلخ‪ .‬لكننا إن كنا نعتبر مثل هذه المواقف غير عادلة وغير‬
‫منصفة‪ ،‬فألننا ننطلق من معايير أخالق الحداثة وقيم حقوق اإلنسان‪.‬‬
‫الحظنا‪ ،‬خالل الثورتين التونسية والمصرية‪ ،‬كيف ّ‬
‫إن التيار‬
‫السلفي ‪-‬وبدرجة أقل الت ّيار اإلسالمي‪ -‬لم يلتحق بالثورتين إالّ‬
‫يكف‬
‫بعد نجاحهما في طرد «اإلمام الجائر»‪ .‬أما في ّأول األمر فلم ّ‬
‫السلفيون ألسنتهم عن التشهير بثوار الفايسبوك والتويتر ! لكن‪،‬‬
‫بعد انتصار الثورتين انقلب السلفيون على أنفسهم وأصبحوا في‬
‫«الربيع العربي»‪ ،‬ولو بالعنف‬ ‫طليعة الدّ اعين إلى تعميم نموذج ّ‬
‫المحرضين على إقصاء كل‬ ‫ِّ‬ ‫الجهادي أحيان ًا‪ ،‬وصاروا في طليعة‬
‫«فلول األنظمة البائدة»‪.‬‬
‫اعتقدَ الكثيرون أن األمر يتعلق ببوادر انقالب سني في الموقف‬
‫من الخروج والثورة‪ .‬هذا خطأ؛ فاألمر امتداد لإليديولوجية‬
‫البراغماتية القائمة نفسها على ثالث مس ّلمات ‪:‬‬
‫‪ 1-‬إمام ظالم خير من عدمه‪.‬‬
‫‪ 2-‬عدم المشاركة في الفتنة (أي تحريم الخروج)‪.‬‬
‫‪ 3-‬الصالة وراء من غلب (أي السباحة مع التيار)‪.‬‬
‫‪159‬‬
‫الحظنا أيض ًا كيف أطلق اإلخوان المسلمون أثناء الثورة‬
‫المصرية‪ ،‬وعد ًا بعدم الترشح لالنتخابات الرئاسية‪ ،‬ثم ما فتئوا‬
‫ينكثون بالوعد‪ ،‬ليتقدموا إلى الرئاسيات وبأكثر من مرشح واحد‪.‬‬
‫وال غرابة‪ ،‬إذ يحكي لنا تاريخ اإلسالم كيف قامت الدولة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬بمعزل عن أي سند أخالقي‪ ،‬على أساس الفلتة (فلتة‬
‫أبي بكر كما سماها عمر)‪ ،‬والخديعة (خديعة التحكيم زمن‬
‫معاوية)‪ ،‬والعصبية (األموية والعباسية والفاطمية والعثمانية‪.)...‬‬
‫في إطار أزمة األخالق‪ ،‬لم يكتف الفقهاء بالتساهل مع‬
‫شرعوه وجعلوه شريعة‪ ،‬فأجازوا كذب األب على‬ ‫الكذب‪ ،‬بل ّ‬
‫أبنائه لـ «مصلحة» األسرة‪ ،‬وكذب السلطان على شعبه لـ «مصلحة»‬
‫البلد‪ ،‬وكذب الفقهاء أنفسهم لـ «مصلحة» اإلسالم‪ .‬ساهم التراث‬
‫الفقهي في تشريع الكذب بدعوى «المصلحة»‪ .‬لكن األخالق‬
‫التصرف بصدق‪ ،‬كما يقول كانط ‪« :‬الصدق واجب مطلق‬ ‫ّ‬ ‫تقتضي‬
‫أيا كانت الظروف»(‪.)1‬‬
‫ثم‪ ،‬ساهم الفقهاء في إشاعة ثقافة الحقد والكراهية بدعوى‬
‫ما يسمى بـ«الوالء والبراء»‪ .‬لكن‪« ،‬ال يمكن للكراهية أن تكون‬
‫خير ًا»(‪ )2‬كما يقول سبينوزا‪.‬‬
‫لقد جاء الفقه اإلسالمي ليعكس حجم األزمة األخالقية‬
‫داخل الفكر الديني اإلسالمي‪ .‬وهي األزمة التي انتقلت إلى‬
‫صفوف الحركة اإلسالمية‪.‬‬
‫‪André Comte-Sponville, petit traité des grandes vertus, PUF ,1995‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫‪. p: 300‬‬
‫(‪ )2‬باروخ سبينوزا‪ ،‬علم األخالق‪ ،‬ترجمة جالل الدين سعيد‪ ،‬المنظمة العربية للترجمة‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫تشرين األول (أكتوبر) ‪ ،2009‬ص ‪.274 :‬‬

‫‪160‬‬
‫لذلك‪ ،‬حتى محمد حسين فضل الله‪ ،‬والذي ُيعدّ ه الكثيرون من‬
‫تمسك ًا ِبق َيم األخالق‪ ،‬فقد جاءت الكثير‬ ‫بين أكثر المراجع الدينية ّ‬
‫من فتاواه كاشفة لحجم الفراغ األخالقي داخل بنية الفكر اإلسالمي‬
‫عموم ًا‪ .‬إذ ال يتر ّدد الشيخ في تجويز كذب األب على أبنائه من أجل‬
‫«المصلحة»‪ .‬مثالً‪ ،‬في جواب عن سؤال لـ «أخ» من ألمانيا ط ّلق‬
‫فـ«يضطر أحيان ًا‬
‫ّ‬ ‫زوجته األلمانية‪ ،‬ويريد أن ُيحافظ على حضانة ابنتيه‬
‫إلى أن يكذب على بناته من أجل تمرير بعض القضايا»‪ ،‬فهل يجوز له‬
‫الكذب؟ كان الجواب‪« :‬يجوز ذلك في الفرض المذكور»(‪.)1‬‬
‫أن ثقافة الحق والقانون ال تقبل زواج ًا أو تزويج ًا‬ ‫ليس يخفى ّ‬
‫بالمكيدة أو اإلكراه‪ ،‬وال تقبل طالق ًا أو تطليق ًا بالمكيدة أو اإلكراه‪،‬‬
‫وال تقبل بيعة للحاكم بالمكيدة أو اإلكراه‪ ،‬وال تقبل بأي حال من‬
‫األحوال باألمر الواقع الناجم عن الغلبة أو الوصاية أو الخديعة‪،‬‬
‫وهذا بصرف النظر عن النتائج أو النوايا أو الغايات‪ .‬وفي المقابل‬
‫تنمي القدرة على المكر واإلنكار والتقية‬ ‫ّ‬
‫فإن ثقافة الحيل الفقهية ّ‬
‫والكتمان‪ ،‬وال تشترط في ذلك سوى أن تكون «النية» حفظ النفس‬
‫أو النسل أو المال أو الدين أو أي شيء آخر‪ ،‬أو أن يظ ّن المرء بأن‬
‫نيته «الصالح» أو «سد الذرائع»‪ ،‬أو يقنع نفسه بذلك‪ ،‬وهذا أسهل‬
‫ما يكون في كل األحوال‪.‬‬
‫فإن تراثنا الفقهي ليس لديه سوى القليل مما يمكنه‬ ‫في الواقع ّ‬
‫أن يع ّلمنا عن أخالق المسؤولية وااللتزام والتي أساسها الحريات‬
‫الفردية‪ ،‬وفي المقابل لديه الكثير مما يمكنه أن يعلمنا عن ثقافة‬
‫المكر والنفاق والخداع‪ :‬الحرب خدعة‪ ،‬اقضوا حوائجكم‬
‫(‪ )1‬محمد حسين فضل الله‪ ،‬المسائل الفقهية‪ ،‬دار المالك‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الثامنة‪ ،1998 ،‬الجزء‬
‫الثاني‪ ،‬ص ‪435 :‬‬

‫‪161‬‬
‫بالكتمان‪ ،‬من ابتلي منكم فليستتر‪ ،‬درء المفسدة الكبرى بمفسدة‬
‫صغرى‪ ،‬الغاية تبرر الوسيلة‪ ،‬البراء بالقلب إن كان ال مفر من الوالء‬
‫باللسان‪ ،‬الصالة خلف من َغ َلب‪ ،‬الضرورات تبيح المحظورات‪،‬‬
‫للضرورة أحكام‪ ،‬إلخ‪.‬‬
‫ما يعني أننا من خالل تراثنا الفقهي اكتسبنا ثقافة الحيل‬
‫الفقهية‪ ،‬وهي ثقافة مضا ّدة لثقافة الحق والقانون ولدولة‬
‫المؤسسات الحديثة‪.‬‬
‫إن كل من يقرأ كتب الفقه اإلسالمي بعين ثقافة الحق والقانون‬
‫سيقف على ما ُيذهل األذهان من حيل فقهية في تفصيل الفتاوى‬
‫بحسب المصلحة‪ ،‬والتي لم يكن المقصود بها المصلحة العامة؛‬
‫إلن المصلحة العامة مفهوم حديث بكل المقاييس‪ ،‬لكنّها مصلحة‬ ‫ّ‬
‫معتبرة أو مرسلة يقع تقديرها على المفتي بمراعاة سياق وظروف‬
‫السائل أو طالب الفتوى حصر ًا‪ .‬وإال فإن أحكام الفقه كانت تأتي‬
‫دائما على طريقة ‪« :‬سئل فالن رحمه الله عن كذا‪ ..‬فأجاب بالقول‬
‫إن رأي فالن كذا‪ ،‬لكن يخالفه عالن في كذا‪ ،‬ورأي الجمهور كذا‪،‬‬
‫ويرجح بعض الصحابة أو التابعين كذا على كذا‪ ،‬والرأي عندنا هو‬
‫كذا‪ ..‬والله أعلم»‪ .‬بمعنى أن أحكام الفقه تجيب عن أسئلة محددة‬
‫بظروف السائل وسياق السؤال حصر ًا‪ ،‬ثم تبقي األبواب مفتوحة‬
‫لجهة االلتفاف وعدم االلتزام‪ ،‬وكل هذا بخالف ثقافة الحق والقانون‬
‫التي تفترض قدر ًا من الصرامة والوضوح والمسؤولية وااللتزام‪.‬‬
‫التفوق األخالقي للمسلمين تحرمنا من‬ ‫ّ‬ ‫شك ّ‬
‫أن كذبة‬ ‫ال ّ‬
‫إدراك حجم انحاللنا األخالقي‪ ،‬والذي نكتمه ونحجبه بثوب‬
‫داكن من النفاق الديني‪ ،‬ومن الحشمة الكاذبة‪ ،‬ومن الحياء الماكر‪.‬‬

‫‪162‬‬
‫َف َر�ش ّية حول ال�شهادة‬

‫الركن األول من‬


‫جرت العادة على اعتبار أن الشهادة هي ّ‬
‫أركان اإلسالم‪ .‬وليس هذا ما سنناقشه اآلن‪ .‬إنما نريد أن نبسط‬
‫مجرد‬
‫فرضية محدّ دة حول مضمون الشهادة‪ .‬إنها في كل األحوال ّ‬
‫فرضية‪ ،‬إن وجدت بعض حجج اإلثبات‪ ،‬فلعلها تنتظر أيض ًا حجج‬
‫النفي لغاية دحضها‪ ،‬إن أمكن ذلك‪.‬‬
‫األول‪ ،‬وبصيغة الشهادة‬ ‫لم ِترد الشهادة في القرآن إال بشقها ّ‬
‫وليس الشهادتين‪ ،‬أي بصيغة تحصر الشهادة في قول (ال إله إال‬
‫الله)‪ .‬مثال‪:‬‬
‫ون) سورة‬ ‫‪( -‬إِن ُّه ْم كَان َُو ْا إِ َذا ِق َيل َل ُه ْم الَ إِ َلـَ َه إِالّ ال ّل ُه َي ْس َتكْبِ ُر َ‬
‫الصافات‪.35 ،‬‬
‫اس َت ْغ ِف ْر لِ َذنبِ َك َولِ ْل ُم ْؤ ِمنِي َن‬
‫‪َ ( -‬فا ْع َل ْم َأ َّن ُه َال إِ َل َه إِ َّال ال َّل ُه َو ْ‬
‫َات َوال َّل ُه َي ْع َل ُم ُم َت َق َّل َبك ُْم َو َم ْث َواك ُْم) سورة محمد‪.19 ،‬‬ ‫وا ْلم ْؤ ِمن ِ‬
‫َ ُ‬
‫‪( -‬شهد الله أنه ال إله إال هو والمالئكة وأولو العلم) آل‬
‫عمران‪.18 ،‬‬
‫‪163‬‬
‫معلوم أن عدم اقتران شهادة التوحيد بأي اسم آخر عدا الله‪،‬‬
‫الرسول محمد‪ ،‬هو ما جعل بعض‬ ‫وعدم اقترانها حتى باسم ّ‬
‫القرآنيين ينفي عن اآلذان الشق الثاني من الشهادة‪ ،‬مؤكدا أيض ًا أن‬
‫الشهادة في أصلها شهادة واحدة ألقنوم واحد‪ ،‬وليست شهادتين‬
‫والراجح أن هذا القول‬‫ألقنومين كما درج المسلمون على القول‪ّ .‬‬
‫يوافق روح التوحيد الربوبي الذي جاء به اإلسالم‪ .‬فربما في لحظة‬
‫من لحظات تاريخ اإلسالم انتقلت الشهادة من التوحيد (ال إله‬
‫إال الله) إلى التثنية بإضافة (محمد رسول الله)‪ .‬لسنا نملك من‬
‫الوثائق التاريخية ما يكفي لكي نحسم القول في الصيغة األصلية‬
‫الرسول‬ ‫لألذان‪ .‬على أن صيغة األذان كانت محض اتفاق ذوقي بين ّ‬
‫والمسلمين كما تؤكد الرواية التاريخية‪ .‬لكن بمعزل عن األذان‪،‬‬
‫يمكننا أن نتساءل حول صيغة النطق بالشهادة األكثر انتشار ًا زمن‬
‫الرسول؟‬‫ّ‬
‫الرسول ‪:‬‬
‫لنبدأ من األخير‪ ،‬لحظة احتضار ّ‬
‫فقد جاء في صحيح البخاري‪ ،‬عن عائشة أنها كانت تقول‪:‬‬
‫«إن رسول الله(ص) كان بين يديه ركوة –أو علبة‪ -‬فيها ماء ‪-‬يشك‬
‫عمر– فجعل ُيدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول ‪« :‬ال‬
‫إله إال الله إن للموت سكرات»‪ ،‬ثم نصب يده فجعل يقول «إلى‬
‫الرفيق األعلى»‪ ،‬حتى قبض ومالت يده»‪.‬‬
‫الرسول لم يثبت عنه لحظة احتضاره‪،‬‬ ‫واضح من الرواية ّ‬
‫أن ّ‬
‫النطق بغير الشهادة في صيغتها القرآنية (ال إله إال الله)‪ ،‬من دون‬
‫أي إضافة‪.‬‬

‫‪164‬‬
‫حضرت‬
‫ْ‬ ‫وفي موقف مشهور‪ ،‬جاء في صحيح البخاري «أنه لما‬
‫أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله(ص) فوجد عنده أبا جهل بن هشام‬
‫وعبد الله بن أمية بن المغيرة‪ ،‬قال رسول الله(ص) ألبي طالب ‪ :‬يا‬
‫عم‪ ،‬قل ال إله إال الله كلمة أشهد لك بها عند الله‪ .‬فقال أبو جهل‬
‫وعبد الله بن أمية ‪ :‬يا أبا طالب! أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم‬
‫يزل رسول الله(ص) يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال‬
‫أبو طالب آخر ما كلمهم ‪ :‬هو على ملة عبد المطلب‪ ،‬وأبى أن يقول‬
‫ال إله إال الله‪ .‬فقال رسول الله(ص)‪ :‬أما والله ألستغفرن لك ما لم‬
‫ُأن َه عنك‪ .‬فأنزل الله تعالى فيه ‪( :‬ما كان للنبي‪ )...‬اآلية»‪.‬‬
‫إذا‪ ،‬صيغة الشهادة التي نطق بها الرسول لحظة احتضاره‪،‬‬
‫والتي طلبها من عمه أبي طالب‪ ،‬هي صيغة شهادة التوحيد الربوبي‬
‫الواحدة ‪ :‬ال إله إال الله‪.‬‬
‫المرات في األصحاح‪،‬‬ ‫تكرر عشرات ّ‬ ‫وثمة أيض ًا حديث نبوي ّ‬
‫يرجح صيغة الشهادة الواحدة ‪ :‬ال إله إال الله‪ .‬فقد‬ ‫وبصيغ مختلفة‪ِّ ،‬‬
‫جاء في صحيح مسلم أن رسول الله قال ‪« :‬ل ِّقنوا موتاكم ‪ :‬ال إله إال‬
‫حرم على النار من قال ال إله‬ ‫الله»‪ .‬وجاء في مسند أحمد «ان الله قد َّ‬
‫إال الله يتغيى بذلك وجه الله»؛ البخاري‪ .‬وأيضا‪« ،‬يخرج من النار‬
‫من قال ال إله إال الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير‪ .‬ويخرج من‬
‫النار من قال ال إله إال الله وفي قلبه وزن برة من خير‪ .‬ويخرج من‬
‫النار من قال ال إله إال الله وفي قلبه وزن ذرة من خير»‪ ،‬البخاري‪.‬‬
‫وأيض ًا‪« ،‬من قال ال إله إال الله وحده ال شريك له له الملك وله‬
‫الحمد وهو على كل شيء قدير‪ ،‬في يوم مائة مرة كانت له عشر‬

‫‪165‬‬
‫رقاب وكتبت له مائة حسنة و ُمحيت عنه مائة سيئة‪ ،»...‬البخاري‪.‬‬
‫وأيض ًا‪« ،‬من قال ال إله إال الله وحده ال شريك له له الملك وله‬
‫مرة في كل‬‫الحمد ُيحيي و ُيميت وهو على كل شيء قدير مائتي ّ‬
‫يوم لم يسبقه أحد كان قبله وال يدركه أحد بعده إال فأفضل عمله»‬
‫رواه أحمد‪ .‬وأيض ًا‪« ،‬ان الله اصطفى من الكالم أربع ًا سبحان الله‬
‫والحمد لله وال إله إال الله والله أكبر‪.»...‬‬
‫أي ذكر أو‬
‫وفي كل األحاديث على نفس المنوال‪ ،‬لسنا نجد ّ‬
‫إشارة إلى ما جرى االعتقاد بأنه الشق الثاني للشهادة‪.‬‬
‫وفي كل األحاديث النبوية‪ ،‬أو المنسوبة للنبي‪ ،‬غالب ًا ما‬
‫نجد صيغة الشهادة وناذر ًا ما قد نجد صيغة الشهادتين‪ ،‬ما يعني‬
‫أن المشهور عند المسلمين زمن النبي‪ ،‬أن الشهادة تكون شهادة‬
‫واحدة ‪ :‬ال إله إال الله‪.‬‬
‫ال نعرف في أي مرحلة من مراحل نشوء الخطاب الديني‬
‫ك ُِّرست التثنية في صيغة الشهادة‪ ،‬لكن بوسعنا أن نفترض أيض ًا بأن‬
‫شوشت على جوهر التوحيد‬ ‫تلك التثنية في الشهادة‪ ،‬والتي لعلها ّ‬
‫الربوبي‪ ،‬قد أ ّثرت سلبا على التصور القرآني لإلسالم باعتباره‬
‫مبدء ًا ربوبي ًا عابرا للطوائف والمذاهب والديانات‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫ما الإ�شالم؟‬

‫‪-1‬اإلسالم القرآني‬
‫ُيقال‪ ،‬اإلسالم دين الفطرة‪ .‬وقد ُذكر في القرآن ّ‬
‫(إن الدين‬
‫عند الله اإلسالم) سورة آل عمران‪ ،‬اآلية ‪ .19‬و ُذكر أيض ًا‪( ،‬إن الله‬
‫اصطفى لكم الدين فال تموتن إالّ وأنتم مسلمون) سورة البقرة‪،‬‬
‫اآلية ‪.132‬‬
‫مهالً‪ ،‬أمامنا سؤال كبير اآلن ‪:‬‬
‫التعصب‬
‫ّ‬ ‫هل يفتح هذا الكالم الباب على مصراعيه أمام‬
‫الديني؟ وهل ينتج مثل هذا القول القابلية الثقافية للتعصب‬
‫متعصبين ولو بدرجات متفاوتة؟‬
‫ّ‬ ‫الديني؟ ألسنا جميعنا‬
‫وإالّ‪..‬‬
‫ما المقصود باإلسالم؟‬
‫بدء ًا وتوضيح ًا نقول ‪:‬‬
‫ال يحيل اإلسالم إلى الشريعة المحمدية‪ ،‬كما هو شائع لدى‬
‫عامة الناس‪ ،‬أو كما أشاع الفقهاء وأشاعت حركات اإلسالم السياسي‬
‫‪167‬‬
‫الربوبي‬
‫والسلفي والجهادي‪ ،‬وإنما يحيل اإلسالم إلى مبدأ التوحيد ّ‬
‫الذي تدعو إليه كافة األديان التوحيدية بدءا من النبي ابراهيم على‬
‫األقل إلى غاية النبي محمد‪ ،‬كما تب ّين اآليات التالية ‪:‬‬
‫(وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم‬
‫وإسماعيل وإسحاق ويعقوب واألسباط وما أوتي موسى وعيسى‬
‫نفرق بين أحد منهم ونحن له‬ ‫وما أوتي النبيون من ر ِّبهم ال ِّ‬
‫مسلمون) سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.136‬‬
‫بني إن الله اصطفى لكم‬
‫(ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا ّ‬
‫الدين فال تموتن إال وأنتم مسلمون) سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.132‬‬
‫(فلما أحس عيسى منهم الكفر قال َمن أنصاري إلى الله قال‬
‫ّ‬
‫الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون) سورة‬
‫آل عمران‪ ،‬اآلية ‪.52‬‬
‫بل ال يحيل اإلسالم ألي انتماء ديني أو هوية عقائدية‪ .‬وذلك‬
‫لشاهدين أساسيين ‪:‬‬
‫أولهما شاهد اصطالحي؛ فإن مصطلح اإلسالم ال يتضمن‬
‫«ياء» االنتماء‪ .‬بخالف سائر األديان مثل المسيحـ(ية)‪ ،‬اليهود(ية)‪،‬‬
‫البوذ(ية)‪ ،‬البرهمانـ(ية) إلخ‪ .‬وبخالف سائر اإليديولوجيات‬
‫أيضا‪ ،‬مثل الشيوعـ(ية)‪ ،‬الليبرالـ(ية)‪ ،‬اليسار(ية)‪ ،‬إلخ‪.‬‬
‫من الواضح أن اإلسالم ال يعبر عن انتماء إلى دين معين‬
‫أو ايديولوجية معينة‪ ،‬وال يدل اإلسالم على أي نزعة أو تيار أو‬
‫تحزب‪ ،‬وإنما يدل اإلسالم باللفظ وبالمعنى على مبدأ التوحيد‬‫ّ‬
‫الربوبي العابر للديانات‪.‬‬

