Professional Documents
Culture Documents
-2-
فهرس
الفصل الحادى عشر :المصاعب التى يواجهها المرتحل فى العالم السفلى ....ص137
الفصل الثانى عشر :نهاية الرحلة الى العالم السفلى ...........................ص 425
-3-
مقدمة
اقتبست عنوان هذا الكتاب "معبد الكون" من متون هرمس ,و هى مجموعة من النصوص تنسب
الى هرمس مثلث العظمة ,و الذى عرفه قدماء المصريين باسم تحوت ,و هو أحكم ال "نترو"
جاء فى تلك المتون على لسان هرمس مخاطبا تلميذا يونانيا يدعى "أسكليبيوس" هذه العبارات
التى تتحدث عن مصر و أهميتها بالنسبة للوعى الروحى فى تاريخ االنسانية .
*** ان مصر صورة للسماء ,بمعنى أن القوى الكونية التى تنظم الكون و التى تعمل فى السماء
قد تنزلت على أرض مصر .و ان أردت كبد الحقيقة ,فان أرض مصر هى معبد الكون ***
أخبر هرمس مثلث العظمة تلميذه أسكليبيوس بذلك فى سياق نبؤة تنقسم الى جزئين .
فى الجزء األول يتنبأ هرمس بزمن ستصبح فيه مصر – و هى معبد الكون – موحشه ,و ستصبح
الحياة عبئا ثقيال ,و سيتوقف الناس عن رؤية الكون مثيرا للدهشة و االعجاب .سيتحول الدين الى
أغالل ,و يفضل الناس الظلمة على النور .فى ذلك الزمن ستهجر الكيانات االلهية البشر و لن يعد
بمقدور االنسان أن يسمع صوتها .ستصبح حياة البشر على األرض فارغة من الحضور االلهى .
ستصبح األرض مقفرة ,و الهواء ثقيال و خانقا ,و هكذا يصير العالم الى شيخوخة .
يبدو لنا ألول وهلة أن النبؤة تتحدث عن مصير مصر و قدرها ,و لكنها فى الحقيقة ترسم صورة
أكبر يمتد اطارها ليشمل االنسانية كلها و ليس الحضارة المصرية القديمة فقط .
من الخطأ أن ننظر الى مصر باعتبارها كيان ينتمى الى عصر يختلف عن العصر الذى نعيش فيه .
-4-
لقد صارت الحياة عبئا ,و أصبحنا جميعا نحيا فى عالم ملوث ,فارغ من الحضور االلهى .
لقد تحققت نبؤة هرمس و أصبحت مصر (معبد الكون) موحشه .
يقول هرمس أن هذه التجارب المؤلمة سيعقبها – بفضل رحمة االله – ميالد جديد لوعى االنسان
باالله و بالمقدس .سيعود االحساس بالدهشة و الخشوع للحضور االلهى مرة أخرى و يمأل قلوب
البشر .ستصير االنسانية الى يقظة روحانية تجعلها تعود مرة أخرى النشاد ابتهاالت الثناء و الحمد
للسماء .سيكون ذلك بمثابة ميالد جديد للكون ,و انبعاث للطبيعة فى دورة حياة جديدة .
كل ذلك ورد داخل اطار نبؤة تتحدث عن قدر مصر ,اال أن المقصود فى سياق النبؤة ليس مصر
فقط و انما قدر الحضارة الغربية ( التى بلغ تأثيرها كل مكان تقريبا على كوكب األرض ) ,بل قدر
عند تأمل نبؤة هرمس ,نجد أننا بصدد دورة كونية كبرى تلعب فيها مصر دورا رئيسيا باعتبارها
رمزا للوعى الروحى ,و تشمل النبؤة االنسانية كلها و تمتد لتتنبأ بعصرنا الحاضر على وجه
الخصوص .فنحن نعيش حاليا فى نهاية النصف األول من هذه الدورة ,حيث ينهدم معبد الكون
(الذى ترمز له مصر) و لكنه يوشك أن يشيد من جديد ,و هو ما سيحدث فى النصف الثانى من
تظهر مصر فى نبؤة هرمس باعتبارها رمزا لالنسانية كلها و للطبيعة .
استطاع قدماء المصريين أن يعبروا برموزهم الروحانية عن لحظة فارقة فى تاريخ تطور االنسانية
فقد جسدت مصر القديمة قمة النضج و الوعى الروحى و التناغم مع الطبيعة فى مرحلة من مراحل
التاريخ البشرى .لذلك فان غياب الوعى الروحى فى مصر يعنى سقوط االنسانية .
----------
ينشأ االنسان الغربى على االعتقاد بأن العصر الحديث ولد على يد االغريق من جهة ,
و االسرائيليين من جهة أخرى .فاالغريق هم من أتى بالعلم و المنطق ,و االسرائيليون هم من
-5-
أتى بالتوحيد .و هكذا تم تزييف وعى االنسان الغربى بأفكار تقوم على معاداة مرحلة سابقة من
تاريخ االنسانية أصبحت توصم بالخرافة و بالتفكير الغير عقالنى كما توصم بالوثنية .
تلك هى هويتنا الثقافية المعاصرة التى تقوم على وصم الحضارات القديمة و تدينها ,و هى ادانة
و فى الوقت الذى كان فيه االغريق يبدأون عصرا جديدا من العلم القائم على التفكير العقالنى ,كان
هناك عصر آخر ينفلت من بين أيديهم ,و هو عصر كان االنسان يكتسب فيه المعرفة بمنهج
مختلف .
فى ذلك الزمن ,كان قدماء المصريين هم حراس المعرفة الروحانية .
فى العالم القديم ,كان االنسان على اتصال بالقوى الروحانية التى تتخلل الكون و تنظم عمله ,
و كان لديه القدرة على التعامل مع هذه القوى و استحضارها و التواصل معها لخير االنسانية .
و بينما كان االغريق يرخون قبضتهم التى تمسك بأطراف ذلك العالم القديم الذى انتهى زمنه ,بدأت
مرحلة جديدة من الوعى ,حيث أخذ االغريق فى غرس بذور الوعى المادى الضيق القائم على
و اذا نظرنا الى االسرائيليين ,نجد أنهم لم ينشئوا ديانتهم الجديدة وسط فراغ روحى .فقد ظهرت
الديانة االسرائيلية فى عصر األديان القديمة التى يصفها علماء اآلثار بأنها أديان تعددية .
و من وجهة نظر األديان القديمة تعتبر الديانة االسرائيلية غير مفهومة ,فاالسرائيليون أنفسهم ال
يفهمونها اال بصعوبة ,و لم يقبلوا بها اال بعد سلسلة من التعديالت المؤلمة و التى اتسمت فى أغلب
ان النظرة التقليدية للعقل الغربى باعتبار أن جذوره تعود لالغريق و االسرائيليين هى نظرة قاصرة
و لكى تكتمل الصورة يجب أن تشتمل على العالم القديم ؛ العالم الذى أدار له االغريق
-6-
ان روح الحضارة الغربية أقدم و أكثر حكمه مما نعتقد .و عند محاولتنا سبر أغوار الحضارة
الغربية الحديثه علينا أن نوجه وعينا للثقافة التى تقف على الجانب اآلخر و تعتبر نقيضا للثقافة
و حين نفعل ذلك ,سنتمكن من رؤية الصورة كاملة ,و عندها سنكتشف الجذور الحقيقية لهويتنا
و ثقافتنا ,و سنرى بوضوح الطريق الذى ما فتئ االنسان الغربى يسير فيه ببطء و لكن باصرار
ان مصر القديمة تنادينا ,و كأنها جزء مفقود من كياننا .
و أثناء محاولتنا اعادة االتصال مرة أخرى بالقوى الروحانية التى تتخلل عالمنا و تنظمه ,تبرز
مصر القديمة بشكل مطرد لتصبح فى بؤرة اهتمامنا ,و عندما نوجه وعينا الى مصر القديمة ,
سنكتشف أن هناك حوار مفعم بالحيوية بين الوعى الروحى الجديد اآلخذ فى التشكل و بين الوعى
الروحى لالنسانية فى العصر السابق على ظهور الثقافة "االغريقية – االسرائيلية" .
بدأت االنسانية مؤخرا تختبر أنواع من التجارب الروحانية كانت تبدو غير مريحة لالغريق
و االسرائيليين ,فى حين كان قدماء المصريين على دراية عميقة بها .
و برغم أن زمن قدماء المصريين قد ولى اال أن بوسعهم أن يصبحوا رفقاءنا و مرشدينا فى طريقنا
و لكن هذه ليست دعوة من دعوات العصر الجديد ( )New Ageالتى تنادى باحياء الديانة المصرية
الجديدة .ألن وعى االنسان المعاصر يختلف عن وعى االنسان القديم .
لقد مر وعى االنسان بمراحل تطور عديدة يجب علينا أن نحترمها .فال يجب علينا أن ننكر أو
تكمن أهمية مصر القديمة فى أنها تذكرنا بأن لحضارتنا الغربية جذورا أعمق بكثير مما كنا نتخيل ,
ليس فقط من الناحية التاريخية و لكن أيضا على المستوى الروحى .
و اذا كان هرمس قد تنبأ بانبعاث معبد الكون و تشييده من جديد بعد انهدامه ,فان علينا أن نعى
-7-
جيدا أن المعبد حين يشيد من جديد فلن يكون له نفس الشكل الذى انهدم من قبل .فهناك دائما جديد.
ان اعادة تشييد معبد الكون ال تعنى العودة مرة أخرى الى مصر القديمة ,بمعنى اقامة حضارة
نسخة طبق األصل من حضارة مصر القديمة .و انما تعنى أن لدينا اليوم فرصة للدخول فى حوار
مع التجربة الروحية المصرية ,و بذلك نقيم حوارا مع جذورنا الروحانية .
و بعد ادراك هذه الجذور و استيعابها ,يمكننا أن نواجه التحدى الكبير و هو بناء المستقبل .
أدين بالفضل للعديد من األصدقاء الذين ساهموا فى خروج هذا الكتاب للنور ,و من الصعب أن
و لكنى أود أن أوجه الشكر بشكل خاص الى األسماء اآلتية ,و التى بدون مساعدتها و تشجيعها لم
أود أن أشكر كل من سام بتس ( )Sam Bettsو أليسون روبرتس ( )Alison Robertsلقراءتهما
و أود أن أشكر فيكى ياكيبار ( )Vicky Yakehparلمراجعتها اللغوية ,و بارى كوتريل
( )Barry Cottrellلتعليقاته الثاقبة على الكتاب بالكامل و للصور التى رسمها خصيصا لكى تنشر
و أعتبر نفسى محظوظا لمقابلتى ناشرا ذو عقلية ثاقبة و هو كانون البرى ( )Cannon Labrieمن
و فى النهاية ,أود أن اشكر أصدقائى لوان ريتشاردز ( )Louanne Richardsو آجيت اللفانى
( )Ajit Lalvaniعلى استعدادهم لقراءة الفصول الصعبة من هذا الكتاب و على تشجيعهم الذى ليس
بقلم
جيرمى نيدلر
-8-
Jeremy Naydler
الفصل األول
خريطة ميتافيزيقية للكون
أن أول ما يلفت االنتباه فى مصر هو الشمس .فهى تبدو قوية ,عفية ,متوهجة بشكل أقوى بكثير
من الشمس التى نراها هنا فى أوروبا و التى تبدو فى الغالب ضعيفة و محاطة بالسحب .
تهيمن شمس مصر على الغالف الجوى و تخترقه بأشعتها المتألقة .
يبدو نور الشمس المصرية فى منتهى النقاء و التألق لدرجة أن قدماء المصريين رأوا فيه رمزا
ألحد التجليات االلهية ,أال و هو "شو" و الذى يوصف بأنه "يمأل السماء بالجمال" .
و المنافس الوحيد لجمال ضياء "شو" األخاذ هو الغالف الجوى الذى يعلو فوق السحب و الذى
نراه من فوق قمم الجبال و الذى نلمحه عند سفرنا بالطائرات .
أطلق االغريق على هذا الغالف الجوى األعلى اسم "األثير" ,و هو عبارة عن هواء السماء الذى
يعتبر أنقى و أشف من هواء األرض ,و لذلك اعتقد االغريق أن اآللهة تحيا و تتحرك فيه .
يستطيع المرء أن يتصل باألثير فوق قمة جبل األوليمب عندما يصل الى مستوى السحب .
أما فى مصر ,فالبلد كله يبدو و كأنه يحيا فى تلك األجواء االلهية .
فى مصر يشعر المرء أنه أقرب الى السماء ,الى الينبوع االلهى المقدس الذى ينبثق منه وهج
الشمس فيغمر العالم بنوره .و لذلك أطلق قدماء المصريين على أرضهم اسم "تا -نترو" ,أى
ان تأثير الشمس فى مصر يمتد حتى الى الليل .فالهواء المفعم بطاقة الشمس يكتسب نقاءا يجعل
-9-
النجوم تبدو أقرب الى األرض .
و اذا راقبنا سماء الليل فى مصر خارج المدن ,سنجدها مرصعة بالنجوم .فجسد السماء ينحنى
فوق األرض على هيئة قبة مرصعة بالنجوم .و هذا الجسد المقبب هو جسد نوت ,ابنة تفنوت .
فى الليل يصبح حضور "نوت" ( ابنة "شو" و "تفنوت" ) ذات الجسد المرصع بالنجوم فى نفس قوة
و "نوت" هى التى تلد الشمس من جديد كل صباح .تقول األسطورة أن هناك عالقة متبادلة بين
"شو" و "نوت" من ناحية ,و بين "رع" و "نوت" من ناحية أخرى .حيث يعتبر التوهج (و هو
الصفة المشتركة بين الشمس و النجوم) هو العامل المشترك الذى يربط بين هؤالء جميعا .
و لكن تظل هيمنة الشمس و سطوتها هى األقوى .فالشمس هى ينبوع الحياة ,و رمز الروح
و من أقدم العصور ,ظهرت األناشيد التى تبتهل ل "رع" (رب النور) ,و منها على سبيل المثال
*** أبتهل اليك يا من تطل على العالم باشراقتك ...أنت الشمس المفعمة بالحياة ,و أنت رب األبدية
...يا من يتألق نورا و جماال فى السماء ...و يا من تنبض القلوب بحبه ...ان أشعتك تضئ الوجوه
جميعا ...و ألوانك المتألقة تحيى القلوب ,حين تمأل األرضين بمحبتك ...أيها االله العظيم الذى
خلق نفسه بنفسه ...و الذى خلق األرض جميعا ,و كل ما عليها من بشر و قطعان ماشية و أسراب
طيور ,و كل األشجار التى تخرج من الطين ...يحيا هؤالء جميعا حين تطل عليهم باشراقتك ...
أنت أب و أم كل ما صنعته يداك ...حين تشرق ,تتعلق بك عيونهم ...و يدخل نورك كل قلب ,
عندما تضئ أشعتك أنحاء األرض ,و عندما ترتفع فى السماء ربا لهم ***
ان مثل هذه المشاعر ال تنتاب ساكنى المناطق األوروبية الشمالية التى تغطى سماءها السحب
و الضباب .فنحن (سكان أوروبا) ليس لدينا خبرة عميقة بالعالم الذى يتواجد فيما وراء السحب (أى
السماء) ,و الهواء الذى نستنشقه أكثر كثافة من الهواء الذى يستنشقه سكان مصر .
- 10 -
ربما كان من المستحيل على حضارتنا المادية الحديثه أن تنشأ فى مناخ مصر ,ذلك أن الحضارات
-مثلها فى ذلك مثل النبات – تنتمى الى األرض و تنشأ منها .
تنمو الحضارات من األرض و تزدهر وسط المناخ الذى يالئمها و يلعب النور و الهواء دورا فى
ان قوة النور على أرض مصر كان لها تأثير فعال على الحياة الروحانية ,فقد عملت على شحذ
الحس الروحى لقدماء المصريين الذين عبروا دائما عن امتنانهم لينبوع النور و الحياة الذى يمأل
لم تكن قوة النور هى العامل الوحيد الذى ترك تأثيرا عظيما على شخصية مصر .فهناك عوامل
أخرى ,و منها الطبيعة الجغرافية الفريدة لمصر و التى تتكون من مزيج فريد من قطبين متناقضين
فلوال النيل لكانت مصر صحراء قاحلة .و بفضل النيل ,تبدو مصر و كأنها واحة خضراء كبيرة
صحيح أن الشمس هى مصدر الحياة ,و لكن نور شمس مصر و دفئها ال تظهر أياديه بشكل خاص
ففيما وراء وادى النيل يتحول نور الشمس الدافئ واهب الحياة الى نار تحرق رمال الصحراء بال
ان مياه النيل هى التى تحول قسوة الشمس و نارها الى خصب و نماء .
يبدو وادى النيل شيئا عجيبا فى أعين المسافر الغربى القادم من المناطق األوروبية الشمالية .
فالنباتات التى ال تنمو عندنا اال فى صوبات دافئة تنمو على أرض مصر فى الهواء الطلق و بسخاء
,حيث تصافح أعين المسافر الحدائق المليئة بمختلف األشجار مثل الموز و البلح و المانجو
- 11 -
و الرمان و الجوافة ,و كذلك أشجار الصفصاف .
أينما وليت وجهك فى وادى النيل أو الدلتا رأيت وفرة و غزارة فى المزروعات .
و لكن على المرء أن يتذكر دائما أنه داخل واحة خضراء تحيط بها الصحراء .
الصحراء دائما قريبة ,فهى تقع على بعد بضعة أميال من الوادى ,و فى بعض األحيان تقع على
للصحراء حضور طاغى يشعر به المرء حتى و ان كان فى قلب الواحة الخضراء .
فى مصر يصبح االنسان واعيا بقوة الحياة و فى نفس الوقت بالتناقض الذى تنطوى عليه ,فهى
تزدهر نتيجة االختالف و التناقض فى الطبيعة الجغرافية على أرض مصر .
فى مصر تمتزج األضداد و تتعايش ,ففيها الخضرة الوفيرة للواحة ,و فيها قسوة الصحراء
القاحلة .
فى مصر تتجلى الحياة فى عنفوانها ,و فى نفس الوقت تترامى فيها الصحارى القفار .و هو ما
يجعل المرء يتساءل عن أقدار هذه األرض التى جمعت بين كونها خصبة و موحشه فى نفس الوقت
هنا فى هذه البيئة الفريدة – أكثر من أى مكان آخر فى العالم – يصبح االنسان أقرب الى القوى
الكونية التى تنظم الحياة و الموت و التى تلعب فى حياتنا أدوارا تبدو متناقضة ,و لكنها متكاملة .
تتصارع هذه القوى ,و تتصالح ,و لكن هناك دائما نوع من التناغم و االتزان يحكم هذا التوتر
و الصراع .
تتصارع القوى و لكن ال يفنى أحدها اآلخر .و لذلك فهى تبقى دائما فى حالة اتزان ديناميكى .
أطلق قدماء المصريين على أرضهم اسم "األرضين" .يترجم هذا االسم فى األوساط األكاديمية
عادة بشكل حرفى ,فيقال أنه يشير الى منطقتين رئيسيتين هما الدلتا (مصر السفلى) و الصعيد
(مصر العليا) .و لكن مصر السفلى و مصر العليا هما فى الحقيقة اعادة صياغة لمفهوم آخر أعمق
فمنذ فجر الحضارة المصرية كانت الدلتا (مصر السفلى) هى مملكة حورس ,بينما كان الصعيد
- 12 -
(مصر العليا) هو مملكة "ست" ,غريم حورس و أوزير .
و بعد أن توج حورس ملكا على األرضين (مصر العليا و مصر السفلى) أصبح "ست" هو حاكم
"ست" هو غريم حورس األزلى ,الذى يجب على حورس أن يصارعه و يهزمه .
ان ازدواجية مصر العليا و مصر السفلى ال يقتصر معناها فقط على الدلتا و الصعيد ,و انما هى
تشير أيضا الى ازدواجية حورس و ست ,أى ازدواجية األرض الخصبة (السوداء) و األرض
و عند الغوص فى معنى ازدواجية األرضين بشكل أعمق ,يتضح لنا أن هذا المفهوم يرمز لما هو
للطبيعة فى مصر سحر خاص ,ألن كل جزء فيها يجسد أحد المفاهيم الماورائية و يحاكيه .و قد
كان قدماء المصريين على دراية بذلك السحر ,بل كانوا خبراء فيه .
ترمز ازدواجية األرضين الزدواجية الحياة و الموت التى تتكون من قطبين يناقض أحدهما اآلخر
و لكنه يكمله ,كما ترمز الزدواجية عالم السماء/الروح ,و عالم المادة الخالية من الحياة .
ليس من العجيب اذن أن نكتشف أن اسم حورس (و ينطق "حيرو" باللغة المصرية القديمة) يعنى
"العالى" أو "الذى فى السماء" .حورس اذن يرمز للسماء ,و هى مملكته .
تنطوى الطبيعة الجغرافية لمصر على الجنة و الجحيم معا ,و هما فى حالة صراع دائم ,و لكنه
اذا تأملت شمس مصر بنورها الشفاف واهب الحياة و بنارها الحارقة ستجد أنها تحوى بداخلها نفس
ان الشمس التى تسطع فوق وادى النيل فتخلق الحياة هى نفس الشمس التى تحرق رمال الصحراء
بلهيبها .و هكذا يحوى الكيان االلهى الذى يتجلى فى الشمس (رع) بداخله هذا التناقض .
- 13 -
"رع" هو الينبوع و المصدر لكل ما هو فوق و كل ما هو تحت ,للسماء و األرض ,لحورس و
ست .
فى كل ليلة يبرهن "رع" على ذلك بأن يرتحل فى العالم السفلى الذى تهيمن عليه قوى الموت
و برغم أن قوى الموت تبدو و كأنها تعارض الحياة و تنكر الروح ,اال أن وجود هذه القوى
و هنا علينا أن ننتبه أن "ست" برغم كونه الصورة األولية لكل ما هو سلبى ,اال انه يحمل فى
داخله أيضا نوع من االزدواجية .لم يكن "ست" فى نظر قدماء المصريين رمزا للشر المطلق ,
و انما هو قوة رئيسية من القوى التى يقوم عليها النظام الكونى و على االنسان أن ينظر اليه داخل
تتجلى ازدواجية ست بشكل خاص فى الصحراء .فحرارتها فى منتهى القسوة و ال يوجد فيها أى
ظالل يمكن لالنسان أن يحتمى فيها من الشمس ,اال أن تكويناتها الصخرية و الصمت الذى يخيم
عليها يعتبر شيئا فريدا يفتقده سكان الوادى .فهناك ال يسمع المرء صوت طائر و ال حيوان ,سوى
يتميز وادى النيل بالغنى و التنوع فى مظاهر الطبيعة و أيضا فى سكانه .ففى العصور القديمة ,
و كذلك فى العصر الحديث ,من الصعب أن يختبر االنسان الشعور بالوحدة تماما فى تلك البيئة ,
حيث ال توجد أماكن موحشه و ال غابات و ال أحراش (باستثناء مستنقعات الدلتا) أو تالل يمكن
لالنسان أن يلجا اليها ليحيا حياة العزلة .فمنطقة وادى النيل كلها عبارة عن أرض زراعية .
هنا فى وادى النيل تتداخل حياة الناس مع الطبيعة و تمتزج بها فى تناغم يشكل نسيج اجتماعى
واحد .فالرجال و النساء و األطفال يخرجون للحقول يقودون حيواناتهم من أبقار و ثيران و حمير ,
حتى طيور أبو قردان التى تتجمع فى الحقول تختلط بالفالحين و كأنها من الطيور الداجنة التى
- 14 -
ان أرباب مصر القديمة هم فى المقام األول أرباب األرض الزراعية .و هم جزء من النسيج
االجتماعى لوادى النيل .ينطبق ذلك على كل ال "نترو" (الكيانات االلهية) فى مصر القديمة
باستثناء "ست" ,ألن "ست" دائما خارج حدود وادى النيل ,و يمكن للمرء أن يصادفه عندما يخرج
فى متاهات الصحراء المخيفة ,قد يصادف المرء (أو قد ال يصادف) ثعبانا ساما ,و لكن من
المؤكد أنه سيلقى العزلة و الصمت .هنا فى مملكة ست (و هى الصحراء ) بعيدا عن حضور
الجمع االلهى ,يشعر المرء أنه قد أصبح فارغا من الروح ,و هى الشرط األساسى للبعث من
جديد .
فى مصر ,يتجلى التوازن و التناغم بين األضداد بشكل يدعو للدهشه و االعجاب .
فى مصر تتعايش الحياة و الموت ,الوفرة و الندرة ,النور و الظالم ,الليل و النهار ,الصحبة
و العزلة .
و كل قطب من هذه األقطاب يبرز بشكل واضح ,و هو ما يفسر لنا لماذا كان المصرى القديم يرى
أن مبدأ االزدواجية من أهم المبادئ التى بنى عليها الكون .
ان الطبيعة التى تحيط بالمصرى القديم هى التى علمته القانون الميتافيزيقى الذى يقضى بالتوازن
لذلك كان مبدأ التوازن بين األرضين ,بين حورس و ست (بين األعلى و األسفل) من أهم المبادئ
الروحانية فى الفكر الدينى المصرى ,و هو مبدأ انعكس بشكل خاص فى شخص الملك .
كان "حورس" و "ست" دائما رمزا للتوازن و التصالح بين األضداد ,سواء فى منصب الملكية أو
- 15 -
و كما كانت البيئة فى مصر القديمة -و ال زالت -تجسد مفاهيم ماورائية /روحانية ,كذلك
دورات الزمن و الفصول و المواسم التى تتعاقب و تساهم فى تشكيل تلك البيئة كل عام .