‫‪168‬‬
‫وجه القرآن نقد ًا صريح ًا ألولئك‬
‫نصي؛ إذ ُي ِّ‬‫وثانيهما شاهد ِّ‬
‫الذين يجعلون الدين مذهب ًا وتيار ًا ومنهج ًا‪ ،‬فيقول ‪( :‬ومن الناس‬
‫من يعبد الله على حرف) سورة الحج‪ ،‬اآلية‪ ،11‬أي «على وجه‬
‫ومذهب»‪ ،‬يقول القرطبي(‪.)1‬‬
‫اإلسالم‪ ،‬حسب التّحديد القرآني‪ ،‬ال يحيل إلى مذهب أو‬
‫الربوبي (التي فطر‬
‫ت ّيار أو نزعة‪ ،‬وإنما يحيل إلى فكرة التوحيد ّ‬
‫الناس عليها) سورة الروم‪ ،‬اآلية ‪ ،30‬من دون تفاصيل فرعية قد‬
‫تخص بيئة وثقافة ونفسية هذا النبي أو ذاك‪ .‬وبهذا المعنى تكون‬
‫شريعة محمد محض تأويل يرتبط بسياق ثقافي مخصوص لمبدأ‬
‫الربوبية‪ .‬وإذا كانت التأويالت الثقافية لذلك المبدأ تتسم بالنسبية‬
‫ّ‬
‫والتعدّ د‪ ،‬فهذا ينسجم مع صريح اآلية (لكل جعلنا منكم شرعة‬
‫ومنهاج ًا) سورة المائدة‪ ،‬اآلية ‪.48‬‬
‫الربوبي الفطري هو المس ّلمة الحدسية األساسية‬ ‫ذلك المبدأ ّ‬
‫التي انطلق منها الفالسفة المؤسسون للحداثة‪ :‬فالله من منظور‬
‫الكوجيطو الديكارتي موجود في العقل وجود ًا فطري ًا؛ ووجوده‬
‫الفطري دليل على وجوده الموضوعي‪ .‬وهو بالنسبة لكانط مس َّلمة‬
‫من مس َّلمات العقل العملي‪ .‬وقد رأى اليبنتز «أن العقول هي أكمل‬
‫الموجودات وأحسنها تعبير ًا على األلوهية»(‪ .)2‬وأكد سبينوزا أن‬
‫«للنفس البشرية معرفة تامة بماهية الله األزلية الالّمتناهية»(‪.)3‬‬
‫(‪ )1‬القرطبي‪ ،‬الجامع ألحكام القرآن‪ ،‬مراجعة وضبط وتعليق محمد ابراهيم الحفناوي‪ ،‬دار‬
‫الحديث‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،1996 ،‬ص ‪84 :‬‬
‫(‪ )2‬اليبنتز‪ ،‬مقالة في الميتافزيقا‪ ،‬ترجمة الطاهر بن قيزة‪ ،‬المنظمة العربية للترجمة‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬
‫بيروت ‪ ،2006‬ص ‪.201 :‬‬
‫(‪ )3‬باروخ سبينوزا‪ ،‬علم األخالق‪ ،‬ترجمة جالل الدين سعيد‪ ،‬المنظمة العربية للترجمة‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى‪ ،‬بيروت‪ ،2009 ،‬ص ‪.133 :‬‬

‫‪169‬‬
‫هكذا‪ ،‬تبدو كافة األديان ومن ضمنها اإلسالم المحمدي‪،‬‬
‫محض تأويالت نبوية فرعية‪ ،‬داخل سياقات بشرية مختلفة‪ ،‬لنفس‬
‫يتصور وجود نوع من الوجود «الكلي»‬‫ّ‬ ‫المبدأ األصلي الذي‬
‫و«الكوني» و«األولي» و«المطلق»‪ ،‬كتعويض عن نقص الوجود‬
‫«الجزئي» و«النسبي» و«ال َع َرضي»‪.‬‬
‫المتصوفة بالشوق أو العشق أو‬
‫ّ‬ ‫هذا الميل «الغامض»‪ ،‬يسميه‬
‫الحنين‪ .‬وفي هذا يتفق معهم معظم الفالسفة والعلماء العقالنيين‪،‬‬
‫من أرسطو إلى روسو‪ ،‬ومن هيجل إلى آينشتين‪ .‬بل لم يبتعد الكثير‬
‫من الفالسفة «الالّدينيين» عن مثل ذلك الشعور الغامض‪ .‬وتلك‬
‫مسألة أخرى‪.‬‬
‫‪2-‬البداهة المنس ّية في اإلسالم المحمدي‬
‫كنت أبحث‬‫كنت مخطئ ًا حين ُ‬ ‫بدءا أعترف بما يلي ‪ :‬لر ّبما ُ‬
‫عن وصف دقيق ُأطلقه على نمط اإلسالم الذي نريد أن نقارع به‬
‫يسمى باإلسالم السياسي بكافة ألوانه وأشكاله‪ .‬أحيان ًا ُ‬
‫كنت‬ ‫ما ّ‬
‫أسمي هذا اإلسالم البديل باإلسالم المدني أو اإلسالم الفطري أو‬
‫الروحي أو االجتماعي أو الشعبي أو القرآني أو الوحياني‬
‫اإلسالم ّ‬
‫أو ما إلى ذلك من األوصاف والصفات‪ .‬وفي الحقيقة فقد كنت‬
‫كنت واقع ًا تحت تأثير نفس‬
‫تائها في هذا المسعى الخاطئ‪ ،‬بل ُ‬
‫علي منذ البدء أن‬
‫قصدت مجابهته‪ ،‬في حين كان ّ‬ ‫ُ‬ ‫الخطاب الذي‬
‫أكتفي باسم واحد وواضح بال نعت وال توصيف‪ ،‬هو اإلسالم‪ ،‬أو‬
‫قصدت وجه التحديد‪ .‬هذه هي البداهة التي‬
‫ُ‬ ‫اإلسالم المحمدي إن‬
‫أدركتها متأخر ًا بعد طول لبس والتباس‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫بعد هذا البوح الصريح‪ ،‬أضيف هذا التّوضيح ‪:‬‬
‫يسمى باإلسالم السياسي غير‬ ‫ليس هناك من مقابل لما ّ‬
‫اإلسالم المحمدي نفسه‪ .‬وال يحتاج هذا اإلسالم إلى أي إضافات‬
‫أو زوائد أو توصيف زائد عن الحاجة؛ فاإلسالم المحمدي بطبيعته‬
‫األصلية الخالية من المأسسة والمتحررة من السلطة والمتخلصة‬
‫أي بيئة حاضنة لإلسالم‬ ‫من آليات الضبط والمراقبة ال يمثل ّ‬
‫السلفي أو األصولي أو الجهادي أو‬ ‫السياسي أو اإليديولوجي أو ّ‬
‫قل ما شئت‪ .‬في كل األحوال‪ ،‬ال يحضن اإلسالم غير اإلسالم‪.‬‬
‫وهذه هي البداهة المنس ّية بفعل هيمنة أنماط التد ّين اإليديولوجي‪.‬‬
‫أليس يقال ‪ :‬اإليديولوجية نسيان للواقع؟ !‬
‫إنّها البداهة التي غفل عنها الكثيرون‪ .‬ولذلك ّ‬
‫فإن القليلين‬
‫فقط تو ّقعوا سقوط ًا لإلسالم السياسي‪ ،‬وأق ّلهم تو َّقع سقوط ًا‬
‫أن االسالم السياسي‬ ‫سريع ًا‪ .‬كان ظ ّن األكثرية‪ ،‬أو الكثيرين‪ّ ،‬‬
‫س ُيعمر زمن ًا طويال‪ ،‬وأنه سيكون أطول اإليديولوجيات الشمولية‬
‫عمر ًا ! ألم يقل خيرت الشاطر نفسه ‪« :‬أتينا لنحكم مصر خمسمئة‬
‫شك أيض ًا أنه قصد أن يقول «إلى األبد»‪ .‬وبالفعل‪ ،‬فقد‬‫عام»؟ وال ّ‬
‫كان يبدو األمر كما لو أننا على عتبة قرون وسطى جديدة ستستغرق‬
‫عقود ًا طويلة إن لم تستغرق عدّ ة قرون أخرى‪ .‬لماذا؟ بخالف سائر‬
‫الزمن‪،‬‬‫تعمر سوى عقود قليلة من ّ‬
‫شمول ّيات القرن العشرين التي لم ِّ‬
‫وضعي كما هو الحال‬
‫ّ‬ ‫فإن اإلسالم السياسي ال يستند إلى خطاب‬ ‫ّ‬
‫بالنسبة للشيوعية أو النازية‪ ،‬لكنّه يستند إلى عقيدة دين ّية راسخة‬
‫في وجدان الشعوب‪ .‬وهنا مبعث الخوف من أن يطول الخريف‬
‫األصولي زمن ًا قد ال ينتهي‪.‬‬
‫‪171‬‬
‫مجرد مغاالة في التقدير وخطأ‬‫ّ‬ ‫لكن كل هذا الظن كان‬
‫ألن الحقيقة التي نسيها الكثيرون هي أن اإلسالم‬‫في الحساب؛ ّ‬
‫المحمدي ال يم ِّثل بيئة حاضنة لإلسالم السياسي‪ :‬فحين ُيقال‬
‫مثال‪« ،‬ال كهنوت في اإلسالم»‪ ،‬و«ال رهبانية في اإلسالم»‪ ،‬و«ال‬
‫فإن مقصود القول أيض ًا ّ‬
‫أن ال وجود لسلطة‬ ‫إكراه في الدين»‪ ،‬إلخ‪ّ ،‬‬
‫دينية أو مؤسسة دينية أو دولة دينية أو حزب ديني أو جمعية أو‬
‫جماعة أو مجموعة دينية في اإلسالم‪.‬‬
‫إن اإلسالم عموما هو معطى فطري أو أقرب إلى الفطرة‪ ،‬إنه‬
‫يبقى في أصدق وأدق أحواله أبعد ما يكون عن السلطة من حيث‬
‫هي آليات للضبط والمراقبة والتحكم‪ ،‬وإنه أقرب ما يكون من‬
‫الطبيعة البشرية بعفويتها وتلقائيتها‪.‬‬
‫النبي محمد تحديد ًا‪ ،‬وعلى خالف سائر األنبياء العبرانيين‪،‬‬ ‫ّ‬
‫مجرد إنسان بسيط ال يختلف عن سائر النّاس البسطاء والطيبين‪،‬‬ ‫كان ّ‬
‫يحمل الكثير من محاسن البشر وغير القليل من نواقصهم‪ ،‬يجوع‬
‫يشق بها البحر أو‬
‫ويتوجع‪ ،‬ال عصا ّ‬ ‫َّ‬ ‫ويشبع‪ ،‬يشتهي ويقنع‪ ،‬يعشق‬
‫يجعلها ح ّية تسعى‪ ،‬لم يك ِّلم الموتى وال هو كان يفهم لغة الهدهد‬
‫أو النّمل‪ ،‬لم يكن يفسر أحالم ًا وال كان يعالج أسقام ًا‪ ،‬لم يكن ُي ِّ‬
‫سخر‬
‫الجن وال كان يرسل العفاريت إلى أقاصي األرض فتعود إليه قبل أن‬
‫يرتدّ طرف عينه‪ ،‬ال شيء من تلك الخوارق والمعجزات كان يأتيها‬
‫أو يزعم إتيانها‪ ،‬وحتى عندما يطالبونه بشيء من ذلك كان ير ّد عليهم‬
‫إلي ‪ ،»...‬نبي اإلسالم يظل أقرب إلى‬ ‫«قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى ّ‬
‫حياة الناس البسطاء منه إلى خوارق أنبياء العهد القديم‪ ،‬أقرب إلى‬
‫الشرط اإلنساني بخصائصه ونواقصه‪ ،‬أقرب إلى الطبيعة نفسها‪،‬‬

‫‪172‬‬
‫وباختصار بليغ‪ ،‬فقد كانت أ ّمه «تأكل القديد» كما يقول عن نفسه‪.‬‬
‫نبي بال‬
‫ومن ثم كان توصيف جورج طرابيشي دقيقا للغاية ‪«:‬إنه ٌّ‬
‫معجزة»‪ .‬مع أن الذين عملوا على تقديس النص القرآني وفي سياق‬
‫العمل على التقديس الذي راح يطال كل ما تع ّلق بنبي اإلسالم‪،‬‬
‫وعلى العكس مما أراده الرسول نفسه «إنما أنا بشر مثلكم‪ ،»..‬صنعوا‬
‫يتوسع عبر التاريخ عن اإلعجاز والمعجزة‪.‬‬
‫له معجزة وراح الكالم ّ‬
‫وإذا كان األمر كذلك بالنسبة لخاتم األنبياء والمرسلين فإنّه‬
‫لكذلك وأكثر من ذلك بالنسبة لسائر المسلمين المحمديين‪ ،‬أكانوا‬
‫أئمة أم فقهاء‪ ،‬دعاة أم مرشدين‪.‬‬
‫صحابة أم تابعين‪ّ ،‬‬
‫اإلسالم المحمدي دين «طبيعي»‪ ،‬هو ابن الصحراء‪ ،‬يكاد‬
‫يخلو في منشئه من «نظرية الحق اإللهي»‪ ،‬ويكاد يخلو في مبدئه‬
‫من «فكرة التفويض اإللهي»‪ ،‬ويكاد يخلو في أساسه من «محاكم‬
‫التفتيش»‪ ،‬ويكاد يخلو في بنيانه من «صكوك الغفران»‪ ،‬ويكاد يخلو‬
‫في رؤيته من «الخوارق والمعجزات»‪ ،‬ويكاد يخلو في مظهره‬
‫االجتماعي من مجالس وهياكل ومجامع ومؤسسات‪ ،‬ويكاد‬
‫يخلو من الحلول السحرية للمشكالت االجتماعية أو االقتصادية‬
‫أو الصحية‪ ..‬تلك اإلضافات الخرافية التي أضافها رواة الحديث‬
‫التضخم الحديثي‪ ،‬وهي عموم ًا تناقض‬
‫ّ‬ ‫خالل عشرات السنين من‬
‫الحس السليم بل وتخالف القرآن الكريم‪.‬‬
‫بأن األصل في اإلسالم المحمدي‬ ‫ودعنا نعترف بوضوح ّ‬
‫أنّه ديانة خالية من النظرة السحرية للعالم‪ ،‬وخالية أيض ًا مما‬
‫يسميه فرانسوا ليوتار بالسرديات الكبرى‪ ،‬والتي تعدّ مرتع ًا‬
‫لإليديولوجيات الشمولية‪.‬‬
‫‪173‬‬
‫ومن قبيل االستدالل نقول ‪ :‬ال يروي النص القرآني قصة‬
‫الخليقة في شكل سردية كبرى لها بداية ونهاية‪ ،‬بل إنه وبخالف غيره‬
‫من الكتب المقدسة‪ ،‬ال يقدم لنا زمن ًا خطي ًا للقصص والحكايات‬
‫وتوالي األحداث‪ ،‬ال يقدم تاريخ البشرية في شكل سردية تمتدّ من‬
‫بدء الخليقة إلى يوم القيامة كما هو األمر في «الكتاب المقدس»‬
‫شذريا‪ ،‬ويرسم أزمنة‬‫نجما َ‬ ‫على سبيل المثال؛ فقد نزل القرآن ُم َّ‬
‫متشظية‪ .‬ولذلك‪ ،‬لم يقدم اإلسالم المحمدي ‪-‬وال سيما اإلسالم‬
‫السني‪ -‬أي رؤية خالصية لتاريخ العالم‪ ،‬على طريقة عودة المسيح‬
‫في المسيحية‪ ،‬أو الماشيح في اليهودية‪ ،‬أو بوذا في البوذية‪ ،‬أو‬
‫حتى المهدي المنتظر عند غالبية الشيعة‪.‬‬
‫فإن السرديات الخالصية‪ ،‬سواء أكانت وضع ّية‬ ‫وبال شك ّ‬
‫الزمن التاريخي عند أوغست كونت وكارل‬ ‫على طريقة تحقيب ّ‬
‫ماركس‪ ،‬أو كانت سرد ّيات دينية على طريقة الخميني وزمن‬
‫الغيبة‪ ،‬تعدّ مرتع ًا خصب ًا لإليديولوجيات الشمولية‪.‬‬
‫نغض النظر عن هذا الواقع الشاخص‬‫ال لسنا نتغاضى وال ّ‬ ‫وفع ً‬
‫أمام أعيننا‪ ،‬فإن اإلسالم اليوم غارق في الكثير من مظاهر التطرف‬
‫والعنف والفتنة واإلرهاب بما يفوق سائر المذاهب واألديان في‬
‫بعض األحيان‪ ،‬وهذا مؤسف ومؤلم في كل األحوال‪ ،‬لكن ال‬
‫ننسى هذا ‪ :‬يبقى العنف الديني نفسه أقوى دليل على عدم مطابقة‬
‫فكرة الدولة الدينية مع الواقع الديني لإلسالم السنّي‪.‬‬
‫حين يلجأ إنسان ما إلى العنف فمعنى ذلك بكل بساطة أن ما‬
‫يريده ليس ممكن ًا‪ ،‬وليس مقنع ًا‪ ،‬أو ليس مطابق ًا للواقع‪.‬‬

‫‪174‬‬
‫وبكل تأكيد‪ ،‬يبقى العنف مخيف ًا ومقرف ًا أيضا‪ ،‬لكنه دليل‬
‫على اإلخفاق والفشل‪.‬‬
‫وباألحرى‪ ،‬أمام استحالة الدولة الدينية في بيئة اإلسالم‬
‫(وفي بيئة اإلسالم السنّي على وجه الخصوص) يبقى أمامنا قدَ ران‬
‫إثنان ال ثالث لهما ‪ :‬إما فتنة دينية ال أول لها وال آخر‪ ،‬تأكل اليابس‬
‫واألخضر‪ ،‬وال تبقي وال تذر؛ وإما االنخراط الحكيم في بناء دولة‬
‫الحق والقانون‪ ،‬واعتبار ذلك مصلحة شرعية‪ ،‬وواجب ًا أخالقي ًا‪،‬‬
‫وضرورة أمنية‪.‬‬
‫تجرعنا مرارته مرار ًا ومرار ًا‪.‬‬ ‫ال َقدَ ر ّ‬
‫األول ّ‬
‫أمامنا‪ ..‬ال َقدَ ر الثاني‪.‬‬
‫‪3-‬ال دولة دينية في اإلسالم‬
‫إن اإلسالم المحمدي ديانة وليس دولة‪،‬‬ ‫ال يكفي أن نقول ّ‬
‫لكي ينتهي النقاش حول عالقة الدين بالدولة في اإلسالم‪ ،‬فهذا‬
‫القول استنزف بحثا منذ خروج الخوارج الذين أكدوا قديما ّ‬
‫بأن‬
‫اإلمامة ليست أصال من أصول الدين ولكنّها من المصالح المفوضة‬
‫لنظر األمة‪ .‬وهم الذين قال في حقهم أحد أكبر خصومهم‪ ،‬علي بن‬
‫أبي طالب‪« ،‬ال تقتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحق فأخطأه‬
‫تطرفهم‬
‫كمن طلب الباطل فأدركه» (نهج البالغة)‪ .‬والمقصود أن ّ‬
‫األعمى كان في مستوى الوسيلة ولم يكن في مستوى الغاية‪.‬‬
‫والمهم أن ال أحدا استطاع أن يبرهن بالحجج العقلية أو النقلية‬
‫على نقض أطروحة الخوارج‪ ،‬حتى ابن تيمية نفسه‪ ،‬إال أن ذلك لم‬
‫ينه النقاش حول عالقة الدين بالدولة في اإلسالم‪ .‬واستمر البحث‬
‫‪175‬‬
‫لقرون وصوالً إلى الشيخ األزهري علي عبد الرازق‪ ،‬وغيره من‬
‫بعده‪ ،‬ومع ذلك ظ ّلت الشريعة مصدر التشريع وظل اإلسالم «دين‬
‫الدولة»‪.‬‬
‫حسبنا اختصار ًا أن نقترح إضاءة مستوحاة من أطروحة‬
‫ابن خلدون‪ ،‬فيلسوف الدّ ولة في التاريخ اإلسالمي‪ .‬فالمؤكد أن‬
‫مشروعية الدّ ولة لم تكن تجد داخل اإلسالم أي سند شرعي لها‬
‫–فكل ما قاله ابن تيمية عن الخالفة الوراثية التي شرعنها ال يخرج‬
‫السند الشرعي لما‬ ‫ِ‬
‫عن دائرة االستحباب والجواز ‪ -‬ولو ُوجد ّ‬
‫(‪)1‬‬

‫تقاتل الصحابة فيما بينهم من أجل السلطة بنحو أحدث صدمة‬


‫مفجعة في الضمير اإلسالمي‪ ،‬وإنما كانت مشروعية الدّ ولة تستند‬
‫إلى المشروعية العصبية‪ ،‬كما يؤكد ابن خلدون‪.‬‬
‫وللتوضيح‪ ،‬عقب الفتنة الكبرى انتهت السلطة إلى معاوية‬
‫بن أبي سفيان (األموي) وليس إلى علي بن أبي طالب (الهاشمي)‪،‬‬
‫وهو ما بدا كما لو كان منافي ًا للمكانة «الدينية» االعتبارية لعلي بن‬
‫أبي طالب‪ ،‬ومعاكسا لموازين القوى العددية‪.‬‬
‫وإذا كان التفسير الشائع يكتفي باإلحالة إلى دهاء معاوية‬
‫وخديعة التحكيم‪ ،‬فإن هذا النوع من التفسير ال يفيد شيئا في فهم‬
‫حركة التاريخ‪ .‬ذلك أن المشروعية القائمة على كثرة األتباع أو‬
‫َو َرعهم ال تمثل أي سند للدولة وال تمثل أي قاعدة للملك‪ .‬كتب‬
‫علي‪،‬‬
‫ابن خلدون يقول ‪« :‬لما هلك عثمان واختلف الناس على ّ‬
‫(‪« )1‬يقول ابن تيمية بأن «خالفة النبوة مستحبة وليست واجبة وأن اختيار الملك جائز في شريعتنا»‪،‬‬
‫ابن تيمية‪ ،‬مجموع فتاوى ابن تيمية‪ ،‬جمع وترتيب عبد ‪-‬الرحمان الحنبلي‪ ،‬طبعة خاصة‪،‬‬
‫‪1398‬ه‪ ،‬المجلد ‪ ،35‬ص‪.25 :‬‬

‫‪176‬‬
‫علي أكثر عددا لمكان الخالفة والفضل‪ ،‬إال أنّها من‬ ‫كانت عساكر ّ‬
‫سائر القبائل من ربيعة ويمن وغيرهم‪ .‬وجموع معاوية إنما هي‬
‫جند الشام من قريش شوكة مضر وبأسهم‪ ،‬نزلوا بثغور الشام منذ‬
‫الفتح‪ ،‬فكانت عصبيته أشدّ وأمضى شوكة»(‪.)1‬‬
‫أي‬
‫المؤكد أن ليس في الدين اإلسالمي ما يدعم مشروعية ّ‬
‫نظام سياسي كيفما كان نوعه‪ .‬لذلك لم تجد مشروعية الدولة عبر‬
‫تاريخ اإلسالم ما تستند إليه عدا العصبية‪.‬‬
‫بمعنى‪ ،‬أساس الدولة في تاريخ اإلسالم قائم على العصبية‬
‫ال غير‪ .‬وال وجود ألي أساس آخر للدولة ال في السنّة وال في‬
‫حل العباسيون محل األمويون‪ ،‬وبالعصبية‬ ‫القرآن‪ .‬فبالعصبية ّ‬
‫محل الذي كان من قبل‪.‬‬‫ح ّلكل َمن جاء من بعد ّ‬
‫من ثمة يصبح معنى العلمانية أكثر وضوحا وأقل التباس ًا ‪:‬‬
‫لن تعني العلمانية إخراج الدولة من مجال الدين كما شاع خطأ أو‬
‫أشيع قصد ًا؛ ذلك أن الدولة لم تنشأ داخل الدين حتى نخرجها منه‪،‬‬
‫النبوة والوحي والقرآن‪ ،‬وال َسنَد‬
‫وإنما نشأت منذ البدء خارج دائرة ّ‬
‫لها غير العصبيات العشائرية والطائفية والساللية‪ ،‬منذ حروب بني‬
‫هاشم وبني أمية‪ ،‬قبل وأثناء وبعد ظهور اإلسالم‪ ،‬مرورا بالخلفاء‬
‫والسالطين والمماليك واألمراء‪ ،‬وصوال إلى يومنا هذا‪.‬‬
‫أن نستبدل اليوم تلك العصبية القديمة بصناديق االقتراع‪،‬‬
‫هذا ما يلقي على كاهل المثقف الحداثي وظيفة جديدة‪ ،‬قليال ما‬
‫تعود عليها ‪ :‬التنوير الشعبي‪.‬‬
‫ّ‬
‫(‪ )1‬ابن خلدون‪ ،‬تاريخ ابن خلدون‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬طبعة ‪ ،1992‬المجلد الثالث‪،‬‬
‫ص‪.5 :‬‬

‫‪177‬‬
‫‪ 4-‬في عسكرة اإلسالم‬
‫وقتالي‬
‫ّ‬ ‫جهادي‬
‫ّ‬ ‫أن هناك مزاج‬ ‫المسألة‪ ،‬كل المسألة‪ّ ،‬‬
‫واحترابي أفضى في األخير إلى ما يشبه «عسكرة اإلسالم!»‪ .‬كان‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫والحشاشين وابن تيمية‪،‬‬ ‫ذلك المزاج قد بدأ يتشكل منذ األزارقة‬
‫بل ومنذ بدء التقسيم الفقهي للعالم إلى معسكرين ‪ :‬دار للحرب‬
‫ودار لإلسالم‪ ،‬وصوال في األخير إلى ظاهرة اإلرهاب العالمي‪.‬‬
‫وتحديد ًا‪ ،‬قبل أن ينجلي خطر اإلرهاب العالمي في القدرة‬
‫على امتالك تقنيات التفجير والنسف والتدمير‪ ،‬فإنه كان وال يزال‬
‫يكمن في مضامين الخطاب الديني السائد والتي –حتى في حالة‬
‫تصور العالم وكأنه في حالة حرب‬ ‫سلميتها الدّ عوية‪ -‬فإنّها ظلت ِّ‬
‫أبدية بين معسكرين ‪ :‬الخير والشر‪ ،‬الحق والباطل‪ ،‬حزب الله‬
‫وحزب الشيطان إلخ‪ .‬حيث الحق يمثله المسلمون دائما وأبد ًا‬
‫كضحايا وأبرياء ومستضعفين في األرض! والباطل يتمثل منذ‬
‫زهاء قرنين في الغرب وأمريكا كمعتدين ومتآمرين ومستكبرين في‬
‫األرض‪ ،‬فضال عن «عمالئهم» في الدّ اخل!‬
‫وعلى هذا النحو من الخطاب قد يتصور المسلمون أنفسهم‬
‫كأنهم في حالة حرب دائمة مع عالم غريب عنهم وغرباء فيه‪،‬‬
‫وأن عليهم أن يكونوا في حالة‬ ‫(يحسبون كل صيحة عليهم) اآلية‪ّ ،‬‬
‫استنفار وأهبة إلشعال نار الحمية وإشهار سيف الغضب‪ ،‬بسبب أو‬
‫الزحف والنفير‬ ‫تحرض على ّ‬ ‫بدون سبب‪ ،‬حتى إذا صدرت فتوى ِّ‬
‫أو العنف والتفجير‪ ،‬كان قسم من الشباب جاهزين لتلبية النداء‪ ،‬ال‬
‫يطلبون حجج ًا أو براهين‪ ،‬وال سند ًا أو يقينا‪.‬‬

‫‪178‬‬
‫إن الخطاب أبلغ من الفعل؛ ّ‬
‫ألن‬ ‫لقد قلنا‪ ،‬وأكدنا مرار ًا‪ّ ،‬‬
‫الفعل في غياب خطاب داعم‪ ،‬قد يكون عرضيا وطارئ ًا ومجرد‬
‫حالة خاصة ومعزولة كما يقولون‪.‬‬
‫يحول‬
‫الخطاب الديني السائد –وهنا مكمن العطب‪ -‬يكاد ِّ‬
‫مجرد عقيدة احترابية‪ .‬فإذا ما أسلم شخص هنا أو آخر‬ ‫اإلسالم إلى ّ‬
‫هناك‪ ،‬اعتُبر ذلك نصر ًا لإلسالم‪ ،‬وإذا ما «ارتدّ » مسلم هنا أو آخر‬
‫هناك‪ ،‬اعتُبر ذلك مؤامرة على اإلسالم والمسلمين‪.‬‬
‫ّ‬
‫وألن العالم في حالة حرب‬ ‫ّ‬
‫وألن الحرب خدعة كما ُيقال‪،‬‬
‫دائمة بين الشر والخير‪ ،‬والكفر واإليمان‪ ،‬تصبح سياسة بعض‬
‫الجماعات اإلسالمية في المستوى المحلي والدّ ولي قائمة على‬
‫المكر والتقية والخديعة والكتمان في انتظار لحظة النصر والتمكين‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬انتهت عسكرة اإلسالم إلى تبديد الموقف اإلنساني‬
‫األكثر نب ً‬
‫ال وأصالة داخل وجدان اإلنسان الديني‪ ،‬الموقف الهابيلي‬
‫إلي يدك‬
‫(نسبة إلى هابيل) وفق الخطاب القرآني ‪( :‬لئن بسطت ّ‬
‫لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك ألقتلك) اآلية ‪ ،28‬سورة المائدة‪.‬‬
‫ماذا فعلنا بهذه اآلية؟ !‬
‫أن الفقهاء والدّ عاة والشيوخ والو ّعاظ‬‫المسألة كل المسألة ّ‬
‫وعلماء الدين والسلفيين واإلسالميين‪ ،‬ال أحد منهم استنبط‬
‫من الموقف الهابيلي ولو حكم ًا فقهي ًا واحد ًا‪ ،‬وفي المقابل فقد‬
‫استنبطوا من آية السيف مئات األحكام الفقهية‪ ،‬بل ظ ّن الكثيرون‬
‫ّ‬
‫أن تلك اآلية ناسخة ألكثر من مئة آية قرآنية حول الصفح والغفران!‬
‫وتلك فضيحة أخالقية صارخة‪.‬‬
‫‪179‬‬
‫واليوم‪ ،‬بفعل أنماط التد ّين اإليديولوجي واالحترابي‪ ،‬نكاد‬
‫نغرق في جحيم من الفتن التي ال تبقي وال ت ََذر‪ ،‬وتقترب منا ساعة‬
‫االنتحار الجماعي‪ ،‬وتنتصر علينا غرائز الموت والهدم والعنف‬
‫والسالم‪ .‬تلك‬
‫واالنتقام‪ ،‬وتضعف فينا غرائز الحياة والحب والبناء ّ‬
‫عنف بعد عنف‪ ،‬وهد ٌم ودمار‬ ‫عنف فوق ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫آفتنا‪ ،‬بل شهادة وفاتنا‪.‬‬
‫واحتراب وموت‪ ،‬إلى أن نخرج من دائرة تنفيذ حكم الله بيد كل‬
‫َمن يدّ عي أنه يحكم باسمه وترك األمر إلى الله فع ً‬
‫ال فهو الوحيد‪،‬‬
‫الشريك له من الفقهاء واألمراء والخلفاء‪ ،‬القادر على معرفة وعلى‬
‫تنفيذ أحكامه ليس على المسلمين فحسب‪ ،‬بل على كل الناس‪.‬‬

‫‪180‬‬
‫التفكير في اهلل‬

‫‪ 1-‬الله كلمة نفي‬


‫عندما نتكلم عن اإلسالم‪ ،‬غالب ًا ما ننتج خطاب ًا متحرر ًا من‬
‫الالءات النافية للتس ّلط العقائدي‬ ‫أوهام الوثوقيات‪ ،‬إذ نستعمل ّ‬
‫وللوصاية الدينية‪ ،‬من قبيل ‪ :‬ال كهنوت في اإلسالم‪ ،‬ال رهبانية‬
‫في اإلسالم‪ ،‬ال محاكم تفتيش في اإلسالم‪ ،‬ال حياء في الدين‪...‬‬
‫وصوال إلى ال إله إال الله‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬عندما ننتقل من مقام الكالم عن اإلسالم إلى مقام‬
‫التحررية خلف‬
‫ّ‬ ‫الكالم باسم اإلســالم‪ ،‬تتوارى تلك الـ ّـروح‬
‫الالءات والَ ٍ‬
‫ءات باعثة على العنف‬ ‫ُح ُجب من الوثوقيات‪ ،‬وتصير ّ‬
‫َ‬
‫والتطرف‪.‬‬
‫ّ‬
‫المشكلة في عالقتنا بالءات اإلسالم‪ ،‬أننا قد نفكر فيها‪ ،‬أي‬
‫نجعلها موضوع ًا لتفكيرنا‪ ،‬لكننا غالب ًا ما ال نفكّر بها‪ ،‬أي ال نجعلها‬
‫بون شاسع بين من يفكر في أدوات‬ ‫أداة لتفكيرنا‪ .‬في حين‪ ،‬ثمة ٌ‬
‫النّفي ومن يفكر بها‪.‬‬
‫‪181‬‬
‫عندما نقول‪ :‬ال كهنوت في اإلسالم‪ .‬فمعنى ذلك أيض ًا أن‬
‫ال سلطة دينية وال حكومة دينية وال أحزاب دينية وال دولة دينية‬
‫في اإلسالم‪ .‬وعندما نقول إن ال رهبانية في اإلسالم‪ ،‬فهذا يعني‬
‫أن ال وجود لرجال دين أو دعاة رسميين أو و ّعاظ محترفين في‬
‫اإلسالم‪ .‬وعندما نقول‪ :‬ال محاكم تفتيش في اإلسالم‪ .‬فالنتيجة أن‬
‫ال يكون هناك قضاء ديني وال محاكم شرعية وال أنظمة حسبة وال‬
‫شرطة دينية وال ميليشيات لألمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬
‫ّ‬
‫وإال‪ ،‬نصبح كالذي يقول من دون أن يعني ما يقول!‪.‬‬
‫وأيضا‪ ،‬عندما نقول أن ال حياء في الدين‪ ،‬فالنتيجة أن ال‬
‫حياء من جسد اإلنسان‪ ،‬حتى ولو كان جسد حواء أو مريم العذراء‪.‬‬
‫وحين نقول في األخير‪ ،‬ال إله إال الله‪ ،‬فالمؤكد أننا حين‬
‫نجعل أداة النفي «ال» أداة تفكيرنا‪ ،‬فإننا نتخلص من كل اعتقاد‬
‫سحري وبدائي بوجود نوع من العصمة أو الوصاية‪ ،‬ولن تكون ثمة‬
‫أي قداسة ألي نص أو شخص أو أرض أو مكان أو كائن من كان‪.‬‬
‫ال النافية هنا ليست زائدة على اسم الله‪ ،‬إنما وجودها أصلي‪ .‬فالله‬
‫اصطالح ًا هو كلمة نفي ‪-‬الـ(ال)ه‪ -‬وهذا ما وعاه وأدركه محيي‬
‫الدين بن عربي حين قال ‪« :‬الله كلمة نفي»(‪.)1‬‬
‫الله أيض ًا ضمير غيب وغياب‪ .‬وهذا ما أكده اإلمام أبو حامد‬
‫الغزالي‪ ،‬في إحدى ألمع إشراقاته عندما قال ‪« :‬ال إله إال الله توحيد‬
‫العوام‪ ،‬وال هو إال هو توحيد الخواص»(‪)2‬؟‬
‫(‪ )1‬ابن عربي‪ ،‬رسائل ابن عربي‪ ،‬منشورات محمد علي بيضون‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫الطبعة الثانية‪ ،2004 ،‬ص ‪.48 :‬‬
‫(‪ )2‬الغزالي‪ ،‬مجموع رسائل اإلمام الغزالي‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الرابعة‪،2006 ،‬‬
‫رسالة مشكاة األنوار‪ ،‬ص ‪.14 :‬‬

‫‪182‬‬
‫ليس الله في اإلسالم سوى ذلك النفي الخالص وغير القابل‬
‫نفي ال يثبت‬
‫ألي تعيين‪ ،‬إذ (ليس كمثله شيء) الشورى‪ .11 -‬الله ٌ‬
‫بعده أي شيء آخر عدا أداة النفي‪ .‬إذ إن كلمة الله هي أيض ًا – بل‬
‫وتحديد ًا‪ -‬تعني في األخير هكذا ‪ :‬إنه ال ُه َو‪.‬‬
‫‪ 2-‬الله كصيرورة‬
‫بين الفينة واألخرى‪ ،‬ينهض دعاة الثوابت للدعوة إلى الدفاع‬
‫عن «ثوابت» اإلسالم‪ .‬وقد جعل بعض الو ّعاظ االستعراضيين من‬
‫الحديث عن «ثوابت» اإلسالم مناسبة لتجييش الشعوب وتهييج‬
‫الجمهور‪.‬‬
‫نحتاج إلى إبطال هذه االدعاء‪.‬‬
‫ولنبدأ بالسؤال ‪ :‬هل من ثوابت في اإلسالم ؟‬
‫هناك مس َّلمة الهوتية سادت في العصر الوسيط‪ ،‬وال تزال‬
‫تلقي بثقلها إلى اليوم‪ ،‬تقول ‪ :‬إذا كان الله ثابت ًا ثبات ًا مطلق ًا فالنتيجة‬
‫أن تكون «نصوصه» و«أحكامه» و«أقواله» و«شرائعه» جميعها‬
‫ثابتة ثبات ًا مطلق ًا‪ .‬اللهم ّإال إذا قرر الله بنفسه أن ينسخ بعضها أو‬
‫لسبب‪ ،‬أو لحكمة ال يعلمها إال هو‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ينسخها جميعها‪،‬‬
‫بل‪ ،‬ال ُيستبعد أن تكون كل المخلوقات ثابتة بثبات خالقها‪،‬‬
‫إال ما شاء الله‪.‬‬
‫مجرد إسقاط لثبات‬
‫ّ‬ ‫أولى مالحظاتنا‪ ،‬أن عقيدة الثبات‬
‫«الفكر» اإللهي على كافة «األفكار»‪ .‬وإنها بذلك تندرج ضمن‬
‫تماهي اإلنسان مع صورة اإلله الذي يؤمن به‪.‬‬
‫‪183‬‬
‫ال بد من تغيير الصورة أوال‪.‬‬
‫كيف؟‬
‫بدء ًا‪ّ ،‬‬
‫يحق لنا أن نسائل عقيدة الثبات فنقول ‪ :‬هل تتصف‬
‫الذات اإللهية بالثبات األزلي والمطلق‪ ،‬كما تتصور ميتافزيقا‬
‫الثبات؟‬
‫قد ال نخالف الصواب إذا قلنا إن تصور الذات اإللهية‬
‫باعتبارها ثبات ًا مطلق ًا وأبدي ًا –وهو التصور الذي هيمن على العصر‬
‫الوسيط بشقيه اإلسالمي والمسيحي‪ -‬كان بتأثير من فلسفة أرسطو‪.‬‬
‫وليس يخفى على أحد أثر أرسطو في بناء قيم العصر الوسيط‪ ،‬ال‬
‫يتحرك‪.‬‬
‫محرك ال ّ‬‫سيما في تصوره للذات اإللهية باعتبارها ِّ‬
‫منذ العصر الوسيط‪ ،‬كان العقل الديني اإلسالمي ‪-‬وال‬
‫يزال‪ -‬يعتقد أن الذات اإللهية ثابتة ثبات ًا أبدي ًا ومطلق ًا‪ّ .‬‬
‫ومرة بعد كل‬
‫يتم إسقاط هذه النظرة الثباتية على كافة الحقائق والمفاهيم‬ ‫مرة ّ‬ ‫ّ‬
‫الدينية‪ .‬لكن‪ ،‬حقيقة األمر أن ال شيء في الخطاب القرآني يؤكد أن‬
‫الذات اإللهية ثابتة ثبات ًا مطلق ًا منذ األزل وإلى األزل‪ .‬إنما الغالب‬
‫الزمان والصيرورة والتحول‪ ،‬وأن‬ ‫أن يكون الله محايث ًا ألفعال ّ‬
‫يكون –ربما بمنظور هيجلي‪ -‬محايث ًا للتاريخ‪ .‬وكم هي واضحة‬
‫صريحة تلك اآلية التي تصف الله بأنه (كل يوم هو في شأن) سورة‬
‫الرحمان‪ ،‬اآلية ‪.29‬‬
‫ّ‬
‫الروح اإللهية الكونية صائرة من شأن إلى‬
‫وهكذا‪ ،‬طالما أن ّ‬
‫متحولة من حال إلى حال‪ ،‬فبأي دليل يدعو دعاة الجمود إلى‬
‫ِّ‬ ‫شأن‪،‬‬
‫الدفاع عن الثوابت؟!‬

‫‪184‬‬
‫�شعر ّية ال�شحراء‬
‫الت�شحر‬
‫ّ‬ ‫و�شريعة‬

‫سرا‪،‬‬ ‫نحن نعشق الصحراء شعر ًا‪ ،‬ونعشقها نثر ًا‪ ،‬ونعشقها ّ‬
‫ونعشقها جهر ًا‪ ،‬ونعشقها سير ًا على األقدام حين نالمس رطوبة‬
‫الرمال‪ ،‬ونعشق فيها حكاية اإلنسان يمشي على درب غير مرسوم‬
‫وفي مسار غير معلوم‪ ،‬نحاكي الذات اإلنسانية في رحلة التيه بال‬
‫ملون‬ ‫ٍ‬
‫السماء فراغ ِّ‬
‫مسارات للعبور وال عالمات للمرور‪ ،‬حيث ّ‬
‫سراب‬
‫ٌ‬ ‫باألزرق يملؤه الخيال وشيء من اآلمال‪ ،‬وحيث األفق‬
‫يحمل بعض األحالم ويحتمل بعض األوهام‪ .‬حتى آثار أقدامنا‬
‫تذروها الرياح‪.‬‬
‫تم أجل‬
‫في بادية الصحراء ال مشهد يدوم‪ ،‬لكل شيء إذا ما ّ‬
‫ينتهي إليه قبل أن تبتلعه كثبان الرمال‪ .‬تختفي األبنية سريع ًا لتصير‬
‫أطالال يرثيها الشعراء‪ ،‬ال أ ًثر لعبور الحوافر واألقدام‪ ،‬ال َ‬
‫قبور وال‬
‫قباب وال مرئيات باقيات‪ ،‬ال أثر يدوم غير بعض الكالم المحفوظ‬
‫في بعض الصدور‪.‬‬
‫الشعر هو اإلبن الشرعي لذاكرة الصحراء‪ .‬فهو ال يحكي‬
‫عن أي شيء من األشياء في عالم األشياء فيه قليلة‪ .‬بل‪ ،‬يقول‬
‫‪185‬‬
‫عن نفسه‪ ،‬ويحكي عن نفسه‪ ،‬ويتكلم عن نفسه‪ .‬موضوع الشعر‬
‫هو الشعر‪ ،‬وأشياء الشعر هي الكلمات‪ .‬الشعر هو المالذ اآلمن‬
‫من زحف الصحراء على األشياء‪ .‬الشعر هو ذاكرة الحياة في رمال‬
‫الصحراء‪.‬‬
‫ال بأس‪..‬‬
‫تكف الصحراء عن أن تبعث بروح‬ ‫ّ‬ ‫لكن‪ ،‬المشكلة عندما‬
‫للتصحر‪ ،‬فتفقد روحها‪ ،‬وينتقل اإلنسان من‬
‫ّ‬ ‫المقاومة الشعرية‬
‫التصحر‪ ،‬كما يحدث لنا اآلن في كثير‬
‫ّ‬ ‫شعرية الصحراء إلى شريعة‬
‫من األماكن‪.‬‬
‫عندما يخرس شعراء الصحراء ينطق َس َح َرتها وكهنتها‪.‬‬
‫الدجالون‪.‬‬
‫عندما ينام الشعراء يستيقظ ّ‬
‫للصحراء خيالها الساحر‪ ،‬لكن للصحراء أيضا غرائزها‬
‫التوحش والثأر والقصاص وتبعية الفرد للقطيع‬
‫ّ‬ ‫المد ِّمرة‪ ،‬غرائز‬
‫شوهت الثقافة اإلسالمية عندما لم‬
‫(العشيرة)‪ .‬تلك الغرائز التي َّ‬
‫يتم تصريفها شعر ًا‪.‬‬
‫هنا وجه آخر من أوجه اإلصالح المطلوب ‪ :‬تحرير الدين من‬
‫كهنوت الصحراء‪ ،‬وإعادته إلى أحضان الشعر‪.‬‬
‫قد نغتاظ من مشاهد أنصار «جماعة أنصار الدين» في صحراء‬
‫مالي وهم يقومون بتدمير همجي لكل اآلثار الدينية اإلسالمية التي‬
‫تزخر بها تامبوكتو‪ .‬إنها فعال جرائم ضدّ اإلنسانية وفق توصيف‬
‫الهيآت الثقافية الدّ ولية‪ .‬بل لعل العالم كله قد استنكر تلك الجرائم‬

‫‪186‬‬
‫تفوقوا على ميكيافيلي‬
‫عدا «اإلسالميين الوسطيين» عندنا والذين َّ‬
‫وأبلوا في الحيل الفقهية بال ًء مشهود ًا‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬ما هي دوافع الجريمة؟‬
‫بالتصحر‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ليس لتلك الجرائم من غاية أخرى غير االحتفال‬
‫الروحي والحضاري والفنّي واإلنساني‪ ،‬وتمجيد صحراء‬
‫التصحر ّ‬
‫ّ‬
‫افتراضي َ‬
‫متخ َّيل وفق رؤيا «إخواننا في‬ ‫ّ‬ ‫افتراضية قاحلة لسلف‬
‫الله»!‬
‫التصحري اإلسالموي‪ ،‬والذي انتهى إلى تدمير‬ ‫ُّ‬ ‫هذا العنف‬
‫برجي مركز‬
‫تماثيل بوذا العمالقة في أفغانستان‪ ،‬وإلى تدمير َ‬
‫التجارة العالمي في مانهاتن بنيويورك‪ ،‬وإلى تدمير أضرحة‬
‫العالءالمعري وتدمير‬
‫ّ‬ ‫تامبوكتو في مالي‪ ،‬وإلى تدمير تمثال أب‬
‫أضرحة ومقامات عمرها مئات السنين في سوريا‪ ،‬والتلويح بتدمير‬
‫األهرامات والمومياوات الفرعونية المصرية‪ ،‬وقبل ذلك هو نفسه‬
‫الرسول في أرض الحرمين وأخفى معالمه‪.‬‬ ‫الذي كان قد د ّمر قبر ّ‬
‫بمجرد سوء فهم أو سوء تفاهم‪ ،‬بل ثمة داء‬‫ّ‬ ‫كل ذلك ال يتعلق‬
‫عضال ينخر دار اإلسالم‪ ،‬وليس له من إسم آخر سوى الهمجية‪.‬‬
‫والعالج إذ ًا؟‬
‫ليس هناك من ترياق في غير ر ّقة الشعر وعذوبته‪ .‬هذا ما‬
‫المتصوفة ومارسوه بالفعل‪ ،‬فجاءت نصوصهم الدينية‬‫ِّ‬ ‫أدركه‬
‫مك َّللة بروائع الشعر «الروحاني»‪ ،‬على منوال رباعيات الرومي‪،‬‬
‫وخمريات ابن الفارض‪ ،‬وأشواق ابن عربي‪ ،‬وطواسين الحالج‪.‬‬
‫المحمدي‪.‬‬
‫َّ‬ ‫الروح الشعرية لجوهر اإلسالم‬
‫هؤالء أدركوا ّ‬
‫‪187‬‬
‫نعم‪ ،‬جاء اإلسالم المحمدي بأسلوب شعري‪ .‬كيف ال وهو‬
‫ابن شرعي لبيئة الصحراء العربية؟ وهكذا‪ُ ،‬ولد الوحي اإلسالمي‬
‫والدة شعرية‪ ،‬إيقاعية‪ ،‬سجعية‪ ،‬ابتهالية‪ .‬وعلى هدي َن ْفس النَّ َفس‬
‫جاءت أقوى النصوص «الدينية» أبداع ًا شعري ًا وشاعري ًا‪ ،‬من قبيل‬
‫رسالة الغفران للمعري‪ ،‬واإلمتاع والمؤانسة للتوحيدي‪ ،‬وديوان‬
‫األشواق البن عربي‪ ،‬إلخ‪.‬‬
‫مشكلة اإلسالم أنه فقد روحه الشعرية‪ ،‬وأقحمه الفقهاء ثم‬
‫السلفيون واإلسالميون والجهاديون في مأزق الصرامة «العلموية»‬
‫على طريقة الحالل ب ِّين والحرام ب ِّين‪ .‬لذلك ليس غريب ًا أن يبتعد‬
‫الجدد عن‬
‫التكوين الجامعي األكاديمي األساس للقادة الدينيين ُ‬
‫اإلنسانيات واإللهيات والفقهيات والجماليات واللسانيات‪ .‬ليس‬
‫غريب ًا أن يكون ابن الدن مهندسا والظواهري طبيب ًا وعبد السالم‬
‫فرج ميكانيكي ًا‪ ،‬إلخ‪ .‬وعلى هذا النمط أصبح الخطاب الديني‬
‫المتشدد في قبضة «العقل األداتي»‪ ،‬حيث ينعدم الخيال ويضيق‬
‫الوجدان ويضيع اإلنسان‪.‬‬
‫بالتأكيد‪ ،‬ليس الخطاب القرآني قصيدة شعر على منوال‬
‫شعري‬
‫ّ‬ ‫والرباعيات ونحو ذلك‪ ،‬لكنه خطاب‬ ‫المع َّلقات واأللفيات ّ‬
‫قوة في االستعارة والمجاز‪ .‬لذلك‪ ،‬ال تكون‬ ‫بكل ما يعنيه ذلك من ّ‬
‫تتم عبر السماع السجعي‪.‬‬ ‫العالقة مع الدين إالّ عالقة شعرية‪ّ ،‬‬
‫هذا ال ُبعد الشعري أغفله الفقهاء وأدركه الصوفية‪ .‬ولهذا السبب‬
‫شكّل المتصوفة الهدف األول لهجوم األصوليين‪ ،‬منذ فتاوى‬
‫ابن تيمية مرور ًا بالحركة الوهابية وصوالً إلى الطالبان والسلفيين‬