فى الزمن الحاضر انتقلت الهيمنة على تدفق النيل من أيدى ال "نترو" (الكيانات االلهية) الى أيدى
البشر – بعد بناء السد العالى – و لذلك سنحاول معا اعادة رسم صورة اليقاع الطبيعة عند قدماء
فى مصر القديمة كان ايقاع النيل ما بين تدفق و انحسار هو الذى ينظم حركة الزمن و يشكل أهم
كان النهر العظيم (النيل) – مثله مثل كل مظاهر الطبيعة – تجسيدا ألحد الكيانات االلهية .
و الكيان االلهى الذى يجسده نهر النيل هو "حابى" .و قد ظهر فى الفن المصرى القديم دائما على
هيئة خنثى يجمع بين صفات المذكر و المؤنث ,ألنه هو األب و أيضا األم التى تهب الحياة لوادى
النيل .ان صورة حابى ليست تشخيص لنهر النيل ,و انما هى تعبير عن قدرة االنسان فى ذلك
الزمن (زمن الحضارة المصرية القديمة) على رؤية القوى الروحانية التى تتخلل كل مظاهر
الطبيعة ,و التى تعبر عن نفسها و عن وجودها و قدراتها بأن تتجسد فى هذه المظاهر .
كانت الحياة على ضفاف نهر النيل تقوم بشكل كامل على ايقاع الفيضان السنوى للنهر العظيم .
فقد أقيمت على امتداد النهر العديد من األهوسه التى تقسم األراضى الزراعية الى شبكة من
و كل حوض كبير يشكل نواة لمنطقة زراعية تمتد حوله و تعتمد فى رى أراضيها على مياه ذلك
لعبت دورة فيضان النيل و انحساره دورا رئيسيا فى تنظيم الدولة المصرية و تقسيمها االدارى
تبدأ السنة المصرية فى فترة االنقالب الصيفى (منتصف الصيف) بالشروق االحتراقى لنجم الشعرى
قبل شروق الشمس مباشرة ,و ذلك بعد اختفائه لمدة 71يوما .و بعد الظهور االحتراقى لنجم
- 16 -
الشعرى يبدأ النيل فى االرتفاع التدريجى و تشق مياه الفيضان طريقها من أقصى جنوب مصر الى
الدلتا .
و أثناء تدفق مياه الفيضان فى النهر يتحول لونه شيئا فشيئا الى اللون األخضر و ذلك بسبب
الحشائش و النباتات التى تحملها المياه من المستنقعات المدارية أثناء ارتحالها من الجنوب الى أن
و لعدة أيام تفوح رائحة هذه النباتات التى ماتت و أزاحها تيار الماء المتدفق لكى تفسح الطريق
و قد رأى قدماء المصريين فى النيل األخضر فى بداية الفيضان صورة من أوزير الذى يأتى لكى
يطهر مجرى النهر من قوى الموت التى تجسدها تلك النباتات الميته .
و بعد بضعة أيام تأتى موجة أخرى من موجات الفيضان يتحول فيها لون مياه النيل الى اللون
و فى تلك المرحلة يتدفق النهر بقوة و اندفاع ,و يصل ارتفاع الماء فى الصعيد ما بين 41الى 45
قدم ,و بعد بضعة أسابيع يصل فى الدلتا الى حوالى 25قدم .
و من العجيب أن هذه المياه الحمراء المحملة بالطين كانت فى نفس الوقت عذبة و حلوة .
و عند احتفال قدماء المصريين بالفيضان ,كانوا يغتسلون و يتطهرون بتلك المياه تطهرا طقسيا ,
و بعد أسابيع من بدء الفيضان تغمر المياه أرض مصر و تحولها الى بحيرة كبيرة تخفى مالمح
فى القرن األول الميالدى ,و صف "ديودور الصقلى" فيضان النيل قائال -:
*** يأتى الفيضان فيغمر أرض مصر ,فتبدو كلها مغطاه بالمياه ,حيث األرض الزراعية مسطحة
و القرى و المدن مشيدة فوق أماكن مرتفعة قليال ,فيبدو المشهد كله أشبه بجزر سيكالدس اليونانية
يتشابه وصف ديودور الصقلى مع وصف هيرودوت (الذى زار مصر فى القرن الخامس قبل
- 17 -
الميالد) لفيضان النيل .يقول هيرودوت -:
*** حين يفيض النيل ,تتحول أرض مصر الى بحيرة كبيرة ,و تبقى المدن فقط بارزة وسط المياه
فتشبه الى حد كبير جزر بحر ايجه .فى ذلك الوقت من السنة يكون االنتقال فى كل أنحاء مصر
بالقوارب و كل شخص يرتحل من مدينة "نوكراتيس" (مكانها الحالى بمحافظة البحيرة) الى مدينة
كانت هذه الظاهرة التى تتكرر كل عام تثير فى نفوس قدماء المصريين مشاعر البهجة و فى نفس
*** ترتجف القلوب من الرهبة و الخشوع حين ترى النهر العظيم و هو يندفع و يفيض بالماء ,
يأتى الفيضان كل عام فيتدفق ماء النيل بقوة و عنفوان يحطم كل الحواجز أمامه و يزيل الحدود
و يطمس المعالم على وجه ااألرض و يعيد كل شئ الى حالته األزلية حين كان غارقا فى المياه
و اذا زادت قوة الفيضان عن حدودها الطبيعية ,يمكنها أن تزيح قرى بأكملها و تزيلها من على
أما اذا جاء الفيضان بكميات قليلة من الماء ,أقل من احتياجات الناس (و هو األحتمال األكثر
و لكن قدماء المصريين كانوا يتخذون لذلك تدابيرهم ,حيث يتغلبون على مشكلة نقص مياه الفيضان
بتخزين كميات كبيرة من الغالل و الحبوب التى تم انتاجها فى المواسم الزراعية السابقة تحسبا ألى
و مع ذلك فقد كان استمرار نقص كميات مياه الفيضان لعدة مواسم متتابعة يشكل تهديدا حقيقيا
للدولة ,حيث تستنفذ كل كميات الغالل المخزونة و يواجه الشعب خطر المجاعة .
- 18 -
و بخالف أنهار العراق ,كان فيضان النيل دائما ما يأتى بالخيرات ,و هو فيضان يمكن التنبؤ به
و له ايقاع شبه منتظم .يأتى فيضان النيل فى أكثر أيام السنة حرا ,و كان فى نظر قدماء
المصريين واحدا من العديد من األدلة على أن كل شئ فى الكون الذى نحيا فيه يسير وفق نظام
فى الشهور السابقة على موسم الفيضان تتعاظم قوة "ست" و تصبح مهيمنة بشكل ملحوظ ,حيث
تجف األرض و يذبل النبات ,و تلفح حرارة الصيف كل من البشر و قطعان الحيوانات و ينحسر
و يبدو وادى النيل و كأن الصحراء التى تيحط به على وشك أن تبتلعه .
و فى الوقت الذى توشك فيه قوة ست المدمرة للحياة على أن تنتصر ,تحدث المعجزة و تبدأ
مياه النيل فى االرتفاع تدريجيا لتحيى األرض بعد أن أوشكت على الموت .
*** أنت الموجة التى تأتى بصحبة "رع" ,فتغطى الحقول و البساتين ,و تسقى العطشى ,أنت
كان فيضان النيل من الظواهر التى طالما أثارت اعجاب و دهشة الرحالة االغريق ,و منهم يودور
*** يبدو فيضان النيل ظاهرة مدهشه لمن يراها بعينه ,و غير معقولة لمن يسمع عنها بأذنه .فبينما
تنحسر المياه فى كل األنهار األخرى على األرض فى منتصف الصيف ,نجد أن نهر النيل وحده
من بين كل األنهار هو الذى ترتفع مياهه يوما بعد يوم الى أن تفيض و تغطى وادى النيل كله ***
تنقسم السنة فى مصر القديمة الى ثالثة فصول ,كل فصل منها مكون من أربعة أشهر ,و هذه
الفصول هى -:
- 19 -
( )3فصل االنبات /البعث (بيريت) :من ديسمبر الى مارس
و قد ارتبطت دورة تتابع الفصول فى وعى قدماء المصريين دائما بأسطورة موت و بعث أوزير .
ففى موسم الجفاف ,يفتقد أوزير (األخضر) و يموت .و فى ذلك الموسم يتصارع حورس ابن
أوزير مع غريمه "ست" ,و ينتهى الصراع بانتصار حورس الذى تجسده عودة الفيضان .
كان أوزير فى نظر قدماء المصريين هو الينبوع أو المصدر الذى تخرج منه القوى الروحانية التى
تهب الكائنات الحياة و الخصوبة ,و من العجيب أن هذه القوى تنبعث منه و هو فى حالة خمول
كانت عودة الخضرة مرة أخرى للمزروعات بعد موسم الجفاف فى نظر المصرى القديم هى تجسيد
ال تتوقف رمزية تتابع فصول السنة على اعادة تكرار قصة موت و بعث أوزير ,و انما هى أيضا
بمثابة اعادة تكرار لمراحل نشأة الكون .فعندما تغمر مياه الفيضان أرض مصر ,كانت األرض
بذلك تعود الى الحالة األزلية السديمية التى كان عليها الكون قبل أن يبدأ الخلق ,و التى اطلق عليها
و كان انحسار المياه و ارتفاع األرض من تحتها هو اعادة تكرار لحدث وقع عند نشأة الكون ,
أى أن الحدث الكونى األزلى يعيد تكرار نفسه بشكل دورى فى عالم الزمان و المكان .
ان التحوالت التى تعترى الطبيعة عبر الفصول المختلفة على أرض مصر ما هى اال انعكاس
االتجاهات -:
فى مصر ,ال يمكنك أبدا أن تفقد االتجاه .فعلى امتداد وادى النيل الذى يبلغ طوله 011ميل يشق
النيل طريقه من الجنوب الى الشمال ,فيقسم األرض الى قسمين متساويين ,أحدهما شرقى و اآلخر
- 20 -
غربى .
رأى المصرى القديم فى هذا التقسيم الفيزيائى للطبيعة الجغرافية لألرض انعكاسا و تجسيدا لمفاهيم
ميتافيزيقية ,حيث ترمز الضفة الشرقية للنيل لمملكة األحياء التى يطل عليها "رع" بنوره حين يولد
فى األفق الشرقى كل صباح ,بينما ترمز الضفة الغربية للنيل – و خصوصا فى أطراف المناطق
الصحراوية و الجبلية – لمملكة الموتى أو العالم السفلى الذى يذهب اليه "رع" بعد غروب الشمس
و يرتحل فى النهر السماوى (و الذى ينعكس على األرض فى صورة نهر النيل) ,لكى يعود
لم يكن الشرق و الغرب فى نظر قدماء المصريين مجرد اتجاهات فيزيائية ,و انما هى فى نفس
الوقت رموز التجاهات ميتافيزيقية و مفاهيم ميثولوجية تتعلق بأسطورة الخلق .
تنعكس رموز رحلة "رع" النهارية و الليلية بشكل واضح فى الخريطة الجغرافية ألرض مصر .
فالضفة الغربية لنهر النيل هى الجانب الذى تشيد فيه المقابر و المعابد الجنائزية ,ألن هنا – فيما
وراء األفق الغربى – ينزل "رع" الى العالم السفلى ليبدأ رحلته الليلية الى مملكة الموتى .
أما الضفة الشرقية للنيل ,فهى المكان الذى يبعث فيه "رع" ,و يولد من جديد كل صباح فى األفق
الشرقى ,حيث تتحول العيون و الوجوه اليه و هو يوقظ النائمين و يجدد الحياة .
و كما تنقسم أرض مصر (من الناحية الجغرافية و كذلك الميثولوجية) الى نصفين أحدهما شرقى
و اآلخر غربى ,تنقسم كذلك الى نصفين أحدهما شمالى ,و هو الدلتا حيث األرض الزراعية
المنبسطة ,و اآلخر جنوبى و هو الصعيد ,حيث وادى النيل الضيق الذى تحيط به الجبال
و كما تعبر ازدواجية الشرق و الغرب عن مناطق ميتافيزيقية و مفاهيم ماورائية ,كذلك تعبر
عند النظر الى الجنوب ,يخيل للمرء أنه ينظر الى منطقة ماورائية غامضة ,حيث يوجد ينبوع
الحياة .
- 21 -
نظر المصرى القديم الى المنابع التى تأتى منها مياه النيل نظرة ميثولوجية ,باعتبارها انعكاس
لرموز قصة الخلق .فقد اعتقد قدماء المصريين أن نهر النيل المقدس يأتى لألرض من ينبوع يوجد
فى ال "دوات" ,و هى كلمة تترجم عادة بمعنى "العالم السفلى" و لكنها فى الحقيقة ترجمة غير
كان ال "دوات" فى نظر قدماء المصريين هو منطقة وسطى بين عالم األرض و عالم الروح أو
العالم السماوى ,و برغم أن ال "دوات" هو العالم الذى تقع فيه مملكة الموتى ,اال انه فى نفس
الوقت الينبوع الذى تأتى منه الحياة و الصحة و الخصوبة الى العالم المادى .
و لذلك كان رب الدوات (أوزير) هو فى نفس الوقت القدرة الكامنة فى فيضان النيل على تجديد
و عندما ننظر الى الجنوب يبرز أمام أعيننا أوزير ,و أسطورة موته و بعثه .
كان قدماء المصريين يرون أوزير فى نصف القبة السماوية الجنوبى فى مجموعة نجوم أوريون
أما الفيضان نفسه فكانت عالمة بدايته هى ظهور ايزيس فى السماء فى صورة نجمة "سوبدت"
(الشعرى /زيريوس) و ذلك بعد بضعة أيام من عودة ظهور أوريون من تحت خط األفق الجنوبى .
تقول األسطورة أن الفيضان هو دموع ايزيس على زوجها المقتول أوزير ,و هى الدموع التى
تسقط من السماء من نجمة "سوبدت" الالمعة الى النهر الجاف فتملؤه بالمياه .
فاذا أدرنا ظهرنا للجنوب الذى يرمز للدوات (العالم السفلى) و اتجهنا الى النصف الشمالى من قبة
السماء ,سنشاهد النجوم القطبية الشمالية و التى يطلق عليها النجوم التى التأفل (أى التى ال تختفى
تحت خط األفق) ,و لذلك كانت فى نظر قدماء المصريين رمزا للخلود .
كانت النجوم الشمالية التى ال ينقطع دورانها حول القطب الشمالى و التى ال تأفل هى الوجهة التى
تقصدها أرواح الموتى المبجلين ,و هى تمثل عالم الروح النقى الذى يقع فيما وراء ال "دوات"
- 22 -
أن يقف المرء و يولى وجهه شطر الجنوب ,ذلك هو الوضع الذى كان قدماء المصريين يتخذونه
فى أرضهم الحبيبة "تا -مرى" .
كان قدماء المصريين يطلقون على اتجاه الجنوب لقب "الوجه" ,بينما كان اتجاه الشمال فى نظرهم
هو "الخلف" .و اتجاه الشرق هو اليسار ,بينما الغرب هو اليمين .
فى الحقيقة ال يوجد مكان آخر فى العالم تتحدد فيه الجهات األصلية األربعة بمثل هذا الوضوح الذى
فى مصر ,تشعر و كأن جذورك ضاربة فى األرض ,ألن الجهات األصلية فى المكان تقابل
جوانب جسم االنسان بشكل واضح و محدد بحيث ال يمكنك أبدا أن تفقد االتجاه اذا نظرت الى
و من هذه الطبيعة الجغرافية الفريدة يمكننا أن نستشف السبب فى ايمان المصرى القديم بأن كل شئ
فى الكون يسير وفق نظام محكم .فهناك النهر العظيم ,و هناك األرض الخصبة السوداء ,و هناك
الصحراء القاحلة ,و هناك الشمس التى ترتحل فى مدارها الفلكى كل يوم من الشرق الى الغرب .
و أيا كان الموضع الذى يقف فوقه المرء فى وادى النيل فهو دائما يقف وسط تقاطع يحدده تيار
النيل المتدفق من الجنوب للشمال من جهة ,و يحدده مسار الشمس من الشرق الى الغرب من جهة
أخرى .
أينما وقف المرء فى وادى النيل ,يمكنه أن يتخيل كيف كان قدماء المصريين يرون أنفسهم فى
و من األشياء الجديرة بالتامل أن المصرى القديم لم يكن يرى أرض مصر فقط مركزا للكون ,
و انما كان (بشكل ما) يرى أنها هى الكون أو العالم كله .
لذلك أطلق قدماء المصريين على أرضهم لقب "التى تدور حولها الشمس" ,و كأنها هى كوكب
ان اطالق هذا االسم على أرض مصر ال يعنى أن قدماء المصريين كانول يجهلون وجود بالد
أخرى تقع خارج حدود مصر ,و ال يعنى استعالءهم على البالد األجنبية ,و انما يعبر ذلك عن
- 23 -
شعور كان يميز عالقة االنسان القديم بوجه عام باألرض التى يعيش عليها ,و هو شعور بأن هناك
حضور أو تجلى للكل (األرض جميعا) فى تلك البقعة المحددة التى ولد فيها االنسان و التى يسكنها.
يتجلى هذا الشعور كحقيقة و يكتسب قوة خاصة فى مصر ,بفضل مناخها و طبيعتها الجغرافية
الفريدة .
- 24 -
الفصل الثانى
التداخل بين أبعاد الكون
يمتلك الزائر لمصر فى العصر الحديث وعيا بالطبيعة و شعورا بالذات يختلف تماما عن وعى
ان أعمق المشاعر التى يمكن أن نختبرها عند زيارتنا لمصر فى العصر الحاضر ما هى اال مجرد
صدى أو صورة باهتة للمشاعر التى كانت تثيرها الطبيعة على أرض مصر فى نفوس زائريها فى
و األمر أشبه بزيارة قاعة موسيقى بعد انتهاء الفرقة الموسيقية من عزف سيمفونية ,مع فارق وحيد
,هو أن دخولنا الى المشهد هو السبب فى تالشى صدى صوت النوتة الموسيقية .
فالكيانات االلهية لم تعد حاضرة فى وعينا كما كانت حاضرة فى وعى قدماء المصريين ,و من
اعتقد انسان الحضارات القديمة أن القوى االلهية التى قامت بدور فى نشأة الكون ليست بمعزل عن
فى الحضارات القديمة ,كان االنسان يشعر بأن الكل (الكون كله) فى حالة حضور دائم فى تلك
لذلك كان كل بلد فى نظر سكانه هو صورة مصغرة ( )microcosmمن الكون األكبر
(. )macrocosm
فى تلك الصورة المصغرة من الكون ,كان باستطاعة االنسان فى ذلك الوقت أن يرى الكيانات
االلهية و القوى الكونية و هى تقوم بعملها فى كل مظاهر الطبيعة ؛ فى الصحراء و فى الفيضان ,
- 25 -
و فى مسار الشمس فى الفلك ,و فى قبة السماء ,و فى كل شئ ,حيث ال يوجد شئ مادى يخلو من
الحضور االلهى .
رأى االنسان القديم أن للعالم المادى امتداد رأسى ,و هو ال يمتد فقط ليصل الى حدود العالم
السماوى ,و انما هو يتداخل مع ذلك العالم الذى تحيا فيه القوى الكونية و الكيانات االلهية التى لم
فى نظر المصرى القديم ,كان العالم الروحى ينسكب فى العالم المادى فيجعله مفعما بالحياة و
فى العصر الحديث ,تغير وعى االنسان بشكل أصبح معه االتصال بأبعاد الكون الماورائية شيئا فى
منتهى الصعوبة .لم يعد بمقدورنا أن نتصل بالكيانات االلهية ,ليس ألنها غادرت عالمنا ,و انما
فى مصر القديمة ,كان الوعى بأبعاد الكون الماورائية جزءا هاما من خبرات االنسان و تجاربه
فى الحياة .أما اآلن ,فقد أصبحنا مقيدين بأغالل الوعى المادى الضيق الذى ال يرى أبعد مما ترى
العين .و نتيجة ذلك التغير فى الوعى ,أصبحنا نرى ذلك الجزء من العالم الذى نعيش فيه مجرد
و حتى اذا كانت الطبيعة حولنا مفعمة بالرموز ,فاننا نسارع برفضها أو بتصنيفها على على أنها
يقودنا التفكير العقالنى الى االعتقاد بأن القيمة الوحيدة الحقيقية للطبيعة هى القيمة االقتصادية .
المنفعة المادية هى العين التى نرى بها الطبيعة ,و بخالف ذلك فان أى جزء منها يتساوى تماما مع
فى العصر الحديث ,يصل االنسان الى الكل عن طريق تجميع كل األجزاء معا ,بمعنى آخر أن
الكل بالنسبة لنا هو مجموع قطع متناثره .أما انسان الحضارات القديمة ,فقد كان يرى الكل فى كل
جزء على حدة .أو بعبارة أخرى ,كان يرى نسخة مصغرة من الكل داخل كل جزء .ألن الكون
بنى بنظام هولوغرافى ,بحيث يكون كل جزء عبارة عن صورة مصغرة من نموذج أكبر .
- 26 -
يقوم علم الجغرافيا فى العصر الحديث على نظرة أفقية للطبيعة ,و هى نظرة ترى كل جزء من
أجزاء الصورة على حدة ,و ال ترى أى أبعاد ميثولوجية أو ماورائية لعناصر الصورة .
قد يكون من الصعب علينا اآلن أن نرى العالم بعيون قدماء المصريين ,و لكنها تجربة تستحق
عناء المحاولة .و ما تنطوى عليه هذه التجربة هو عالقة جديدة بيننا و بين المكان .
برغم الجهود الكبيرة التى يبذلها الفيزيائيون لتغيير الطريقة التى ننظر بها الى الفضاء ,فان معظمنا
ال زال ينظر للفضاء على أنه وعاء مادى توجد األشياء بداخله .
الفضاء هو وسيط محايد تتواجد فيه األشياء ,ليس له أى صفات تميزه .و لذلك فقد تمت ازاحته من
يتجه وعينا دائما الى األشياء التى تتواجد داخل الفضاء ,و ليس على الفضاء نفسه .
و اذا وجهنا وعينا الى هذا الفضاء ,فسيكون من العسير علينا فهمه .
فكيف لنا أن نختبر فضاءا خاليا من أى شئ .كيف لنا أن نعرف الفراغ .ان هذا مستحيل !
لكى نختبر الفضاء و نعرفه علينا أن نختبر عالم األشياء المتجسده فى أشكال و صور .
و هكذا نجد أننا بدال من أن ننظر حولنا فنرى أشياء تتواجد داخل فضاء ,فنحن ننظر الى الفضاء
على أنه هو الذى يشكل العالقة بين الشئ و غيره من األشياء .
ان خبرتنا و معرفتنا باألشياء تدور بشكل أساسى حول عالقتها الخارجية بغيرها من األشياء
عندما نشير الى المفهوم المجرد الذى نطلق عليه "فضاء" ,فان ما نشير اليه هو فى الحقيقة خبرتنا
و اذا كنا ننظر لعالم المكان من حولنا على أنه يقع خارجنا ,فذلك يعود الى شعورنا بأننا نراقب
- 27 -
العالم من الخارج .و لكن هذه النظرة الخارجية للمكان أو الفضاء ليست هى الطريقة الوحيدة التى
يمكن لالنسان أن يختبر بها العالم من حوله ,فهناك طريقة أخرى يمكن لالنسان أن يختبر بها العالم
من الواضح أن المكان أو الفضاء فى نظر انسان الحضارات القديمة لم يكن مجرد شئ يقع فى
الخارج و انما هو درجات متفاوته من الخبرة الباطنية .فهناك مناطق واسعة و هامة فى الكون لها
وجود باطنى ,و هذا الوجود الباطنى هو الذى ينبثق منه الوجود الخارجى أو الظاهر لألشياء .
فى الحضارات القديمة ,لم تكن عين االنسان تراقب العالم من الخارج .فكل شئ ظاهر له بعد آخر
باطنى .و فى تلك األزمنة البعيدة كان بمقدور المرء أن يخترق تلك األبعاد الباطنية و يدخل اليها
هذا البعد الباطنى لألشياء هو البعد الرمزى أو الذى نطلق عليه البعد الرأسى (بعكس البعد األفقى
و ما ينتمى لذلك البعد الباطنى ليس ماديا ,أى ال يمكننا ادراكه بالحواس المادية .
فى ذلك البعد الباطنى تتواجد الجوانب الماورائية لألشياء التى تتخذ شكال خارجيا فى العالم المادى ,
و فيه تتواجد أيضا القوى أو الكيانات االلهية التى تتجسد فى عالم الظاهر .
ينظر االنسان المعاصر الى ذلك البعد الباطنى باعتباره يقع داخل النفس االنسانية .
أما عند الحضارات القديمة ,فقد كان لذلك البعد الباطنى وجود ذاتى مستقل خارج النفس االنسانية .
كان البعد الباطنى بالنسبة لهم عالما يمكن لالنسان أن يعيه بسهولة ,بل و يرتحل اليه .
و اذا جاز لنا أن نشير الى فارق جوهرى بين وعى انسان الحضارات القديمة و بين االنسان
المعاصر ,فان هذا الفارق يكمن فى أن وعى االنسان المعاصر يرى أنه يحوى بداخله عالما باطنيا
,بينما يرى انسان الحضارت القديمة أن هناك عالما باطنيا يحيط به و يحتويه .