‫‪188‬‬
‫والجهاديين وأنصار الشريعة في سوريا والعراق ومالي وليبيا‬
‫ولست أدري‪.‬‬
‫ُ‬ ‫واليمن‬
‫بكل بساطة‪ ،‬عندما َيب ُعد الشعراء يعود الكهنة‪.‬‬
‫وتحديد ًا‪ ،‬عندما َ‬
‫طر ْدنا الشعراء من الحقل الديني والالّهوتي‬
‫وتجار‬
‫في اإلســالم‪ ،‬فتحنا الباب على مصراعيه أمام الكهنة ّ‬
‫األوهام‪.‬‬
‫هذا ما يحدث لنا اآلن‪.‬‬
‫وفي كل األحــوال‪ ،‬هناك قضية أساسية في استراتيجية‬
‫اإلصالح الديني في اإلسالم‪ .‬ماهي؟‬
‫يقوم جوهر اإلسالم على تعالي الذات اإللهية‪ ،‬وعلى‬
‫التمايز بين المستوى اإللهي والمستوى البشري‪ ،‬بين مستوى عالم‬
‫الغيب الذي يحيل إلى الغياب‪ ،‬ومستوى عالم الشهادة الذي يحيل‬
‫إلى الحضور‪ ،‬بحيث ال يتحقق الترابط بين هذا وذاك إالّ مجاز ًا‪،‬‬
‫وتجاوز ًا للعجز الكينوني‪ ،‬عبر َملكة الخيال‪ .‬لذلك‪ ،‬ليس الدين‬
‫سوى تأويل مجازي «للحق» الذي ال يمكن إدراكه؛ طالما أن‬
‫«الحق» ال ُي ْع َرف وال ُي َع َّرف كما يردد المتصوفة‪ .‬وبهذا النّحو نفهم‬
‫كيف جاء القرآن ذوق ًا جمالي ًا و ُعمق ًا خيالي ًا وشوق ًا ابتهالي ًا و َع َبق ًا‬
‫تع ّبديا‪ .‬ونفهم في األخير كيف جاء كالم القرآن باعتباره ليس‬
‫مجرد حلم وحسب‪ ،‬لكنه تأويل لحلم لم يره أحد‪ ،‬مع أنه كان وال‬ ‫ّ‬
‫سمو ًا‪ ،‬اتباع ًا أو إبداع ًا‪.‬‬‫غلو ًا أو ّ‬
‫يزال يلهم الجميع‪ ،‬سلب ًا أو إيجاب ًا‪ّ ،‬‬
‫لذلك‪ ..‬نعلن في ختام الكالم المباح ‪:‬‬
‫‪189‬‬
‫يحتاج اإلصالح الديني والالّهوتي في اإلسالم إلى استعادة‬
‫للروح والكينونة‪ ،‬عوض فقهاء‬
‫روحه الشعرية‪ ،‬يحتاج إلى شعراء ّ‬
‫َب ْول البعير‪ ،‬وإرضاع الكبير‪ ،‬وجواز ركوب النساء للحمير‪!..‬‬
‫وسمو ًا‪ ،‬يحتاج‬
‫ّ‬ ‫أي نعم‪ ،‬يحتاج الدين إلى مشاعر أكثر نب ً‬
‫ال‬
‫للروح‪ ..‬إلى‬ ‫إلى قلوب نابضة بالعشق والشوق‪ ،‬يحتاج إلى أطباء ّ‬
‫شعراء إذ ًا‪.‬‬

‫‪190‬‬
‫ال�شريعة والقراآن‬

‫كثيرون َم ْن يستعملون الشريعة كسالح فتّاك في حربهم على‬


‫الحريات الفردية وعدوانهم على حقوق اإلنسان‪ ،‬بحيث يرفضون‬
‫ويجرمون الحق في اإلجهاض‪ ،‬ويتحفظون‬ ‫ِّ‬ ‫تحديد سن الزواج‪،‬‬
‫على مبدأ المساواة بين الجنسين في العمل أو السفر أو السياقة أو‬
‫الزواج أو نحو ذلك‪.‬‬
‫لكن ما الشريعة ّأوالً؟‬
‫بادئ األمر أقول ‪ :‬ليست الشريعة أقوال القرآن وال أقوال‬
‫الرسول‪ ،‬لكنها تعني على وجه التحديد ذلك المجهود الفقهي‬ ‫ّ‬
‫الذي استغرق أزيد من ألف عام‪ ،‬وأثناءه حاول الفقهاء أن يستنبطوا‬
‫الرسول أيض ًا‪-‬‬
‫من النص القرآني –وقد أضافوا إليه أقوال وأفعال ّ‬
‫قوانين عامة وتشريعات كونية‪ .‬فقد حاول الفقهاء على مدى قرون‬
‫طويلة استنطاق مساحات الصمت التشريعي في النص القرآني‬
‫وإرغامها على الكالم‪ ،‬وذلك بدعوى أن القرآن «قال كل شيء»!‬
‫لكن السؤال ‪ :‬هل قال القرآن كل شيء بالفعل؟ أو على األقل‪ ،‬هل‬
‫يطوي بين ثناياه إمكانية الكالم عن كل شيء بحيث ال يبقى أمامنا‬
‫سوى أن نستنطق صوامته ونكلم سكتاته؟‬
‫‪191‬‬
‫اإلجابة بنعم هي األسطورة المؤسسة للفقه‪ ،‬ومن ثم ّ‬
‫للشريعة‪،‬‬
‫والتطرف الديني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ومن ثم لإلنغالق الالهوتي‬
‫وألن استنطاق النص القرآني لم يكن كافي ًا حتى‬
‫ّ‬ ‫عدا ذلك‪،‬‬
‫باستعمال القياس وفق معايير غير واضحة وغير محدّ دة‪ ،‬فقد‬
‫الرسول وأقوال وأفعال الصحابة‬‫أضاف فقهاء السنّة أقوال وأفعال ّ‬
‫أيض ًا‪ ،‬بل أضافوا حتى أقوال التابعين وتابعي التابعين‪ ،‬ومقابلهم‬
‫الولي‬
‫ّ‬ ‫أضاف فقهاء الشيعة أقوال وأفعال األئمة المعصومين ثم‬
‫الفقيه‪ .‬وبهذا النّحو اتسعت دائرة مصادر التشريع لتشمل فض ً‬
‫ال عن‬
‫الرسول‪ ،‬ومئات‬ ‫أقوال القرآن‪ ،‬عشرات اآلالف من أقوال وأفعال ّ‬
‫اآلالف من أقوال وأفعال الصحابة والتابعين واألئمة المعصومين‬
‫واألولياء‪.‬‬
‫وإن لم يساهم اتساع دائرة مصادر التشريع في توفير مخزون‬
‫نصي ال ينضب الستنباط تشريعات كونية تغطي نوازل كل األزمنة‬ ‫ّ‬
‫ومرة أخرى‬
‫واألمكنة‪ ،‬فسرعان ما اهتدى الفقهاء إلى آلية القياس‪ّ .‬‬
‫لم يتم التوافق على معايير أو ضوابط معينة لهذا القياس‪ ،‬إذ ظل‬
‫السؤال ‪ :‬نقيس ماذا على ماذا؟ وبأي حق؟‬
‫وكتمرين حر‪ ،‬لنأخذ أي سورة كيفما كانت‪ ،‬مثال «ألهاكم‬
‫التكاثر (اآلية ‪ )1‬حتى زرتم المقابر (اآلية ‪ ،»..)2‬ما هي إمكانات‬
‫لنجرب ‪ :‬قياس ًا على اآلية‬
‫تطبيق القياس هنا الستنباط قانون ملزم؟ ِّ‬
‫األولى يمكنني أن أستنبط قانونا لتحديد النّسل بدعوى ّ‬
‫أن التكاثر‬
‫يلهي الناس عن الحق! وقياس ًا على اآلية الثانية أو اآليتين مع ًا‬
‫يمكنني أن أستنبط قانون ًا عاما يمنع النّاس من زيارة المقابر! وقد‬

‫‪192‬‬
‫أشترط أن ال يكون سبب زيارة المقابر هو التباهي بكثرة األحياء أو‬
‫األموات أو هما مع ًا ! وقد أقرر بمراعاة أسباب النّزول نفسها منع‬
‫إجراء أي إحصاء للسكان‪ .‬وقد أقرر أن يشمل اإلحصاء األحياء‬
‫دون األموات‪ .‬وقد أقرر فقط أن ال يكون اإلحصاء لغاية التفاخر‬
‫بالكثرة ! وكل هذا بفضل القياس‪ .‬لكن السؤال األساس ‪ :‬بأي حق‬
‫أحاول أن أستنبط من تلك اآلية حكما شرعيا صالح ًا لكل زمان‬
‫ومكان؟‬
‫والحال أن منطوق القرآن نفسه يؤكد عدم وجود أي تشريع‬
‫مطلق وصالح لكل زمان ومكان سواء بالقياس أو بدونه‪ .‬إذ يقول ‪:‬‬
‫(لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاج ًا) المائدة‪.48 ،‬‬
‫لقد أنتج القياس في األخير أحكام ًا ليست فقط منافية للعقل‪،‬‬
‫وليست فقط مناقضة ألبسط قيم حقوق اإلنسان‪ ،‬لكنها فوق ذلك‬
‫تقول القرآن ما ال يقوله أو خالف ما يقول‪ .‬وأمامنا أمثلة ‪:‬‬
‫ِّ‬
‫هناك أفعال جعل لها النص القرآني عقوبات أخروية من دون‬
‫أن يحدد لها أي عقوبة دنيوية‪ ،‬لكن غالبية الفقهاء استنبطوا ‪-‬قياسا‬
‫على العقاب األخروي‪ -‬ضرورة وجود عقاب دنيوي أيض ًا‪ .‬من‬
‫الر ّدة عن اإلسالم مثال‪.‬‬
‫قبيل ِّ‬
‫هناك شعائر جعلها القرآن طوعية‪ ،‬وجعلها الفقهاء إلزامية‪،‬‬
‫بل اتفقوا في العصر الحالي على أن تركها يستوجب العقوبة‪ .‬مثل‬
‫الصوم‪ .‬وفي ذلك مخالفة صريحة للقرآن‪ .‬تقول اآلية ‪( :‬يا أ ّيها‬
‫الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم‬
‫لعلكم تتّقون‪ .‬أيام ًا معدودات فمن كان منكم مريض ًا أو على سفر‬
‫‪193‬‬
‫فعدّ ة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه (( أي يستطيعون صيامه))‬
‫تطوع خير ًا فهو خير له وإن تصوموا خير‬ ‫فدية طعام مسكين فمن ّ‬
‫لكم إن كنتم تعلمون) البقرة‪ .184 ،‬لكن‪ ،‬تبع ًا للنّزوع التشدّ دي‬
‫لفقهاء عصر االنحطاط‪ ،‬عصر ال ُعسر والضيق والشدّ ة والعوز‪ ،‬فقد‬
‫مرة‬ ‫الشطر األخير من اآلية ناسخ ًا لما سبقه‪ .‬ونحن هنا ّ‬
‫ألول ّ‬ ‫ُجعل ّ‬
‫نرى ناسخ ًا ومنسوخ ًا داخل اآلية الواحدة نفسها! لكن‪ ،‬حتى على‬
‫فإن الشطر األخير من اآلية‬ ‫صحة هذا االستنتاج الجزافي ّ‬ ‫افتراض ّ‬
‫تطوعية وليست إلزامية‬ ‫تطوع‪ ،‬ما يعني أننا أمام شعيرة ّ‬ ‫يستعمل فعل ّ‬
‫بأي حال من األحوال‪ .‬اللهم ّإال إذا كنا سن ِّ‬
‫ُقول اللغة ما ال تقول !‬
‫هناك آيات قرآنية نُسخ حكمها بفعل انتفاء موضوعها وال‬
‫يمكن أن نستنبط منها سواء بالقياس أو بغير القياس أي قانون كوني‬
‫وإلزامي‪ .‬الهجرة مثال‪ .‬تقول اآلية ‪( :‬ومن يهاجر في سبيل الله يجد‬
‫في األرض مراغم ًا كثيرا وسعة‪ )...‬النساء‪ ،100 ،‬وتقول آية أخرى‬
‫بنحو أكثر إلزامية ‪( :‬والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من واليتهم‬
‫من شيء حتى يهاجروا) األنفال‪ .72 ،‬وإذا كان القول األصح أن‬
‫آيات التحريض على الهجرة قد نُسخ حكمها مباشرة بعد فتح مكة‪،‬‬
‫فيحق لنا التساؤل حول ما إذا كانت آيات الجهاد والقتال قد نُسخ‬
‫حكمها بدورها بعد ظهور دولة القانون والمؤسسات والمواثيق‬
‫الدولية؟‬
‫والواقع أن بعض فقهاء التكفير استنبط بالقياس أحكام ًا‬
‫مرعبة‪ ،‬من قبيل التعامل مع اآلية «كتب عليكم القتال» قياس ًا على‬
‫اآلية «كتب عليكم الصيام»! كما فعل صاحب الفريضة الغائبة‪،‬‬
‫عبد السالم فرج‪.‬‬

‫‪194‬‬
‫غير أننا نصطدم بمالحظة أخرى ‪:‬‬
‫مقابل اآليات القرآنية التي تتضمن التحريض على القتال‬
‫والجهاد في سياق محدَّ د ثمة عبارة في القرآن تمثل الصيغة األكثر‬
‫وضوح ًا للتعبير عن أصالة حرية االعتقاد الديني‪ :‬ال إكراه في‬
‫الدين‪.‬‬
‫المفارقة ليست هنا‪ ،‬لكنها تقع في مستوى االشتغال الفقهي ‪:‬‬
‫ففي الوقت الذي تَوافق فيه العقل الفقهي على تقسيم القرآن‬
‫من وجهة نظر «تشريعية» تقسيم ًا صارم ًا إلى آيات مكية وأخرى‬
‫تتضمن آيات‬‫ّ‬ ‫مدنية‪ ،‬واعتبار آيات المرحلة الثانية‪ ،‬المدنية‪ ،‬والتي‬
‫والسبي والغنائم‪ ،‬ناسخة آليات المرحلة‬ ‫الجهاد والقتال والغزو ّ‬
‫الزمني للنزول‪ ،‬فضال عن‬ ‫األولى‪ ،‬المكّية‪ ،‬وذلك باعتبار التسلسل ّ‬
‫األبعاد التي اتخذتها الهجرة فيما بعد كنقطة قصوى لبداية تاريخ‬
‫همشوا المرحلة المكية األولى من جهة‪ ،‬وأغفلوا‬ ‫اإلسالم ! فقد ّ‬
‫من جهة ثانية وجود مرحلة مكية أخرى أو أخيرة بالغة الدّ اللة‬
‫واألهمية أعقبت المرحلة المدنية‪ ،‬مرحلة العودة‪ ،‬مرحلة النّصر‪،‬‬
‫مرحلة الفتح‪ ،‬مرحلة تح ّقق الهدف القرآني (لتنذر أم القرى ومن‬
‫حولها)‪ ،‬مرحلة القرآن األخير‪ ،‬اآليات التي نزلت بعد فتح مكة‪،‬‬
‫وتخلو من دعوات القتال والغزو وما شابه‪ ،‬وكان يجب اعتبارها‬
‫‪-‬وفق نفس المنطق‪ -‬ناسخة للقرآن المدني‪ ،‬لوال أن المنطق‬
‫الفقهي كان مبتور ًا‪.‬‬
‫وفي الوقت الذي استنبط فيه الفقهاء عشرات القوانين‬
‫واألحكام الفقهية من آيات الحرب والجهاد والقتال فإنهم لم‬
‫‪195‬‬
‫يستنبطوا من آية ال إكراه في الدين أي قانون ُيذكر‪ .‬بل خالف‬
‫ذلك‪ ،‬استنبطوا منه فقط ما ُس ّمي بأحكام أهل الذمة‪ .‬وإنهم بذلك‬
‫النحو ‪-‬وبلغة العصر‪ -‬قد أفرغوا الحكم من مضمونه‪ ،‬وأزاحوا‬
‫أداة النفي عن العبارة القرآنية ال إكراه في الدين‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫الحرية الدينية اأو ً‬
‫ل‬

‫يعاني الوعي الديني اإلسالمي من فوضى عارمة قد توقظ‬


‫تنتج دمار ًا رأينا ونرى مقدّ ماته منذ أفغانستان حتى اليوم‪ .‬ويخبرنا‬
‫تاريخ اإلسالم كيف كانت الدول تقوم وتقعد على رماد الوقيعة‬
‫والفتنة‪ .‬لذلك السبب قيلت الكثير من روايات الوعيد حول من‬
‫يوقظ الفتنة النائمة وينفخ في رمادها‪ .‬لكن السؤال األهم ‪:‬‬
‫هل محكوم على المسلمين باإلقامة الدّ ائمة فوق رماد الفتنة‬
‫النائمة؟‬
‫في واقع الحال‪ ،‬تبدو جغرافية العالم اإلسالمي كأنها من‬
‫أكثر مناطق العالم تأ ّثر ًا بحالة الفوضى الدينية المؤدية إلى‬
‫الفتن‪ .‬وهو األمر الذي يجعل الكثيرين يظنون بأن الحل األمثل‬
‫مؤسساتية‬
‫يكمن في تنميط الحقل الديني وإخضاعه لضوابط َّ‬
‫صارمة‪ ،‬أسوة بالحالة الشيعية أو الحالة الكاثوليكية على سبيل‬
‫المثال‪.‬‬
‫غير أن هذا الخيار قد ال ينتج غير االستبداد الديني‪ ،‬مثلما‬
‫يحدث في كثير من الدول مثل إيران والسودان‪.‬‬
‫‪197‬‬
‫لكن‪ ،‬هل ثمة اقتراح آخر؟‬
‫فعالً‪ ،‬تعاني دول العالم اإلسالمي من فوضى دينية عارمة‬
‫لمجرد‬
‫ّ‬ ‫ودب يتكلم باسم اإلسالم‪ ،‬وأحيان ًا‬
‫ّ‬ ‫هب‬
‫تجعل كل من ّ‬
‫سبحة في اليد وزبيبة على الجبين وغيرهما من لوازم الشغل‪،‬‬
‫لكن البديل عن هذه الفوضى المفضية إلى العنف واالقتتال لن‬
‫يكون عبر مأسسة وهيكلة مجال هو أصال مجال العاطفة والشوق‬
‫والخيال والحرية‪ .‬وليس بمثل هذا ُيضبط أو ينضبط حال من‬
‫األحوال‪.‬‬
‫ال تعود أسباب الفوضى الدينية التي تجتاح دول العالم‬
‫اإلسالمي إلى غياب السلطة الدينية الناظمة‪ ،‬وإنما هي بخالف‬
‫الرغبة الجامحة في تنميط تجربة دينية تظل في‬ ‫ذلك‪ ،‬بسبب تلك ّ‬
‫أصلها وأساسها غير قابلة ألي تنميط‪.‬‬
‫أن كافة مظاهر اإلسالم اإلخواني واإلسالم‬ ‫وليس يخفى ّ‬
‫السلفي واإلسالم الجهادي إلخ‪ ،‬ما هي إالّ تجليات لسباق أو‬
‫تسابق نحو تنميط الحقل الديني لغاية التحكّم فيه‪ .‬لكنه سباق إلى‬
‫مجرد تجليات لنزعة «الهروب من‬ ‫الخلف (!) إنها بصريح العبارة ّ‬
‫الحرية»‪ ،‬إذا ما استلهمنا عنوان ًا قويا ألحد مؤلفات إريك فروم‪.‬‬
‫والحق يقال‪ ،‬قد تبدو الحرية الدينية مخيفة حين تتيح لنا أن‬
‫نقرأ القرآن الكريم بأي حرف نشاء‪ ،‬وبأي مصحف نشاء‪ ،‬وبأي‬
‫ترتيب للسور أو لآليات نشاء‪ .‬وبسبب الخوف من هكذا حرية‬
‫ّقرر المسلمون ترسيم مصحف واحد‪ ،‬على أساس حرف واحد‪،‬‬
‫على أساس رسم واحد‪ ،‬وحتى على أساس قراءة واحدة‪ ،‬وتفسير‬
‫واحد‪ ،‬وهكذا‪.‬‬

‫‪198‬‬
‫نعم‪ ،‬قد تبدو الحرية الدينية مخيفة حين تسمح لنا بأن نص ّلي‬
‫ونبتهل على النحو الذي نشاء‪ ،‬وأن نُس ِّبح بمختلف المعاني‬
‫الالنهائية في هذا الكون الفسيح‪ ،‬ال سيما ّ‬
‫وأن‬ ‫والرمزية ّ‬
‫الجسدية ّ‬
‫مجرات بعيدة وبعيدة جدا‪ .‬لكن‪،‬‬
‫البشرية على وشك أن تستوطن ّ‬
‫بسبب الخوف من الحرية المفتوحة على حدوس الحياة‪ ،‬جاء‬
‫ضبط وتقعيد وتقنين حقل اإللهيات‪ ،‬الذي صار في األخير أشبه ما‬
‫يكون بقواعد الهندسة أو قوانين المرور‪ .‬وهذا اعتداء على الدين‪.‬‬
‫وأيضا‪ ،‬قد تبدو الحرية الدينية مخيفة حين تمنح كل واحد منا‬
‫الحق في أن يستفتي قلبه أوالً وأخير ًا‪ ،‬ما يعني أن يستفتي ضميره‬
‫األخالقي واإلنساني الحر‪ ،‬وأن يستعمله من دون تعطيل؛ طالما أن‬
‫أن الخوف من‬ ‫اإلسالم يخلو من رجال دين‪ ،‬أو هكذا ُيفترض‪ .‬غير ّ‬
‫هكذا حرية ساقنا في األخير إلى تخريج آالف الدّ عاة الغوغائيين‬
‫المحرضين واألئمة المج ّيشين والخطباء المه ّيجين‪،‬‬‫ّ‬ ‫والو ّعاظ‬
‫ال وأقبح صنيع ًا‬
‫وبينهم أمراء الجماعات الجهادية‪ ،‬وهذا أسوأ فع ً‬
‫من تخريج رجال الدين‪.‬‬
‫وأيضا‪ ،‬قد تبدو الحرية الدينية مخيفة‪ ،‬حين نستحضر ّ‬
‫أن‬
‫الكعبة التي نطوف حولها ونستقبلها في صلواتنا هي صندوق‬
‫ّ‬
‫جذاب لكنّه ال يحوي في داخله أي شيء‪ .‬ما يعني أن موقع القداسة‬
‫في اإلسالم مكان فارغ‪ .‬لكن الخوف من هكذا حرية وجدانية قادنا‬
‫إلى ملء الفراغ بخلق عشرات المقدسات‪.‬‬
‫يحيل الغيب اصطالحا إلى الغياب‪ .‬وعالم الغيب في القرآن‬
‫هو عالم الغياب‪ ،‬عالم ال يمكن أن يحضر وال يمكن استحضاره‬