يرى االنسان المعاصر أن األشياء تتواجد داخل فضاء خارجى ,أو أن هناك فضاء خارجى يفصل
بين األشياء .أما االنسان القديم فقد كان يرى أن لألشياء امتداد باطنى فيما حولها من فضاء ,
- 28 -
و بمعنى آخر ,كان يرى األشياء المادية تشف عن وجود عوالم ماورائية .
و هذه الخبرة أو المعرفة باألبعاد الباطنية للكون هى المصدر و المنبع الذى استقى منه سكان
و لكن بمرور الزمن تغيرت نظرة االنسان للعالم و أصبحت األشياء معتمة ,و تحولت المادة الى
حجاب ثقيل بعد أن كانت مجرد ستار خفيف يشف عما وراءه من مفاهيم ماورائية .
و هكذا تحول االنسان من النظرة الروحانية للكون ,الى النظرة المادية الدنيوية التى أصبحت تهيمن
اعتقد قدماء المصريين أن للكون ثالثة أبعاد رئيسية ,هى :األرض التى تعلوها الجبال ,و السماء
التى تعلو األرض ,و الغالف الجوى الذى يقف بين األرض و السماء .
لم تكن هذه األبعاد الثالثة مجرد أبعاد مادية فقط ,و انما لكل بعد منها جانب آخر باطنى ,و لكل
كان المصرى القديم يرى العالم األدنى و هو األرض ,فى صورة األرض الحبيبة ,أرض مصر
و هى عبارة عن صورة أرض مسطحة يتدفق وسطها النهر العظيم ,و تحيط بها من الجانبين
و فيما وراء الجبال الشرقية تقع بالد الشرق األوسط التى كانت تشكل حدود الكون فى نظر قدماء
المصريين .
كانت أرض مصر فى نظر قدماء المصريين هى صورة مصغرة ( )microcosmمن الكون
األكبر ( . )macrocosmأما البالد التى تقع على حدود مصر فليس لها بعد ماورائى ألنها ليست
- 29 -
أطلق قدماء المصريين لقب البالد األجنبية على كل الدول التى تحيط بمصر ,و ذلك ألنها تقع على
و األرض فى الفكر الدينى المصرى هى جسد الكيان االلهى "جب" (رب األرض) .
جاء فى أحد النصوص المصرية القديمة أن األرض هى جسد "جب" الذى تنمو فوقه الزروع ,
فى هذا الشكل يظهر "جب" رب األرض و جسده مغطى بالنباتات .
أن يطأ االنسان األرض ,كان ذلك يعنى بالنسبة لقدماء المصريين أن يطأ االنسان فوق جسد كيان
الهى .ان صورة األرض ككيان الهى فى نظر المصرى القديم لم تكن مستمدة من الحواس المادية ,
و ال من الفهم العقالنى أو المنطق ,و انما هى مستمدة من رؤية تخيلية لعين بصيرة ترى من خالل
مظاهر الطبيعة المادية التى تشف عن وجود أبعاد أخرى باطنية .
و المعرفة االلهية فى مصر القديمة هى نتاج تلك الرؤية الباطنية لمظاهر الطبيعة ,و التى يصنفها
البعض باعتبارها مجرد خيال أو اسقاط سيكولوجى لما يدور فى العقل الباطن .
و لكنها فى الحقيقة نظرة تخترق ما هو مادى محسوس لترى القوى و الكيانات الغير مرئية التى
توجد فى العوالم الباطنية ,و هى القوى التى نراها فى الصور الرمزية المصرية .
يبدو هذا المستوى من الوعى و االدراك الذى يخترق األشياء المادية ليرى ماوراءها و كأنه غافل
- 30 -
عن رؤية األرض نفسها ,و لكنه فى الحقيقة وعى يتجاوب بصورة أعمق مع عالم الروح .
فى هذا المستوى من الوعى الروحى (بعكس الوعى القائم على الحواس المادية) "يتجلى عالم
الصور األولية (عالم الجوهر) و يطغى حضوره على الحضور الشخصى لألشياء المادية" ,حسب
فى هذا الشكل نرى "جب" (رب األرض) فى وضعه التقليدى .
يظهر "جب" (رب األرض) فى أغلب األحيان فى هذا الوضع الغريب الذى يعبر عن هويته
باعتباره روح األرض .و فى هذا الوضع يرفع جب ساقه اليمنى – و فى الغالب أيضا ذراعه
اليسرى – و يرتكز على كوعه و فخذه األيسر ,و وجهه متجه ناحية األرض ,و كأنه مستسلم
ألقداره التى حكمت عليه بأن تحيط به أغالل العالم المادى .
من النادر أن تعثر على مشهد ينظر فيه "جب" الى أعلى ,و كأن هناك مشاعر دهشه و حزن
انتابته فجأة فجعلت بصره مقيدا الى األسفل و ليس الى األعلى .
يبدو جب دائما و كأنه فقد حيويته ,و كأنه فقد القدرة على النهوض .و عندما تنظر اليه تشعر
و كأنه قد سقط للتو من عل .و أيا كانت الطريقة التى تنظر بها الى "جب" ,فانه يرمز للطاقة التى
خلق منها عالم المادة ,و هى طاقة تتسم بأنها سلبية بالمقارنة بطاقة عالم الروح االيجابية .
- 31 -
فى معظم أساطير العالم القديم يظهر الكيان االلهى الذى يمثل األرض فى هيئة مؤنثه ,و يبدو فى
أما قدماء المصريين ,فقد صوروا رب األرض فى هيئة مذكرة ,ألنهم لم يعرفوا ربة تتسم بالسلبية
فقد كان ل "نوت" (ربة السماء و زوجة جب) حضور أقوى من حضور زوجها و قدرتها على منح
يبدو جب فى مثل هذه المشاهد و كأنه رجل أنهك و استنفذت طاقته من ممارسة الحب .
ظهر "جب" فى الفن المصرى أيضا فى صور أخرى ,و منها صورة األوزة و هى أكثر الطيور
الداجنة انتشارا فى مصر القديمة (حتى عصر الملك تحتمس الثالث) ,و لذلك ارتبط هذا الطائر
فى هذا الشكل يظهر "جب" (رب األرض) فى هيئة "الصياح العظيم" ,أو األوزة الكونية .
و دور جب هنا يختلف عن دوره فى المشاهد التى رأيناها فى السابق .فمن هذه األوزة الكونية تأتى
بيضة الخلق للوجود .تبدو األوزة الكونية و كأنها صورة من االله الخالق الذى ليس بذكر و ال أنثى
,و الذى سنصادفه فى أسطورة تاسوع هليوبوليس باسم "آتوم -رع" .
- 32 -
و كما تخرج الحياة من بيضة األوزة ,كذلك انبثقت الحياة على المستوى المادى من "جب" (رب
عندما يصور الفنان المصرى القديم "جب" فى هيئة الرجل الذى سقط من عل مرة ,و فى هيئة
األوزة مرة أخرى فهو بذلك يعبر عن جانبين مختلفين من جوانب شخصية "جب" ,و هنا نجد
أنفسنا نقف وجها لوجه أمام الطبيعة المزدوجة لعقل انسان الحضارات القديمة الذى رأى األلوهية
فى صور متعددة .فكل كيان أو تجلى من التجليات االلهية مهما كانت دائرة عمله محدودة ,يمكن
النظر اليه فى نفس الوقت باعتباره هو نفسه العقل الكونى أو المصدر الذى انبثق منه الوجود .
و فوق "جب" (رب األرض) صور الفنان المصرى القديم "نوت" (ربة السماء) ,و التى تظهر فى
أغلب المشاهد فى صورة امرأة بجسد مرصع بالنجوم ,تنحنى فوق زوجها "جب"على هيئة قبة ,
و تمتد أطراف أصابع يديها و قدميها لتلمس الجهات األصلية األربعة لألرض .
و من الجدير بالتأمل أن الفنان المصرى القديم كان يصور جسد "نوت" و هو عارى ,و كذلك جسد
- 33 -
"جب" ,و هو أمر ال ينطبق على الكيانات االلهية األخرى فى مصر القديمة .
ربما كان السبب فى ذلك يرجع الى دورهما األساسى و هو ممارسة الحب .أو ربما كان السبب
أنهما يختلفان عن الكيانات االلهية األخرى فى أن العين يمكن أن تراهما بدون حجاب – و الذى
و بمعنى آخر ,ان كل من "نوت" و "جب" قد وهبها نفسيهما تماما لعالم التجسد ,و أنهما ال يخفيان
ان صورة "نوت" فى الفن المصرى ال تعبر فقط عن سماء النهار الزرقاء اللون أو سماء الليل
فهذا األسلوب الفنى للتعبير عن قبة السماء ليس مجرد صورة من خيال الفنان تم اسقاطها على
السماء ,و انما هى رؤية باطنية للقوة الكونية أو الكيان االلهى الذى من خالله أتت النجوم
فى الشكل التالى ,صور الفنان المصرى القديم قرصين للشمس فوق جسد "نوت" .
يمثل قرصى الشمس مرحلتين رئيسيتين من رحلة الشمس داخل جسد نوت :المرحلة األولى تبدأ
عند الغروب ,حين تبتلع نوت قرص الشمس ,و المرحلة الثانية تبدأ عن الشروق حين تولد الشمس
من جديد من رحم "نوت" .تظهر نوت هنا عارية ,و كأنها أم تلد طفلها .
- 34 -
ربة السماء "نوت" تنظر الى األرض
نوت فى حالة مخاض دائم ,فهى تظل الى األبد تلد المخلوقات فى عالم الروح ,و هو ما ترمز له
لذلك كانت نوت دائما هى الحضور االلهى الذى يمتد فوق العالم على هيئة قبة و كأنه يحتضنه .
*** أيتها العظيمة التى أتت للوجود على هيئة السماء ,و التى امتلكت القوة و القدرة ..و مألت كل
مكان بالجمال ...األرض كلها لك ...لقد احتضنت األرض ,و صار كل شئ داخل حضنك ***
"نوت" هى القوة الكونية أو الكيان االلهى المقابل ل "جب" (رب األرض) .
اذا كانت "نوت" هى األم الكونية العظمى التى تهب المخلوقات الجسد الروحى ,فان "جب" هو
- 35 -
الذى يكمل عمل "نوت" و يهب المخلوقات الرداء أو الجسد المادى .
ان "نوت" و "جب" يعبران عن مبدأ كونى يتكون من شقين يكمل أحدهما اآلخر ,حيث تعبر
"نوت" عن الشق الروحى أو السماوى ,بينما يعبر "جب" عن الشق األرضى أو المادى .
فى هذا الشكل يتخذ "جب" (رب األرض) هيئة رجل برأس ثعبان يرقد تحت جسد زوجته و حبيبته
"نوت" ,فى اشارة الى طبيعة "جب" األزلية ,أو ربما ألن الثعابين هى أقرب الحيوانات الى
األرض ,حيث تعيش فى جحور فى باطن األرض و تزحف فوقها فيالمس جسدها دائما جسد
األرض .و أيا كانت طريقة فهمنا لهيئة "جب" الثعبانية ,نالحظ أن "نوت" دائما ما تحيط ب
"جب" و "نوت"
و الكون فى نظر قدماء المصريين لم يكن فقط سماء و أرض ,و انما هناك عنصر ثالث يفصل
السماء عن األرض ,و فى نفس الوقت يصلهما و يعمل كوسيط لنقل الطاقة بينهما .هذا العنصر
الثالث هو الغالف الجوى ,و الذى نظر له قدماء المصريين (كعادتهم) باعتباره كيان الهى ,أطلقوا
- 36 -
عليه اسم "شو" .
يلعب "شو" دورا رئيسيا فى تجسد المخلوقات فى العالم المادى و ذلك عن طريق خلق المناخ
و بفضل حضور "شو" و من خالله يدخل النور و تدخل أنفاس الحياة (الطاقة الحيوية) الى الغالف
لذلك كان الوضع الذى يعبر عن هوية و صفات "شو" هو وضع ال "كا" ,حيث يقف "شو" رافعا
ال "كا" هى طاقة الحياة ,و قد رمز لها المصرى القديم بصورة ذراعين مرفوعين الى أعلى .
يعبر هذا الرمز عن الطاقة الحيوية و عن تجددها بشكل دائم من خالل االتصال بالسماء .
أما الشعار الذى يحمله "شو" فوق رأسه فهو ريشه النعامة و التى تعتبر فى حد ذاتها رمز
- 37 -
( من بردية "نسيتا نب تاشرو" ,أسرة , 21دولة حديثه )
تشترك "ماعت" (النظام الكونى) مع "شو" فى الشعار الذى يحمله فوق رأسه و هو الريشه ,كما
فى الشكل التالى يظهر "شو" فى هيئته الخنثى ,حيث يجمع بين صفات األنوثه و الذكوره ,
يظهر "شو" فى هذا الشكل مجنحا و هو فى وضع الركوع تحيط به من ناحية رياح الجنوب (على
هيئة لبؤة مجنحة ذات رؤوس عديدة) ,و من ناحية أخرى رياح الشمال (على هيئة ثور برأسين) .
جاء فى أحد االبتهاالت الدينية المصرية القديمة هذه العبارات على لسان "شو" -:
** أنا "شو" ابن آتوم ...ردائى هو أنفاس الحياة ,التى تخرج من فم آتوم و تتجمع حولى ,و تشق
طريقى وسط الرياح ...أنا الذى أضئ ظلمة السماء ...خطواتى عرضها السموات ...و أنا الذى
"شو" هو السبب فى انفصال السماء عن األرض و تحولهما الى قطبين أحدهما فوق و اآلخر تحت ,
ألنه هو الذى يرفع السماء فوق ذراعيه التى تتخذ دائما هيئة عالمة ال "كا" .
- 38 -
و هذ الوضع هو الوسيلة التى يضمن بها "شو" أن تظل السماء (عالم الروح) دائما مرفوعة فوق
األرض (عالم المادة) .يعبر هذا الوضع عن احتياج الكون بصفة دائمة لتدخل "شو" من أجل حفظ
النظام الكونى .فاذا تخيلنا "شو" و هو يرخى ذراعيه و لو للحظة واحدة ,فان ذلك يعنى تالشى
االزدواجية التى يقوم عليها النظام الكونى ,و عودة األرض و السماء الى حالتهما األزلية حين كانا
يمتزجان معا فى كيان واحد ,قبل أن يقوم "شو" بفصلهما و برفع السماء فوق األرض .
يبين لنا الشكل التالى العالقة بين الكيانات االلهية الثالثة ( جب /نوت /شو) التى ترمز لألبعاد
الثالثة الرئيسية للكون المتجسد ,أى الكون الذى يمكن ادراكه بالحواس المادية .
تحتل "نوت" مركز الصدارة فى المشهد ,بينما يظهر "جب" و كأنه سقط للتو من مكان مرتفع .
و بين االثنين يقف "شو" رافعا ذراعيه على هيئة عالمة ال "كا" ,و يساعده فى ذلك اثنان من
ل "نوت" (ربة السماء) حضور يطغى على حضور كل من جب و نوت .و برغم أن أذرع "شو"
- 39 -
تبدو و هى ترفع جسد "نوت" ,اال أن جسد نوت يبدو أيضا و كأن بمقدوره أن يرفع نفسه بدون
تظهر نوت فى الفن المصرى أيضا فى بعض األحيان فى هيئة بقرة ,حيث ترمز أرجلها األربعة
و هنا يتضح أن الوضع الذى يتخذه "شو" حين يرفع ذراعيه الى أعلى ال يعبر عن دوره فى رفع
السماء بقدر ما يعبر عن دوره فى مأل الفراغ بين السماء و األرض .
فى الشكل التالى تظهر نوت فى صورة بقرة سماوية ,و يختفى "جب" من المشهد .
نوت فى هيئة بقرة سماوية ,ترمز أرجلها األربعة ألعمدة السماء األربعة
تقول احدى األساطير أن "شو" قام بفصل "جب" (األرض) عن "نوت" (السماء) ألنه كان يحب
و اذا نظرنا مرة أخرى الى هذا المشهد الذى يرفع فيه "شو" جسد نوت فوق ذراعيه و تأملناه ,فهل
- 40 -
يمكن أن نتخيل أن ذراعى "شو" ينجذبان الى أعلى بسبب الطاقة المغناطيسية المنبعثه من صدر
"نوت" و من رحمها !
يصور المشهد "شو" و هو يخطو ليمأل الفراغ الذى نشأ من انفصال السماء عن األرض .و هو
يقف هناك و كأنه عامود يرتفع من األرض للسماء و يهيمن على المنطقة الوسطى بينهما .
يظهر "جب" فى بعض األحيان بعضو ذكرى منتصب و هو ما يرمز لقدرته على خلق حياة جديدة
,و لكنه فى نفس الوقت يبدو و كأنه عاجز ,فهو يرقد دائما مستسلما فاقدا للطاقة و غير قادر على
الحركة .و عادة ما يظهر "جب" فى الفن المصرى بحجم أصغر من الحجم الذى تظهر به زوجته
اعتقد المصرى القديم أن "جب" و "نوت" كانا فى األصل يتحدان معا فى عناق أزلى ,و ذلك قبل
- 41 -
أن يفصل بينهما "شو" و يرفع السماء عن األرض ,و لذلك حافظ الفنان المصرى على صورة
العناق بين جب و نوت فكان يصورهما و كأن أحدهما يهم بعناق اآلخر ,و ان كانت نوت هى التى
و يبدو أن الفصل بينهما كان عنيفا لدرجة أن جب سقط مكبا على وجهه .
تشير الصورة الكوزمولوجية للكيانات االلهية الثالثة (نوت /جب /شو) الى أن هناك ترتيبا هرميا
تقف "نوت" على قمته ,بينما يبدو "جب" و "شو" و كأنهما كيانات ثانوية بجوار األم الكونية
العظمى "نوت" التى تنحنى فوقهما على هيئة قبة و تحتويهما فى حضنها .
و عند المقارنة بين "جب" و "شو" يبدو "شو" بصورة أكثر فاعلية و نشاطا من "جب" الذى رقد
مستسلما .يبدو "جب" و كأنه استنفذ طاقته الحيوية فى العالم المادى .
و لما كان "جب" ربا لألرض ,فهو يرتبط بشكل خاص بعالم الظاهر و بالوجود المادى .
يقف "شو" بين ذلك العالم و بين عالم السماء /الروح .
يعتمد وجود "شو" على األرض التى يضع فوقها أقدامه ,و أيضا على السماء التى تمتد اليها
أذرعه .
يرمز "شو" للعالم الذى يصل بين عالم األرض/المادة و بين عالم السماء/الروح .و بقدر ما يفصل
"شو" بين األرض و السماء ,فهو فى نفس الوقت يضمن وجود وسيلة لالتصال أو الوصل بينهما .
لذلك فالعالقة بين هذه الكيانات االلهية الثالثة كما صورها الفنان المصرى القديم تعبر عن مفاهيم
ميتافيزيقية .
يقوم علم الفيزياء الكونية فى مصر القديمة على تقسيم الكون المتجسد (الذى ندركه بالحواس) الى
ثالثة أبعاد أو مناطق رئيسية .و هذه األبعاد ال تتميز عن بعضها البعض فقط من خالل خصائصها
هناك ثالثة مستويات للوجود تعبر عنها هذه األبعاد أو العوالم الثالثة ,و هى بالترتيب من األعلى
- 42 -
( )1العالم السماوى /الروحى :نوت
يعتبر عالم "شو" البرزخى أقرب الى عالم الروح منه الى عالم المادة ,و قد عبر الفنان المصرى
القديم عن ذلك بتصوير "شو" فى أغلب األحيان و هو يرفع السماء فوق ذراعيه بمساعدة أرواح
أما فى الشكل التالى ,فقد صور الفنان المصرى األرواح التى تساعد "شو" فى رفع السماء على
تعتبر صورة الكبش فى حد ذاتها رمزا هيروغليفيا يعبر عن القيمة الصوتية لكلمة "با" و تعنى
الروح المتجسدة .
- 43 -
ان الظهور المتكرر لرموز ال "با" (الروح المتجسده) سواء فى هيئة كبش أو فى هيئة طائر ال "با"
تدل على أن عالم "شو" البرزخى هو عالم الروح المتجسده أو المتقمصه ( )soulالذى يعتبر جسرا
أو همزة وصل بين عالم الروح الغير متجسده ( , )spiritو بين عالم األرض/المادة .
و بتأمل تلك الصور الكوزمولوجية يتبين لنا أن الكون المادى فى نظر قدماء المصريين يشف
و بالتالى من الخطأ أن نصنف مثل هذه المشاهد الفنية على أنها مجرد تفسيرات أو تأويالت خرافية
للكون المادى انبثقت من خيال الفنان المصرى القديم .فمن خالل هذه الصور الرمزية و من خالل
قوة الخيال كان باستطاعة المصرى القديم أن يلج الى عالم الروح باستخدام رموز مستمدة من عالم
و اذا كانت فكرة األرض المسطحة عند سكان الحضارات القديمة تبدو ساذجة لعقل انسان العصر
الحديث ,فعلينا أن نذكر أنفسنا أن هذه الصورة ال تعبر عن الشكل الخارجى لألرض و انما تعبر
عن صورتها الباطنية أو عن الوجود الباطنى لألرض و ليس الوجود المادى .
ان صورة األرض المسطحة عند انسان الحضارات القديمة هى نتاج علم فيزياء كونية يختلف تماما
لم يكن علم الفيزياء الكونية القديم يعنى بوصف المظهر الخارجى للكون بدقة ,و انما هو يعنى
بوصف البعد الباطنى أو العوالم الماورائية التى تقع فيما وراء العالم المادى باستخدام رموز مستمدة
و برغم سذاجة صورة األرض المسطحة ,اال انها تحمل عمقا روحيا ال نجده فى الصور الحديثه
التى تصف المظهر الخارجى للكون بدقة مذهلة ,و لكنها عارية من أى معنى روحى .
كان انسان الحضارات القديمة يحيا فى عالم ال يقتصر وجوده على المستوى المادى فقط ,و انما
هو عالم يمتد ليشمل أبعاد باطنية ,بينما يهتم االنسان المعاصر بتصوير كل تفاصيل عالم مادى
- 44 -
الكون الغير متجسد (الماورائى) -:
و لكن صورة الكون التى رأيناها فى الفقرة السابقة ليست هى الصورة الكاملة ,فباالضافة الى
األرض و السماء و الغالف الجوى هناك مناطق أو أبعاد غير مرئية و هى ما يطلق عليه األبعاد
فى الشكل التالى تظهر "نوت" وحدها بينما يغيب "جب و "شو" ,حيث يركز المشهد بشكل خاص
( من كتاب الليل و النهار ,من مقبرة الملك رمسيس التاسع ,أسرة , 22دولة حديثه)
فى أقصى يسار الصورة تظهر نوت و هى توشك أن تبتلع قرص الشمس لدى بلوغه األفق الغربى
و بدال من السقوط تحت خط األفق الغربى تلج الشمس الى داخل جسد ربة السماء "نوت" ,بينما
تقطع الشمس جسد نوت كله خالل ساعات الليل االثنى عشر ,ثم تولد من جديد فى األفق الشرقى
فى الصباح قوية عفية .و فى النصف األسفل من المشهد نرى قارب "رع" تجره مجموعة من
- 45 -
الكيانات االلهية يتقدمها أربعة منهم برؤوس ابن آوى .
و هذا المشهد هو جزء من كتاب الليل و النهار الذى دونه قدماء المصريين فى مقابر ملوك الدولة
الحديثه .لهذا الكتاب أهمية خاصة ألنه يركز على أبعاد أخرى من الكون بخالف األرض و الغالف
فداخل جسد نوت هناك منطقة خفية تقع فيما وراء حواس االنسان المادية .
حين تصل الشمس الى هذه المنطقة ال يمكن رؤيتها بالعين المجردة ,ألنها تكون عند ذلك قد دخلت
عالما باطنيا .هنا ال يوجد فضاء خارجى لكى تتجلى فيه الشمس .
من منظور ثقافتنا المعاصرة قد نبادر بالقول "أن الشمس حين تختفى من أمام أنظارنا فهى تنتقل
للجانب اآلخر من الكرة األرضية و تصبح مرئية فى ذلك الجانب حيث يمكن لشعوب أخرى أن
تراها فى مناطق أخرى من العالم .و هو ما يعنى أنها ال زالت تتواجد فى الفضاء الخارجى /
المرئى ,و أى شخص يدعى أن الشمس قد دخلت الى منطقة فيما وراء الحواس هو شخص واهم"
أما من وجهة نظر قدماء المصريين فان قولنا هذا يعنى أننا نفتقد القدرة على رؤية وجهة الشمس
بعد أن تصل الى األفق الغربى .فالمنظور الروحى و الكوزمولوجى المصرى القديم يرى أن دورة
الشمس فى الفلك ليست مجرد حركة ميكانيكية لجسم مادى يدور فى الفضاء ,و انما هى حدث
ميثولوجى (أسطورى) ,أو بمعنى أدق هى اعادة تكرار لحدث ميثولوجى تقوم الشمس بمحاكاته
كان العالم المادى المحسوس فى نظر قدماء المصريين هو مجرد سطح أو قشرة خارجية تخترقها
عيونهم بسهولة لكى تنفذ الى الجوهر الميثولوجى (األسطورى) و هو العالم الذى يقف فى بؤرة
ان ما يحدث للشمس بعد غروبها من وجهة نظر قدماء المصريين هو شئ أعمق من أن يدرك
بالحواس المادية ,ألن الشمس التى نراها بالعين المجردة هى الجسد الخارجى /الظاهر ألحد
الكيانات االلهية .و دورة حياة هذا الكيان االلهى هى الحقيقة التى تحدد مسار رحلة الشمس ,و هى
- 46 -
حياة تقوم على ايقاع منتظم من التجلى يعقبه احتجاب ,يعقبه تجلى من جديد ,و هكذا .