‫‪199‬‬
‫اللهم من باب التعبير المجازي‪ .‬وهكذا نفهم كيف جاء الخطاب‬
‫القرآني خطابا مجازيا‪.‬‬
‫ال يمكن لعالقتنا بالله تعالى أن تكون عالقة قائمة على‬
‫المعرفة واإلدراك والحضور‪ .‬لذلك قال صدر الدين الشيرازي‪« :‬ال‬
‫يعرف الله إالّ الله»(‪ ،)1‬ولذلك ير ّدد الصوفية دوما عبارة «العارف‬
‫ال ُيعرف»‪ .‬إنما عالقة اإلنسان بالله هي عالقة مجازية قائمة على‬
‫يعول فيها سوى على ملكة الخيال‪.‬‬
‫الذوق والشوق‪ ،‬وال َّ‬
‫ألجل ذلك أجمع جل فالسفة اإلسالم‪ ،‬أمثال الفارابي وابن‬
‫سينا وابن عربي‪ ،‬على أن طريق االتصال هو الخيال‪ .‬وذلك هو‬
‫الرأي الذي أكده بوضوح سبينوزا حين كتب يقول ‪« :‬لم يتلق أي‬ ‫ّ‬
‫شخص وحي ًا من الله دون االلتجاء إلى الخيال‪ ،‬أي إلى كالم أو‬
‫إلى صور‪ ،‬وينتج عن ذلك أن النبوة ال تتطلب ذهنا كامال بل خياال‬
‫خصب ًا»(‪.)2‬‬
‫ميزة الخيال أنه تجربة فردية خالصة؛ ففي مجال الخيال لكل‬
‫واحد عالمه الخاص والذي ال يخضع ألي قواعد فقهية أو معايير‬
‫اجتماعية‪.‬‬
‫أن تجربة الدين تظل أقرب إلى تجربة الحب‬ ‫هكذا نستنتج ّ‬
‫اإلنساني‪ .‬ففي كليهما «محكوم علينا بالحرية»‪ ،‬إذا ما استلهمنا‬
‫تعبير ًا بليغ ًا لسارتر‪.‬‬

‫(‪ )1‬صدر الدين الشيرازي‪ ،‬المبدأ والمعاد‪ ،‬دار الهادي‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة األولى ‪ ،2000‬ص ‪.44 :‬‬
‫(‪ )2‬باروخ سبينوزا‪ ،‬رسالة في الالهوت والسياسة‪ ،‬ترجمة وتقديم حسن حنفي‪ ،‬دار التنوير‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬الطبعة األولى ‪ ،2005‬ص ‪.129 :‬‬

‫‪200‬‬
‫ومثلما ال يمكننا تنميط الحب‪ ،‬ال يمكننا تنميط اإليمان أو‬
‫ضبطه وفق ضوابط صارمة تملي على الناس كيف يجب أن تكون‬
‫عالقتهم بالله‪.‬‬
‫مجمل القول ‪:‬‬
‫في غياب الحرية العاطفية يصبح الحب اغتصاب ًا‪ ،‬وفي غياب‬
‫الحرية الدينية يصبح الدين إرهاب ًا‪.‬‬

‫‪201‬‬
202
‫الق�شم الثالث‬

‫اأ�شئلة الذات‬

‫‪203‬‬
204
‫عظة ال�شباح‬

‫ويسألونك عن النفاق الديني‪ْ .‬‬


‫قل ‪:‬‬
‫النفاق الديني أن تطالب بتطبيق شرع الله في بلدك ثم تهاجر‬
‫للعيش في بلد علماني‪.‬‬
‫النفاق الديني أن تطالب بزيادة مواد اإلسالم في المنهاج‬
‫تسجل أبناءك في إحدى مدارس البعثة الفرنسية أو‬
‫ثم ِّ‬‫المدرسي ّ‬
‫األمريكية‪.‬‬
‫النفاق الديني أن تطلب من «بائعة الهوى» أن تقول لك‬
‫زوجتك نفسي على سنّة الله ورسوله‪ ،‬وفي الصباح تمنحها بعض‬
‫ّ‬
‫المال وتقول لها أنت طالق‪.‬‬
‫النفاق الديني أن تعتبر كل نساء األرض ناقصات عقل ودين‪،‬‬
‫ثم تقول إن الجنّة‬
‫وعورات‪ ،‬وحبائل الشيطان‪ ،‬وحطب جهنم‪ّ ،‬‬
‫تحت أقدام أ ّمك !‬
‫تتذرع بشرع الله لكي تبقى خارج القانون‪،‬‬
‫النفاق الديني أن ّ‬
‫أي خارج المحاسبة‪.‬‬
‫‪205‬‬
‫النفاق الديني أن تدخل إلى المسجد لتدعو على الكفار‬
‫بالويل والثبور وعظائم األمور ثم تخرج منه لتطلب المعونات أو‬
‫من البنك الدولي أو من السفارة األمريكية أو من كل َم ْن يدفع‪.‬‬
‫النفاق الديني أن تحرق ال َع َلم األمريكي في كل مناسبة‪،‬‬
‫ومن غير مناسبة‪ ،‬ثم تشارك في ِقرعة الهجرة إلى أرض الحرية‬
‫واألحالم‪.‬‬
‫الزحف‬‫النفاق الديني أن تنادي بتطبيق الشريعة في حالة ّ‬
‫والكر‪ ،‬وتنادي بتطبيق المعايير الدولية لحقوق اإلنسان في حالة‬
‫الدفاع وال َف ّر‪.‬‬
‫النفاق الديني أن تبتهج بوجود مساجد كبرى وفاخرة في‬
‫قلب نيويورك ولندن وباريس‪ ،‬أو تبتهج بمشهد شاب غربي يردد‬
‫الشهادتين ولو بصعوبة خلف شيخ في مسجد من عواصم الغرب‪،‬‬
‫وتعتبر ذلك انتصار ًا لإلسالم ! ولكنك ال تراه انتصارا لقيم حقوق‬
‫اإلنسان وللحريات الفردية والحريات الدينية داخل الحضارة‬
‫قس ًا قام بتعميد مسلم واحد‬ ‫الغربية‪ .‬بل‪ ،‬تقيم الدنيا إذا علمت ّ‬
‫أن ّ‬
‫ولو داخل الفاتيكان‪ ،‬وتروح تصرخ أن ذلك مؤامرة ضدّ اإلسالم‬
‫والمسلمين !‬
‫الرشوة‪ ،‬وفساد جهاز‬
‫النفاق الديني أن ال تكترث بفساد ّ‬
‫التهرب الضريبي‪ ،‬وفساد تبييض األموال‪ ،‬وفساد‬
‫القضاء‪ ،‬وفساد ّ‬
‫الغش في السلع‪ ،‬وفساد مافيات المخدرات وتهريب األسلحة‪ ،‬ثم‬
‫مجرد تنورة أو سروال قصير أو قبلة‬
‫ترى الفساد كل الفساد في ّ‬
‫على لوحة إشهارية‪.‬‬

‫‪206‬‬
‫النفاق الديني أن تدعو الناس للصالة أوقات الصالة‪ ،‬وال‬
‫تدعوهم للعمل أوقات العمل‪.‬‬
‫النفاق الديني أن تنسب نفسك إلى اإلسالم عنوة فتقول «أنا‬
‫إسالمي»‪ ،‬لكنّك تفرغ اإلسالم من كل المضامين الثقافية والفنية‬
‫والجمالية والحضارية‪ ،‬فال تبقي منه ما ُيذكر أو يستحق الذكر‪ ،‬ال‬
‫مطارحات ابن رشد‪ ،‬وال رباعيات الخيام‪ ،‬وال إلهيات ابن سينا‪،‬‬
‫المعري‪ ،‬وال خمريات‬‫ِّ‬ ‫وال خوارزميات الخوارزمي‪ ،‬وال لزوميات‬
‫موشحات زرياب‪،‬‬ ‫ابن الفارض‪ ،‬وال معزوفات الموصلي‪ ،‬وال ّ‬
‫وال حتى فكاهيات جحا‪ .‬بل ال تبقي من تراث اإلسالم غير بضع‬
‫أوراق صفراء وفتاوى سوداء‪ ،‬ثم تقول ‪ :‬هذا هو اإلسالم‪ ،‬تكبير‬
‫ونفير وشخير وبئس المصير‪.‬‬
‫ثم تنشئ‬
‫النفاق الديني أن تقول «ال كهنوت في اإلسالم»‪ّ ،‬‬
‫حزب ًا ديني ًا‪.‬‬
‫النفاق الديني أن تردد مقولة «ال حياء في الدين»‪ ،‬ثم تستحيي‬
‫من إعالن للعازل الطبي على التلفزيون‪.‬‬
‫تستفزك‬
‫ّ‬ ‫النفاق الديني أن تقول «الله جميل يحب الجمال»‪ ،‬ثم‬
‫تسريحة جميلة َ‬
‫لشعر جميل المرأة جميلة‪.‬‬
‫النفاق الديني أن تردد «ال أكراه في الدين»‪ ،‬ثم تطالب بإقامة‬
‫حد الردة‪.‬‬
‫النفاق الديني أن تردد «نحن أ ّمة إقرأ»‪ ،‬ولم تقرأ في حياتك‬
‫ّإال‪ ،‬ربما‪ ،‬صفحات قليلة وصفراء‪.‬‬
‫‪207‬‬
‫النفاق الديني أن تردد مقولة «أال بِذكر الله تطمئ ّن القلوب»‪،‬‬
‫تفجر!‬
‫لكنك تصرخ بصيحة «الله أكبر» وأنت تقتل أو ِّ‬
‫النفاق الديني أن تكون زعيم ًا عربي ًا فتطلب من كاميرا‬
‫تصورك وأنت تص ّلي لكي تشاهدك الماليين وأنت‬ ‫التلفزيون أن ِّ‬
‫(ماذا تفعل؟) تص ّلي!‬
‫النفاق الديني أن تكون تلميذ ًا في قسم الباكالوريا‪ ،‬تدخل إلى‬
‫قاعة االمتحان وتقرأ الفاتحة والدّ عاء قبل أن ت ِ‬
‫ُخرج ورقة الغش‪.‬‬
‫النفاق الديني أن يكون الشهر الفضيل‪ ،‬شهر رمضان‪ ،‬شهر‬
‫والتحرش والشجار‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الرحمة والغفران‪ ،‬هو أيض ًا شهر الغش‬
‫ّ‬
‫النفاق الديني أن تقول ‪ :‬اإلسالم دين رحمة وتسامح‪ ،‬ومن ال‬
‫تفجر رأسه وتنسف عظامه‪.‬‬ ‫يقبل أحكامك ِّ‬
‫النفاق الديني أن تشعل الفتنة الطائفية في لبنان والعراق‬
‫وسورية وباكستان‪ ..‬وغيرها‪ ،‬وتوقظ الحرب القبلية في ليبيا‬
‫واليمن وأفغانستان‪ ..‬وغيرها‪ ،‬ثم تقول إنك تقاتل من أجل «وحدة‬
‫المسلمين» !‬
‫النفاق الديني هو الرداءة والدناءة والبذاءة‪ ...‬هو الجحيم‪.‬‬
‫قل‪ّ :‬‬
‫(إن المنافقين في الدرك األسفل من النار) صدق الله‬ ‫ْ‬
‫العظيم‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫وإذا قالوا لك ال اجتهاد مع وجود النص‪ْ ،‬‬
‫قل لهم ‪:‬‬
‫بل ُأنزل النص على سبعة أحرف كما أخبرنا ّ‬
‫الرسول الكريم‪،‬‬

‫‪208‬‬
‫لكنكم أبقيتم في األخير على حرف واحد‪ .‬وفي ذلك اجتهدتم وما‬
‫زلتم تجتهدون‪.‬‬
‫بل في النص آيات محكمات وأخرى متشابهات‪ ،‬لكنكم‬
‫جعلتم جميع آياته محكَمات‪ .‬وفي ذلك اجتهدتم وما زلتم‬
‫تجتهدون‪.‬‬
‫بل يحفل النص بالناسخ والمنسوخ باختالف األحوال‪ ،‬حيث‬
‫المنسوخ حكمه والمنسوخ لفظه والمنسوخ على الوجهين‪ ،‬ورغم‬
‫ذلك تُقدِّ رون كيفما اتفق‪ .‬وفي ذلك اجتهدتم وما زلتم تجتهدون‪.‬‬
‫حمالة أوجه يعارض بعضها بعض ًا كما أخبرنا‬ ‫بل آيات النص ّ‬
‫علي بن أبي طالب‪ ،‬لكنكم تُغ ِّلبون وجه ًا واحد ًا في األخير‪ .‬وفي‬
‫ّ‬
‫ذلك اجتهدتم وما زلتم تجتهدون‪.‬‬
‫بل لكل آية من آياته أكثر من سبب نزول واحد‪ ،‬غير أنكم‬
‫ترجحون سبب ًا واحد ًا أو اثنين أو أكثر‪ ..‬بحسب الطلب‪ .‬وفي ذلك‬
‫ِّ‬
‫اجتهدتم وما زلتم تجتهدون‪.‬‬
‫بل للنص عشرات التفاسير التي تنتقون بعضها وفق المزاج‬
‫الخاص أو المزاج العام‪ .‬وفي ذلك اجتهدتم وما زلتم تجتهدون‪.‬‬
‫بل ترتيب آيات وسور القرآن الكريم هو اجتهاد الصحابة‪،‬‬
‫وتنقيط حروفه وإعــراب كلماته هو اجتهاد التابعين‪ ،‬وإقرار‬
‫القراءات العشر هو اجتهاد تابعي التابعين إلخ‪ .‬وفي ذلك اجتهدتم‬
‫وما زلتم تجتهدون‪.‬‬
‫فإن فهم النص هو ثمرة اجتهادكم واجتهاد بعض‬ ‫ْ‬
‫قل ‪ :‬عجب ًا‪ّ ،‬‬
‫شيوخكم السابقين‪ ،‬بل ّ‬
‫إن بناء النص نفسه هو ثمرة مسار اجتهادي‬
‫‪209‬‬
‫وتحول لغوي وتطور كتابي ساهم فيه الكثير من‬
‫ّ‬ ‫وتوافق سياسي‬
‫األولين على مدى أجيال كثيرة‪ ،‬غير أنكم باسم هذا «االجتهاد»‬
‫تغلقون اليوم باب االجتهاد!‬
‫ال أرى فائدة من تكرارها بهذه الطريقة‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫وينكرون الحداثة‪ْ ،‬‬
‫قل لهم‪:‬‬
‫تسمي زواج القاصرات باسمه الحقيقي‪ :‬اعتداء‬
‫ّ‬ ‫الحداثة‬
‫جنسي على األطفال‪.‬‬
‫الزوجة على الجماع باسمه الحقيقي‪:‬‬
‫الحداثة تسمي إجبار ّ‬
‫اغتصاب‪.‬‬
‫الحداثة تسمي سبي النساء في الغزوات باسمه الحقيقي‪:‬‬
‫جريمة حرب‪.‬‬
‫مقر‬
‫الحداثة تسمي رضاع الكبير باسمه الحقيقي ‪ :‬سكس في ّ‬
‫العمل‪.‬‬
‫الحداثة تسمي نظام الجواري واإلمــاء باسمه الحقيقي‪:‬‬
‫عبودية‪.‬‬
‫الحداثة تسمي زواج المتعة والمسيار وجهاد المناكحة‬
‫باسمها الحقيقي ‪ :‬دعارة‪.‬‬
‫الحداثة تسمي التط ّلع االنتحاري إلى حوريات الجنّة باسمه‬
‫الحقيقي ‪ :‬اكتئاب عصابي أو اكتئاب ذهاني‪.‬‬

‫‪210‬‬
‫وإنما ْ‬
‫قل لهم ‪:‬‬
‫الحداثة تكشفكم‪ ،‬ولذلك ترفضونها‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫ويدعون إلى تطبيق حد الردة‪ْ ،‬‬
‫فقل لهم ‪:‬‬
‫يا سبحان الله! فإن الله جل جالله استجاب لدعوة الشيطان‬
‫عندما طلب منه أن يمهله زمنا يساوي تاريخ البشرية برمتها إذ (قال‬
‫رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين)‪ ،‬وأما أنتم‬
‫فال ترحمون أحدا وال تمهلون ضحاياكم زمنا قليال يساوي حياة‬
‫فرد واحد أو أدنى من ذلك!‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫وقد يزايدون عليك في اإليمان‪ْ .‬‬
‫فقل لهم ‪:‬‬
‫النبي ابراهيم حين فقدَ‬
‫ليس هناك أعظم وال أصدق من إيمان ّ‬
‫يقينه بالله فقام ليسأله ‪ِ :‬أرني كيف تحيي الموتى (‪ )...‬لكي يطمئ ّن‬
‫قلبي‪.‬‬
‫ليس هناك أعظم وال أصدق من إيمان المسيح حين فقدَ‬
‫إحساسه بالله فمأل السماء صراخ ًا ‪ :‬إلهي إلهي َ‬
‫لم تركتني؟‬
‫النبي محمد حين فقدَ‬
‫ليس هناك أعظم وال أصدق من إيمان ّ‬
‫الطمأنينة اإللهية فأطلق صيحته ‪ :‬ربي إلى من ت ِ‬
‫َك ْلني؟‬ ‫َ ْ‬ ‫ّ‬
‫ليس هناك أعظم وال أصدق من إيمان األنبياء في ذروة‬
‫إحساسهم بالشك وشعورهم بالضياع حين يخفت صوت األلوهية‬
‫‪211‬‬
‫أمام صوت األلم اإلنساني الذي يتردد صداه في الفضاء‪ ،‬فيبدو‬
‫الكائن اإلنساني كأنه متروك يطرق أبواب السماء‪ ،‬والسماء كأنها‬
‫خاوية‪ ،‬ال أحد! كأنها صماء منذ األبد‪ ،‬هل من سميع لشكوى‬
‫اإلنسان؟‬
‫ليس هناك أعظم وال أصدق من إيمان بوذا في إقراره ّ‬
‫بأن‬
‫الحياة في حقيقتها تجربة مؤلمة‪ ،‬وأننا إذا لم ننطلق من هذا‬
‫االعتراف المؤلم فلن نعالج األلم‪ ،‬لن نشفى من الشقاء األصلي‪.‬‬
‫بكل تأكيد‪ ،‬ال يكون اإليمان راسخ ًا عميق ًا إالّ بقدرما يكون‬
‫يائس ًا ِ‬
‫قلق ًا‪.‬‬
‫يعول عليه‪.‬‬ ‫ْ‬
‫قل لهم ‪ :‬كل إيمان يقوم على اليقين ال َّ‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫الرسول‪.‬‬
‫وقد يستفسرون عن الجنس والتعدّ د في سنّة ّ‬
‫فهكذا تقول لهم ‪:‬‬
‫(ص)‬
‫الرسول‬
‫الرائجة في كتب السيرة والحديث تقدم ّ‬ ‫الصورة ّ‬
‫باعتباره رجال مزواجا منكاحا مهووسا بالجنس إلى درجة أنه قد‬
‫«يتطوف على نسائه في ليلة واحدة» (صحيح البخاري)‪ ،‬وأنه‬ ‫ّ‬
‫يملك طاقة جنسية بـ«قوة سبعين رجال» أو أكثر‪ ،‬وما إلى ذلك من‬
‫أساطير «حريم السلطان» ! وليس هذا بصحيح‪ .‬هو منظر بئيس‬
‫أمام ذواتنا‪ ،‬مسيء أمام اآلخرين‪ ،‬ويرسم أمام أطفالنا صورة نمطية‬
‫للمسلم باعتباره شخصا مهجوسا بالنكاح ‪ 24‬ساعة على ‪ ،24‬و‪7‬‬
‫أيام على ‪ 7‬أيام‪.‬‬

‫‪212‬‬
‫فال بأس أن نحاول رفع هذا البهتان‪ ،‬لكن واحدة واحدة ‪:‬‬
‫الرسول(ص) أثناء زواجه األول لم يتخذ غير السيدة‬ ‫أوالً‪ّ ،‬‬
‫خديجة زوجة له‪ ،‬إذ لم يمارس التعدّ د‪ .‬ومع أنه كان في ريعان‬
‫شبابه‪ ،‬ظل وفيا لزوجته الوحيدة‪ ،‬ولم يتزوج زواج ًا ثانيا إال بعد‬
‫مرور أكثر من سنتين على وفاة زوجته‪ ،‬سواء بالتحقيب الشمسي‬
‫أو القمري‪ .‬فهل مثل هذا الرجل يمكن أن يكون بتلك الصورة التي‬
‫يرسمها رواة الحديث؟‬
‫ثاني ًا‪ ،‬لقد أجمع كتّاب السيرة والحديث أنفسهم على ّ‬
‫أن‬
‫الرسول عندما قرر الزواج مرة ثانية‪ ،‬بعد انقضاء عامين عن وفاة‬ ‫ّ‬
‫خديجة‪ ،‬كانت قد بقيت له على قيد الحياة بنت واحدة فقط‪ ،‬هي‬
‫الرسول في البيت‬
‫فاطمة الزهراء‪ ،‬والتي تزوجت بعلي تاركة ّ‬
‫وحيد ًا‪.‬‬
‫الرسول(ص) لم يخلف أبناء مع أي‬ ‫ثالث ًا‪ ،‬كل الشواهد تؤكد ّ‬
‫أن ّ‬
‫تزوج به ّن بعد خديجة‪ ،‬سواء عائشة بنت أبي‬
‫من النساء اللواتي ّ‬
‫بكر‪ ،‬أو حفصة بنت عمر أو غيرهما‪ ،‬وهذا على افتراض أن هناك‬
‫غيرهما أيا كان الرقم الحقيقي‪.‬‬
‫بل قل لهم ‪:‬‬
‫الرسول مزواج ًا وال منكاح ًا وال كما ّ‬
‫يتقولون‪ ،‬بل كان‬ ‫لم يكن ّ‬
‫رجال متوازنا في سلوكه الجنسي‪ ،‬وأنه –عدا ابنته الوحيدة التي‬
‫فارقته للزواج‪ -‬كان يبحث عن نسل من صلبه‪ .‬وهو ما لم ُيرزق به؟‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫‪213‬‬
‫وقد يسألونك ‪ :‬عن تلقين القرآن الكريم لألطفال الصغار؟‬
‫ْ‬
‫قل لهم ‪:‬‬
‫إن أحكام الزواج والطالق والنكاح ال‬ ‫إنه ال يخاطبهم ‪ :‬أوالً‪ّ ،‬‬
‫إن أحكام القتال والجهاد والسبي والغنائم‬ ‫تناسب أعمارهم‪ .‬ثانيا‪ّ ،‬‬
‫إن الحدود والقصاص في السرقة والزنا وشهادة‬ ‫ال تنفعهم‪ .‬ثالث ًا‪ّ ،‬‬
‫الزور ال تشملهم‪ .‬رابع ًا‪ ،‬إن جنة القرآن ال تناسب غرائزهم‪.‬‬
‫إن كثير ًا من‬
‫خامسا‪ ،‬إن جهنم القرآن ال تناسب نفسيتهم‪ .‬سادس ًا‪ّ ،‬‬
‫قصص القرآن يحتاج إلى النضج العقلي والوجداني وإال أحدثت‬
‫جرحا دفينا في الوعي الطفل‪ ،‬من قبيل قصة النبي إبراهيم الذي‬
‫حمل السكين وأراد أن يذبح ابنه استجابة لرؤيا لع ّله أخطأ تأويلها‬
‫وفق تفسير ابن عربي‪.‬‬
‫صدق ًا‪ ،‬إذا تخ ّلصنا من عقيدة النفاق سيبدو الكالم معقوال ‪:‬‬
‫تلقين القرآن الكريم لإلطفال الصغار اختيار غير مناسب‪ .‬وكفى‬
‫بحالنا اليوم شهيد ًا‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫وفي لحظات الصدق قد يتساءلون ‪ :‬متى يتحقق اإلسالم في‬
‫المسلم؟ متى يتخ ّلق المسلم باألخالق اإلالهية (أو االنسانية)؟‬
‫ْ‬
‫قل لهم ‪:‬‬
‫الغمة عن األ َّمة‪ ،‬وتشرق شمس الحياة‪ ،‬وتسقط‬
‫عندما تزول َّ‬
‫والسكاكين الغادرة‪ ،‬وتنقشع غيوم ال ُعنف‬‫ّ‬ ‫األحزمة النّاسفة‬
‫سودت سماءنا وبعثرت آمالنا‪ ،‬وحين تعود الحياة‬‫التّكفيري التي ّ‬
‫‪214‬‬
‫إلينا أو نستردها من بين ثنايا ثقافة الموت‪ ،‬فنرى صور الجمال‬
‫اإللهي في أنفسنا وفي ما حولنا‪ ،‬ونسمع صوت الله في رنين‬
‫الرطبة وعبق‬
‫األوتار العذبة وخرير المياه الدّ افقة وهمسات الشفاه ّ‬
‫الياسمين‪ ،‬وقتها فقط‪ ،‬وفقط وقتها‪ ،‬يتحقق اإلسالم في المسلم‪.‬‬
‫عندما نمسح عن وجه الله آثار الدماء اآلدم ّية التي ُسفكت‬
‫الذبح السري‪ ،‬ونكسر‬ ‫ونفك وثاق ديننا لنخرجه من معابد ّ‬
‫ّ‬ ‫باسمه‪،‬‬
‫وشوهت أحوالنا وأفسدت سمعة‬ ‫ّ‬ ‫طوقت أعناقنا‬
‫السكاكين التي ّ‬
‫ديننا وض ّيعت مالمح الله التي كانت ترتسم في بسمة طفل بريء‪،‬‬
‫سيتحقق اإلسالم في المسلم‪.‬‬
‫عندما نمسح عن مالمح الله تلك الكآبة التي رسمها دعاته‬
‫العابسون‪ ،‬ونعيد إلى وجهه بسمة الحياة التي فارقته منذ حل‬
‫التكفيريون بتهافت أضدادهم‪ ،‬وقتها فقط‪ ،‬وفقط وقتها‪ ،‬يصبح‬
‫المسلم مسلم ُا‪.‬‬
‫عندما نتخلص من الجهلوت الجاثم على أنفسنا وأنفاسنا‬
‫عقود ًا طويلة من العبث والعدم ومقارعة الريح للوصول إلى‬
‫السراب‪ ،‬فنخرجه من أنفسنا وأسمائنا‪ ،‬حتى يترك لنا بياض الوقت‬
‫نملؤه باألمل ما استطعنا إليه سبيال‪ ،‬يصبح المسلم مسلم ًا‪.‬‬
‫عندما نرسم قبلة رطبة على جبين الله‪ ،‬ونحوم حوله مثل‬
‫األطفال‪ ،‬مثل المالئكة‪ ،‬مثل الفراشات المتحلقة حول األميرة‬
‫النائمة‪ ،‬يصبح المسلم مسلم ًا‪.‬‬
‫يحب أن يرى أثر نعمته على عبده‬
‫ّ‬ ‫عندما يفهم المسلم أن الله‬
‫وأن ليس هناك من نعمة أعظم من العقل‪ ،‬وليس هناك‬ ‫كما يقال‪ّ ،‬‬
‫‪215‬‬
‫من أثر لنعمة العقل أعظم من التفكير‪ ،‬وقتها فقط يصبح المسلم‬
‫إنسان ًا‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫معنى أن أكون مسلم ًا ‪:‬‬
‫أن أكون مسلم ًا ال يعني أن ألعب دور األبله في عالم ال يحترم‬
‫المجرات‬
‫ّ‬ ‫أتفرج على المجتمعات تغزو‬ ‫األغبياء؛ وال يعني أن ّ‬
‫واقف أسأل ببالهة عن جواز ركوب‬ ‫ٌ‬ ‫وتقلب قوانين الحياة وأنا‬
‫النساء للحمير؛ وال يعني أن أسكن في الدّ رك األسفل من حضيض‬
‫علي‪ ،‬وأظ ّن ّ‬
‫بأن العالم يحسدني‬ ‫ثم أحسب كل صيحة ّ‬ ‫الحضارة‪ّ ،‬‬
‫أغض البصر عن فسق الفقر‬ ‫على «نعمة اإلسالم»؛ ال يعني أن ّ‬
‫والعنف‪ ،‬عن إثم القهر الخوف‪ ،‬عن فجور الجهل والتخلف‪ ،‬ثم‬
‫مجرد تنّورة أو سروال‪ ،‬أو رقصة أو‬ ‫أرى الفساد كل الفساد في ّ‬
‫تمثال‪ ،‬أو لوحة فنان أو فن من الخيال‪ .‬أي نعم‪ ،‬ال يعني اإلسالم‬
‫أن ألعب دور األبله في عالم ال يحترم األغبياء‪.‬‬

‫‪216‬‬
‫محا�شرة في جاكارطا(((‬

‫توطئة‬

‫إلى أين تتجه الحضارة البشرية؟ سؤال قد ال نجد له جواب ًا‬


‫أن التقدّ م ال يتح ّقق من دون فرض ّيات‬
‫جاهز ًا اآلن‪ ،‬لكن المؤكد ّ‬
‫ال ‪ :‬هل سينتصر‬ ‫ال في بعض األجوبة المتاحة‪ ،‬مث ً‬
‫عمل‪ .‬لنفكر قلي ً‬
‫اإلنسان على الطبيعة كما يرى ديكارت‪ ،‬أم سيتصالح معها كما يرى‬
‫ميشيل سير؟ هل يسير النمو وفق خط ال نهائي كما ظ ّن فالسفة‬
‫العصر الصناعي‪ ،‬أم علينا أن ندخل مرحلة الالّنمو كما يردد بعض‬
‫فالسفة العصر ما بعد الصناعي؟‬
‫تحديد ًا‪ ،‬إلى أين نسير‪ ،‬نحو مجتمع يملك فيه كل شخص ما‬
‫يريد وفق فلسفة االقتصاد الحر‪ ،‬أم مجتمع يملك فيه كل شخص‬
‫ما يحتاجه وفق فلسفة االقتصاد الموجه؟ هل نتجه نحو تقليص‬
‫الفوارق الثقافية وتحقيق الوحدة الثقافية للنّوع البشري كما كان‬
‫(‪ )1‬محاضرة ألقيتها ضمن فعاليات المؤتمر الدولي لسفراء للسالم للحرية الدينية‪ ،‬المنعقد في‬
‫*‬
‫جاكارطا (اندونيسيا)‪ ،‬بين ‪ 15‬و‪ 19‬شتنبر ‪2013‬‬

‫‪217‬‬
‫يرى هيجل‪ ،‬أم نحو تأكيد التنوع وترسيخ الحق في االختالف‬
‫الثقافي كما يرى فالسفة االختالف؟ هل نبتغي المساواة التامة بين‬
‫بني البشر وفق أحالم ماركس‪ ،‬أم الحق في التم ّيز والتفوق وفق‬
‫رؤى نيتشه؟ هل نتجه نحو كونية معايير العدالة اإلنسانية كما يأمل‬
‫جل الفاعلين الدوليين‪ ،‬أم نتجه نحو نسب ّية تلك المعايير وفق رؤية‬
‫يسمى بيسار ما بعد الحداثة؟‬
‫ما ّ‬
‫رغم صعوبة تناول أسئلة فلسفية من هذا الحجم‪ّ ،‬‬
‫فإن األمر‬
‫مجرد ترف فكري؛ ذلك أن التقدّ م اإلنساني يحتاج بالفعل‬ ‫ليس ّ‬
‫إلى فرضيات عمل تحظى بقدر من االستيعاب والقبول؛ إذ قبل‬
‫السؤال الكبير «ما العمل؟» هناك سؤال الجدوى‪« ،‬لماذا نعمل‬
‫أصالً؟» أي‪ ،‬ألجل أي غاية سنعمل؟ سؤال الجدوى هو بالضبط‬
‫سؤال المعنى‪.‬‬
‫ثمة رؤية جذرية تقول إن اإلنسان ليس أفضل‬ ‫في زحمة اآلراء ّ‬
‫مجرد‬
‫الكائنات وال هو غاية الغايات كما كان يظ ّن كانط‪ ،‬بل هو ّ‬
‫نوع بيولوجي يجب أن يقنع بحظه ونصيبه و َقدره في هذا الكون‬
‫الذي لم ُيخلق ألجله كما تقول جماعة النوتيقا مثالً‪ ،‬وربما قدره‬
‫أن يواجه دورات االنقراض الكبرى إسوة بسائر األنواع كما ترى‬
‫بعض المنظمات البيئية المغالية في نقد المركزية االنثروبولوجية‬
‫لإلنسان‪.‬‬
‫مؤكد أن ال يقين لنا حول شكل الحياة البشرية بعد عشرات‬
‫السنين‪ ،‬أو حتى مئات السنين‪ .‬لكن هناك شيء واحد نعرفه ‪:‬‬
‫الراوي الوحيد لحكاية‬‫في كل األحوال‪ ،‬يظل اإلنسان هو ّ‬
‫الرواية‪ ،‬يظل اإلنسان‬
‫يكف عن أن يبقى بطل ّ‬
‫ّ‬ ‫الوجود حتى حين‬

‫‪218‬‬
‫الحالم الوحيد في هذا الوجود حتى حين يقرر أن ال يبقى هو‬
‫موضوع الحلم‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬أمامنا خالصة أساسية ‪ :‬اإلنسان هو الكائن الوحيد‬
‫الذي يحاول أن يجد معنى لوجوده‪ .‬اإلنسان باحث عن المعنى‬
‫ال شريك له في هذه الرحلة‪ ،‬وسيظل بال شريك حتى إشعار آخر‪.‬‬
‫الروح والضمير‬
‫من هنا أهمية موضوع العالقة بين حرية ّ‬
‫والوجدان بتحسين جودة الحياة‪ ،‬أي التنمية المستدامة‪.‬‬
‫اختصار ًا‪ ،‬بوسعنا أن نُعرف التنمية المستدامة من حيث أنها‬
‫تنمية تتمحور حول ثالث غايات كبرى ‪:‬‬
‫‪ -‬دوام النوع البشري‪.‬‬
‫‪ -‬تنمية قدرات األفراد على المساهمة في تحسين نوعية‬
‫الحياة‪.‬‬
‫‪ -‬ترسيخ قيم التضامن اإلنساني ‪ :‬في مستوى المكان بين‬
‫الشعوب‪ ،‬وفي مستوى الزمان بين األجيال‪.‬‬
‫الغاية األولى تصطدم ببعض األصول ّيات الدينية المتمحورة‬
‫حول فكرة نهاية العالم (األر َمجيدون)‪ ،‬ال سيما في المسيحية‬
‫الغربية‪.‬‬
‫الغاية الثانية تصطدم ببعض األصوليات الدينية المتمحورة‬
‫حول فكرة ما بعد الموت (اآلخرة)‪ ،‬ال سيما في اإلسالم‪.‬‬
‫الغاية الثالثة تصطدم ببعض األصوليات الدينية المتمحورة‬
‫حول فكرة الطائفية‪ ،‬مثل األمة بالنسبة لألصوليات اإلسالمية‪،‬‬
‫وشعب الله المختار بالنسبة لألصوليات اليهودية‪.‬‬
‫‪219‬‬
‫هكذا‪ ،‬سنحاول أن نثير أفكار ًا حول أثر الحرية الدينية في‬
‫تحرير الطاقة الحيوية لإلنسان لغاية المساهمة اإليجابية في‬
‫دوام النوع البشري وتحسين نوعية الحياة وترسيخ وحدة النوع‬
‫اإلنساني‪ ،‬وكل ذلك أمال في تحسين ظروف رحلة البحث‬
‫اإلنساني عن معنى الوجود‪.‬‬
‫وسنعرض لخمس فرضيات ‪:‬‬

‫‪ (-‬الفر�شية الأولى ‪ :‬الحرية‬


‫الدينية اأ�شا�ص ال�شالم‬
‫العالم اإلسالمي اليوم أمام مفترق طرق ‪ :‬إما فتنة ال حدود‬
‫الرئيسية للحداثة هي‬ ‫لها أو حداثة بكل أبعادها‪ .‬وإذا كانت البوابة ّ‬
‫الح ْجر عن وعي اإلنسان بال وصاية من أحد‬ ‫انعتاق العقل ورفع َ‬
‫فإن معضلة دول العالم اإلسالمي أنها ال تعترف بحق‬ ‫على أحد‪ّ ،‬‬
‫التحول الديني‪ .‬بل غالب ًا ما تنحو نحو تجريم االمتناع‬ ‫ّ‬ ‫اإلنسان في‬
‫عن أداء بعض الشعائر الدينية‪ .‬وقد الحظنا كيف يقبع عدد كبير من‬
‫المعتقلين في السجون بسبب االضطهاد الديني سواء في دول «شبه‬
‫ليبرالية» مثل المغرب وتونس‪ ،‬أو دول «شبه دينية» مثل السعودية‬
‫والسودان‪ .‬وهي وضعية تتعارض بنحو صارخ مع المواثيق الدّ ولية‬
‫بالتحول الجنسي‬‫ّ‬ ‫أن بعض األنظمة تسمح‬ ‫لحقوق اإلنسان‪ .‬األدهى ّ‬
‫بالتحول الديني‪ ،‬إيران مثال‪ .‬وفي كل األحوال ليس‬ ‫ّ‬ ‫لكنها ال تسمح‬
‫مستغرب ًا أن تكون المناطق اإلسالمية هي األكثر عرضة للتطاحن‬
‫الديني واالقتتال الطائفي وفق ما تب ِّينه نشرات األخبار اليوم ّية‪.‬‬
‫والواقع أن اإلجماع الفقهي على تجريم الحرية الدينية‪ ،‬قد‬

‫‪220‬‬
‫حول اإلسالم من ديانة فطرية إلى ديانة جبرية وقهرية وتسلطية‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وأنتج طوائف مغلقة متقوقعة وأنشأ أفراد ًا مهجوسين بالخوف‬
‫من «ضياع الدين»‪ ،‬ومن ثم ضياع المعنى الذي ألفوه للوجود‬
‫ونشأوا عليه‪ .‬ولعل الخوف من ضياع الدين ناجم فعال عن إدراك‬
‫أو إحساس بأن الفهم السائد والموروث للدين لم يعد مالئما‬
‫لظروف الحياة المعاصرة‪ .‬لكن‪ ،‬في غياب قدرة الوعي اإلسالمي‬
‫على إبداع تصورات بديلة ومقنعة يبقى الخوف من ضياع الدين‬
‫هو الهاجس السائد‪ .‬غير أن اإلبداع ال يتأتى من دون حرية اإلبداع‪،‬‬
‫بعيدا عن خرافة «كل بدعة ضاللة»‪.‬‬
‫والمالحظ كذلك ّ‬
‫أن الخوف من ضياع الدين غالبا ما يقود إلى‬
‫االنغالق الطائفي والتعصب الديني؛ فالعنف هو ربيب الخوف‪،‬‬
‫هذا يؤدي إلى ذاك‪ .‬وكالهما ينسف أسس العيش المشترك‪.‬‬
‫أمثلة ‪:‬‬
‫‪ -‬في العراق تس ّبب الخوف من ضياع «الهوية السنية» في‬
‫تكريس االنغالق الطائفي وشيوع العنف واإلرهاب‪ ،‬ومن ثمة‬
‫عرقلة إمكانية بناء جيش وطني موحد‪ .‬ولذلك ستبقى العراق دولة‬
‫فاشلة ما بقي األمر كذلك‪.‬‬
‫‪ -‬في مصر‪ّ ،‬‬
‫إن عدم االعتراف بحق األقباط الذين أسلموا في‬
‫العودة إلى مسيحيتهم متى شاءوا‪ ،‬وعدم االعتراف بحق األقباط‬
‫الزواج من مسلمات‪ ،‬كل ذلك يثير احتقانات طائفية تهدد بين‬
‫في ّ‬
‫الفينة واألخرى السلم األهلي‪.‬‬
‫في نيجيريا‪ّ ،‬‬
‫إن إصرار المتعصبين المسلمين على هدم الكنائس‬
‫‪221‬‬
‫وطرد المسيحيين من مناطق الشمال خوف ًا من بوادر االنقالب‬
‫العددي في نيجيريا لصالح المسيحيين‪ ،‬علما ّ‬
‫بأن الشمال يفتقر إلى‬
‫الموارد الطبيعية مقارنة مع الجنوب‪ ،‬إن ذلك يهدد بإشعال فتيل‬
‫الحرب األهلية ودفن وعود االزدهار االقتصادي داخل جمهورية‬
‫ربما تكون قد دخلت فعليا طور النماء‪ .‬كما أن التنافس شبه اليومي‬
‫في العديد من المناطق هناك في رفع صوت اآلذان وقرع أجراس‬
‫الكنيسة يسبب الكثير من التوتّرات الطائفية الخطرة‪.‬‬
‫المصلح الديني األلماني هانس كينغ‪« ،‬ال َسالم بين‬‫يقول ُ‬
‫الشعوب من دون َسالم بين األديان»‪.‬‬
‫نضيف ‪ :‬ال سالم بين األديان دون سالم داخل كل دين على‬
‫حدة‪ .‬لماذا؟ ألن العنف بين األديان ما هو إالّ تفريغ لفائض العنف‬
‫داخل كل دين على حدة‪ ،‬عندما ال يتناسب الفهم السائد للدين مع‬
‫حقائق العصر‪ .‬وهذا ما تؤكده الكثير من المجتمعات التي ينفجر‬
‫عنفها الداخلي في شكل حركات جهادية في «األطراف» وأحيان ًا‬
‫في «األطراف» البعيدة‪.‬‬

‫‪ 2-‬الفر�شية الثانية ‪ :‬الحرية الدينية م�شلحة‬


‫اإ�شالمية‬
‫تُعدّ المصلحة مصدر ًا من مصادر التشريع في اإلسالم‪ ،‬وفق‬
‫ما يؤكده ّ‬
‫جل الفقهاء‪ .‬وهذا بصرف النّظر عن اختالفهم في تحديد‬
‫مرتبة المصلحة ضمن مصادر التشريع‪ .‬إذا كان األمر كذلك فمن‬
‫الواجب التذكير بأن مبدأ الحرية الدينية قد أمسى مصلحة صريحة‬
‫للمسلمين قبل غيرهم‪ .‬لماذا؟‬

‫‪222‬‬
‫مجرد أقليات دينية‬‫أوال‪ ،‬ألن المسلمين اليوم هم أنفسهم ّ‬
‫داخل دول عظمى أو صاعدة‪ ،‬مثل الواليات المتحدة‪ ،‬وألمانيا‪،‬‬
‫وفرنسا‪ ،‬وروسيا‪ ،‬والصين‪ ،‬والهند‪ ،‬وجنوب إفريقيا‪ ،‬إلخ‪.‬‬
‫ألن المسلمين حتى حين يكونون أغلبية‪ ،‬فإنهم ال‬ ‫ثاني ًا‪ّ ،‬‬
‫يكونون وحدهم‪ ،‬كما هو الحال في مصر حيث حوالي أكثر من‬
‫‪ 10‬في المئة من السكان غير مسلمين‪ ،‬وأحيانا ليسوا وحدهم‬
‫بكثير كما هو الحال في لبنان حيث حوالي ‪ 40‬في المئة من‬
‫السكان ليسوا مسلمين‪ ،‬أو في نيجيريا حيث نصف السكان –أو‬
‫يزيد قليال‪ -‬ليسوا مسلمين‪.‬‬
‫ثالث ًا‪ ،‬حتى حين يكون المسلمون وحدهم كما هو الحال‬
‫يتوزعون إلى مذاهب شديدة التنوع‬ ‫في حاالت قليلة‪ ،‬فإنّهم ّ‬
‫واالختالف مثلما هو الحال في ُعمان مثال‪ ،‬تلك السلطنة الصغيرة‬
‫التي تحضن أكبر قدر من المذاهب والطوائف اإلسالمية‪ ،‬سنية‬
‫كانت أم شيعية أم إباضية‪.‬‬
‫رابعا‪ ،‬حين يكون المسلمون وحدهم‪ ،‬ور ّبما على مذهب‬
‫واحد‪ ،‬كما هو الحال في موريطانيا مثال‪ ،‬فإنهم ال يتفقون على‬
‫نفس الفهم والتفسير والتأويل‪ ،‬إذ آيات القرآن نفسها حمالة أوجه‪،‬‬
‫وليس هناك من معيار لتمييز المحكَمات منها عن المتشابهات‪،‬‬
‫إن التأويل ّ‬
‫الذكوري السائد لكافة‬ ‫والناسخ منها عن المنسوخ‪ .‬ثم ّ‬
‫الديانات وضمنها اإلسالم يجعل النساء في وضعية أقلية دينية‬
‫كبرى‪.‬‬
‫أن سيادة قوانين دول ّية تحمي الحريات‬ ‫كل هذا يؤكد ّ‬
‫الدينية على قاعدة مبدأ المعاملة بالمثل‪ ،‬من دون سياسة «الكيل‬
‫‪223‬‬
‫بمكيالين» التي ينتهجها بعض سادة العالم‪ ،‬وكذلك من دون‬
‫أسلوب «االستعالء العقائدي التعويضي» الذي ينهجه بعض‬
‫المسلمين الذين يعانون من الوسواس القهري الجماعي‪ ،‬فإن ذلك‬
‫هو السبيل األضمن لتحقيق مصالح المسلمين في عالم اليوم‪.‬‬
‫(عامل اآلخرين كما تريدهم أن يعاملوك)‪ .‬تلك هي القاعدة‬
‫األخالقية األولى واألكثر تجدّ را في الوعي األخالقي اإلنساني ‪:‬‬
‫يقول كونفوشيوس‪ :‬ال تفرض على اآلخرين ما ال يمكنك أن‬
‫ترضاه لنفسك‪.‬‬
‫يقول طاليس ‪ :‬تجنب القيام بأعمال قد تلوم اآلخرين على‬
‫فعلها‪.‬‬
‫يقول بهاء الله ‪ :‬إن تحولت رغبتك للعدالة‪ ،‬فاختر لجارك ما‬
‫تختار لنفسك‪.‬‬
‫يقول إنجيل لوقا ‪ :‬وكما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا‬
‫أنتم أيضا بهم‪.‬‬
‫يقول نبي اإلسالم ‪ :‬ال يؤمن أحدكم حتى يحب ألخيه ما‬
‫يحب لنفسه‪.‬‬
‫الصياغة المثلى لهذا المبدأ وردت عند فيلسوف التنوير كانط‪،‬‬
‫تشرع القانون للبشرية جمعاء‪.‬‬
‫في عبارة تقول ‪ :‬تصرف وكأنك ِّ‬
‫هذا هو الدرس األساس الذي يجب أن تستوعبه المجتمعات‬
‫الدينية كافة‪ .‬بمعنى‪ ،‬ولغاية التوضيح ‪ :‬إذا أنا ّقررت تأييد منع‬
‫علي أن أفترض السؤال‬
‫التبشير المسيحي في دول الجنوب‪ ،‬فيجب ّ‬
‫‪224‬‬
‫التالي‪ :‬ماذا لو أصبح موقفي تشريعا كوني ًا؟ وقتها‪ ،‬ما مصير الدعوة‬
‫اإلسالمية في دول الشمال؟ بل‪ ،‬ما مصير المساجد الموجودة في‬
‫الواليات المتحدة األمريكية ودول االتحاد األوروبي؟‬
‫المؤكد أن تلكّؤ المسلمين في قبول المبدأ الكانطي بدعوى‬
‫أن عقيدتهم هي األصدق أو األصلح أو األصوب‪ ،‬يدعم وجهة‬ ‫ّ‬
‫نظر أنصار اليمين المتطرف في أوروبا وأمريكا‪ ،‬عندما يطالبون‬
‫بمنع بناء المساجد أو منع الدعوة إلى اإلسالم إسوة بما تفعله‬
‫الدول اإلسالمية من تجريم للتبشير ومنع لبناء الكنائس والمعابد‬
‫األخرى‪.‬‬
‫وهذا ما قد تكون له عواقب في غير صالح صورة اإلسالم‬
‫وحقوق المسلمين أينما حلوا وارتحلوا‪.‬‬