يرتحل "رع" فى ال "دوات" (العالم السفلى) ,حيث يجدد هناك طاقته و يولد من جديد فى عالم
ان مشكلتنا تكمن فى أننا (بدعوى الموضوعية) نتعامل مع الظواهر الحسية بمعزل عن هويتها
و حين نفعل ذلك فاننا ننزع القلب النابض بالحياة من عالمنا ,ليصير عالما جامدا ميتا ,و نرضى
بالقشور المادية التى تتبقى منه بعد غياب الكيانات االلهية عن وعينا .
اذا خطر ببالنا أن نصم نظرة قدماء المصريين بأنها مجرد أفكار نبعت من وحى خيالهم نتيجة
جهلهم بعلم الفيزياء الكونية ,فعلينا أوال أن نسأل أنفسنا ما هى حدود معرفتنا بالكون ؟
ان استخفافنا و عدم احترامنا لنظرية المعرفة عند قدماء المصريين هو الذى ساهم فى اهمالنا
لدراستها و بالتالى عدم فهمها ,و هو الذى أدى الى تعميق هوة جهلنا بالعوالم الماورائية التى كان
قدماء المصريين على دراية عميقة بها ,و هى عوالم ال يمكن فهمها عن طريق المنهج العلمى
التجريبى .
----------
أطلق قدماء المصريين على المنطقة الخفية أو العالم الباطنى داخل جسد نوت اسم "دوات" ,و هى
كلمة تترجم عادة بمعنى العالم السفلى ,و هى الى حد ما تعتبر ترجمة غير دقيقة .
و أتوقع أن القارئ بدأ اآلن يدرك السبب فى ذلك .فال "دوات" لم يظهر فى الشكل السابق تحت
األرض ,حيث يتوقع أن يكون العالم السفلى ,و انما ظهر داخل جسد ربة السماء "نوت" .
لذلك فهو باألحرى عالم باطنى ,و ليس عالم سفلى .
اذا اعتبرنا أن "نوت" ربة السماء ترمز لعالم الروح ,فعند المرور من النجوم التى ترصع جسدها
الى العالم الباطنى يكون المرتحل قد دخل الى عالم الروح الذى تشير اليه النجوم ,أو تقف عند
حدوده .و عند الدخول الى عالم عالم الروح تسقط كل الظواهر الحسية .و كما تختفى الشمس عن
- 47 -
األنظار عندما تدخل بوابة الدوات من األفق الغربى ,كذلك يفعل البشر عند الموت .و كما تفعل
الشمس ,كذلك تفقد كل المخلوقات جسدها الخارجى حين تدخل الى ال "دوات" ,ألن ما يدخل ال
و برغم أن ال "دوات" يمكن أن ينظر له باعتباره منطقة ,اال انه فى الحقيقة "حالة من حاالت
الوجود" أكثر من كونه منطقة ,و هى الحالة التى تصير اليها المخلوقات حين تموت و تترك
جسدها المادى ,و هى أيضا نفس الحالة التى تأتى منها المخلوقات لتتجسد فى عالم الظاهر .
و بعبارة أخرى ان ال "دوات" هو العالم الذى يذهب اليه الموتى ,و هو فى نفس الوقت العالم الذى
و كما تولد الشمس فى األفق الشرقى كل يوم من رحم األم السماوية نوت (و هو ال "دوات") ,
كذلك تولد كل المخلوقات التى تأتى للوجود – بما فى ذلك البشر – من نفس الرحم .
كل األشياء التى تأتى لتتجسد فى عالم الظاهر تأتى من ال "دوات" .فهناك تتواجد المخلوقات قبل
أن تولد فى عالمنا ,و الى هناك تعود مرة أخرى بعد أن تطرح عنها جسدها المادى و تتركه .
و برغم أن ال "دوات" يقع داخل جسد نوت ,اال أن الكيان االلهى الذى يحكم ذلك العالم الباطنى
أوزير هو رب ال "دوات" ,و هو الذى ينظم دورة الميالد و الموت و االنبعاث من جديد ,و هى
يصور الشكل التالى العالقة بين نوت و أوزير ,و هو عبارة عن مشهد من كتاب البوابات الذى
- 48 -
"نوت" و "أوزير" .مشهد من الفصل أو الساعة رقم 12من كتاب البوابات
يظهر جسد أوزير متكورا على نفسه بحيث تلمس أطراف أصابع قدمه مؤخرة رأسه ,بينما تمتد
أذرعه ألعلى لتدعم جسد نوت و هى تقف فوق رأسه و تمسك فى يدها بقرص الشمس .
يقول النص المدون أمام جسد نوت ( :انها نوت ,التى تستقبل رع ) .
أما النص المدون داخل الفراغ الذى يحويه جسد أوزير المتكور فيقول ( :انه أوزير ,الذى يحيط
بالدوات ) .
يعطى هذا المشهد االنطباع بأن أوزير يحيط بمنطقة سرية غامضة مسقلة بذاتها عن جسد نوت ,
و لكنها فى نفس الوقت تتصل به .و تبدو نوت هنا و كأنها تعتمد فى وجودها على وجود أوزير ,
رب ال "دوات" ,فهى تضع أقدامها فوق رأسه ,بينما يمسك أوزير بهذه األرجل ليثبتها فى وقفتها
و يدعمها .
و هنا يبدو لنا ال "دوات" فى صورة منطقة خفية يكتنفها الغموض ,و لكنها فى غاية األهمية .
يعتمد وجود ال "دوات" على أوزير الذى يشكل جسده حدود ذلك العالم الباطنى و الذى يمكن أن
- 49 -
للدوات وجود باطنى مستقل ال ينتمى لعالم الزمان و المكان الظاهر لحواسنا المادية ,و هو األساس
الذى يقوم عليه العالم السماوى/الروحى الذى تمثله الربة "نوت" .
و هنا علينا أن ننحى جانبا صورة نوت األخرى التى تشترك فيها مع "جب" و "شو" فى رسم
الصورة الكلية للكون المتجسد/المحسوس ,فأوزير ليس بديال ل "جب" (رب األرض) .
و الصورة التى أمامنا تعبر عنى قوى روحانية غير متجسده فى عالم الظاهر ,بعكس الصور
ان ال "دوات" الذى يحتويه جسد أوزير هو مولد الطاقة أو المنبع الذى تخرج منه كل األشكال
و الصور ,و أيضا كل قوى البناء التى تخضع لها األشكال و الصور .
و كما سنرى فى الفصول التالية ,ال "دوات" ليس فقط العالم السفلى للموتى ,و انما هو عالم
و هناك شئ آخر يلفت االنتباه فى الشكل السابق ,و هو أن جسد أوزير تحيط به مياه األزل من كل
جانب ,و كذلك جسد نوت ,من قدمها حتى رأسها الذى يبدو و هو يبرز من فوق سطح المحيط
الذى يغرق فيه جسد أوزير بالكامل .تمسك نوت بقرص الشمس و ترفعه فوق سطح مياه األزل
أما الشكل التالى فهو المشهد الكامل الذى اقتطعنا منه الشكل السابق .
- 50 -
المحيط األزلى "نون" يرفع قارب "رع" فوق ذراعيه
و عند النظر الى المشهد الكامل نالحظ أن الجزء الذى يصور جسد أوزير المتكور الذى يستند اليه
جسد "نوت" مقلوب رأسا على عقب ,و فى األسفل هناك فراغ يشغله قرص الشمس الذى يحتل
تبدو نوت هنا و كأنها تستقبل أو تتسلم قرص الشمس من الجعران "خبرى" ( أو ربما تمنحه ل
- 51 -
"خبرى" !) .و "خبرى" هو هيئة "رع" لحظة مجيئه للوجود .
و على الجانب األيمن و األيسر ل "خبرى -رع" تقف كل من ايزيس و نفتيس و خلفهما مالحى
قارب "رع" لكى يشهدوا جميعا لحظة مولده ,حين يأتى للوجود و يتجلى على العالم باطاللته .
يشكل قارب "رع" فراغا أشبه بفقاعة من الهواء وسط المحيط األزلى الذى ليس له حدود .
قارب "رع" هو الذى يجعل مجئ العالم للوجود ممكنا وسط محيط الالوجود .
أما المحيط نفسه فقد عبر عنه الفنان المصرى القديم فى صورة انسان يرفع قارب "رع" من الهاوية
,مشيرا بذلك الى مستوى آخر من مستويات الوجود ,حيث الجذور األعمق التى ينبع منها الخلق .
و الشخص الذى يرفع قارب رع هو الصور التخيلية فى وعى قدماء المصريين ألحد الكيانات
*** ان هذه األذرع تخرج من مياه األزل ,و هى ترفع االله (رع) ***
حين ترفع أذرع نون قارب "رع" فهى بذلك ترفع الكون كله ,و الذى يستمد طاقة الحياة و النور
يعبر المشهد التالى عن نفس المعنى ,مع فارق واحد مهم ,و هو أن الوضع الذى يتخذه "نون" هنا
(و الذى يشبه الوضع الذى يتخذه "شو" حين يرفع السماء) يبدو أنه هو الذى يخلق فراغا وسط مياه
األزل التى تنحسر الى حدود العالم الذى يحكمه النظام و النور .
- 52 -
المحيط األزلى "نون" يخلق فراغا وسط مياه األزل حين يرفع قارب "رع"
ان موقع المحيط األزلى عند أطراف الكون يعبر عن الطريقة التى كان المصرى القديم ينظر بها
الشئ الوحيد األكيد الذى يمكن أن نبدأ به بحثنا عن معنى المحيط األزلى هو أن قدماء المصريين لم
يعتقدوا فى وجود محيط سماوى من المياه بالمعنى الحرفى لكلمة مياه -مثل المياه التى يتكون منها
البحر األبيض المتوسط على سبيل المثال – على حدود الكون .
ان لمياه "نون" مستوى أكثر شفافية من المياه التى نراها على سطح األرض .
و فى كال الشكلين ,يظهر أوزير و العالم الباطنى الذى يحيط به غارقا وسط هذه المياه ,و هو ما
يدل على أن مياه األزل تتواجد فى مستوى من مستويات الوجود أكثر عمقا و غموضا من المستوى
- 53 -
الذى يرمز له أوزير و عالمه ,و هو ال "دوات" .
تبدو صورة "نون" فى الكتب الدينية المصرية دائما غامضة ,فهى دائما ما توصف بمصطلحات
"نون" هى امكانيات الوجود الالمتناهية و التى ال يمكن أن نحيط بها ,و التى عبر عنها المصرى
رأى المصرى القديم فى المياه رمزا ل "نون" ألن المياه تعبر عن صفات "نون" .
فباالضافة الى كونها هى مصدر الحياة على سطح األرض ,نجد أن المياه ليس لها شكل و ال يوجد
لها تعريف محدد ,ألنها أتت للوجود قبل أن توجد كل الصور و األشكال (سواء المادية أو األثيرية)
كانت نون موجود قبل أن تأتى الكيانات االلهية للوجود ,قبل أوزير و قبل ال "دوات" و قبل عالم
جاء فى أحد نصوص األهرام أن "نون" كانت موجودة ( قبل أن توجد السماء ,و قبل أن توجد
و ألن "نون" مجهولة بالنسبة لالنسان ,لذلك كان موقعها فى علم الكونيات المصرى على حدود
ان "نون" ليست كيان الهى كالكيانات االلهية األخرى التى نصادفها فى الفكر الدينى المصرى ,
و انما هى باألحرى المادة األولية التى صنع منها الكون ,و لذلك تلقب بأنها هى أب و أم كل
و "نون" ليست مجهولة لالنسان فقط ,و انما للكيانات االلهية أيضا ,ألنها هى منبع الوجود .
يصور هذا المشهد العالقة بين "نون" و الكون كله ,و قد سجله الفنان المصرى القديم فى مقبرة
الملك سيتى األول (فى القرن الثالث عشر قبل الميالد تقريبا) .
- 54 -
الكون المتجسد ,و الكون الغير متجسد
و هذا المشهد هو نتاج العلوم الباطنية التى بلغت درجة عالية من النضج فى عصر الدولة الحديثه .
تظهر نوت فى هذه الجدارية فى هيئتها المعتادة و هى صورة امرأة تنحنى بجسدها فوق األرض
على هيئة قبة .يقف "شو" بين السماء و األرض التى صورها الفنان المصرى على هيئة رمال .
فى الجانب األيمن للصورة تبتلع نوت قرص الشمس ,الذى يبدأ رحلته داخل جسدها فيمر عبر
المناطق المختلفة من ال "دوات" ,و يعود فيخرج منه مرة أخرى و بذلك يولد من جديد .
فى الناحية اليسرى من الصورة يظهر قرص الشمس عند أقدام نوت لحظة والدته .
فى هذا المشهد تجتمع كل العناصر الرئيسية للكون كما رآها المصرى القديم .و هذه العناصر هى
و لكن هناك عنصر آخر فى هذا المشهد ال نجده فى المشاهد األخرى فى كتب العالم اآلخر ,و هو
فعلى الجانب األيمن للصورة -فوق جسد نوت -هناك نص يصفها بشكل دقيق .
فالنص يقع خارج جسد نوت الذى يحتضن ما تحته من عوالم ,فى منطقة تتميز و تختلف عن ال
"دوات" الذى يقع داخل جسد نوت .يقول النص واصفا نوت -:
- 55 -
*** الظلمة هى الينبوع الذى تنبثق منه الكيانات االلهية ...تهيمن الظلمة على السماء العليا التى ال
تعرف فيها االتجاهات األربعة (الجنوب و الشمال و الشرق و الغرب) ...خلقت كل األشياء من
"نون" ,التى يهيمن عليها السكون ,حيث ال يوجد أى شعاع لنور "آمون رع" ,و حيث ال يستطيع
أى من األرواح أو الكيانات االلهية معرفة االتجاهات األربعة (الجنوب و الشمال و الشرق
اذا كان ال "دوات" هو أول مستوى من مستويات الوجود الغير ظاهر (الغير متجسد) ,فان "نون"
فبينما يحوى ال "دوات" صورا روحانية (أثيرية) ,نجد أن كل الصور و األشكال تختفى و تتالشى
"نون" هى الفراغ الذى ال يسبر غوره و الذى ليس له شكل ,و لذلك فهى أبعد من أن يعيها أى
كائن .لذلك توصف دائما بمصطلحات سلبية استخدمتها كل الفلسفات الصوفية فى مختلف أنحاء
و لكى نفهم رمزية "نون" فى علم الوجود فى مصر القديمة ,و لكى نستطيع تكوين صورة أوضح
لكل الرموز التى تحدثنا عنها سابقا فى هذا الفصل ,علينا أن نبحث فى أساطير الخلق المصرية .
- 56 -
الفصل الثالث
أساطير نشأة الكون
تتسم نظرة قدماء المصريين للكون بأنها نظرة كيفية و ليست كمية ,بمعنى أنها تركز بصورة أكبر
على مستويات الوجود الميتافيزيقية التى تقع فيما وراء العالم المادى و التى ترمز لها الكيانات
االلهية ,و يطلق عليها فى مصر القديمة "نترو" ( المفرد منها "نتر" ,و الجمع "نترو" ) .
و بالتالى ,تركز أساطير نشأة الكون المصرية على العالقة بين مستويات الوجود المختلفة أكثر من
يقوم علم الوجود المصرى على العالقة الرأسية لمستويات الوجود التى تمتد من أرقى الكيانات
االلهية الماورائية و أكثرها غموضا و احتجابا الى كيانات أخرى تتجلى فى عالم األرض بشكل
ترسم أساطير نشأة الكون المصرية صورة لنظام كونى يقوم على ترتيب هرمى لمستويات الوجود
يبدأ من المطلق أو الروح أو العقل األسمى و ينتهى بالمخلوقات المتجسده فى جسد مادى .
و لكن هذا الترتيب الهرمى ليس ترتيبا استاتيكيا ,فالكيانات االلهية و القوى الكونية (التى هى أيضا
الهية) فى حالة تطور و صيرورة و انتقال دائم من مستوى الى مستوى آخر للوجود ,و هذه
الصيرورة هى التى أدت لظهور العالم المادى المتجسد الذى ندركه بحواسنا المادية .
وصف قدماء المصريين الطريقة التى أتى بها عالمنا للوجود فى مشاهد فنية تصور عالقة الكيانات
االلهية بعضها ببعض ,و هى عالقة أشبه بعالقة النسب عند االنسان .و كما تعبر شجرة العائلة
عن فكرة خروج أفرع عديدة من بذرة واحدة أو من أصل واحد ,كذلك العالقة بين الكيانات االلهية
,فهى قد تولد من بعضها البعض أحيانا ,أو تتحد ببعضها البعض ,أو قد تنفصل عن بعضها
- 57 -
يمكننا أن نقرأ أساطير نشأة الكون المصرية بطريقتين مختلفتين .
فمن ناحية تحدد هذه األساطير أطار علم الوجود الذى يهتم بوصف العالقة بين عالم الكيانات االلهية
الخالد (عالم الجوهر) و بين عالم البشر المادى الذى يعتريه التغير و الشيخوخه و الموت .
و بالتالى تدعونا هذه األساطير ألن ننظر للعوالم الباطنية التى تقع فيما وراء العالم المادى باعتبارها
و اذا توقفت حركة الكيانات االلهية التى تسكن العوالم األسمى و كفت عن التفاعل مع بعضها
البعض ,فسيعود الكون الى حالته األزلية السديمية التى اطلق عليها قدماء المصريين اسم "نون" .
هناك عالقة حتمية و أزلية تربط بين العوالم الباطنية /الروحانية /الخالدة و بين العالم المادى /
النسبى /المتغير ,حيث ال يعتمد عالم المادة على عالم الروح فقط ,و انما هو يستمد وجوده من
بعبارة أخرى ,ان ما هو "نسبى /متغير /زائل" يستمد وجوده مما هو "مطلق /أزلى /خالد" .
فقد ولدت الشبكة أو الماتريكس التى تشكل العالم المادى الظاهر الزائل من عالم الروح الخالد ,
و بالتالى فان هذا العالم الظاهر الزائل ليس كما نراه فى ثقافتنا الحديثه .
تصف أساطير نشأة الكون المصرية عملية تطور الكون من الوجود الروحى األزلى /الخالد /
الباطنى (الغير متجسد) الى وجود آخر ظاهر و متجسد و لكنه زائل .
فى نظر قدماء المصريين ,كلما نظر المرء الى الماضى البعيد جدا ,كلما أدرك أن مستويات
الوجود تختلف تماما عن مستوى الوجود الذى يحيا فيه االنسان فى هذه المرحلة من مراحل الخلق .
و كلما عدنا الى الوراء ,كلما بدا الكون أكثر روحانية و كلما صار الوجود أكثر باطنية و أبعد
عن التجلى أو التجسد المادى ,حيث يتالشى المكان (و الزمان) و يذوب وسط مستوى باطنى من
مستويات الوجود ,و هو مستوى أكثر سيولة و مرونة ,تقل فيه الحدود الفاصلة التى تميز األشياء
- 58 -
عن بعضها البعض بحيث تتوارى هذه الحدود تدريجيا و تقترب األشياء من بعضها البعض لتتحد
فى األزل لم يكن هناك سوى الكيانات االلهية فى حالة وجود باطنى لم يتجلى بعد على هيئة مظاهر
فلكية أو طبيعية .و كل كيان من هذه الكيانات االلهية يعبر عن مبدأ أو صفة أو قدرة الهية
ستتجلى فى العالم المادى فى مرحلة متأخرة من مراحل نشأة الكون و تطوره .
و اذا كانت النصوص الدينية المصرية قد وصفت هذه الكيانات االلهية بأن لها مظهر خارجى تتجلى
فيه (مثل تجلى "رع" فى نور الشمس الذى هو مصدر الحياة ,و تجلى "شو" فى الهواء الذى يعكس
نور الشمس و يجعله متوهجا ,و تجلى "تفنوت" فى الرطوبة ,الخ) ,فان هذه الظواهر الطبيعية
هى المظهر الخارجى الذى تتجسد فيه هذه القدرات و الصفات االلهية التى كانت فى األصل باطنية
و محتجبة .
و بعبارة أخرى ,ان النور و الهواء و الرطوبة فى مرحلة مبكرة من نشأة الكون كانت تتواجد
وجودا روحانيا (الهيا) فقط بدون أن تنعكس فى أى صورة مادية محسوسه .
فى تلك المرحلة لم يكن النور هو النور الذى نعرفه اآلن و لم يكن الهواء هو الهواء الذى نعرفه
و لم تكن الرطوبة كما نعرفها اآلن ,ألن العالم كما نعرفه اآلن لم يكن قد أتى بعد للوجود .
و بنفس الطريقة ,كان المصرى القديم يرى أن طبيعة الزمن تتغير كلما نظرنا الى الوراء و كلما
عدنا الى الماضى البعيد جدا ,حيث يفقد الزمان (و كذلك المكان) مظهره الخارجى .
فى الماضى البعيد – بعبارة أخرى "فى األزل" – لم يكن الزمن محكوما بالدورة السنوية لفيضان
النيل و ال بدورة الشمس فى الفلك و ال بدورة القمر أو نجم الشعرى (زيريوس) .فى األزل لم يكن
قبل خلق الزمن الذى نعرفه و الذى يقاس بحركة األفالك كان الزمن يقاس أو يدرك فقط من خالل
عالقة الكيانات االلهية بعضها ببعض و انبثاقها من بعضها البعض عبر مراحل مختلفة من والدة
- 59 -
الكون و هى المراحل التى عبر عنها المصرى القديم من خالل فكرة توالد الكيانات االلهية
تخيل قدماء المصريين أن هذه الكيانات هى التى كانت تحكم مصر قبل خلق الزمن فى عالم الظاهر
,حيث كانت أرض مصر فى نظر المصرى القديم نسخة مصغرة من الكون األكبر .
أطلق قدماء المصريين على ذلك الزمن األزلى اسم "الزمن األول" .
الزمن األول هو الزمن الذى كان قبل أن تأتى الحواس المادية األرضية (أو الوعى األرضى )
للوجود .و بقدر ما تعبر أساطير نشأة الكون عن علم الوجود كما رآه قدماء المصريين ,فهى أيضا
تصف التاريخ الميتافيزيقى الذى يحكى كيف انسكب "المطلق /الروح /العقل االلهى" فى تجليات
و عن طريق ذلك االنسكاب اتخذ عالم الزمان و المكان صورته الحالية التى نعرفها .
و لذلك فأساطير نشأة الكون المصرية تختلف تماما عن علم الفيزياء الكونية الحديث و الذى يغفل
يحاول علم الفيزياء الكونية الحديث تفسير نشأة الكون من وجهة نظر مادية بحتة ,و لذلك يغيب عن
ادراكه شئ هام ,و هو أن الكون كان يتواجد فى مراحل والدته األولى فى عالم أسمى أو فى وجود
فى مصر القديمة كان هناك العديد من أساطير الخلق ,و أيضا العديد من المراكز الدينية كل منها
سينصب تركيزنا فى هذا الفصل على أهم ثالثة نظريات منها ,و التى تعتبر هى الصورة األولية أو
النموذج األول الذى قامت عليه قصص أخرى لوالدة الكون ( و منها على سبيل المثال نظرية طيبة
تتكامل هذه النظريات الثالثة معا لترسم صورة شاملة عن نظرة المصرى القديم و فهمه للعالقة
المتداخله بين عالم الظاهر /التجسد ,و بين العوالم الباطنية الغير متجسده .
- 60 -
نشأت هذه النظريات الكونية الثالثة فى المراكز الدينية المقدسة لكل من "رع" و "تحوت" و "بتاح"
يطلق على هذه النظريات الثالثة لنشأة الكون اسم تاسوع هليوبوليس ,و ثامون األشمونيين ,
و ما يميز هذه النظريات الثالثة عن بعضها البعض ليس نشأتها من ثالثة مدن مختلفة ,و لكن ما
يميزها هو أن كل منها يعبر عن منظور مختلف لأللوهية و لنشأة الكون الذى تتجلى و تتجسد فيه
صفات االله و قدراته .فكل كيان الهى مقدس فى مركز من هذه المراكز الدينية الثالثة له دور
مختلف فى منظومة الجمع االلهى و هو ما ينعكس فى موقع كل منها و دوره فى عملية التجلى
من الصعب تحديد الفترة الزمنية التى نشأت فيها كل نظرية من هذه النظريات الثالثة على هيئة
تراث شفهى (قبل أن تدون فى نصوص مكتوبة) و لكن يمكننا بالطبع تحديد تواريخ النصوص التى
و أقدم النصوص المدونة التى تحدثت عن تاسوع هليوبيس هى متون األهرام التى تعود لعصر
و أقدم مصدر مصرى مدون تناول ثامون األشمونيين هو متون التوابيت التى تعود لعصر الدولة
الوسطى .
أما معرفتنا بثالوث منف أو نظرية منف لنشأة الكون فهى مستمدة من لوحة شباكا التى دونت فى
عصر األسرة الخامسه و العشرين (دولة حديثه) ,و لكنها فى الحقيقة منقولة من مصدر أقدم يعود
- 61 -
و لذلك فعند بحثنا فى هذه النظريات الثالثة فنحن بذلك نستعرض مراحل مختلفة من تاريخ مصر
القديمة .
يعتقد بعض الباحثين أن كل نظرية من هذه النظريات الثالثة ذاع صيتها و لمع نجمها فى فترة معينة
من تاريخ مصر بالمقارنة بالنظريات األخرى ,و لكن ذلك ليس هو سبب اختيارها لتكون فى بؤرة
اهتمامنا فى هذا الفصل .ان السبب الحقيقى وراء اختيار هذه النظريات الثالثة هو أنها تعبر عن
تركز نظرية هليوبوليس (التاسوع) على فعل الخلق األول الذى قامت فيه الذات االلهية بتعريف
نفسها فأتت للوجود ,و بذلك أتى الوجود للوجود ,أى أصبح خلق العالم شيئا ممكنا ,و لكنها فى
المقابل ال تهتم بخلق العالم المادى كما نعرفه ألن تركيزها ينصب بشكل أساسى على التطورات
و بعكس نظرية هلوبوليس ,نجد نظرية الثامون أو نظرية هرموبوليس (األشمونيين) تركز على
الكيفية التى تنتقل بها الطاقة الخالقة من المستوى الروحى للوجود الى عالمنا .
و لكنها أيضا ال تهتم بالمستوى المادى للوجود ,و انما تركز على مراحل انتقال الطاقة من عالم
أما نظرية منف لنشأة الكون (ثالوث منف) ,فهى تركز على تجسد األلوهية فى أشكال و صور
مادية ,و هى تولى أهمية أكبر لتفاصيل تجسد الروح فى المادة .
و الكيان االلهى الذى تدور حوله نظرية هليوبوليس لنشأة الكون هو "آتوم -رع" ,و الذى ارتبط
بشكل خاص بالشمس .كانت الشمس فى نظر قدماء المصريين هى الصورة التى تنعكس فيها القوى
أما الكيان االلهى الرئيسى فى نظرية هرموبوليس لنشأة الكون فهو تحوت ,رب القمر .
يعكس القمر نور الشمس بدرجات متفاوتة و عبر مراحل مختلفة من الزيادة و النقصان ,و لذلك
رأى فيه قدماء المصريين صورة لعالم برزخى يحتل موقعا وسطا و يعمل كجسر بين السماء و
األرض .
- 62 -
و فى نظرية منف لنشأة الكون كان الكيان االلهى الرئيسى الذى تدور حوله قصة الخلق هو بتاح
لذلك ال يجدر بنا أن ننظر الى العالقة بين هذه النظريات الثالثة على أنها عالقة تنافس أو عداء .
فهذه النظريات الثالثة ال تتنافس و انما هى تتكامل معا لتعبر بشكل أوضح عن دراما كونية تحكى
قصة انسكاب الروح فى المادة و تجسدها ,و هو حدث يقع فى ثالثة مراحل رئيسية لوالدة الكون
عبرت عنها األنظمة الالهوتية الثالثة .و لذلك فهى تشكل معا الصورة الميتافيزيقية الباطنية للكون
و التى يمكن أن نقارنها بالصورة التى وصفتها نصوص األوبانيشادا الهندوسية المقدسة .
هليوبوليس -:
وصفت نظرية تاسوع هليوبوليس نشأة الكون من وجهة نظر كهنة "رع" ,أى من وجهة النظر التى
منذ بداية عصر األسرات كانت هليوبوليس هى مركز تقديس "رع" و تدريس العلوم الكونية التى
تتعلق به .و هليوبوليس هى كلمة اغريقية معناها مدينة الشمس (هيليوس = الشمس) .
أما االسم الذى اطلقه قدماء المصريين على هذه المدينة فهو "ايونو" ,و تكتب فى الغالب "أون"
كانت معابد "آتوم -رع" فى بداية عصر الدولة القديمة دائما ما تشيد بفناء مفتوح يقف فى وسطه
عامود مرتفع يحمل حجر على شكل هرمى أو مخروطى يرمز لحجر ال "بن بن" .
و تاسوع هليوبوليس هو نظرية علمية تتناول والدة الكون و نشأته ,يلعب فيها "آتوم -رع" الدور
الرئيسى ,و لذلك فهى تعتبر أيضا نظاما الهوتيا يتناول أحد جوانب األلوهية .
تصف نظرية هليوبوليس كيف انسكب عالم الروح األبدى الخالد فى عالم المادة المتغير الزائل ,
فى البدء لم يكن هناك شئ سوى "نون" ,و هى هاوية مظلمة ال يسبر غورها من المياه األزلية التى
- 63 -
ليس لها سطح و ال حدود .فى ذلك المحيط األزلى ,لم يكن هناك أى أشكال أو صور تميز أى
شئ عن اآلخر .كل شئ بدأ من "نون" ,حيث السديمية و الالشكل ,و حيث كل األشياء تمتزج
عند البحث فى مغزى "نون" ,علينا أن نتخيل حالة من حاالت الوجود سابقة على خلق الزمان
و المكان ,حيث لم يكن هناك أى أقطاب أو أضداد ,ال فوق و ال تحت ,ال قبل و ال بعد ,ال ليل
و ال نهار .ال شئ ينفصل عن أى شئ آخر ,بل األشياء كلها تتداخل و تتشابك معا .
كل شئ يتداخل مع غيره ,و ال يمكن تمييز شئ عن آخر ,ألنه لم يكن هناك أشياء مستقلة بذاتها .
هنا فى "نون" كان الخلق فى حالة أزلية من الوحدة و االمتزاج و االنصهار ال يمكن وصفها اال
و برغم ذلك فان صورة محيط المياه الالمتناهى تنقل لنا فكرة ايجابية عن "نون" بوصفها مصدر
و برغم أن كينونة "نون" تعبر عن الالشى أو الالوجود ,اال انها فى نفس الوقت تحتوى كل ما
"نون" هى الكون الذى يحتوى صورا و أشكاال مختلفة ال حصر لها ,و هى ما زالت كامنة /
كان الفنان المصرى القديم يصور تلك الحالة األزلية للوجود و التى يطلق عليها "نون" فى بعض
و هنا علينا أن ننتبه الى أن صورة الثعبان الذى يلتف حول نفسه عدة مرات تعبر فى الغالب عن
يطلق على هذا الثعبان فى مصر القديمة اسم "نحب كاو" ,و اسمه يعنى "واهب طاقة الحياة" .
جاء ذكر ثعبان ال "نحب كاو" فى متون األهرام فى هذه العباة التى يتحدث فيها "نحب كاو" عن
- 64 -
*** أنا تدفق الفيضان األزلى "نون" ...أنا الذى أخرج من مياه األزل ...أنا "نحب كاو" ,الثعبان
يحمل ثعبان ال "نحب كاو" نفس االزدواجية التى تتصف بها "نون" ,فالتفاف جسد الثعبان حول
نفسه عدة مرات يشكل فخا أو دوامة تستقطب طاقة الوجود و الحياة فى حالتها الكامنه ,و فى نفس
الوقت توفر لها مسكنا آمنا و حضنا يحميها من التشتت و يساعدها على أن تنبعث و تتدفق من
داخل التواءات جسد ثعبان ال "نحب كاو" -و وسط مياه نون -يسكن المبدأ األول من مبادئ
الخلق أو ومضة الحياة ,و هى الومضة أو الشرارة التى بمقدورها أن تطلق طاقة الحياة الكامنة
أطلق قدماء المصريين على ذلك المبدأ أو القوة الكونية اسم "آتوم" ,و يعنى "الكامل/الكل" .
ان "نون" و "آتوم" هما وجهان لعملة واحدة هى العقل األسمى أو عقل االله ,الذى يحوى بداخله
آتوم هو القوة أو القدرة االلهية التى تبدأ حركة الخلق من عالم الممكن الى عالم الكائن /الواقع ,أو
آتوم هو الذى يقوم بتفعيل طاقة الحياة الكامنة داخل نون و يجعلها تخرج للوجود .
تصف النصوص الدينية المصرية آتوم بأنه كان فى األزل كامنا داخل نون فى حالة من الخمول
*** كنت وحدى فى مياه األزل ,فى حالة من السكون ...قبل أن يكون هناك موطئ لقدمى ,و قبل
أن أجد مكانا ألقف أو أجلس فوقه ...و قبل أن تنشأ مدينة هليوبوليس ***
فى المشهد التالى صور الفنان المصرى القديم مياه األزل فى هيئة ثعبان ضخم يلتوى جسده و يلتف
عدة مرات ,و فى المنتصف يقف آتوم و يبدو منهكا ,و وجهه يتجه ألسفل .
- 65 -
آتوم داخل التواءات جسد الثعبان األزلى
فى األصل ,لم يكن آتوم كيانا مستقال عن مياه األزل "نون" ,و ال عن الثعبان الضخم الذى يرمز
لها .فى متون التوابيت على سبيل المثال ,يقول أحد النصوص على لسان آتوم -:
*** لقد التففت حول نفسى ...و أحاطت بى التواءات جسدى ...أنا الذى خلق لنفسه مكانا وسط
و بينما كان آتوم يصنع لنفسه مكانا وسط دوامات جسد الثعبان الملتوى ,كان فى نفس الوقت يميز
نفسه عن مياه األزل "نون" (و هو ما زال فى داخلها) ليصبح مستقال عنها بعد أن كان كامنا فيها ,
كان تمييز آتوم لنفسه أو تعريفه لذاته داخل الميحط األزلى هو أول فعل من أفعال الخلق .
أو بعبارة اخرى هو أول فعل من سلسلة من األفعال الخالقة التى أدت الى خروج الكون الذى
و أثناء قيامه بتعريف ذاته و تمييزها عن مياه األزل طرأ على آتوم "تغير/تطور/صيرورة" ,فلم
- 66 -
يعد فقط آتوم الذى يرمز لكل ما هو موجود و هو فى حالة تفكك و سديمية داخل مياه نون ,و انما
صار هو آتوم الذى كان مجيئة للوجود هو مجئ الوجود للوجود .
تزامن حدث تعريف آتوم لذاته مع حدث والدة الكون ,أو المجئ للوجود ,و هو المبدأ الكونى الذى
عبر عنه قدماء المصريين باسم "خبرى" و معناه يأتى للوجود ,و هو من ألقاب آتوم .
تحول آتوم من حال الوجود المحض (السلبى الذى ال يتضمن أى فعل) ,الى حال آخر حيث بدأ فى
االتيان بأفعال ,و أول فعل قام به آتوم هو أنه أتى للوجود ,و من هذه اللحظة بدأت سلسلة ال
تنتهى من التحول و التطور و الصيرورة ,و هى فى مراحلها األولى لم تكن تحدث داخل الزمان
رمز المصرى القديم ل "خبرى" (الذى أتى للوجود) بالجعران .و الذى عرف فى مصر القديمة
بقدرته على خلق حياة جديدة بشكل تلقائى من داخله باستخدام كرات من الروث يضع بيضه بداخلها
فى الشكل التالى يقف آتوم داخل التواءات جسد الثعبان الضخم (رمز مياه األزل) الذى تخرج منه
آتوم داخل التواءات جسد الثعبان األزلى ,و فوق رأسه خبرى
- 67 -
يرفع آتوم ذراعه ليمسك بالجعران "خبرى" فوق رأسه ,و هو ما يعبر عن قدرته على أن يأتى
و هكذا يخرج آتوم من مياه األزل "نون" و يحرر نفسه من التواءات جسد الثعبان األزلى الذى يلتف
حوله .
صور الفنان المصرى القديم خروج آتوم من مياه األزل بطريقتين .
الطريقة األولى تصوره على هيئة أرض مرتفعة تبرز وسط مياه األزل ,يطلق عليها اسم التل
األزلى ,و هو عبارة عن شئ له شكل محدد و مميز يبرز وسط محيط المتناهى فى حالة سيولة ال
*** التحيات لك يا آتوم ...التحيات لك يا خبرى ,يا من أتيت للوجود بذاتك ,يا من خلقت نفسك
بنفسك ...لقد ارتفعت على هيئة تل عالى ...لقد أتيت للوجود فكان اسمك "خبرى" **
تعيد الطبيعة تكرار حدث خروج آتوم من مياه األزل على هيئة تل مرتفع كل عام بشكل رمزى فى
صورة األرض بعد الفيضان حين تنحسر عنها مياه النيل التى ترمز لمياه األزل .
أما الصورة الثانية التى تعبر عن خروج آتوم من مياه األزل فهى قيامه بتحرير نفسه من بين
و لكى يستطيع آتوم أن يحرر نفسه عليه أن يصارع الثعبان األزلى و يذبحه و فى هذه الحالة يتخذ
يصور المشهد التالى آتوم على هيئة قط .و بينما يقوم القط آتوم بذبح الثعبان األزلى تنمو شجرة
خارج التواءات جسد الثعبان .هذه الشجرة هى شجرة اليشد ,و هى رمز الشجرة الكونية التى
- 68 -
آتوم على هيئة قط هليوبوليس ,يذبح الثعبان األزلى
يتزامن انبثاق العالم من بين أفرع الشجرة الكونية مع حدث آخر ,و هو نمو أعواد البوص عند
أطراف التل األزلى ,حيث تنغرس جذور أعواد البوص فى المياه األزلية و األرض األزلية
و ترتفع الى أعلى ,ثم يخرج طائر النور من وسط الظلمات ناشرا جناحيه و يحط فوق أعواد
البوص .هذا الطائر الذى يأتى بالنور من قلب الظلمة هو الصورة األزلية ل "رع" ,رب النور .
تقول روايات أخرى أن طائر النور يحط فوق حجر ال "بن بن" ,بدال من البوص .
و كلمة "بن بن" فى اللغة المصرية القديمة تعنى الحجر الذى سال (من جسد آتوم) .
فى عصر الدولة القديمة ,كان قدماء المصريين يرفعون حجرا هرمى أو مخروطى الشكل فوق
عامود وسط فناء المعبد الرئيسى بمدينة هليوبوليس ليكون رمزا مقدسا ل "آتوم – رع" .
فى الشكل التالى صور الفنان المصرى طائر النور و هو يحط فوق أعواد البوص التى نمت فوق
- 69 -
طائر النور "رع" يحط فوق أعواد البوص التى تنمو فوق التل األزلى الهرمى الشكل
ان ما تصفه النصوص الدينية المصرية هو تجلى آتوم للوجود عبر مرحلتين .
المرحلة األولى هى صورة أول شكل صلب يمكن تمييزه وسط مياه األزل السائلة التى تهيمن عليها
العشوائية ,أو ظهور أول تعريف وسط محيط المتناهى ال يمكن فيه تعريف أو تحديد أى شئ .
و كما تعيد الطبيعة تكرار ظهور التل األزلى من بين مياه األزل كل عام فى صورة انحسار مياه
الفيضان عن أرض مصر ,كذلك كان حدث خروج النور من قلب الظلمة يعاد كل صباح فى
يعبر الجعران "خبرى" عن تجلى آتوم للوجود سواء فى صورة ميالد النور من قلب الظلمة أو فى
يرمز "خبرى" بشكل خاص لظهور أول خيط نور من قلب الظلمة ,و لذلك فهو يرتبط ب "رع" ,
و كما يرتدى آتوم عباءة "خبرى" و يتخذ هيئته لحظة مجيئه للوجود ,كذلك يرتدى أيضا عباءة
"رع" و يظهر فى صورته .على سبيل المثال ,يقول أحد نصوص كتاب الخروج الى النهار -:
- 70 -
*** أنا آتوم ...روح "رع" المقدسة /االلهية ,التى انبثقت من "نون" ...أتيت للوجود من ذاتى ,
و لذلك كان آلتوم هوية ثالثية ,فهو "آتوم -خبرى -رع" .
نحن هنا أمام مفهوم ميتافيزيقى معقد يصف تحول الواحد الى ثالثة ( أو الى أربعة اذا أضفنا
من الصعب أن نحلل عالقة كل كيان من هذه الكيانات االلهية مع غيره بشكل عقالنى ,على سبيل
المثال العالقة بين نون و آتوم ,أو بين خبرى و رع ,أو بين رع و نون ,و هكذا .
و اذا أخضعنا العالقة بين هذه المفاهيم للتحليل المنطقى ,فسوف نبتعد عن روح الحضارة المصرية
القديمة و عن الطريقة التى كان يفكر بها المصرى القديم بدال من أن نقترب منها .
ان المفاهيم التى يدور حولها علم الفيزياء الكونية فى مصر القديمة هى مفاهيم بعيدة تماما عن
الفيزياء المادية التى يدور حولها العلم الحديث ,بحيث اذا أخضعنا تلك العلوم القديمة للنظام
المنطقى الذى نعرفه فسنفقد المعنى و المغزى الذى أراد قدماء المصريين التعبير عنه .
لكى نفهم رموز الحضارة المصرية القديمة علينا أن نتبنى طريقة تفكير أقرب الى روح الطبيعة
بحيث تتدفق األفكار بمرونة داخل بعضها البعض فى عالقة احتواء (مثل هولوغراف) بدال من أن
ان نون هى آتوم ,و آتوم هو رع ,و "آتوم رع" هو نون ,و مع ذلك يمكننا أن نميز نون عن
آتوم .
كان آتوم كامنا داخل نون و لكنه فى نفس الوقت يحمل صفات و قدرات تميزه عن نون ,و هو ما
جعله قادرا على تمييز نفسه و هو ما زال داخل نون .هذ التمييز هو الذى جعل خروج آتوم من
مياه األزل ممكنا و بالتالى أدى الى خروج الخلق كله للوجود .
و فى اللحظة التى قام فيها آتوم بتعريف ذاته و تمييزها وسط مياه األزل ,تحرك و أتى للوجود
فصار هو "خبرى" ,ثم اكتمل تجلى خبرى بعد أن أتى للوجود فصار هو "رع" .
- 71 -
يمكننا اذن أن نقول أن "رع" هو المرحلة الرابعة و األخيرة من تجلى الواحد أو العقل األسمى ,
و مع ذلك فقد كان "رع" حاضرا و فعاال خالل كل مراحل تجليه للوجود .
يصف النص التالى من كتاب الخروج الى النهار (فصل رقم )07العالقة المحيرة بين الكيانات
*** أنا آتوم فى تجليه و مجيئه للوجود ...أنا الواحد ...أتيت للوجود داخل نون (مياه األزل) ,
فكنت "خبرى" ...و أنا "رع" فى اطاللته على العالم فى الزمن األول ..أنا االله العظيم الذى أتى
للوجود من ذاته و خلق نفسه بنفسه ,من داخل "نون" ,و هو الجوهر (األب) الذى انبثقت منه
يعتبر هذا النص من أهم النصوص التى وصفت العالقة بين الكيانات االلهية األربعة و هو جدير
بالتأمل .
نحن هنا بصدد مفاهيم ميتافيزيقية ماورائية عبر عنها النص بلغة األسطورة ,حيث تحول العقل
االسمى /الواحد الى أربعة ( نون /آتوم /خبرى /رع) و قد أعد المشهد لظهور هذه الكيانات أو
ان التعبير عن القدرة الالمتناهية على الخلق و االبداع هو ركيزة أساسية فى هوية آتوم .
*** أنا الذى أتى للوجود على هيئة آتوم ...فى هليوبوليس انتصب عضوى الذكرى ,فأمسكت به
تعبر فكرة االستمناء عن طبيعة آتوم الخنثى ,فهو ليس بذكر و ال أنثى ,و انما هو الكل /الكامل .
يوصف آتوم بأنه "هو -هى" الذى يمكنه أن يخصب و فى نفس الوقت أيضا يحمل و يلد .
- 72 -
بعبارة أخرى ,ان آلتوم طبيعة مزدوجة تحوى كال من الذكر و األنثى معا .
أما آتوم نفسه فيتواجد فى صورة غير مزدوجة ,ألنه يعبر عن مبدأ الوحدانية .
جاء فى متون األهرام هذه العبارات التى تخاطب آتوم قائلة -:
*** عطست فأتى "شو للوجود" ...و بصقت فأتت "تفنوت" للوجود ...ثم وضعت ذراعيك حولهما
على هيئة عالمة ال "كا" (طاقة الحياة) لتسرى فيهما كاءك ***
و كل فعل من هذه األفعال (االستمناء و البصق أو العطس) هو مرحلة من مراحل مجئ آتوم
نحن هنا بصدد فعل من أفعال الخلق ,و ليس مجرد تمييز أو تعريف للذات كما حدث من قبل داخل
مياه األزل .أى أن الخلق بدأ بظهور التميز و التنوع وسط محيط أزلى ال يمكن فيه تمييز شئ عن
آخر ,ثم تطور الى ظهور كيانات الهية مستقلة بذاتها عن المصدر و لكنها فى نفس الوقت ترتبط به
فى عالقة احتواء ,حيث يحتوى "األصل /الواحد" كل أشكال التعدد التى انبثقت منه لتعبر عن
انبثق كل من "شو" و "تفنوت" من "آتوم" و أصبحا كيانات مستقلة بذاتها ,ثم وضع آتوم ذراعيه
حولهما على هيئة عالمة ال "كا" ,لكى تسرى فيهما كاءه ,أى لتسرى طاقة الحياة من خاللهما .
ان "شو" و "تفنوت" لم ينفصال عن آتوم بعد انبثاقهما منه ,ألن منهما يستمد وجوده من آتوم الذى
ان انبثاق "شو" و "تفنوت" من "آتوم" ال يعنى أن كل منهما يستمد وجوده من ذاته .
و اذا استخدمنا لغة العصور الوسطى األكاديمية ,يمكننا أن نقول أن "شو" و "تفنوت" هما جوهر
يتميز بذاته و لكنه فى نفس الوقت يعتمد فى وجوده على آتوم .
و بعبارة أخرى ان عالقة "شو" و "تفنوت" بآتوم أشبه بعالقة المالئكه ب "يهوه" كما وصفها
- 73 -
و بوجه عام ,تصور النصوص الدينية المصرية القديمة العالقة بين الكيانات االلهية بأنها أشبه
بالعالقة بين أعضاء الجسد الواحد التى يحكمها عقل واحد هو العقل األسمى .
على سبيل المثال ,نقرأ فى أحد نصوص التوابيت (نص رقم )31هذه العبارات التى تصف االله
*** يقول آتوم لهاوية نون :أنا فى حالة سكون و تأمل ,و تنتابنى حالة من الوهن و الضعف ...
لم أصور البشر بعد ...لو كانت األرض موجودة فى ذلك الزمن ألراحت قلبى و منحته البهجة
و أثلجت صدرى ...دعنا نجمع أجزاء الجسد لكى يتشكل و يأتى للوجود ,و لنضع حدا لذلك
على آتوم أن يجمع أجزاء جسده الواهن (و الذى ترمز له الكيانات االلهية) أوال ,لكى تأتى األرض
(العالم المادى) للوجود ,و لكى يأتى البشر و كل المخلوقات للوجود .
فقط عند جمع أوصال آتوم الممزقة ,يمكن أن تتشكل األرض و تأتى للوجود .
فى النص السابق نجد تأكيد على فكرة مفادها أن السبب األول وراء خلق الكون هو التعبير عن
تسعى الذات االلهية الخالقة دائما الى التعبير عن نفسها حيث تتطور و تخرج من حالتها األصلية
فقط عند خلق عوالم و أكوان جديدة تجد الذات االلهية بهجتها .
يعتبر خروج "شو" و "تفنوت" للوجود محطة رئيسية فى رحلة نشأة الكون و تطوره .
*** أنا ذلك الفضاء الذى نشأ وسط مياه األزل ..لقد أتيت للوجود و نشأت داخل تلك المياه ...
"شو" هو الفضاء ,و لكنه ليس الفضاء الذى نعرفه ,ألن "شو" أتى للوجود قبل أن يأتى للوجود
- 74 -
الكون الذى نعرفه بما فيه من فضاء .
يمكننا أن ننظر الى "شو" على أنه المبدأ الكونى أو القوة الكونية (أو القدرة االلهية) التى عن
طريقها تنبثق األشكال و الصور من محيط الالشكل األزلى الذى تتواجد فيه األشياء فى حالة
"شو" هو القوة الكونية التى يعبر من خاللها آتوم عن مشيئته و قدرته على خلق الكيانات االلهية
أما "تفنوت" ,فقد ارتبطت فى الفكر الدينى المصرى بالرطوبة أو المياه و بوجه خاص مياه
تكمن أهمية "تفنوت" و دورها فى منظومة الخلق فى أنها هى رفيقة "شو" األنثى ,التى تناقض
يمثل آتوم مبدأ الوحدانية األزلى ,الذى انبثق منه مبدأ االزدواجية عند بدء الخليقة .
ان ظهور "شو" و "تفنوت" يمثل انبثاق مبدأ االزدواجية -و الذى يتجلى بشكل خاص فى العالقة
أتى "شو" و "تفنوت" للوجود ككيانات كل منهما مستقل بذاته عن اآلخر و عن األصل الواحد الذى
انبثق منه ,و لكن هذا االستقالل و التميز ال يعنى االنفصال .
تشرح لنا بردية "نسى -آمسو" ( )Nesi Amsuهذا المبدأ العددى و دوره فى نشأة الكون بهذه
العبارات -:
*** أخرجت من ذاتى "شو" و "تفنوت" ...و بعد أن كنت واحدا صرت ثالثه ***
و هكذا تعيد المرحلة األولى من مراحل الخلق الحدث األزلى الذى قام فيه آتوم بتعريف ذاته
فكما ميز آتوم نفسه عن نون فصار الواحد اثنان و فى نفس الوقت ظهر للوجود مبدأ جديد هو
- 75 -
مبدأ الصيرورة و التحول "خبرى" ,كذلك أخرج الواحد "آتوم" من ذاته أول زوج من األقطاب
يعبر عن مبدأ االزدواجية (شو +تفنوت) و هى ازدواجية قائمة على اختالف الجنس الذى تكمن
فيه القدرة على خلق حياة جديدة من خالل التوالد بحيث يتجلى الخلق للوجود على هيئة أجيال تشبه
آتوم نون
↘↙ ↘↙
من خالل االتحاد الجنسى بين "شو" و "تفنوت" يولد جيل جديد من الكيانات االلهية .