‫‪ 3-‬الفر�شية الثالثة‪ :‬الحرية الدينية �شرورة‬


‫تنمو ّية‬
‫الحرية الدينية شرط من شروط التنمية المستدامة‪ .‬وهذا ليس‬
‫فقط بسبب السالم الذي توفره‪ ،‬والذي هو الشرط األول للتنمية‬
‫ونهضة الشعوب‪ ،‬وإنما ألسباب تتعلق بمنطق التنمية نفسها في‬
‫عالم معولم ‪:‬‬
‫الرمادية‪ ،‬أي دماغ‬ ‫التنمية اليوم‪ ،‬ما ّدتها األولية هي المادة ّ‬
‫اإلنسان‪ ،‬وهي تتوقف على قدرة المؤسسات التّربوية والمعرف ّية‬
‫الذكاءات بكافة أبعادها العقلية‬‫واإلنتاج ّية على تنم ّية وتدبير ّ‬
‫والعاطفية والوجدانية‪.‬‬
‫‪225‬‬
‫الذكاء طاقة إبداع ّية متفجرة يتعذر تنميطها‪ّ ،‬‬
‫فإن‬ ‫وألن ّ‬
‫ّ‬
‫مؤسسات التنشئة االجتماعية التي تلغي الحرية الفرد ّية من حسابها‬
‫عادة ما تنتهي إلى تقزيم الذكاء اإلنساني‪.‬‬
‫وإذا كان حافز التنمية هو البحث عن المعنى الوجودي‬
‫الروحية والتي ال‬‫لإلنسان‪ ،‬أي كيف نريد أن نكون‪ ،‬فإن الحرية ّ‬
‫تفرض على األفراد أي معنى وجودي محدّ د سلف ًا‪ ،‬تبقى السبيل‬
‫األضمن للحفاظ على جذوة الطموح اإلنساني واالندفاع الحيوي‬
‫نحو الخلق واإلبداع وإرادة المعرفة‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬في عالم يعتمد على العلم والمعرفة والتواصل‪ّ ،‬‬
‫فإن‬
‫الذكاء اإلنساني يعني فقر ًا تنمويا مدقع ًا ونضوبا في المواد‬
‫إفقار ّ‬
‫األولية‪ .‬ولذلك ليس مستغربا أن تكون المجتمعات األكثر تطورا‬
‫من حيث التنمية البشرية هي األقل تعصبا في الدين‪ .‬كالمجتمعات‬
‫االسكندنافية‪ ،‬مثال‪.‬‬
‫إنّما‪ ،‬فضال عن الذكاء اإلنساني‪ ،‬تحتاج التنمية في عالمنا‬
‫المعولم إلى قدرة المجتمعات المحلية على جلب المستثمرين‪،‬‬
‫وكسب ثقة أسواق المال‪ ،‬واستقطاب رؤوس األموال‪ ،‬واليد‬
‫العاملة األكثر كفاءة‪ ،‬والعقول المتخصصة‪ ،‬والس ّياح من مختلف‬
‫المجتمعات واألعراق والديانات ونحو ذلك‪ ،‬وهذا ما يحتاج‬
‫إلى بيئة حاضنة للحريات الفردية وتقبل حالة االختالف الثقافي‬
‫والروحي الذي يطبع عالما أمسى قرية صغيرة بالفعل‪ ،‬لكنه أبعد‬
‫ّ‬
‫ما يكون عن قرية تقليدية يعيش أهلها وفق سلوك نمطي‪.‬‬
‫ومثال في بعض المناطق التي تعتمد بالدّ رجة األولى على‬
‫مداخيل السياحة وأموال المتقاعدين األجانب‪ ،‬ثمة مشكلة عندما‬

‫‪226‬‬
‫يصادف شهر رمضان فصل الصيف‪ ،‬والذي هو فصل السياحة‬
‫فضل عدد كبير‬ ‫بامتياز‪ ،‬فتغلق المقاهي والمطاعم طيلة النهار‪ ،‬و ُي ِّ‬
‫من السياح الذهاب إلى دول أخرى‪ ،‬ويسافر عدد من المقيمين‬
‫األجانب ألجل قضاء شهر رمضان في مناطق غير إسالمية !‬
‫هذا‪ ،‬من غير الحديث عن المستثمرين األوروبيين والذين‬
‫يشتكون بصوت خافت –وقد سمعت هذا من بعضهم‪ّ -‬‬
‫بأن قاعات‬
‫الصالة داخل المنشآت اإلنتاجية أصبحت فرصة الستراحة إضافية‬
‫ال يستطيع حتى القانون أن يتدخل بشأنها‪.‬‬
‫الحرية الدينية ال تعني –كما يفهم البعض‪ -‬حرية استغالل‬
‫الدين ألجل تحقيق مصالح شخصية أو فئوية أو طائفية‪ .‬وهذا ما‬
‫أو ّد لفت االنتباه إليه‪ .‬الحرية الدينية ال تعني أني حر في استغالل‬
‫الدين بالنحو الذي أراه أو أريده‪ ،‬وإال فإن معظم المتطرفين‬
‫يلوحون بمفهوم الحرية‪ ،‬ولكن الحرية الدينية تعني على وجه‬ ‫ِّ‬
‫التحديد وكما يقال عن الحرية نفسها ‪ :‬حريتك تنتهي عندما تبدأ‬
‫حرية اآلخرين‪.‬‬
‫مرة أخرى نكون إزاء نفس القاعدة الذهبية‪ .‬كيف؟ قبل أن‬ ‫ّ‬
‫تطالب بالحق في التوقف عن العمل ألجل الصالة‪ ،‬افترض أن‬
‫مطلبك هذا أصبح تشريعا عاما‪ ،‬فما الذي سيحدث؟ سينطبق‬
‫هذا الحق على سائق القطار الذي تستق ّله‪ ،‬وسائق الطاكسي الذي‬
‫تشير إليه‪ ،‬والكهربائي الذي يصلح أعطاب بيتك‪ ،‬والطبيب الذي‬
‫يفحص طفلك‪ ،‬والجمركي الذي يفحص جواز سفرك‪ ،‬إلخ‪.‬‬
‫الحرية الدينية تعني ما يلي ‪:‬‬
‫حق طبيعي‪ ،‬لكنها مسألة شخصية جدّ ًا‪.‬‬
‫ممارسة الدين‪ّ ،‬‬
‫‪227‬‬
‫وبهذا المعنى تساهم الحرية الدينية في تحقيق ثالث مكاسب‬
‫تنموية ‪:‬‬
‫أوالً‪ ،‬من حيث حقوق األقليات‪ ،‬فإنها ِّ‬
‫تيسر ُسبل اندماج‬
‫األقليات في التنمية االجتماعية‪.‬‬
‫مثال ‪ :‬حرية اختيار أو عدم اختيار المواد الدينية كما في‬
‫المدرسة البلجيكية‪ ،‬تعدّ تجربة رائدة في االندماج المدرسي‬
‫ألبناء األقليات‪ ،‬وهو ما ساعد إلى حد بعيد في النجاح الدراسي‬
‫واالجتماعي ألبناء األقليات الدينية‪ .‬وفي المقابل ّ‬
‫فإن فرض‬
‫المواد الدينية لألغلبية قد يصبح عائق ًا أمام النجاح الدراسي‬
‫ألبناء األقليات المذهبية كما هو الحال بالنسبة لسنّة إيران وشيعة‬
‫السعودية‪.‬‬
‫ثانيا‪ ،‬من حيث حقوق المرأة‪ّ ،‬‬
‫فإن حرية المعتقد تزيل كافة‬
‫ثم في‬
‫العوائق والتحفظات المتعلقة بمبدأ المساواة‪ ،‬وتساهم من ّ‬
‫اندماج المرأة ومساهمتها ضمن عملية التنمية‪.‬‬
‫السفر دون رفقة «المحرم» ومنعها من‬
‫ال ‪ :‬منع المرأة من ّ‬‫مث ً‬
‫السياقة في بعض المجتمعات اإلسالمية ألسباب دينية‪ ،‬كل ذلك‬
‫يجعل مساهمة المرأة في التنمية دون الحد األدنى المطلوب‪.‬‬
‫ثالث ًا‪ ،‬عن االنخراط في العولمة‪ّ ،‬‬
‫فإن حرية المعتقد تعمل على‬
‫الروحية والحواجز الدينية التي تعيق انخراط‬
‫إزاحة كافة الكوابح ّ‬
‫الشعوب في دينامية العولمة االقتصادية‪ ،‬وتساهم في ظهور‬
‫مجتمعات مفتوحة بالمعنى البوبري (نسبة على كارل بوبر)‪.‬‬

‫‪228‬‬
‫مثالً‪ :‬جماعة بوكو حرام التكفيرية في نيجيريا والتي أحرقت‬
‫الكثير من الكنائس‪ ،‬يعني اسمها باللهجة المحلية «تحريم التعليم‬
‫العصري»‪ .‬وهو اسم يعني ما يعنيه وسط عالم يقوم على العلم‬
‫والمعرفة‪.‬‬
‫رابعا‪ ،‬من حيث تطوير المهارات الفردية‪ّ ،‬‬
‫فإن حرية المعتقد‬
‫تضمن لألفراد حرية عدم التق ّيد ببعض الشعائر والطقوس التي‬
‫تعيق قدراتهم وطموحاتهم وتمنعهم من المشاركة اإليجابية في‬
‫التنمية البشرية‪.‬‬
‫مثال‪ :‬يصبح فرض الحجاب اإلسالمي أو اليهودي عائق ًا‬
‫والتفوق فيها‪ ،‬مثل السباحة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫للفتيات أمام ممارسة بعض الرياضات‬

‫‪ 4-‬الفر�ش ّية ّ‬
‫الرابعة ‪ :‬الحرية الدينية اأ�شا�ص‬
‫حقوق الإن�شان‬
‫في اإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان ترد الحرية الدينية كحق‬
‫من حقوق اإلنسان‪ ،‬لكن أكثر من ذلك‪ّ ،‬‬
‫فإن الحرية الدينية هي‬
‫أساس المنظومة الحقوقية بر ّمتها‪ ،‬ويترتّب على غيابها غياب سائر‬
‫الحريات األخرى‪.‬‬
‫لماذا؟‬
‫ألن معظم وجهات النّظر التي تعترض جزئي ًا أو كلي ًا على‬
‫ّ‬
‫الحريات الفردية تنطلق من خلفيات دينية منغلقة ومتشددة‪.‬‬
‫فإن الطالبان المعترضين على حق الفتاة في‬ ‫وعلى سبيل المثال‪ّ ،‬‬
‫التمدرس‪ ،‬أو الوهابيين المعترضين على حق المرأة في سياقة‬
‫‪229‬‬
‫السيارة‪ ،‬أو اإلنجيليين المعترضين على حق المرأة في اإلجهاض‪،‬‬
‫الزواج المختلط‪ ،‬إلخ‪،‬‬
‫أو التلموديين المعترضين على الحق في ّ‬
‫جميعهم ينطلقون من تأويالت متشددة للنصوص الدينية يحاولون‬
‫فرضها على المجتمع‪ .‬بل إن كل اعتراض اليوم على الحريات‬
‫الجنسية ينطلق من خلفيات دينية منغلقة‪.‬‬
‫مع واجب التنويه أيض ًا ّ‬
‫بأن الفارق األساس بين الدينيين‬
‫المنغلقين في الغرب وأقرانهم في الشرق يكمن في أن مفعولهم‬
‫عندنا أشد ضراوة وضــرر ًا‪ ،‬لسبب وجيه‪ :‬هشاشة وعي الفرد‬
‫حرة ومستقلة‪.‬‬
‫بوجوده كذات ّ‬
‫‪ 5-‬الفر�شية الخام�شة ‪ :‬الحرية الدينية ك�شرط‬
‫اإن�شاني‬
‫قد ال نختلف في هذا‪ ،‬الدين حاجة روح ّية لغاية تحقيق‬
‫األمن الوجودي الذي يحتاجه اإلنسان‪ ،‬هذا الكائن الذي ألبسه‬
‫القدر ثوب العيش دون أن ُيستشر كما يشكو عمر الخيام‪ ،‬وهو‬
‫فوق ذلك يعي وجوده ال َع َرضي كما يقول سارتر‪ ،‬ويدرك أنه‬
‫الزوال كما ُير ِّدد هايدجر‪ .‬وهنا بالذات ينكشف‬ ‫كائن من أجل ّ‬
‫جوهر التجربة الدينية في بعدها الفردي الخالص مصداق ًا لآلية‬
‫«ال تزر وازرة وزر أخرى»‪ .‬وبهذا النحو من الوعي الذاتي‪ ،‬أو‬
‫الوعي بالذات‪ ،‬ندرك حتمية التسامح مع كل الكيفيات الدينية‬
‫التي يمكن أن يختارها هذا الكائن اإلنساني المتّصف بحالة‬
‫التمرد على الذات‪ ،‬وفق توصيف ألبير كامي‪ ،‬وهو الكائن الذي‬ ‫ّ‬
‫يبقى متمرد ًا حتى أثناء تد ّينه‪.‬‬

‫‪230‬‬
‫التمرد من طبائع القدر‬
‫ّ‬ ‫وليكن‪ ،‬أليس القرآن نفسه يؤكد أن‬
‫اإلنساني «إن اإلنسان لربه لكنود»‪ ،‬وفق آية كريمة من اآليات‬
‫البينات؟!‬
‫فماذا بعد؟‬
‫لسنا نجانب الصواب إذا قلنا إن الشرط اإلنساني سيبدو في‬
‫التحول الديني أو‬
‫ّ‬ ‫أصدق تجلياته وأنصع مظاهره أثناء لحظات‬
‫المذهبي أو الخروج من الدين أو عن الدين أو المذهب‪ .‬وهذا‬
‫مدعوين ليس فقط إلى التسامح الديني مع اآلخر ولكننا‬‫ّ‬ ‫ما يجعلنا‬
‫مدعوون إلى التعاطف الديني مع ذلك اآلخر الذي ال يشبهنا أو لم‬
‫ّ‬
‫يعد يشبهنا أو ارتمى في أحضان َقدَ ر ديني أو مذهبي آخر؛ فلعله‬
‫يكون أصدق تعبير ًا عن كيان اإلنسان من حيث هو كائن م ّيال إلى‬
‫تجاوز نفسه باستمرار‪ .‬وهذا التجاوز هو شرط النّماء واالرتقاء‪.‬‬
‫ونكرر‪ :‬ال يكون التد ّين صادقا وفطريا إال حين‬
‫ّ‬ ‫من هنا نعيد القول‬
‫يكون تلقائيا وعفويا‪ ،‬أي ينطلق من حرية األفراد في االختيار‬
‫الديني بال قيد وال تقييد‪ ،‬وال خوف وال تخويف‪.‬‬
‫الحق الوجداني في أن يختار‬ ‫ّ‬ ‫بمعنى‪ ،‬لكل كائن إنساني‬
‫يشك ويتشاور‪ ،‬يتد ّين ويتحول من دين‬ ‫ّ‬ ‫ويتخ ّير‪ ،‬يتر ّدد ويتح ّير‪،‬‬
‫آلخر‪ ،‬بال إكراه في الدين‪ ،‬حسب آية من آيات الذكر الحكيم‪،‬‬
‫وباألحرى بال إكراه في المذهب أو الطريقة أو الفهم أو التأويل‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬إنه الشرط اإلنساني‪ ،‬ثم إنه الشرط القرآني أيض ًا‪.‬‬
‫أو‪ ..‬وكما أحب أن أقول ‪:‬‬
‫عفوي يستدعي الخروج عن النص‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اإليمان تعبير‬

‫‪231‬‬
232
‫حوار في تون�ص‬

‫في تونس التقيت بالصحفي والشاعر التونسي كمال حمدي‪،‬‬


‫وكان لي معه هذا الحوار ‪:‬‬
‫س‪ :1‬تقول إن الشريعة ليست كالم الله وال هي كالم‬
‫يروج لهذا فإنما هو كاذب‪ ،‬وانها فقط كالم‬‫وأن من ِّ‬
‫الرسول‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫يعرض‬‫الفقهاء واجتهاداتهم على امتداد اكثر من ألف عام وهو ما ِّ‬
‫هذه االجتهادات واالحكام الى التضارب والتناقض‪ ..‬ماذا تقصد؟‬
‫والرسول‪،‬‬
‫االدعاء بأن الشريعة هي كالم الله‪ ،‬أو كالم الله ّ‬
‫مجرد أسطورة من بين األساطير المؤسسة لإلسالم اإليديولوجي‪،‬‬ ‫ّ‬
‫أكان فقهيا أو إخوانيا أو سلفيا أو جهاديا‪ ،‬بحيث ليس هناك من‬
‫يسمى بشرع الله‪.‬‬‫فارق بين هؤالء سوى في إمكانية تأويل ما ّ‬
‫والمؤكد أننا حين نعتبر كالم الله شريعة‪ ،‬أي نعتبره قوانين إلهية‬
‫مطلقة لضبط السلوك البشري في كل المجاالت‪ ،‬فإن رهانات‬
‫التأويل هنا تبقى محدودة ومحسومة على األرجح لفائدة الفهم‬
‫السلفي نفسه‪ .‬لذلك فقد الحظنا كيف كان اإلسالم السياسي‬
‫عاجز ًا في مناظراته الفقهية أمام كل من اإلسالم السلفي واإلسالم‬
‫‪233‬‬
‫الجهادي‪ .‬يتعلق المشكل بالمنطلق نفسه ‪ :‬هل ما يسمى بالشريعة‬
‫هو فعال كالم الله؟ جوابي هو ّ‬
‫أن الشريعة ليست كالم الله وال‬
‫الرسول‪ ،‬لكنها تحديد ًا ذلك المجهود الذي بذله‬ ‫حتى هي كالم ّ‬
‫الفقهاء (من كل المذاهب) على مدى أكثر من ألف عام‪ ،‬وهم‬
‫يحاولون أن يستنبطوا من آيات القرآن أحكاما عامة وقوانين مطلقة‬
‫ّ‬
‫وألن أقوال القرآن لم تكفهم لصياغة‬ ‫صالحة لكل زمان ومكان‪.‬‬
‫قوانين شمولية فقد أضافوا أيضا أقوال الرسول‪ ،‬ثم أقوال الصحابة‬
‫والتابعين عند السنة‪ ،‬وأيضا آل البيت واألئمة عند الشيعة‪ .‬ورغم‬
‫ذلك فإن أقصى ما بلغوه في األخير هو أحكام ترجيحية ومتضاربة‬
‫في كل المسائل‪ .‬المشكلة كما قلنا هي في المنطلق ‪ :‬هل يمكن‬
‫أن نستنبط من القرآن الكريم قوانين للدولة والتجارة والتعليم‬
‫والصحة إلخ؟ فالقرآن نفسه لم يعتبر نفسه كذلك‪ ،‬وهو لم ينزل‬
‫على طريقة التوراة في شكل وصايا قطعية‪ ،‬لكنه خطاب يغلب‬
‫عليه السجع والرمز والمجاز‪ ،‬تشكَّل في سياق سجال حواري بين‬
‫الرسول والوحي من جهة‪ ،‬وبين الرسول وعرب الجزيرة العربية‬
‫بالتدرج‬
‫ّ‬ ‫أن أحكامه تنتهي صالحياتها‬‫من جهة ثانية‪ ،‬والمالحظ ّ‬
‫ال الهجرة‪ّ ،‬‬
‫فإن التحريض القرآني‬ ‫الزمن‪ .‬خذ مث ً‬
‫وفي سياق تقلبات ّ‬
‫أن‬ ‫على الهجرة قد انتهت صالحيته مباشرة بعد فتح مكة‪ ،‬رغم ّ‬
‫اآليات التي تدعو إلى الهجرة ال تزال ضمن النص القرآني‪.‬‬
‫الرسول حصر ًا‬ ‫وكذلك ّ‬
‫فإن كل الوصايا القرآنية التي تخص نساء ّ‬
‫قد انتهت صالحيتها مباشرة بعد وفاة آخر زوجات الرسول‪ ،‬رغم‬
‫ذلك فإن آيات نساء الرسول ال تزال ضمن القرآن الكريم‪ .‬وعلى‬
‫نفس المنوال يمكنني أن أعتبر أن آيات القتال قد انتهت صالحيتها‬

‫‪234‬‬
‫مباشرة بعد اآلية الكريمة (اليوم أكملت لكم دينكم) وهكذا‪.‬‬
‫السؤال اآلن ‪ :‬ماذا بقي من كالم الله؟ الجواب الذي أقوله دائم ًا‪:‬‬
‫بقيت وظيفته التع ّبدية‪ .‬وبهذا النحو أعتقد أن بوسعنا أن ننهي‬
‫أكذوبة قديمة اسمها الشريعة‪.‬‬
‫س‪ : 2‬هل تعتقد أن الشريعة لم تصمد أمام مقتضيات الحداثة‬
‫السياسية ؟‬
‫مزية الحداثة السياسية أنها فرضت على كافة شعوب األرض‬
‫وعيا أخالقيا وحقوقيا جديدا يسائل التراث الفقهي اإلسالمي‬
‫برمته‪ .‬طبعا هناك مقاومات كبيرة يتزعمها اليوم أنصار الشريعة‪،‬‬
‫والرجم والجلد في‬ ‫من قبيل تطبيق أحكام الر ّدة في سورية‪ّ ،‬‬
‫السودان‪ ،‬وما يسمى بالقانون الجعفري المعروض على أنظار‬
‫البرلمان العراقي‪ ،‬والذي يبتغي ضمن ما يبتغيه تحديد سن الزواج‬
‫بالنسبة للفتاة في تسع سنوات‪ ..‬كل هذه المقاومات بقدر ما‬
‫تبدو مخيفة فإنها تعيسة أيضا وتثير الكثير من االستياء حتى في‬
‫الرائدة‬
‫أوساط المسلمين المتد ّينين أنفسهم‪ .‬والمقاومة الشعبية ّ‬
‫اليوم ضدّ أنصار الشريعة في ليبيا تكشف الكثير‪ .‬والس ّبب هو أن‬
‫هناك شعور عام بأن إقحام الشريعة في التفاصيل يد ِّمر اإلسالم‬
‫واإلنسان معا‪ .‬والواقع أن عامة المسلمين اليوم‪ ،‬وبمعزل عن‬
‫أدلجة الدين‪ ،‬يدركون بأن مؤسسة السجن كمؤسسة عقابية حديثة‬
‫المرات من عقوبات دموية من قبيل الجلد‬ ‫تبقى أفضل بعشرات ّ‬
‫والرجم والقطع‪ .‬الجميع يدرك أن التوثيق الكتابي للزواج أضمن‬
‫ّ‬
‫للحقوق من الزواج العرفي بقراءة الفاتحة وترديد عبارات من‬
‫قبيل «أنكحتك ابنتي»‪ ،‬أو «زوجتك نفسي»‪ .‬أي نعم‪ ،‬هناك إدراك‬
‫‪235‬‬
‫صامت في كثير من األحيان‪ّ ،‬‬
‫بأن شريعة الفقهاء لن تصمد طويال‬
‫أمام زحف الحداثة السياسية‪.‬‬
‫س‪ : 3‬بعثت رسالة تقول دافعوا عن عقيدتكم ألنّها جوهر‬
‫وأساس اإلسالم وال تدافعوا عن الشريعة ألنها شريعة الفقهاء‬
‫فقط‪ ،‬كيف ذلك ؟‬
‫جوهر اإلسالم هو العقيدة ‪ :‬ال إله إال الله؛ التوحيد الربوبي؛‬
‫من قال ال إله إال الله دخل الجنة؛ إلخ‪ .‬المشكلة أن الفقهاء قد‬
‫نقلوا مركز الثقل من مستوى العقيدة إلى مستوى الشريعة‪ ،‬والتي‬
‫هي شريعتهم في آخر األمر‪ ،‬ال غير‪ .‬المسألة هنا تتعلق بإرادة القوة‬
‫أي السلطة‪ .‬ذلك أن الشريعة تمنح الفقهاء سلطة اإلفتاء وهي‬
‫يفوضها لهم القرآن وال السنة‪ .‬أما العقيدة‪ ،‬وتحديدا‬ ‫سلطة لم ِّ‬
‫العقيدة اإلسالمية‪ ،‬فإنها ال تمنحهم أي سلطة كيفما كان نوعها‪.‬‬
‫ولذلك ليس مستغربا أننا نسمع الكثير من اللغط عن الشريعة‪ ،‬عن‬
‫أنصار الشريعة‪ ،‬عن تطبيق الشريعة‪ ،‬عن الشعب الذي يريد تطبيق‬
‫شرع الله‪ ،‬دون أن نسمع مثل ذلك اإللحاح حين يتعلق األمر‬
‫بالعقيدة نفسها والتي هي جوهر اإلسالم‪ .‬أقول‪ :‬آن األوان لكي‬
‫نعيد مركز الثقل في اإلسالم من مستوى الشريعة (شريعة الفقهاء)‬
‫إلى مستوى العقيدة (عقيدة التوحيد الربوبي)‪.‬‬
‫س‪ : 4‬الشورى ليست مفهوما إسالميا وإن استعمله القرآن‪،‬‬
‫ألن االستعمال اليعني‬
‫وحتى بوجود سورة قرآنية بهذا االسم‪ّ ،‬‬
‫بالضرورة التملك‪ .‬ماذا تقصد؟‬
‫أوالً‪ ،‬القرآن الكريم لم ينزل دفعة واحدة من السماء‪ ،‬لكنه‬