و هكذا ننتقل الى مرحلة ثالثه هامة من مراحل نشأة الكون .
فالمرحلة األولى هى مرحلة تعريف الذات االلهية و تمييزها عن المحيط األزلى الذى يحوى كل من
الخالق و المخلوق (الذى سيأتى للوجود) ,و هم جميعا فى حالة الوحدة األزلية .
و المرحلة الثانية هى مرحلة انبثاق مبدأ االزدواجية (شو +تفنوت ) من مبدأ الوحدانية (آتوم)
و استقالل كل منهما بذاته عن اآلخرين ,و لكن بدون أن يحدث انفصال .
أما المرحلة الثالثة فهى مرحلة الخلق من خالل مبدأ االزدواجية الذى يمثله "شو" و "تفنوت" .
و منذ ذلك الحين تأخذ عملية نشأة الكون و تطوره منحى جديدا و تتجه بعيدا عن العقل األسمى ,
و هى اللحظة التى يتوارى فيها آتوم خلف الستار بعد أن أدى دوره ليصير فى الخلفية .
من ذلك التفاعل الجنسى بين "شو" و "تفنوت" يولد الجيل التالى من الخلق ,و هو عبارة عن زوج
آخر من الكيانات االلهية ,و هم جب (رب األرض) و نوت (ربة السماء) .
و هنا علينا أن ننتبه الى أن مجئ "جب" و "نوت" للوجود ال يعنى خلق السماء و األرض على
المستوى المادى ,ألن ظهور ظهور جب و نوت ككيانات الهية سابق على خلق السماء و األرض
- 76 -
بشكلها الذى نعرفه اآلن .
كانت األرض و السماء فى األصل كيانا واحدا ,ال يفصل بينهما أى فضاء .و علينا مرة أخرى أن
ننتبه الى أن هذه الحالة من االندماج و الوحدة بين السماء و األرض كانت سابقة على خلق العالم
ان الوحدة األزلية بين جب و نوت و انصهارهما معا فى كيان واحد يصعب الفصل بين شقيه هو
نون آتوم
↘↙ ↘↙
↙↘ ↙↘
و كما حدث فى المرحلة األولى من الخلق حين صار الواحد أربعة ,أعيد تكرار نفس المبدأ الكونى
على مستوى آخر فى مرحلة جديدة من مراحل نشأة الكون حين قام آتوم باالستمناء فأخرج أول توأم
(شو و تفنوت) من ذاته عن طريق االنبثاق ,ثم تلى ذلك خروج جيل آخر من الكيانات االلهية (جب
و نوت) عن طريق التزاوج .و بذلك أصبح المشهد مهيئا للمرحلة التالية ,مرحلة خلق العالم
المتجسد ,و هو حدث لم يقع من خالل التزاوج و انما من خالل فعل محدد قام به "شو" ,و هو
فى المشهد التالى صور الفنان المصرى القديم "شو" و هو يقف على يمين جسد نوت الذى ينحنى
- 77 -
فوق جب رافعا يديه الى أعلى ,و بذلك يفصل بين نوت و جب .
تختلف هذه الصورة عن الصور السابقة التى تعبر عن صيرورة الواحد الى اثنين .
فى الصور التى تعبر عن تعريف آتوم لذاته و تمييزها عن مياه األزل يظهر آتوم و هو يبرز من
المياه على هيئة تل عالى ,مبرهنا بذلك على قدرته الالمتناهية على الخلق و بذلك يعرف نفسه بأنه
و فى المشهد الذى يصور هزيمة الثعبان األزلى ,هناك شعور بنشوة انتصار آتوم الدموى على
فى المرحلة التالية يتحول الواحد الى اثنين ,فيخلق آتوم من ذاته التوأم "شو" و "تفنوت" عن طريق
االستمناء أو العطس و البصق .و هى تعبيرات مختلفة نستشف منها (أو على األقل من بعضها) أن
أما فى المرحلة التالية التى يقوم فيها "شو" بفضل نوت عن جب ,فنحن هنا أمام عملية انفصال
للواحد (جب – نوت) ليصبح اثنين ,و ذلك بواسطة قوة خارجية هى "شو" .
- 78 -
و بعكس األحداث السابقة التى كانت مصحوبة بالنشوة و البهجة ,نجد أن حدث انفصال "نوت" عن
"جب" مصحوب باأللم .فقد وقع حدث االنفصال رغما عن ارادة العاشقين (جب و نوت) ,و اذا
من خالل فصل "نوت" عن "جب" بدأ عالم الروح أخيرا يدخل حيز التجسد .
برفع السماء فوق األرض ,و باتخاذ "شو" موقعه بينهما ليفصلهما أصبحت الظروف مهيئة
فى هذه اللحظة بدأت الكيانات االلهية (التى كانت كامنة داخل كيان "جب +نوت" الواحد) تكتسب
هيئة ظاهرة أو جسد خارجى ,فاتخذت صور النجوم التى ترصع جسد نوت .
*** يا نوت ,لقد احتضنت كل كيان الهى يمتلك قاربا (مدارا فلكيا) ,لكى يبحر فوق جسدك ***
احتل تجلى "رع" فى هيئة الشمس أهمية خاصة فى أساطير الخلق المصرية .تخيل المصرى القديم
مجئ الشمس و تجليها للوجود فى صورة طائر النور الذى يخرج من بيضة وضتعها أوزة كونية
تولد الشمس من بيضة كونية على هيئة طائر ينقر قشرة البيضة و يكسرها ليخرج الى الوجود .
و هنا تطالعنا مرة أخرى صورة تجلى عالم الروح الباطن و تجسده فى عالم الظاهر من خالل
هناك شعور بالتمزق و التفتت يصاحب تجلى الخلق و تجسده فى عالم المادة .
ان صورة انفصال "نوت" عن "جب" باستخدام العنف تعبر عن فكرة والدة الخلق من خالل األلم
الذى يشبه ألم المخاض .فاأللم و المعاناة هما شرط الحياة فى العالم المادى .
يصور هذا المشهد العالم الذى بدأ للتو فى التجسد .و فيه يظهر "آتوم -رع" و هو يبحر فى قاربه
- 79 -
الكون المتجسد لحظة مجيئه للوجود
على الجانب األيمن للصورة يستقبل ال "دوات" (العالم السفلى) قارب "رع" بأذرع مفتوحة .
و برغم أن "آتوم -رع" هو خالق كل الكيانات االلهية ,اال أن نوت هى األم الكونية لكل ما
و اذا كان "رع" يتجلى فى الشمس ,فان ابنته (أو بمعنى أدق حفيدته) نوت هى فى نفس الوقت
و منذ تلك اللحظة تصبح األرض هى مسرح كل التطورات الروحانية التالية .
فوق مسرح األرض تبدأ أحداث الدراما الكونية بين الكيانات االلهية ,و هى دراما تحكمها قوانين
من انفصال جب و نوت أتى للوجود أربعة أطفال ؛ "أوزوريس /ايزيس /ست /نفتيس" و هم
كيانات الهية و فى نفس الوقت قوى كونية ,حيث يهيمن كل منهم على منطقة فى الكون .
- 80 -
ارتبط أوزير بشكل خاص بمجموعة نجوم أوريون و بالقمر ,و ارتبطت ايزيس بنجم زيريوس
(الشعرى) و ارتبط "ست" بمجموعة نجوم الدب األكبر و التى تتخذ شكل فخذ ثور ,أما نفتيس
فارتبطت بذلك الجزء الخفى من السماء الذى يقع تحت خط األفق .
و كل من هذه الكيانات االلهية يعتبر وسيط أو قناة تنتقل عبرها الطاقات الكونية من مستوى الى
مستوى آخر .و ألن االنسان المعاصر ينظر للكون على أنه يقع خارج عالم األرض ,لذلك فهو ال
يعى أن المفاهيم المتناقضة فى عالمنا األرضى (كالخير و الشر ,الخصوبة و العقم ,الكراهية
كان المصرى القديم يرى أن كل ما يحدث على األرض ما هو اال صورة أو انعكاس ألحد القوى
الكونية .
تدور نظرية هليوبوليس لنشأة الكون حول هذه القوى أو المبادئ الكونية الماورائية التى تعتبر هى
يركز تاسوع هليوبوليس بشكل كامل على عالم الكيانات االلهية ,و يبحث فى سؤال جوهرى ,
أو بعبارة أخرى ,يبحث تاسوع هليوبوليس فى كيفية نشوء المتعدد من الواحد .
بانبثاق الكيانات االلهية التسعة من الواحد اكتمل الخلق كما جاء فى الهوت هليوبوليس .
و من وجهة نظر علم األعداد المقدس ,يعتبر رقم تسعة هو المنتهى الذى ال يمكن للخلق أن
يتجاوزه ,و لذلك فببلوغ هذا العدد يعود كل شئ مرة أخرى الى الواحد الذى انبثق منه .
و من األشياء الجديرة باالنتباه أنه بظهور حورس (ابن ايزيس و أوزوريس) ارتفع عدد الكيانات
االلهية فى تاسوع هليوبوليس ليصير عشرة (بدال من تسعة) ,و هو الرقم المقدس الذى ارتبط دائما
بحورس .
يرمز رقم عشرة للعودة مرة أخرى الى نقطة البداية .
كان قدماء المصريين يكتبون رقم واحد على شكل خط مستقيم فى وضع رأسى .أما رقم عشرة فهو
نفسه رقم واحد ,و لكنه انحنى ليعود مرة أخرى الى نقطة البدء .
- 81 -
الى اليسار :رقم واحد بالهيروغليفية
كان حورس فى مدرسة هليوبوليس للعلوم االلهية هو عاشر التاسوع ,فهو الذى أعاد التاسوع مرة
بعبارة أخرى يعتبر حورس انعكاس أو صورة مصغرة ( )microcosmمن آتوم .
حورس هو الكيان االلهى الذى يمكن من خالله العودة مرة أخرى الى الواحد .
نشأت نظرية التاسوع فى مدينة هليوبوليس التى كانت مركزا لتقديس "رع" و هو العقل األسمى
عبرت نظرية التاسوع عن العلوم االلهية من وجهة نظر كهنة هليوبوليس التى رأت فى "رع"
صورة من "آتوم" الذى تجلى بعد أن كان محتجبا و الذى بدأ الخلق بأن أتى للوجود ,فأتى الخلق
للوجود .
أما "هرموبوليس" (األشمونيين /محافظة المنيا) فهى مركز تقديس "تحوت" الذى ارتبط بالقمر .
ان عالقة تحوت ب "رع" أشبه بعالقة القمر بالشمس ,حيث يتجلى "رع" فى نور الشمس بينما
- 82 -
ال يوجد مصدر واحد يشرح نظرية هرموبوليس لنشأة الكون ,و انما هناك نصوص متفرقة بمتون
التوابيت .
و من المالحظ أن هذه المصادر المتفرقة تعكس بشكل واضح الفرق بين "تحوت" و "رع" .
تحوت هو الذى قام بتفعيل و تنفيذ خطة الخلق ,و لذلك يمكن أن نطلق عليه ( , )demiurgeأى
من األشكال التى اتخذها تحوت فى الفلسفة الدينية المصرية هيئة طائر األيبيس (طائر أبو منجل) .
و يقال أن تحوت (فى هيئة طائر األيبيس) هو الذى نقر البيضة الكونية فى هرموبوليس فأتى الخلق
للوجود .
تحوت فى هيئة طائر األيبيس (الى اليسار) ,و فى هيئة قرد البابون (الى اليمين)
من ألقاب تحوت "رب القمر" و "رب العالم" ,و هى ألقاب تعبر عن هويته و صفاته ,و تعكس
الفرق بينه و بين "آتوم -رع" ,حيث يعبر كل منهما عن أحد جوانب األلوهية التى تختلف تماما
كان تحوت (بوصفه ربا للقمر) مسئوال عن تنظيم الكون و ضبط مقاييسه و أبعاده الهندسية .
- 83 -
لذلك كان من ألقابه "الذى يعرف أبعاد السماء" و "الذى يحصى النجوم" و "الذى يحيط علما
و تحوت باللغة المصرية القديمة ينطق "تحوتى" و يعنى "الذى يحصى أو يقيس" .
لذلك يمكننا أن ننظر الى تحوت باعتباره العقل الكونى ,و الذى أطلق عليه االغريق مصطلح
وصف الفيلسوف و المؤرخ و االغريقى بلوتارك تحوت بأنه أقرب الكيانات االلهية المصرية
تحوت هو ذلك الجانب من العقل االلهى الذى يستقطب فيض الطاقة الروحانية فى صورتها األولية
و يعيد صياغتها طبقا لقوانين التناغم و الهارمونى و الهندسة المقدسة ,و هكذا يتجلى للوجود كون
يحكمه النظام .و لذلك كانت زوجة تحوت و رفيقته هى "ماعت" ,و هى الكيان االلهى الذى يعبر
و تحوت – مثله مثل ماعت – هو وسيط يقوم بنقل طاقة الحياة من العالم األسمى (عالم الروح)
و يعيد بثها طبقا لقوانين التناغم الكونى الى العوالم األدنى .
يظهر تحوت فى الفن المصرى القديم أحيانا و هو يقوم بضبط الميزان الذى توزن به قلوب البشر
يوم الحساب .و فى هذه المشاهد يتخذ تحوت عادة هيئة قرد البابون .
يصور المشهد التالى عملية وزن القلب ,حيث وضع قلب المتوفى فى كفة الميزان المجاورة لتحوت
و بين كفتى الميزان يقف حيوان ميثولوجى يطلق عليه "عاممت" ,و هو الذى يلتهم القلوب التى
- 84 -
تحوت و ماعت أمام الميزان
ان وقوف كل من تحوت و ماعت عند كفتى الميزان الذى يزن قلوب البشر يوم الحساب يعبر عن
هذا االتزان الكونى هو الصورة األولية أو النموذج االلهى الذى يجب على االنسان أن يضبط عليه
ارتبط تحوت بماعت ألن كل منهما يكمل عمل اآلخر .لذلك يظهر تحوت فى كثير من األحيان
وهو يقوم برسم ريشة نعامة ,و هى شعار ماعت و رمزها .
و يعتبر المشهد التالى تعبيرا فنيا رائعا عن دور تحوت الهام و تفانيه فى تفعيل المبادئ و الصفات
- 85 -
تحوت يرسم ريشة الماعت
تحوت هو العقل االلهى الذى يستخدم الصوت كأداة لتفعيل قدرته على الخلق .
يقوم تحوت بتفعيل القدرة االلهية على الخلق من خالل الصوت .
كتب عالم المصريات "جاستون ماسبيرو" واصفا تحوت بهذه العبارات -:
*** اعتقد قدماء المصريين أن الكلمة المنطوقة هى أكثر قوى الخلق فاعلية ,فالكلمة بعد أن تخرج
من بين الشفاه ال تظل مجرد صوت و انما تتجسد فى كيان محسوس و فى أجساد تحركها طاقة
الحياة و تتجلى فى كيانات الهية تحيا و تخلق المزيد من أشكال الحياة ***
أتى الكون للوجود من خالل تحوت و الذى يمكن أن نصفه بأنه العقل الكونى الذى يطلق ذبذبات
الصوت هو المادة الخام التى شكلت الكون و جعلته كائنا .و تحوت هو القدرة االلهية التى نطقت
ذلك الصوت .و لذلك كان تحوت هو رب السحر ,الذى يلعب فيه ترتيل الكلمات السحرية دورا
فقط حين يكون الصوت صوت الحق (الماعت) يصبح بمقدور الساحر أن يتحكم فى القوى
الماورائية فى الطبيعة .
- 86 -
تحوت هو الكيان االلهى الذى يحكم قوى الخلق و يجعلها تتجلى فى أشكال و هيئات متناغمه ,
وصفت النصوص الدينية المصرية القديمة تحوت بأنه قلب "رع" و لسانه ,حيث القلب هو رمز
الذكاء الكونى و االرادة و اللسان هو رمز القدرة على التعبير و على تفعيل االرادة .و هو ما يعنى
أن العالقة بين نظرية هليوبوليس و نظرية هرموبوليس لنشأة الكون لم تكن عالقة تنافس و انما هى
عالقة تكامل ,حيث تركز كل منهما على أحد جوانب القدرة االلهية .
و كما رأينا فى الفقرة السابقة ,تركز الصور و الرموز المستخدمة فى أساطير هليوبوليس على
الينبوع الذى انبثق منه كل شئ ,و يوصف بأنه "مطلق /ال محدود /ال ينضب" .
ينبوع الخلق ليس فقط ممتلئ عن آخره و انما هو يفيض بما فيه من وفرة ,و من ذلك الفيضان
تتدفق الطاقة الخالقة فى صورة آتوم الذى يخلق من ذاته عن طريق القذف أو البصق أو العطس .
رأى المصرى القديم فى صورة الشمس التى تنبثق منها طاقة الحياة و النور و الدفء بال انقطاع
رمزا لذلك الجانب من جوانب العقل األسمى الذى يختزل فى اسم "آتوم" (الكامل /الكل) .
أما نظرية هرموبوليس لنشأة الكون ,فهى تركز على تحديد الالمحدود ,بمعنى اعادة توجيه الطاقة
الروحانية االلهية التى ليس لها شكل و ال حدود داخل قنوات معينة تعيد هيكلتها حسب قوانين
التناغم و التناسق المقدسة فى أشكال متجسدة .و هى عملية تقوم بشكل أساسى على استخدام
تأمل المصرى القديم القمر فى زيادته و نقصانه ,فاعتقد أنه يقوم بتحجيم نور الشمس الذى يعكسه
يقوم تحوت بمهمة مشابهة عندما يستقطب الطاقة الروحانية الالمحدودة بطبيعتها و يجعلها محدودة
داخل أشكال و صور .و من خالل عمل تحوت فى هندسة الطاقة الروحانية و اعادة تصميمها
- 87 -
يمكن للكيانات االلهية أن تقوم بدورها فى منظومة الخلق .
و لذلك كان من ألقاب تحوت "الذى يضع الكيانات االلهية فى مكانها " .
*** التحيات لك يا تحوت ,يا رب القمر ...أيها الثور الذى يسكن هرموبوليس ...الذى يضع
تبدأ قصة الخلق فى هرموبوليس – مثلها مثل كل أساطير الخلق فى مصر القديمة – من "نون"
(مياه األزل) ,و هى حالة ما قبل الخلق أو الالوجود التى تشبه فى سيولتها المياه التى ال يمكن
يبدأ فعل الخلق األول فى نظرية هرموبوليس حين ينطق تحوت بالصوت األزلى أو الكلمة األزلية
الخالقة فيأتى للوجود أربعة أزواج من الكيانات االلهية داخل "نون" .صور الفنان المصرى القديم
الكيانات االلهية المذكرة برؤس ضفادع ,و الكيانات االلهية المؤنثه برؤس حيات ,كما فى هذا
- 88 -
ثامون األشمونيين ( من معبد فيلة )
فى القسم العلوى من المشهد يقف بتاح فى الجانب األيمن فوق منصة الماعت ليشرف على قوى
الثامون أثناء عملها ,و فى القسم السفلى من المشهد يقف تحوت فى الجانب األيمن أيضا ليقوم بنفس
الدور .
و ظهور قوى الثامون فى صورة حيوانات زاحفة (حيات) و برمائية (ضفادع) هو شئ جدير
بالتأمل .
اعتقد قدماء المصريين أن هيئة الحيات و األفاعى هى أقدم األشكال و أكثرها تعبيرا عن الحالة
األزلية للوجود .أما الضفادع فقد كانت فى نظر قدماء المصريين رمزا لخروج الحياة من المياه بعد
- 89 -
تشكلها تحت سطحها .و ظهور الحيات و الضفادع معا فى المشهد السابق يعبر عن الحالة األزلية
للوجود .
أتت قوى الثامون للوجود فى مدينة هرموبوليس (األشمونيين ,محافظة المنيا) ,و اسمها باللغة
المصرية القديمة هو "خمنو" ( , )Khmunuأى مدينة الثمانية أو مدينة الثامون .و هنا علينا أن
ننتبه الى أن قوى الثامون ال تنتمى للكون المخلوق ,و انما هى تعبر عن الجوانب المختلفة لحالة
تعبر أسماء قوى الثامون عن هذه الصفات ,و هى كما يلى -:
و أقدم ذكر للثامون ورد فى متون األهرام فى عصر الدولة القديمة .
أما فى متون التوابيت (من عصر الدولة الوسطى) فقد تكرر ذكر الثامون أكثر من مرة فى سياق
و لكن فى بعض هذه النصوص نجد أن "شو" يقوم بدور تحوت .لذلك افترض بعض الباحثين أن
"شو" ربما كان هو أول صورة من صور تحوت فى الفكر الدينى المصرى ,و خصوصا أن "شو"
ظهر أحيانا فى هيئة قرد البابون أو برأس بابون ,كما فى المشهد التالى .
- 90 -
"شو" برأس بابون ,يرفع "نوت" (السماء) فوق ذراعيه
كما أن هناك أيضا تشابها بين "شو" و "حكا" (السحر الكونى /األزلى) فى المشهد التالى ,حيث
يحمل "شو"فوق رأسه الشعار المميز ل "حكا"و بذلك يرتدى عباءته و يقوم بدوره .
- 91 -
( من أحد التوابيت التى تعود لعصر األسرة , 21دولة حديثه )
يقف "شو -حكا" هنا ليرفع السماء عن األرض و يصفه النص بأنه "حكا ,االله العظيم ,رب
السماء" .يحمل حكا فوق رأسه الساق الخلفية لألسد محمولة فوق منصة أو عامود ,و هو رمز
كل ذلك يعبر عن القدرة االلهية الخالقة التى تعمل من خالل جسر أو همزة وصل يرمز لها "شو" .
و هنا يتضح لنا الفارق الجوهرى بين نظرية هرموبوليس حيث تعمل القدرة االلهية من خالل همزة
وصل رمز لها المصرى القديم بالقمر ,و بين نظرية هليوبوليس حيث تتجلى القدرة االلهية بشكل
و اذا عدنا لتأمل صفات الثامون ,سنجد أن هذه الصفات فى حد ذاتها ليست فعالة /ايجابية ,و انما
هى صفات سلبية أقرب الى الالوعى ,و بالتالى ال يمكنها أن تقوم بفعل الخلق وحدها .
اال أن مهارة تحوت و حكمته هى التى حولت هذه الصفات السلبية الى نقيضها ,فأخرجتها من
الباطن الى الظاهر ,و بذلك يتجلى الالمحدود (الروح) فى أشكال محددة .
يقوم تحوت باالشراف على هذه القوى األزلية الثمانية التى تسبح معا وسط الفيضان العظيم (مياه
األزل) ,و من اتحادها معا تتشكل البيضة الكونية التى يخرج منها "رع" على هيئة طائر النور
و هناك روايات أخرى ألسطورة الثامون تقول أن اقتراب قوى الثامون و تفاعلها معا أدى لخلق
زهرة لوتس تفتحت أوراقها و ظهر "رع" و هو يجلس فوقها على هيئة طفل .
يصور هذا المشهد "حح" و "ححت" و هما يركعان فوق سطح المحيط األزلى على جانبى زهرة
اللوتس األزلية التى ولد منها "رع" للتو فى صورة طفل .
و فوق رأس الطفل الوليد يقف الجعران "خبرى" ناشرا جناحيه و ممسكا بقرص الشمس .
- 92 -
"حح" و "ححت" يشهدان ميالد "رع"
يصف أحد نصوص معبد ادفو ميالد "رع" فى األزل من زهرة لوتس بهذه العبارات -:
*** أيها النور االلهى ,لقد خلقت من ذاتك بذرة ...و وضعت هذه البذرة داخل زهرة اللوتس
(األزلية) ...و سكبت سائلك المنوى فى "نون" (مياه األزل) ...فتحولت الى كيان له شكل ...و قد
- 93 -
ميالد "رع" من زهرة اللوتس األزلية
و بعد خروج "رع" من مياه األزل – سواء من داخل بيضة أو من زهرة لوتس – يرتدى "رع"
عباءة االله الخالق و يقوم بدوره بالتعاون مع تحوت الذى يوصف بأنه هو قلب رع و لسانه ,أو
بعبارة أخرى يعتبر تحوت هو عقل رع (العقل الكونى) ,أى القوة الكونية القادرة على تفعيل
و برغم اختالف نظرية تاسوع هليوبوليس عن نظرية ثامون األشمونيين ,اال أن فكرة الخروج من
فى هرموبوليس (األشمونيين) كان هناك بحيرة مقدسة يطلق عليها اسم "بحيرة الخنجرين" ,
و وسط البحيرة هناك جزيرة يطلق عليها اسم جزيرة اللهيب .
هنا فوق هذه الجزيرة فقست البيضة الكونية عند بدء الخليقة ,و هنا وقع حدث الخروج العظيم ل
"رع" من داخل زهرة اللوتس األزلية .هنا أتى العالم للوجود فى الزمن األول .
- 94 -
منف -:
أما النظرية الثالثة الرئيسية لنشأة الكون فى مصرالقديمة فهى نظرية منف ,و هى تحكى قصة
و برغم أن نظرية منف تعود لعصر الدولة القديمة و ربما ظهرت بعد نظرية هليوبوليس مباشرة ,
اال أن معرفتنا بهذه النظرية تستند الى لوحة دونت فى عصر األسرة الخامسه و العشرين بناء على
أمر من الملك شباكا ,و لكن النص نفسه يعود الى عصر سابق على عصر األسرة الخامسه
و العشرين .
و بخالف نظرية هليوبوليس و نظرية هرموبوليس لنشأة الكون و التى تناولت جانبين مختلفين للعقل
األسمى قبل تجلى الخلق للوجود ,تركز نصوص لوحة شباكا على فعل الخلق الذى يقوم به العقل
األسمى و الذى يتخذ فى منف هيئة بتاح ,خالق العالم األرضى .
ركزت نظرية هليوبوليس على وصف المراحل المختلفة النسكاب الجوهر االلهى من الوجود
الباطن الى الوجود الظاهر ,حيث تعتبر كل مرحلة بمثابة خطوة يخطوها الخلق بعيدا عن المنبع
اكتملت عملية الخلق فى هليوبوليس بظهور األربعة كيانات الشهيرة ( أوزوريس /ايزيس /ست /
نفتيس ) .
أما نظرية هرموبوليس ,فقد ركزت على قوى الثامون التى ترمز لحالة ما قبل الخلق ,و هى
القوى التى أوجدها تحوت داخل مياه األزل و هو يقوم بدوره كمهندس للكون ,ثم قام بتحويلها من
حالتها السلبية لتصبح هى األساس الذى شيد فوقه تحوت الكون المتجسد .
أما نظرية منف ,فهى تركز على مرحلة أخرى من مراحل نشأة الكون ,و هى مرحلة يبدأ فيها
العقل األسمى عملية التجسد ,حيث ينسكب المطلق /الالمحدود فى أشكال و صور محددة .
يتخذ العقل األسمى فى منف اسم و هيئة بتاح و يقوم بفعل الخلق بنفسه "بالقلب و اللسان" لكى
يتجلى الخلق للوجود بدءا من الكيانات االلهية الى كل ما يحيا على األرض من بشر و دواب
- 95 -
و زواحف و غيرها من أشكال الحياة .
بتاح هو ذلك الجانب من العقل األسمى الذى يمنح المخلوقات صور و أشكال و هيئات .
بتاح هو الذى أبدع كل الصور و األشكال ,و لذلك كان هو رب العمال و الفنانين و الصنايعية
و المهندسين ,و كل من يحول مواد األرض الخام (المعادن و األحجار) الى قطع فنية ملموسة .
و فى العصر البطلمى صار الحداد "هيفايستوس" هو المقابل ل "بتاح" فى الفلسفة االغريقية .
و كلمة بتاح باللغة المصرية القديمة قد تعنى النحات ,و هى بذلك تصور بتاح و هو يقوم بتشكيل
يظهر بتاح فى الغالب و هو يرتدى قلنسوة الرأس المحبوكة التى يرتديها العمال و الصنايعية ,كما
- 96 -
بتاح داخل مقصورته
فى هذا المشهد يقف بتاح فوق منصة مرتفعة قليال و هى رمز من رموز ماعت (النظام الكونى) .
تتضح لنا عالقة بتاح القوية بالعالم المادى من أحد ألقابه و هو لقب "بتاح تاتنن" .و كلمة "تاتنن"
تعنى األرض التى ارتفعت ,و يقصد بها التل األزلى الذى برز وسط مياه األزل عند بدء الخليقة .
و "تاتنن" هو أحد الكيانات االلهية فى مصر القديمة ,و هو يحمل الكثير من صفات "جب" (رب
األرض) ,و لذلك يظهر فى الفن المصرى القديم – مثله مثل جب – فى كثير من األحيان بوجه
أخضر .
حين يمتزج بتاح ب "تاتنن" يرتدى عباءة االله الخالق الذى يتولى تنفيذ المرحلة األخيرة من
انسكاب المطلق فى العالم المادى المحدود ,أو بعبارة أخرى انسكاب الروح فى المادة لكى تحييها .
جاء فى أحد األناشيد المصرية القديمة التى تبتهل ل "بتاح تاتنن" -:
*** لقد وصلت األرض باألرض ,و جمعت أعضاء جسدك ...و عانقت جوارحك ...و صنعت
و من األشياء الجديرة بالتأمل أن بتاح يظهر دائما فى الفن المصرى القديم فى صورة جسد مقيد
بلفائف مومياء ,و هو بذلك مثل أوزير و لذلك ارتبط بتاح بأوزير و قد مزج المصرى القديم بين
االثنين فى كيان الهى واحد أطلق عليه اسم "بتاح – أوزير" .و الجزء األكبر من نصوص لوحة
و لكن بتاح لم يرتبط بأوزير فقط ,و انما ارتبط أيضا ب "سوكر" ,و هو رب أعمق منطقة فى
تتناول نظرية منف ذلك الجانب من األلوهية أو المبدأ الكونى الذى يتصل اتصاال مباشرا بعالم
- 97 -
المادة .و لكى يتحقق ذلك و يستطيع ذلك المبدأ الكونى أن يتجسد ,تخلى عن جزء من الوجود
الروحى األقدس ,و نزل ليختلط بالمادة ,لكى يتجلى فيها .
تتناول نصوص لوحة شباكا قدرة بتاح على الخلق باعتبار أنه هو نفسه العقل األسمى .
فى لوحة شباكا نقرأ أن كل من "نون" و التل األزلى جاءا للوجود داخل بتاح و من خالله .
و لكن النصوص لم تربط بين ظهور نون و التل األزلى من داخل بتاح و بين االرتفاع الغامض
للتل األزلى من مياه األزل ,و ربما اعتمدت النصوص على أن ذلك معروف بالضرورة .
ال تذكر لوحة شباكا تفاصيل حول المراحل األولى لوالدة الكون ,و انما تكتفى بذكر عبارات
مختصرة عن مفاهيم الهوتية و ميتافيزيقية كخلفية ضرورية لوالدة الكون .و لكنها تؤكد بكل ثقة
أن بتاح "الواحد /العظيم /القدير" هو منبع الوجود ,و بذلك يكون بتاح فى منف هو نظير آتوم فى
هليوبوليس .تبدأ قصة والدة الكون فى نظرية منف بهذه العبارات -:
*** بمشيئة القلب ,و بقوة الكلمة التى نطقها اللسان ,أتى للوجود كيان على هيئة آتوم ***
*** أتت ارادة القلب و قدرة اللسان للوجود فى هيئة آتوم ***
و حتى هذه اللحظة ,ظل بتاح مرادفا ل "الروح األسمى" ( المطلق ) .
و عند ظهور أول صورة من صور تجلى الروح األسمى (المطلق) للوجود ,اتخذ بتاح هيئة آتوم .
قام بتاح – مثل آتوم -بتفعيل قدرته على الخلق بأن أوجد أوال الجوارح التى سيخلق من خاللها ,
و هذه الجوارح هى القلب و اللسان .القلب هو عضو التفكير و اللسان هو عضو النطق .
أما فى نصوص لوحة شباكا ,فقد تولى تحوت الهيمنة على اللسان فقط ,بينما تولى حورس الهيمنة
على القلب ,و ذلك بعد أن أتى االثنان للوجود بقدرة بتاح .
أى أن بتاح أتى فعل الخلق و هو فى صورة ثالوث "آتوم – حورس – تحوت" .
- 98 -
*** بتاح هو العظيم /القدير ...الذى وهب الحياة لكل الكيانات االلهية و لكاواتها ...عن طريق
القلب ,الذى تحول بتاح من خالله الى حورس ...و عن طريق اللسان ,الذى تحول بتاح من خالله
و أول الكيانات التى أتت للوجود من خالل ذلك الثالوث هم الجمع االلهى ,الذين وصفتهم نصوص
لوحة شباكا بأنهم أسنان بتاح و شفته التى ينطق بها كلمة الخلق .
*** ان صحبة بتاح من الكيانات االلهية هم جزء من جسده ,و هم بمثابة أسنانه و لسانه ...و هم
أشبه ببذرة آتوم و يده ,التى خلق بها الجمع االلهى (تاسوع هليوبوليس) ...الجمع االلهى هم
األسنان و الشفاه فى الفم العظيم (فم بتاح) الذى أعطى كل شئ اسمه **
و هنا علينا أن نفرق بين الجمع االلهى فى منف و بين الجمع االلهى فى هليوبوليس و المعروف
ظهر تاسوع هليوبوليس للوجود كنتيجة لتزاوج آتوم مع نفسه (باستخدام يده و بذرته) .
أما فى نظرية منف ,فالجمع االلهى هو الوسيلة التى يقوم من خاللها بتاح بتفعيل قدرته على الخلق.
فى منف يظهر كل من تحوت و حورس كجزء من كيان بتاح الذى يحتويهما ,كما يحتوى كل
الكيانات االلهية األخرى التى تتعاون جميعا داخل منظومة واحدة .
ان العالم الروحى األسمى للكيانات االلهية كله يدخل تحت عباءة بتاح ,الخالق .
فالكيانات االلهية كلها هى وسيلة أو أداة أو قناة لتفعيل أفكار الكيان االلهى األسمى و مشيئته .
و فى حين ركزت نظرية هليوبوليس و نظرية هرموبوليس لنشأة الكون على تجلى المطلق للوجود
عبر مراحل من خالل ظهور أجيال متتابعة من الكيانات االلهية التى تمثل الوجود الروحى األقدس
للكون قبل التجسد ,نجد أن نظرية منف لنشأة الكون تنظر للكيانات االلهية باعتبارها أدوات
و وسائل االله الخالق لتفعيل مشيئته ,و بذلك تنقلهم الى خلفية األحداث ,بينما يحتل العالم المادى
- 99 -
تركز نصوص لوحة شباكا على المراحل النهائية النسكاب المطلق فى تجليات مادية محسوسه ,
و تنسب ذلك الفعل من أفعال الخلق الى بتاح ,كما فى هذه العبارات -:
*** بتاح هو الذى صنع كل شئ ,و هو الذى خلق كل الكيانات االلهية ...بتاح هو التل األزلى
الذى انبثقت منه الكيانات االلهية ,و الذى أتى منه كل شئ ...كل شئ أتى من بتاح :الطعام ,
فى هليوبوليس و هرموبوليس تقف الكيانات االلهية كوسيط بين العقل األسمى و بين الخلق .
أما فى منف ,فالكيانات االلهية هى جزء من العقل األسمى ,و لذلك فان التركيز هنا ينصب بشكل
*** للقلب و اللسان الهيمنة على كل أعضاء الجسد األخرى ...بتاح يسكن كل شئ فى هيئة القلب
و اللسان ...بتاح هو قلب و لسان الكيانات االلهية و البشر و الدواب و الزواحف و كل ما يحيا
على األرض ...أتى الخلق للوجود حين أراد بتاح بقلبه و نطق كلمة الخلق بلسانه ***
خلق بتاح القلب و اللسان و هو فى هيئة آتوم .و هو ما يعنى أن آتوم – من وجهة نظر كهنة منف
و لذلك نقرأ على سبيل المثال فى هذا االبتهال ل "بتاح تاتنن" -:
*** تهب الرياح من أنفك ...و تنبع المياه السماوية من فمك ..و تنبت الغالل التى تمنح البشر
طاقة الحياة فوق ظهرك ...أنت الذى تجعل األرض تؤتى ثمارها ...لينعم البشر و الكيانات االلهية
بخيراتها ***
تتخطى مكانة بتاح الرفيعة حدود الطبيعة الى عالم القيم و األخالقيات عند البشر ,حيث تقول
*** من عمل صالحا يجازى بالعدل ...و من ارتكب اثما ,سينال جزاءا من جنس عمله ...ان من
يمتد انغماس بتاح فى العالم المادى ليشمل جوانب عديدة منها النظام االجتماعى و الدينى ,كما
يشمل أيضا الصور و األشكال التى تتجلى فيها الكيانات االلهية و التى يمكن للبشر من خاللها
االتصال بهم ,بما فى ذلك المواد التى تستخدم فى صنع الصور المقدسة (تماثيل) الكيانات االلهية ,
ألن الصخور و المعادن هى جزء من جسد بتاح باعتباره ربا لألرض .
*** هو الذى ولد الكيانات االلهية ,و أنشأ المدن ,و وضع تصميمها الهندسى و توزيع أحياءها ...
و هو الذى حدد البقعة المباركة التى سيتم فيها تقديس كل كيان الهى على األرض ,و وضع
مقاصيرها ...و هو الذى حدد صور و أشكال الكيانات االلهية كيفما أرادت ...و هكذا سكنت
الكيانات االلهية أجسادها من كل أنواع الخشب ,و من كل أنواع الحجارة ,و الفخار ,و من كل ما
يخرج من األرض ...حيث اتخذت الكيانات االلهية هيئاتها من هذه األشياء جميعا ***
تلك العناية المذهلة بالتفاصيل الدقيقة هى صفة مميزة لبتاح الذى ينغمس بشغف فى العالم المادى
تصف لنا نظرية منف لنشأة الكون اكتمال منظومة الخلق بتجسد الجوهر االلهى فى شتى الصور
و األشكال المادية .و هكذا يتضح لنا أن النظريات الثالثة (هليوبوليس و هرموبوليس و منف) ال
تتنافس ,و انما هى تتكامل معا ,حيث تعبر كل منها عن أحد جوانب قصة الخلق التى مرت
رأينا فى الفصل السابق أن للمكان بعد آخر باطنى فى نظر المصرى القديم .
فاألشياء ال تتواجد فقط وجودا ظاهرا (فى جسد مادى) ,و انما تتواجد أيضا وجودا باطنيا روحانيا
كانت األشياء أو الكيانات التى تتواجد وجودا باطنيا فى نظر المصرى القديم حقيقية أكثر من
فاألشياء التى تتواجد وجودا باطنيا هى الصورة األولية ( )archetypeأو النموذج الذى تحاكيه
و المبدأ نفسه ينطبق على الزمان كما ينطبق على المكان .
و لكى نفهم نظرة المصرى القديم للزمن ,علينا أوال أن نتأمل نظرة االنسان المعاصر لطبيعة
الزمن ,و هنا سيتضح لنا أن هناك فرقا كبيرا بين النظرتين .
لكى يقع حدث ما ,ال يقال فقط أنه وقع "فى مكان ما" و انما يتم تحديد الزمن فيقال انه وقع "فى
زمان ما" .ان اللغة التى نستخدمها تجعلنا نعتقد أن الزمان – مثله مثل المكان – هو شئ أشبه
بحاوية أو وعاء تقع األحداث داخله .و لكن الزمن فى الحقيقة ليس وعاءا فارغا تتواجد فيه
األحداث .
يتواجد الزمن دائما فى عالقة متشابكه تربط بينه و بين األحداث ,فبدون أحداث ال يوجد زمن .
الزمان – و كذلك المكان – هو الذى يجعل بمقدورنا تمييز األحداث عن بعضها البعض .
ان ترتيب األحداث ترتيبا زمنيا متتابعا يعنى أن لها عالقة ظاهرة بالنسبة لبعضها البعض ,بمعنى
أن لكل حدث مكان محدد فى تيار الزمن الذى يتدفق بال انقطاع و فى اتجاه واحد من ماضى وقع
الزمن فى نظر االنسان المعاصر أشبه بشريط سينما طويل جدا يتحرك ببطء ,و كلما تحرك
تتميز نظرة االنسان المعاصر للزمن بأنها نظرة مكانية ,بمعنى أننا نربط الزمان دائما بالمكان ,
و هو شئ ضرورى لكى نستطيع تمييز األحداث عن بعضها البعض و فى نفس الوقت نحافظ على
بقياس الزمن و تقسيمه الى وحدات يمكننا تحديد موقع كل حدث وسط تيار الزمن المتدفق و الذى
و نتيجة لذلك فان تمييز األحداث عن بعضها البعض يتم عن طريق تتابع و بذلك تتحول األحداث
فى العصر الحديث ,عندما يفكر االنسان فى الزمن يخطر بباله على الفور شئ يمكن قياسه ,فقد
صار الزمن يرتبط دائما بوسائل و وحدات قياسه كاليوم و الساعة و الدقيقة ,الخ .
صرنا نعيش فى زمن "الساعة" التى يقاس بها الزمن ,حيث يرتبط مفهوم الزمن بتتابع أرقام
صار الزمن بالنسبة لالنسان شيئا مجردا ,محايدا ,ليس له شكل و ال شخصية و ال صفات مميزة .
لم نعد نرى الزمن كشئ له صفات ,فاألرقام التى نعرف الزمن من خاللها ليس لها أى مغزى .
اذا نظرنا للساعة 2مساءا -على سبيل المثال -على أنها لحظة هامة فى حياتنا ,فان أهمية هذه
اللحظة تظل شخصية (ذاتية) و ليست موضوعية ألن أهمية اللحظة بالنسبة لنا مستمدة من وقوع
حدث يتعلق بحياتنا الشخصية ,و بالتالى فان نظرتنا لتلك اللحظة ال تعكس طبيعة اللحظة نفسها .
كل شخص ينظر للساعة 2مساءا نظرة مختلفة تماما عن الشخص اآلخر ,و لكن اللحظة تظل كما
يشير االنسان المعاصر الى وحدات الزمن باعتبارها أرقام مجردة من أى صفات .
اكتسب الزمن مظهرا خارجيا و ذلك عن طريق تحديده بأرقام و تجريده من أى صفات نابعة من
طبيعته .
و فى أواخر القرن العشرين انتشرت الساعات الرقمية (ديجيتال) ,و مع انتشارها ازداد احساسنا
فى الساعات القديمة التى تعتمدعلى حركة العقارب هناك عالقة بين حركة الزمن و بين الكون .
فالنظر الى دورة العقرب داخل الساعة تشعرنا – و لو بشكل سطحى -بحركة الكون و بوجود
فى منتصف النهار ,حين تكون الشمس فوق رؤوسنا يشير عقرب الدقائق الى أعلى ,حيث تحاكى
دورة عقرب الساعات من الصباح الى المساء حركة الشمس من األفق الشرقى الى األفق الغربى .
فى الشكل التالى نرى صورة نادرة لساعة قديمة تعود للقرن الثامن عشر ,و قد قام مصممها بوضع
نموذج مصغر لحركة الشمس ,بحيث يشير عقرب الساعات عند منتصف النهار لموقع البالد التى
يحين فيها موعد انتصاف النهار (حيث تقع لندن مباشرة فوق الساعة 02ظهرا) .
أما الساعة الرقمية ,فهى تنتزع من وجداننا ذلك الخيط الرفيع المتبقى الذى يربط وعى االنسان
ساعة رقمة تعود لعام 1152ميالدية ,من صنع شركة هاميلتون بالواليات المتحدة األمريكية
صار الزمن فى نظر االنسان مجرد سلسلة من اللحظات أو الثوانى التى يتبع بعضها البعض وسط
فراغ .قد تخبرنا الساعة الرقمية التى يخلو وجهها من أية مالمح أن الساعة صارت 02ظهرا ,
و لكنها لم تعد تذكرنا أن موقع الشمس فى السماء صار فوق رؤوسنا .
تحول الزمن الى مجرد تعاقب لوحدات رقمية تخلو من أى معنى أو صفات تميز أى رقم عن اآلخر
من عملية تحول كبرى حدثت لوعى االنسان ,حيث لم يعد االنسان قادرا على ادراك وجود أى
بدأ ذلك التحول منذ بدأ جاليليو فى التمييز بين الصفات األولية و الصفات الثانوية .
يعطى ذلك التمييز األولوية فى الوجود لكل ما يمكن قياسه و ادراكه بالحواس المادية ,أما ما ال
يمكن قياسه فهو ذاتى و ليس موضوعى ,و بالتالى ليس له وجود حقيقى .
و هكذا أصبحت وسائل القياس هى نقطة االرتكاز و المعيار الذى يتم به تمييز ما هو حقيقى و ما
هو غير حقيقى ,و صار ذلك جزءا من منظومة التعليم التى تشكل وعى االنسان الغربى بحيث
صار االنسان ينكر أى خبرة أو تجربة باطنية ال يمكن قياسها بأداة أو آلة مادية ملموسة .
و هكذا صارت األدوات و الوسائل التى تقيس ما هو مادى هى المعيار الذى يميز به االنسان ما هو
حقيقى .
صار األمان النفسى لالنسان المعاصر و ادراكه للحقيقة يقوم على قدرته على قياس كل شئ فى
العالم بأداة مادية خالية من أى صفات .و هو ما يفسر ميل االنسان الى تجريد األدوات
هذا الميل الى فصل ما هو ذاتى عما هو موضوعى أدى الى ظهور انطباع بأن وحدات قياس
الزمان و المكان هى األساس الذى يقوم عليه الواقع الذى نعيشه .
فنحن نقول -على سبيل المثال – أن األسبوع مكون من سبعة أيام ,بدال من أن نقول أن األسبوع
كان األوروبيون – حتى وقت قريب -يربطون بين تعاقب األسابيع و بين مراحل القمر ,بدال من
أما فى يومنا هذا ,فلم يعد هناك أحد ينتبه لمراحل زيادة القمر و نقصانه أو حتى يدرك أهمية
و كما ينظر االنسان المعاصر لألسبوع على أنه تراكم أو تتابع لسبعة أيام ,كذلك ينظر لليوم على
أنه تراكم أو تتابع ألربعة و عشرين ساعة ,و الساعة هى تراكم لستين دقيقة و الدقيقة هى تراكم
لستين ثانيه .الثانية هى الوحدة األساسية التى يبنى عليها االنسان وعيه بالزمن .و كل وحدات
الزمن األخرى ما هى اال تراكم للثوانى .صرنا ننظر للزمن على أنه تراكم و توالى لوحدة صغرى
فى العصر الحديث ,تفتت الزمان الى وحدات متناهية الصغر تشبه الذرات .
فالثانية (و هى وحدة قياس الزمان) تقابل الذرة (و هى وحدة قياس المكان) .
كان علينا أن نتأمل أوال نظرتنا للزمن ,لكى ندرك عمق االختالف بينها و بين نظرة قدماء
و برغم أن قدماء المصريين لم يعرفوا الساعات بالشكل الذى نعرفه فى العصر الحاضر ,اال أن
فى الحقيقة ان قدماء المصريين لم يقوموا بقياس الزمن و انما قاموا بوضع عالمات فوق تيار الزمن
المتدفق ,و هى عالمات كونية ,مثل دورات الشمس و القمر و نجوم معينة كنجم الشعرى و ال
10مجموعة نجمية التى تعرف باسم العشريات ,و أيضا دورة الفيضان السنوى للنيل (باالضافة
فى مصر القديمة كانت أصغر وحدة لقياس الزمن هى الساعة .و كل ما هو أصغر من الساعة
لكل ساعة من ساعات اليوم صفات تميزها عن غيرها من الساعات ,و لذلك أطلق قدماء
فى الشكل التالى (و هو من كتاب البوابات) نرى ساعات الليل االثنى عشر ,تقف ستة منها فوق
الماء و الستة األخرى فوق األرض ,حيث الماء و األرض هما العناصر الرئيسية المهيمنة على
فى هذا المشهد ,ال يمكننا أن نعرف على وجه اليقين ان كان هناك تطابق بين ساعات النهار
االثنى عشر و ساعات الليل االثنى عشر و بين أبراج الزودياك االثنى عشر .و لكن من المؤكد أن
قدماء المصريين ربطوا بين ساعات الليل و النهار و بين المجموعات النجمية التى يطلق عليها اسم
و خالل العام يتغير عدد ساعات الليل و النهار حيث يزداد عدد ساعات الليل على حساب ساعات
و لذلك كان الزمن فى نظر قدماء المصريين أشبه بكائن حى يتنفس .
كان تقسيم الليل و النهار فى مصر القديمة الى ساعات هو تقسيم كهنوتى (أى من صنع الكهنة) تم
ابتكاره ألغراض دينية ,و لم يكن يستخدم عادة خارج المعبد .
أما عامة الشعب فقد كان اليوم بالنسبة لهم ينقسم الى فترات (و ليس ساعات) تعكس المحطات
يمكننا اذن أن نقول أن الشمس عند قدماء المصريين هى المقابل للساعة التى يستخدمها االنسان
و بخالف طريقة قياس الزمن فى العصر الحاضر و التى تعتمد على تتابع أرقام فوق وجه أداة
قياس الزمن (الساعة) ,تأمل المصرى القديم الشمس فوجد فيها أداة مثالية لقياس الزمن ,و ذلك
ألنها تمر أثناء رحلتها اليومية فى قبة السماء بتغيرات كيفية يمكن مالحظتها بالعين المجردة .
تبدأ الشمس رحلتها عند الفجر بضوء خافت ,ثم باستمرار الرحلة يزداد الضوء قوة و سطوعا ليبلغ
ذروته فى وقت الظهيرة ,ثم يعود النور و ينسحب تدريجيا نحو األفق الغربى عند المساء .و هكذا
كان المصرى القديم يعرف الزمن من خالل التغيرات الكيفية فى ضوء الشمس أثناء ارتحالها فى
السماء .
لم تكن الشمس فى نظر قدماء المصريين (سواء الكهنة أو عامة الشعب) مجرد كرة من الغازات
المشتعلة ,و انما هى تجسيد ألحد الكيانات االلهية ,و نورها هو انعكاس لنور و جالل ذلك الكيان
االلهى .
الشمس ليست مصباح معلق فى السماء ,و انما هى كيان روحى يرتدى جسدا ماديا .
كانت رحلة الشمس من الشروق الى الغروب فى نظر المصرى القديم هى انعكاس لطبيعة ذلك
الكيان الروحى ذى الجالل .فمن خالل الشمس يتجلى العقل األسمى للعالم ,حيث تنعكس صفات
تروى أساطير نشأة الكون المصرية أن ذلك االله العظيم كان كامنا /محتجبا وسط ظلمة مياه األزل
تعيد الشمس تكرار ذلك الحدث كل ليلة حيث تكون غارقة فى ظلمة الليل التى تشبه ظلمة مياه
األزل .و ميالد الشمس كل صباح من قلب ظلمة الليل هو اعادة تكرار لحدث أزلى ,و هو انسكاب
عند شروق كل يوم ,تعكس الشمس صفات و قدرات "خبرى" ,الذى أتى للوجود أول مرة فى
الزمن األول .