‫‪236‬‬
‫تشكل في سياق سجالي‪ ،‬تحاوري‪ ،‬تواصلي‪ ،‬توافقي‪ ،‬بل وحتى‬
‫تفاوضي في كثير من األحيان‪ ،‬مع مخا َطبين مباشرين ومحدِّ دين‬
‫في المكان والزمان بنزعاتهم ونزواتهم‪ .‬وإذا كانت غاية القرآن‬
‫الربوبي (ملة إبراهيم)‪ ،‬فقد كان‬
‫هي إعادة ترسيخ عقيدة التوحيد ّ‬
‫يستعمل في المقابل نفس اللغة والمفاهيم والمصطلحات السائدة‬
‫في مكة خالل النصف األول من القرن السابع الميالدي‪ .‬وبالنسبة‬
‫للمفاهيم السياسية فمن الطبيعي أن يستعمل مفاهيم العصر‬
‫الذي كان ينتمي إليه‪ ،‬عصر ما قبل الدولة‪ ،‬وبالتأكيد ما قبل دولة‬
‫المؤسسات بعدّ ة قرون‪ .‬خذ هذا المثال ‪ :‬إن استعمال القرآن الكريم‬
‫لكلمة الخيام ال يعني أن الخيام مساكن إسالمية‪ ،‬وعدم استعماله‬
‫لكلمة ناطحات السحاب ال يعني أن ناطحات السحاب ليست‬
‫مساكن إسالمية أو دينية‪ ،‬إنما هي مصطلحات استعملها القرآن‬
‫الكريم ضمن المتاح اإلدراكي واللغوي؛ ألن غاية القرآن الكريم‬
‫ليست نحت مفاهيم جديدة‪ ،‬فتلك وظيفة الفلسفة وليس الدين‪،‬‬
‫إنما وظيفة الخطاب القرآني هي تبليغ رسالة التوحيد الربوبي‬
‫في سياق ثقافة شبه الجزيرة العربية (لتنذر أم القرى ومن حولها)‬
‫اآلية‪ .‬لذلك قلت إن استعمال الخطاب القرآني لمصطلح الشورى‬
‫ال يعني أن هذا المصطلح قد صار إسالميا أو دينيا‪ ،‬كما أن عدم‬
‫استعماله لمصطلح الديمقراطية ال يعني أن هذا المصطلح ليس‬
‫إسالميا وال دينيا‪ ،‬وفي الحقيقة ليس هناك مصطلح إسالمي وآخر‬
‫غير إسالمي‪ ،‬فالمصطلحات تبقى مصطلحات رائجة في عصر‬
‫معين‪ ،‬والمصطلحات الواردة في الخطاب القرآني هي وسيلة‬
‫لتبليغ العقيدة (ما على الرسول إال البالغ)‪ .‬الشورى مصطلح‬
‫‪237‬‬
‫ينتمي إلى العالم القديم‪ ،‬واستعماله من طرف الفقهاء كان يندرج‬
‫ضمن إسالم القدامة‪ ،‬وأما التخلي عن ذلك المصطلح اليوم فإنه‬
‫ال يعني بأي حال أننا قد تخلينا عن مصطلح قرآني أو ديني‪ ،‬وإنما‬
‫يعني فقط أننا تخلينا عن مصطلح ينتمي إلى عصر ما قبل بناء‬
‫الدولة‪ ،‬وبالتأكيد عصر ما قبل دولة المؤسسات بزمن طويل‪.‬‬
‫س‪ : 5‬أنت تتبنّى مقولة أن تكون مسلما اليوم معناه أن تكون‬
‫عقالنيا‪ ..‬كيف تفسر هذا التداخل بل التماهي! وما الرابط بين‬
‫االسالم والعلمانية ؟ أال يبدو وكأننا أمام نوع من الفكر الصوفي؟‬
‫بأن التصوف في جوهره النظري‪ ،‬وبمعزل‬ ‫أعترف ابتداء ّ‬
‫عن النزعات ال ُط ُرقية التي أفسدته‪ ،‬بقدرما ابتعد عن السلطة وعن‬
‫الصراع حول السلطة فقد اقترب من مقاصد العقيدة‪ .‬وأعلى مقاصد‬
‫العقيدة أن نحب الله‪ .‬في المقابل‪ ،‬يبقى الخوف أو التخويف من‬
‫الله مشروع السلطة السياسية المستبدة والتي تستثمر الخوف‬
‫تحرر والخوف عبودية‪ .‬لذلك فإن العشق اإللهي‬ ‫الحب ّ‬‫ّ‬ ‫لصالحها‪.‬‬
‫كان تحريرا لالنسان المؤمن من إيديولوجيات الخوف والرعب‬
‫والرهاب‪ .‬لكن‪ ،‬وفي المقابل‪ ،‬فإن مشكلة التصوف تكمن في‬
‫يحصن نفسه من عوالم الخرافة‪ ،‬هنا معضلته‪ ،‬وهنا نحتاج‬ ‫أنه لم ِّ‬
‫إلى استدعاء العقل أيضا‪ ،‬أي الحفاظ على أكبر قدر ممكن من‬
‫المعقولية في كل التجارب اإلنسانية بما في ذلك التجربة الدينية‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬يجد المسلم نفسه اليوم أمام مأساة كبيرة‪ ،‬لكن أمامه أيضا‬
‫فرصة أكبر تتمثل في الوعي بمكانته ودوره وسط عالم متداخل‬
‫ومع َّقد‪ .‬في عالم اليوم‪ ،‬لم يعد المسلمون يعيشون لوحدهم‪ ،‬في‬
‫ما كانوا يصطلحون عليه باسم دار اإلسالم‪ ،‬بل صاروا أقليات‬

‫‪238‬‬
‫ضمن دول عظمى أو صاعدة‪ ،‬أمريكا‪ ،‬دول االتحاد األوروبي‪،‬‬
‫روسيا‪ ،‬الهند‪ ،‬الصين‪ ،‬جنوب إفريقيا‪ ،‬نيجريا‪ ،‬وينتظرهم دور‬
‫كبير في حفظ الوحدة الوطنية والسلم األهلي لتلك الدول‪ ،‬عبر‬
‫ترسيخ ثقافة الحياد الديني والمذهبي‪ .‬وليس أمامهم خيار آخر‬
‫غير هذا‪ .‬ثم إنهم حتى حين يمثلون األكثرية في كثير من الدّ ول‬
‫فإنهم ال يكونون لوحدهم‪ .‬وعليهم مراعاة هذا المعطى‪ .‬بل وحتى‬
‫يتوزعون إلى طوائف ومذاهب قد‬ ‫حين يكونون لوحدهم فإنهم ِّ‬
‫تتناحر مثلما يحدث في العراق واليمن وسورية‪ .‬ما يعني أن مسألة‬
‫الحياد الديني والمذهبي للدولة يكاد يصبح نوعا من «الفريضة‬
‫اإلسالمية»‪.‬‬
‫س‪ : 6‬اعتبرت أن الظالمية (الناس يتسلطون على رقاب‬
‫بعضهم) هي أشدّ خطرا وضررا على الحرية من االستبداد (الدولة‬
‫تتسلط على رقاب الناس) كيف ذلك ؟‬
‫قلت هذا الكالم قبل انطالق موجة ما ُس ّمي بالربيع العربي‪،‬‬
‫سيكون الخروج من االستبداد أسهل من الخروج من الظالمية‪.‬‬
‫ألن الدولة حين تتسلط على رقاب الناس فإن آليات‬ ‫لماذا؟ ّ‬
‫المقاومة تبقى ضمن المتاح‪ ،‬بصرف النظر عن حجم التضحيات‬
‫المطلوبة‪ ،‬لكن المعضلة كل المعضلة‪ ،‬حين يتسلط الناس أنفسهم‬
‫على رقاب بعضهم البعض‪ ،‬حين يك ِّفرون بعضهم‪ ،‬حين َّ‬
‫يتلصصون‬
‫على بعضهم‪ ،‬حين يفتشون في الحياة الخاصة لبعضهم‪ .‬نعم‪،‬‬
‫قد ال يوجد كهنوت رسمي‪ ،‬لكن يلعب كافة الناس في المقابل‬
‫دور الكهنوت‪ .‬وهنا المعضلة الكبرى‪ .‬فأنت قد تجد نفسك في‬
‫غياهب السجن ألسباب تتعلق بالحريات‪ ،‬لكن الكارثة اإلنسانية‬
‫‪239‬‬
‫هي حين تجد نفسك في السجن وفي المقابل يتبرأ منك المجتمع‬
‫والعائلة واألهل‪ .‬السجن يمكن مقاومته‪ ،‬لكن األمر الثاني تصعب‬
‫مقاومته‪.‬‬
‫س‪ : 7‬هل يمكن أن نصنف ما يحدث في المنطقة العربية على‬
‫أنه زمن انتقام الخرافة من العقل ؟‬
‫تقول إحــدى لوحات غويا‪ ،‬عندما ينام العقل تستيقظ‬
‫األشباح‪ .‬إنها لوحة تقول كل شيء‪ .‬مشكلتنا أننا لم نخرج بعد‬
‫من عصر سبات العقل العربي‪ ،‬دخلنا الربيع السياسي أو نحاول‪،‬‬
‫لكن السبات الشتوي للعقل العربي ال يزال مستمرا‪ .‬لذلك ال تزال‬
‫ترافقنا أشباح العصر الوسيط‪ ،‬وليس مأموال أن نتخلص منها في‬
‫الزمن المنظور‪ ،‬لكني أومن بأن جهدا جهيدا ينتظرنا لغاية إيقاظ‬
‫العقل العربي من سباته الطويل‪ .‬ودعني أعترف لك بأني‪ ،‬صدق ًا‪،‬‬
‫وعبر مؤشرات أتعامل معها على الدوام‪ ،‬أنتظر من تونس معقل‬
‫المصلحين األوائل الكبار‪ ،‬معقل تحديث الخطاب الديني‪ ،‬معقل‬
‫الخطاب الديني القائم على التنوير والتحرير‪ ،‬مهد ثورات الربيع‬
‫العربي‪ ،‬جنّة النساء الرائدات في الفكر والثقافة‪ ،‬أن تحمل لواء‬
‫إيقاظ العقل العربي من سباته العميق‪.‬‬
‫س‪ : 8‬هل العلمانية هي انسحاب الدين أم هي إعادة إنتشاره؟؟‬
‫تقوم العلمانية على وجه التحديد على قاعدتين أساسيتين ‪:‬‬
‫أوال‪ ،‬الحياد الديني والمذهبي للدولة ولمؤسسات الدولة؛ وثانيا‪،‬‬
‫سيادة القانون المدني على قدم المساواة ومن دون تمييز على‬
‫أساس الجنس أو الدين أو العرق أو ما شابه‪.‬‬

‫‪240‬‬
‫يمارس بعدّ ة أشكال‪ ،‬إما من خالل‬ ‫ذلك الحياد الديني قد ً‬
‫اإلعتراف بكافة األديان والمذاهب الدينية‪ ،‬وبجانبها االعتراف‬
‫بالالدينيين على قدم المساواة‪ ،‬مع ضمان سيادة القانون المدني‪،‬‬
‫كما هي تجربة بلجيكا مثال‪ .‬وإ ّما عدم االعتراف بأي دين وال بأي‬
‫مذهب ديني كما هو الحال في فرنسا ودائم ًا مع سيادة القانون‬
‫المدني‪ ،‬وأحيان ًا قد يشترط نوع من االنتماء الديني للملك أو‬
‫للرئيس كما في عدد من الدّ ول االسكندنافية‪ ،‬لكن دون اإلخالل‬ ‫ّ‬
‫بمبدأي العلمانية‪ :‬الحياد الديني للدولة‪ ،‬وسيادة القانون المدني‪.‬‬
‫ال ترتبط العلمانية بالضرورة بحجم التد ّين االجتماعي‪ .‬ذلك‬
‫ألن العلمانية ممكنة سواء داخل مجتمع ترتفع فيه نسبة التدين كما‬
‫هو الحال في السينغال مثالً‪ ،‬أو داخل مجتمع تنخفض فيه نسبة‬
‫التد ّين كما هو الحال في النرويج على سبيل المثال‪.‬‬
‫فإن الذي يتناقض مع العلمانية ليس حجم‬ ‫وفي الحقيقة ّ‬
‫التد ّين االجتماعي‪ ،‬وإنما هو حجم التد ّين السياسي‪ ،‬أي التوظيف‬
‫اإليديولوجي للدين في مجال الصراع على السلطة‪.‬‬
‫س‪ : 9‬هل األصولية هي عودة الدين أم ثورة دينية ؟‬
‫نعم‪ ،‬األصولية ثورة‪ ،‬لكنها ثورة ضدّ روح الدين‪ ،‬ضدّ جوهر‬
‫الدين‪ ،‬ضدّ أساس الدين‪ ،‬ضدّ معقولية الدين‪ .‬األصولية اغتيال‬
‫للدين نفسه من حيث تزعم إحياء الدين‪ .‬خيانة للدين من حيث‬
‫تزعم حمايته‪ .‬لذلك الحظنا ونالحظ باستمرار‪ ،‬أنه أينما تسلطت‬
‫األصولية تركت خلفها موجه قوية من اإللحاد‪ .‬يحدث هذا في‬
‫إيران‪ ،‬ويحدث في السعودية‪ ،‬وكان قد بدأ يحدث في مصر خالل‬
‫‪241‬‬
‫فترة حكم اإلخوان كنوع من االحتجاج السياسي‪ .‬وتلك هي‬
‫النّتيجة الطبيعية ألدلجة الدين وتشويه روح التجربة الدينية‪.‬‬
‫األصولية نسيان للحكم الصادر عن ديننا الحنيف في حق‬
‫الماضي‪ ،‬في حق اآلباء‪ ،‬وفي حق األجداد‪ ،‬وفي حق السلف‬
‫‪-‬أكان سلف ًا صالح ًا أم سلف ًا طالح ًا‪ -‬عندما قال‪( :‬تلك أمة قد خلت‬
‫لها ما كسبت ولكم ما كسبتم وال تُسألون عما كانوا يفعلون)‪.‬‬

‫‪242‬‬
‫على �شبيل الختم‬

‫خالصة القول ومجمل الكالم –وهذا رأينا في مسألة تحديث‬


‫ّ‬
‫والشرط‬ ‫أن الواجب األخالقي‬ ‫الخطاب الديني في اإلسالم‪ّ -‬‬
‫التنموي يستدعيان منّا العمل على تحرير الخطاب الديني في‬
‫اإلسالم من خمسة قيود كانت وال تزال تك ِّبله وتعيق تطوره ‪:‬‬
‫أوالً‪ ،‬تحرير الخطاب الديني من النّظرة السحرية للعالم ‪:‬‬
‫ُخرج النّصوص ّ‬
‫والشعائر‬ ‫ال وال يليق شرع ًا أن ن ِ‬ ‫بحيث ال يجوز عق ً‬
‫عن سياقها التع ّبدي ونستعملها كترياق أو رقية أو وصفة سحرية‬
‫لغاية الخالص من الفقر أو الشفاء من المرض‪ ،‬أو ألجل صرع‬
‫الجن وطرد الشياطين‪ ،‬أو بغية العثور على حلول سريعة لبعض‬
‫السحري‬
‫ّ‬ ‫المشاكل الفردية أو الجماعية‪ .‬فقد كان هذا االستعمال‬
‫للدين وال يزال يمثل عائق ًا كبير ًا أمام بناء مجتمع العلم والمعرفة‪.‬‬
‫ثانيا‪ ،‬تحرير الخطاب الديني من التّوظيف اإليديولوجي‪:‬‬
‫الكف عن استعمال الخطاب الديني في إطار‬‫ّ‬ ‫بحيث يجب‬
‫الصراع من أجل السلطة‪ .‬فقد كان هذا االستعمال وال يزال‬
‫مفتوح ًا على جحيم الفتن التي ال تبقي وال تذر‪ .‬لماذا؟ ّ‬
‫ألن‬
‫‪243‬‬
‫حمال أوجه‪ ،‬ال ُيعرف ُمحكَمه من متشابهه إالّ‬ ‫النص القرآني ّ‬
‫ّ‬
‫من باب التأويل‪ ،‬وال ناسخ أحكامه من المنسوخ إالّ من باب‬
‫الترجيح‪ .‬أما النص الحديثي والصحابي والتابعي فهو ال يمثل‬
‫دائرة محدّ دة أو قابلة للتّحديد‪ .‬وبسبب ذلك يصبح استعمال‬
‫الدين في الصراع على السلطة عائق ًا كبير ًا أمام بناء مجتمع‬
‫التّوافق والتّفاهم والتّواصل والتّعايش‪ .‬بل لم يعد خافي ًا على‬
‫أن التوظيف اإليديولوجي للدين كان وال يزال يمثل أصل‬ ‫أحد ّ‬
‫الفتن في «دار اإلسالم» منذ موقعة الجمل والفتنة الكبرى‬
‫والحشاشين‪ ،‬وصوالً‬ ‫ّ‬ ‫والنّهروان مرور ًا باألزارقة والقرامطة‬
‫إلى داعش والنّصرة وبوكو حرام وغيرها‪.‬‬
‫ثالث ًا‪ ،‬تحرير الخطاب الديني من النفس الغضب ّية‪ :‬فإذا كان‬
‫يصر على اعتبار السياسة وظيفة‬‫مؤسس الفلسفة السياسية أفالطون ّ‬
‫النّفس العاقلة حصر ًا‪ ،‬وليست وظيفة النّفس الغضب ّية على سبيل‬
‫فألن إثارة مشاعر الغضب والحقد واالنتقام‬ ‫ّ‬ ‫اإلضافة أو المثال؛‬
‫ِ‬
‫تد ِّمر قدرة صنّاع القرار على إعمال العقل‪ ،‬وتضعف قدرة النّاس‬
‫أن فن التّخاطب هو أداة‬ ‫على التّواصل العمومي‪ .‬وليس يخفى ّ‬
‫الممارسة السياسة بمعناها األصيل والنبيل‪ ،‬من حيث هي نقاش‬
‫عمومي وتفاوض بالعقل وتوافق بالحس اإلنساني السليم‪ .‬ألم‬
‫يقل فوكو إن السياسة هي فالحة الكلمات؟ وإذا كان األمر على‬
‫يستمر في تدمير أعمدة‬‫ّ‬ ‫ذلك النّحو‪ ،‬ال يجوز للخطاب الديني أن‬
‫مدينة السياسة‪ ،‬ال يمكنه أن يستمر في انتهاج أسلوب التحريض‬
‫والتجييش والتهييج ودغدغة مشاعر االحتراب والحمية والعدوان‪.‬‬
‫والحق يقال‪ :‬إن من يصرخ ال يفكّر‪.‬‬

‫‪244‬‬
‫رابع ًا‪ ،‬تحرير الخطاب الديني من النّزعة الطائفية ‪ :‬وهنا ليس‬
‫ثمة مجال للشك في ّ‬
‫أن النّزعة الطائفية التي يعاني منها الخطاب‬ ‫ّ‬
‫الديني تدمر النّسيج الوطني للمجتمعات مثلما يحصل في العراق‬
‫وأفغانستان‪ ،‬وتهدد الوحدة الوطنية لمجتمعات مثل باكستان‬
‫واليمن‪ ،‬وتكاد تجهز على أحالم التغيير الديمقراطي في مجتمعات‬
‫مثل سورية والبحرين‪ ،‬وهكذا دواليك‪.‬‬
‫خامس ًا‪ ،‬تحرير الخطاب الديني من مفاهيم الفقه التقليدي‪:‬‬
‫وهي مفاهيم رائجة ويقود استعمالها إلى تقويض قيم المواطنة‬
‫وإجهاض ممكنات الحداثة السياسية‪ ،‬من قبيل مفاهيم دار‬
‫اإلسالم ودار الحرب‪ ،‬وعقيدة الوالء والبراء‪ ،‬ومصطلحات كثيرة‬
‫على شاكلة الحريم‪ ،‬والعورة‪ ،‬والطاعة‪ ،‬والجماعة‪ ،‬والرعية‪ ،‬وأهل‬
‫أي ضرر إذا استبدل الخطاب الديني تلك‬ ‫الذمة‪ ،‬إلخ‪ .‬ولسنا نرى ّ‬
‫المفاهيم القدام ّية بمفاهيم حداثية من قبيل المواطنة والتعدد ّية‬
‫والمساواة والتناوب والحرية والحب والطموح واإلبداع‪ ،‬بما في‬
‫ذلك خطاب المساجد من باب أولى‪.‬‬
‫تلك هي العناوين الخمسة الكبرى لغاية تحديث الخطاب‬
‫الديني في عالمنا اإلسالمي‪ ،‬كما نراها ونعيد بسطها إجماال‪ ،‬وفي‬
‫األخير‪.‬‬

‫‪245‬‬
‫المؤلف‪:‬‬

‫‪ -‬سعيد ناشيد‪ ،‬عضو رابطة العقالنيين العرب‪ ،‬عضو‬


‫مؤتمر سفراء للسالم (جاكارطا) كاتب رأي في صحيفة‬
‫العرب الدولية‪ ،‬واالتحاد اإلماراتية‪ ،‬من بين مؤلفاته‪:‬‬
‫‪ -‬االختيار العلماني وأسطورة النموذج‪،‬‬
‫دار الطليعة‪ ،‬بيروت‪.2010 ،‬‬
‫‪ -‬قلق في العقيدة‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بيروت‪.2011 ،‬‬

‫‪246‬‬
‫محتويات الكتاب‬

‫شكر وتنويه ‪7.............................................................................‬‬


‫تقديم ‪9.......................................................................................‬‬
‫ما القرآن ؟ ‪15 ...............................................................................‬‬
‫هل هناك من نص مقدّ س ؟‪23 .....................................................‬‬
‫ما الوحي ؟ ‪35..............................................................................‬‬
‫النص والنّقص ‪49........................................................................‬‬
‫القرآن ليس هو الوحي ‪53............................................................‬‬
‫المصحف ليس هو القرآن ‪61.....................................................‬‬
‫النص والشخص ‪73.....................................................................‬‬
‫ليس القرآن دستور ًا ‪85.................................................................‬‬
‫عبادة النص!‪91.............................................................................‬‬
‫ليس القرآن ِعلم ًا ‪95.....................................................................‬‬
‫ليس القرآن نحو ًا ‪101.....................................................................‬‬
‫ليس القرآن قانون ًا جنائي ًا ‪113.........................................................‬‬
‫الوالء والبراء ‪ :‬عقدة أم عقيدة؟ ‪117.............................................‬‬
‫‪247‬‬
‫وهم التّفسير ‪123............................................................................‬‬
‫الفاتحة والوظيفة التعبدية ‪129......................................................‬‬
‫جغرافية الجنة المحمدية ‪135........................................................‬‬
‫أخالق الحداثة وأخالق القدامة ‪141............................................‬‬
‫وحده المتشدد يقصد ما يقول ‪151...............................................‬‬
‫المدخل األخالقي إلى الحداثة ‪155.............................................‬‬
‫فرضية حول الشهادة ‪163..............................................................‬‬
‫ما اإلسالم؟ ‪167.............................................................................‬‬
‫التفكير في الله ‪181 ........................................................................‬‬
‫شعرية الصحراء وشريعة التصحر ‪185.........................................‬‬
‫الشريعة والقرآن ‪191......................................................................‬‬
‫الحرية الدينية ّأوالً ‪197..................................................................‬‬
‫عظة الصباح ‪205............................................................................‬‬
‫محاضرة في جاكارطا ‪217.............................................................‬‬
‫حوار في تونس ‪233........................................................................‬‬
‫على سبيل الختم ‪243.....................................................................‬‬

‫‪248‬‬

You might also like