من المحيط األزلى .و كلما ارتفع "خبرى" (الطفل الذى أتى للوجود) فى كبد السماء ,كلما طرح
عنه نعومة الطفولة و اكتسب هيئة أكثر نضجا و قوة و هى هيئة "رع" ,و هكذا تتحول صفته
تعبر شمس منتصف النهار عن القدرة الخالقة ل "رع" التى يستمد منها العالم وجوده و التى تتدفق
فى شتى الصور بقوة و بدون أن يعوقها شئ لتتجسد فى الكون المخلوق .و لكن فى نهاية الزمن
(بعبارة أخرى فى نهاية دورة الخلق) سيعود الكون كله الى منبعه الروحى (آتوم) ,كما يعود كل
انسان على حدة بعد انتهاء حياته على األرض الى المصدر الروحى الذى أتى منه .
و عند المساء تصل الشمس الى مرحلة الشيخوخة و بذلك تحاكى المرحلة األخيرة من دورة الخلق ,
و هى انسحاب النور الى منبعه ليعود مرة أخرى نورا باطنيا محتجبا بعد أن تجلى فى عالم الظاهر
فى المشهد التالى صور الفنان المصرى القديم شمس الصباح "خبرى" على هيئة جعران ,أما
شمس المساء فقد صورها الفنان على هيئة رجل برأس كبش .
و الجمع بين الصورتين (خبرى الصبى و "آتوم – رع" الرجل المسن) داخل دائرة واحدة تمثل
قرص الشمس يدل على أن مغزى هذه الرموز ال يقف عند حدود المظهر الخارجى للشمس و انما
هو مغزى عميق يدور حول مفاهيم ماورائية تتجلى فى مظهر الشمس و حركتها فى السماء .
و لذلك كانت طقوس المعابد تتزامن مع محطات رحلة الشمس فى الفلك .حيث كانت الصلوات
اليومية الرئيسية تقام فى ثالثة أوقات هى الشروق ,و الظهيرة ,و قبل الغروب ,ألن هذه األوقات
بعبارة أخرى ,ان رحلة الزمن و عالمات قياسه خالل النهار تحولت عند قدماء المصريين الى
رأى حكماء مصر القديمة فى رحلة الشمس مغزى روحى عميق .
*** فى مصر القديمة ,كانت كل لحظة هامة فى رحلة الشمس فى مدارها الفلكى تستدعى طقسا
دينيا يقام من أجل الكيان االلهى الذى يعبر عنه جسد الشمس ***
فى كتاب الخروج الى النهار هناك اثنا عشر نصا تصف (بالتتابع) التحوالت الكونية التى تنعكس
فى رحلة الشمس اليومية ,و هى نفس التحوالت التى تمر بها روح المتوفى فى العالم اآلخر منذ
دخوله الى ظلمة القبر و حتى "الخروج الى النهار" ,أى البعث .
صور الفنان المصرى القديم هذه التحوالت على أحد التوابيت التى تعود الى العصر المتأخر .
تبدأ الرحلة من اليمين حيث تكون الشمس طفال و تمر بسلسلة من التحوالت الخيميائية تنتهى (فى
اليسار) بصورة رجل عجوز برأس كبش ينحنى فوق عكازه ,على وشك أن يموت و ينزل الى
و بيت القصيد هنا هو أن التغيرات التى تطرأ على جسد الشمس فى السماء خالل ساعات النهار
االثنا عشر تعكس العالقة بين جسد الشمس المادى الذى نراه بالعين المجردة و بين الكيان االلهى
و ما ينطبق على ساعات النهار ينطبق أيضا على ساعات الليل .و لكن ساعات الليل أكثر غموضا
و باطنية من ساعات النهار ,ألن رحلة الشمس الليلية تقع أحداثها فى عالم ماورائى ال تراه العين
وصف قدماء المصريين فى العديد من النصوص الصوفية (الروحانية) من عصر الدولة الحديثه
رحلة الشمس فى ال "دوات" خالل ساعات الليل وصفا تفصيليا .و تعتبر الساعة التى يواجه فيها
"رع" ثعبان الفوضى و الظلمة "عبيب" (أبو فيس) أهم و أخطر محطة فى هذه الرحلة .
فقط بعد االنتصار على أبوفيس يمكن ل "رع" أن يولد من جديد عند الفجر على هيئة خبرى .
لم يكن عامة الشعب فى مصر القديمة على دراية بالصفات التى تميز كل ساعة من ساعات الليل
عن غيرها ,و لكن صورة المواجهة التى تحدث فى عمق الليل بين "رع" و "أبو فيس" كانت تشكل
جزءا من وعى المصرى القديم ,ألنها هى الصورة المعكوسة و المقابل لصورة "رع" فى ذروة
فى مصر القديمة ,كان االنسان يعى الزمن وعيا باطنيا .فمرور الوقت ال يدرك بواسطة أرقام
تكن فى نظر المصرى القديم مجرد شئ مادى يتحرك فى السماء حركة ألية رتيبة و انما هى الجسد
أدرك حكماء مصر القديمة الذين بلغوا درجة عالية من المعرفة الروحانية أن ذلك الكيان االلهى
و يعتبر االتحاد ب "رع" أحد أهم التجارب الروحانية التى يمكن أن يمر بها االنسان .
حين تتحد روح االنسان ب "رع" فانها ترى الكون بعين "رع" و تمتلك وعى "رع" و يجرى لها ما
يجرى ل "رع" من تحوالت باطنية أثناء رحلته اليومية بين أبعاد الكون .
و هنا علينا أن نتذكر مرة أخرى أن الشمس ما هى اال جسد "رع" ,و لذلك فان حركة الشمس فى
مدارها الفلكى تعبر عن حياة و صفات ذلك الكيان االلهى الذى ينتمى لعالم باطنى تتواجد فيه
الصور األولية و النماذج االلهية خارج حدود الزمان الذى نعرفه .
فى مصر القديمة لم يكن الزمن النسبى الذى يحكم عالمنا يتواجد بشكل منفصل عن العوالم
الماورائية ,و انما هناك عالقة تربط بينه و بين الزمن األبدى أو الزمن األول .
تكشف النصوص الدينية المصرية عن نظرة المصرى القديم للزمن ليس فقط باعتباره انعكاس
لدورة الشمس فى الفلك و انما انعكاس لكل دورات الطبيعة ,ألن كل مظهر من مظاهر الطبيعة هو
على سبيل المثال كانت دورة القمر هى التى تحكم التقويم الزراعى و هى التى يتم على أساسها
و كما كانت الشمس فى نظر المصرى القديم جسد أحد الكيانات االلهية ,كذلك كان القمر .
فى وعى االنسان القديم كان لكل شئ وجود "ظاهر /متجلى" ,و وجود آخر "باطنى /محتجب" .
لذلك كانت دورة القمر فى السماء ما بين زيادة و نقصان هى تعبير عن قوة روحانية ماورائية تؤثر
على الخصوبة و النمو و الموت و االنبعاث من جديد و هى الدورة التى يهيمن عليها أوزير .
و كما تعبر كل من دورة الشمس و القمر فى السماء عن أحد الكيانات االلهية ,كذلك نجمة الشعرى
(زيريوس) التى كان شروقها االحتراقى بعد االنقالب الصيفى هو عالمة بداية فيضان النيل .
و الشروق االحتراقى هو مصطلح فلكى يعنى أول ظهور لنجم بعد اختفائه تحت خط األفق لعدة أيام
لم تكن الشعرى مجرد نجم فى السماء ,و انما هى الجسد المادى الظاهر ألحد الكيانات االلهية التى
تنعكس حركتها فى السماء بشكل خاص على حياة االنسان و على مظاهر الطبيعة على األرض .
يدهشنا علم الفيزياء الكونية الحديث بأرقام مذهلة عن أحجام النجوم و أشكالها و بعدها أو قربها منا
و حجم األرض الضئيل بالنسبة ألجرام سماوية أخرى .تعكس هذه المعلومات المذهلة نظرة
االنسان المعاصر للوجود و هى نظرة تهتم بالكم (المظهر) على حساب الكيف (الجوهر) ,حيث
يستند معيار الحقيقة الى المظهر الخارجى الذى يدرك بالحواس المادية .
و على النقيض من ذلك ,كان انسان الحضارات القديمة يحيا فى عالم مفعم بالحضور االلهى .فكل
مظهر خارجى من مظاهر الطبيعة هو تعبير عن حضور أحد الكيانات االلهية .
كان المكان بالنسبة النسان الحضارات القديمة ال يمتد بشكل أفقى و انما بشكل رأسى .بمعنى أن
كل موضع مادى سواء على األرض أو فى قبة السماء هو نافذة تفضى الى عوالم باطنية تسكنها
كيانات الهية و أرواح و هى ليست منفصلة عن األحداث التى تقع فى حياتنا اليومية .
كان المصرى القديم يرى أن هناك عالقة باطنية تربط نجمة الشعرى ( و يطلق عليها فى مصر
و انما كان ذلك الحدث الفلكى هو أيضا بداية السنة المصرية و هو العالمة الفلكية األساسية فى
كان الشروق االحتراقى لنجمة "سوبدت" عالمة مثالية لبداية السنة ألنه يتكرر كل 105و ¼ يوم ,
و هو جزء من نظام التقويم المعقد فى مصر القديمة و الذى يشمل التقويم الدينى الذى يعتمد على
حركة نجمة سوبدت التى تستغرق 105و ¼ يوم بالتنسيق مع تقويم آخر مدنى يعتمد على حركة
العشريات ( , )decansو هى عبارة عن 10عشرية ,تظهر كل عشرية منها فى قبة السماء لمدة
01أيام ( 10مجموعة 01 Xأيام = 101يوم 5 +أيام تعرف باسم الشهر الصغير = 105
يوم) .
و ألن التقويم المدنى أقصر من التقويم الشعرى (الذى يعتمد على حركة نجم الشعرى) بربع يوم ,
فان بداية السنة الشمسية تتزامن مع بداية السنة الشعرية مرة واحدة فقط كل 0400سنة .
تشكل هذه الفترة الزمنية ( 0400سنة) جزءا هاما من دورة كونية أخرى أكبر منها تعرف باسم
دورة السبق ( , )precession of the equinoxesو هى دورة يتحرك فيها موقع الشمس فى
االعتدال الربيعى حركة تراجعية بطيئة جدا من برج الى برج آخر من أبراج الزودياك ,حيث تعود
يقول عالم الكيمياء الفرنسى " "R.A. Schwaller De Lubiczأن هذه الدورة ليست ثابته و انما
تتناقص مدتها بمرور الزمن .ففى عام 1111قبل الميالد كانت دورة السبق تتكون من 03سنة
شعرية ( السنة الشعرية الواحدة تتكون من 0400سنة ) أما فى العصر الحديث فقد أصبحت مدة
من المحتمل أن قدماء المصريين قسموا حركة الشمس فى مدارها الفلكى حسب دورة أبراج
الزودياك االثنى عشر ,اال أن السجالت الفلكية التى تركوها تشير الى أنهم كانوا يعتمدون بشكل
أساسى على حركة 10مجموعة نجمية توجد فى النصف الجنوبة من قبة السماء و تعرف باسم
و الحركة التراجعية للشمس بالنسبة للعشريات تستغرق نصف سنة شعرية (أى تستغرق 711سنة)
يطلق على هذه الدورة التى تتكون من 711سنة و التى تعادل مدتها نصف سنة شعرية (أى نصف
اذا قسمنا رحلة الشمس التراجعية فى أبراج الزودياك و التى تستغرق 20ألف سنة الى 02قسم ,
سيكون كل قسم منها بمثابة شهر كونى ,و كل شهر منها ينقسم الى ثالثة أسابيع كونية (كان الشهر
عند قدماء المصريين ينقسم الى ثالثة أسابيع ,كل أسبوع 01أيام) ,و كل أسبوع كونى يستغرق
حوالى 711سنة .
كان قدماء المصريين ينظرون للعشريات باعتبارها كيانات الهية ,و نفس المبدأ ينطبق أيضا على
و اذا قسمنا األسبوع الكونى الى أيام ,سيكون اليوم الكونى عبارة عن 71سنة ,و هو رقم مقدس
ألنه هو متوسط عمر االنسان ,و هو أيضا الفترة التى يستغرقها جرم سماوى لكى يغير موقعه فى
قبة السماء درجة واحدة .فكل حوالى 71سنة تحدث ازاحة لمواقع كل األجرام السماوية تقريبا
و كل جيل من أجيال البشر يعيش تحت تأثير عشرية أو اثنين من العشريات .
أما نجم الشعرى ,فال شك أنه كان يحتل موقعا مركزيا فى الكون فى نظر قدماء المصريين .
يقول عالم الكيمياء الفرنسى " "R.A. Schwaller De Lubiczأن نجم الشعرى فى نظر قدماء
كانت طقوس المعابد فى مصر القديمة تعبر عن وجود عالقة باطنية تربط بين نجم الشعرى و بين
يشير نظام التقويم المعقد فى مصر القديمة الى وجود علم فيزياء كونية متقدم عند قدماء المصريين
و يدل على امتالكهم معرفة عميقة بأبعاد الكون تتخطى فكرة األرض المسطحة .
علم الوجود المصرى الذى يحتوى على عوالم ماورائية تتداخل مع عالمنا حسب نظام هرمى له
ترتيب معين من الباطن الى الظاهر عبر عنها المصرى القديم بصور رمزية .
كان التقويم فى مصر القديمة يهدف الى جعل مصر فى تناغم مع القوى الروحانية فى الكون ,
و من أهمها الكيان االلهى الذى يتجلى فى نجمة الشعرى .ذلك الكيان االلهى لم يكن سوى األم
*** أنا التى تتجلى فى نجمة "سوبدت" ( الشعرى /زيريوس) ...أنا األم الكونية التى يبتهل اليها
البشر ...أنا من قمت بفصل السماء عن األرض ..و انا التى أرشد النجوم فى مداراتها ..انا من
تظهر ايزيس فى المشهد التالى فى هيئة نجمة الشعرى و هى ترشد النجوم فى مدارتها .تتبعها
تمسك ايزيس بمفتاح الحياة "عنخ" و بعصا أخرى على شكل عود من البردى يرمز للخصوبة .
أطلق قدماء المصريين على "ايزيس -سوبدت" (نجمة الشعرى) لقب "الواهبة العظيمة" .
و اطالق مثل هذا اللقب على جرم سماوى بعيد جدا عن األرض يعنى أن قدماء المصريين كانوا
منذ عصر متون األهرام (أى منذ عصر الدولة القديمة) عرفت "ايزيس – سوبدت" بأنها هى التى
النيل -:
رأى المصرى القديم فى تزامن الشروق االحتراقى لنجم الشعرى مع بداية فيضان النيل مغزى
عميق يتعلق بالنظام الكونى .فما يبدو فى الظاهر على أنه تزامن بين حدث يقع على األرض
و آخر يقع فى السماء هو تعبير عن العالقة الروحانية التى تربيط بين اثنين من الكيانات االلهية .
كان النيل بوجه عام فى نظر قدماء المصريين هو الجسد المادى للكيان االلهى "حابى" .
و لكن أثناء الفيضان ال يكون النيل "حابى" ,و انما هناك قوة روحانية أخرى تحل فى النيل
و تهيمن عليه أثناء ذلك الحدث ,حيث تمتزج مياه الفيضان المرتفعة بطاقة روحانية تتسم بالقدرة
على االخصاب و خلق حياة جديدة من جسد األرض الميت .تتدفق مياه الفيضان و هى مشبعة
بالطمى الذى تعتمد عليه حياة األرض فى الدورة الزراعية الجديدة .
أثناء حدث الفيضان يتحول النيل من "حابى" الى أوزير (زوج ايزيس) ,و هو الكيان االلهى الذى
فى الشهور التى تسبق الفيضان يجف النيل و ينظر له قدماء المصريين باعتباره جسد أوزير الميت
فى المشهد التالى تظهر ايزيس بجوار جثمان زوجها الحبيب أوزير و وجهه يتجه الى أسفل ,نحو
األرض .و هنا تعتبر ايزيس قوة كونية (سماوية) و أيضا قوة من قوى الطبيعة التى تتدخل فى
ايزيس هى األم الكونية التى تتجسد فى نجمة "سوبدت" (الشعرى) فى السماء ,و هى أيضا األم
ان بكاء األرض و نحيبها على أوزير هو حدث كونى ,ألن القوة التى تخلق الحياة على األرض
هى نفس القوة التى تخلق الحياة فى كل مكان فى الكون .فدموع "ايزيس – سوبدت" فى تجليها
السماوى وسط النجوم هى التى تمأل النيل (رمز جسد أوزير) بالمياه الى أن يفيض .و ذلك وفقا
ألحداث األسطورة التى تقول أن ايزيس هى التى أعادت الحياة لجسد أوزير الميت ,و حملت منه
و لذلك يقال أن مياه النيل حين تنحسر بعد انتهاء موسم الفيضان و موسم االنبات تصبح األرض
الزراعية تحت حراسة حورس الى أن يعود أوزير للحياة مرة أخرى فى موسم الفيضان القادم .
يصور المشهد التالى حورس و هو يخرج من بين جناحى أمه ايزيس .يمكننا أن ننظر الى هذا
المشهد على أنه صورة لتتابع فصول السنة و هو انعكاس لتغير فى الطاقة المنبعثه من الكيانات
االلهية .
ترتبط هيمنة حورس على األرض الزراعية بمبدأ االزدواجية ,فحورس دائما ما يقابله "ست" .
حورس هو حارس الحياة و النظام و التناغم على األرض ,أما "ست" فهو الذى يهدم الحياة و يدعم
الفوضى .
فى موسم االنبات أو البعث ,حين يبدأ غرس الحبوب و الغالل ,تزداد حدة الصراع بين هذه القوى
المتناقضة .حيث تقف األرض الطينية السوداء التى تخترقها الترع و القنوات كرمز للنظام و الحياة
و الوفرة ,فى مقابل األرض الحمراء (الصحراء) التى تحيط بوادى النيل من الجانبين و هى رمز
و هكذا تعيد الطبيعة قصة الصراع بين حورس و ست فى موسم االنبات و البعث من خالل
التغيرات التى تطرأ على األرض .و لكن بانتهاء موسم الحصاد ,يهيمن "ست" على المملكتين
و تصبح األرض كلها جافة ميته ,حتى أرض الوادى و الدلتا .
يطلق على موسم الجفاف اسم "شمو" ,و هو الموسم الذى يبلغ فيه الصراع ذروته بين حورس
و ست ,بين قوى البناء و قوى الهدم ,بين الحياة و الموت ,بين النظام و الفوضى .و الساحة التى
يجرى فيها الصراع هى أرض مصر .
فى حرارة أشهر فصل الجفاف ,تتبخر مياه النيل و تجف تماما ,و تختفى معها قوى الخصوبة
و الحياة ,و هو ما عبر عنه قدماء المصريين بصورة أوزير الذى قتل على يد أخيه "ست" .
ال يتوقف األمر على قتل أوزير فقط و انما يهدد ست أيضا باالستيالء على مملكة حورس وريث
أبيه أوزير .و هكذا كان المصرى القديم يعيش أحداث أساطير نشأة الكون فى حياته اليومية بشكل
فالطبيعة و التغيرات التى تطرأ عليها مع تتابع فصول السنة هى المسرح الذى يتم فيه عرض
ان عالم األسطورة هو عالم القوى الروحانية و هى قوى ليست منفصلة عن عالم البشر و انما هى
*** تشكل األسطورة نواة علم الوجود عند انسان الحضارات القديمة .تتحدث األساطير عن حقائق
,أى عن أحداث كونية أزلية وقعت فى عالم الهى /مقدس ,ذلك العالم االلهى هو العالم الحقيقى /
لبعض األحداث التى تقع فى عالم الزمان و المكان مغزى ميثولوجى ماورائى .
و لذلك كان المصرى القديم دائما ما يدمج األحداث التاريخية فى األحداث الميثولوجية و يدمج ما
هو دنيوى فى ما هو مقدس ,و يدمج عالم الظاهر فى عالم الباطن .
كان لالحتفال باألعياد أهمية كبرى فى حياة قدماء المصريين و هى أهمية تنبع من رؤيتهم للزمن
و دوراته التى كانت فى نظرهم انعكاس لعوالم باطنية و اعادة تكرار ألحداث ميثولوجية
(أسطورية) .
كانت األعياد فى مصر القديمة دائما موجهة الى العالم االلهى /األسمى .فاألعياد ليست فقط
الوسيلة التى يضع بها الشعب عالمات فوق تيار الزمن المتدفق ,و انما هى أيضا الوسيلة التى تنقل
المشاركين فيها من عالم الزمان و المكان الزائل الى عالم الكيانات االلهية الخالد األبدى .
فى األعياد يتحرر أفراد الشعب من القيود التى تربطهم بعالم األرض الزائل و ينتقلون للعيش فى
ان احتفال قدماء المصريين باألعياد هو عبارة عن وضع عالمات فوق الزمن ,و هى عالمات
تخبرنا األدلة األثرية العديدة أن األعياد فى مصر القديمة هى مناسبات تجتمع فيها حشود غفيرة من
أفراد الشعب و يشاركون فيها من خالل مواكب مقدسة مفعمة بالحيوية ,حيث يمارس فيها االنشاد
و كانت المواكب السائرة على ضفاف النيل غالبا ما تصاحب مواكب أخرى باستخدام قوارب تبحر
فوق صفحة النيل و تحمل فى داخلها الصور المقدسة للكيانات االلهية .
يمكننا أن نتخيل تلك االحتفاالت فى أجواء مفعمة بالحيوية ,حيث األلوان و الرايات و األعالم
ترفرق فوق الحشود الغفيرة التى تشارك فى العيد و هى فى الغالب فى حالة من النشوة سواء من
و لكن ما يجتذب الناس لهذه االحتفاالت ليس فقط الموسيقى أو الطعام و الشراب و انما العاطفة
الدينية .فكل الطقوس و الشعائر التى تتم ممارستها فى األعياد هى طقوس موجهة الى الكيانات
أو اقامة "حضرة" لها بحيث تكون الكيانات االلهية فى حالة حضور دائم على األرض .
و فى قلب االحتفال باألعياد يقف الكهنة الذين يقدمون األضاحى من الثيران و يقيمون الطقوس
األعياد هى احتفاليات كبرى يشارك فيها مختلف أطياف الشعب من رجال و نساء و أطفال .
كتب المؤرخ اليونانى هيرودوت واصفا األعداد الغفيرة التى كانت تشارك فى أعياد "باستت" فى
مدينة "بوباستيس" (تل بسطة بالشرقية) كل عام بحوالى 711ألف مواطن ,و ذلك فى الفترة التى
كما يقدر أعداد المشاركين فى عيد ايزيس فى مدينة "بوزيريس" (أبو صير بننا ,احدى قرى مركز
لم تكن األعياد مجرد تجمعات و حشود ,فلها جانب آخر باطنى بخالف المظاهر العاطفية الصاخبة
لالحتفال .فكل عيد من األعياد هو مناسبة تقام فيها طقوس سرية باطنية داخل المعابد تدور حول
الوالدة من جديد والدة روحانية .,و هى طقوس أوزيرية ,بمعنى أن المشارك فيها يعيد تكرار
حدث موت و بعث أوزير بشكل طقسى و بذلك يطلع على المعرفة الروحانية بشكل مباشر أثناء
قيامه بتجارب خارج الجسد و ارتحاله فى العالم السفلى و العالم السماوى .
كان الصخب الذى يشوب المواكب االحتفالية على ضفاف النيل مصحوبا باقامة طقوس سرية
فى الفقرات التالية من هذا الفصل سنستعرض ثالثة أعياد رئيسية ارتبطت بفصول السنة الثالثة
فى مصر القديمة ,كان هناك عدد كبير من األعياد و المناسبات التى تقام فى فترات االنتقال من
و لكننا سنركز على األعياد التى ترتبط بشكل مباشر بأحداث ميثولوجية أى احداث أزلية كونية
الفيضان -:
فى منتصف الصيف تعود نجمة "سوبدت" (الشعرى) للظهور مجددا فى السماء بعد اختفائها عن
األنظار تحت خط األفق لمدة 71يوما .يطلق على هذا الحدث الفلكى اسم الشروق االحتراقى
نظر قدماء المصريين للشروق االحتراقى لنجمة الشعرى باعتباره بداية السنة الشعرية و أيضا بداية
السنة القمرية ,و التى تبدأ فى أول يوم محاق للقمر (اليوم الذى يظلم فيها القمر تماما قبل أن يولد
كان كهنة مصر القديمة يحددون األعياد دائما وفقا للتقويم القمرى و حسب مراحل القمر .
( )1التقويم المدنى ,و يتكون من 101يوم 5 +أيام تعرف باسم الشهر الصغير ,و هو تقويم
يعتمد على حركة مجموعات نجمية معينة تعرف باسم العشريات .
( )2التقويم الشعرى ,و يتكون من 105و ¼ يوم و يعتمد على حركة نجمة الشعرى فى السماء
و يعتبر ظهورها االحتراقى بعد فترة اختفاء هو عالمة بداية السنة .
( )3التقويم القمرى ,و يتكون من 154يوم ,و يعتمد على دورة القمر الشهرية التى تستغرق
و بسبب قصر مدة السنة القمرية بالمقارنة بالسنة الشعرية ,كان الكهنة يقومون باضافة شهرصغير
مدته 00يوم كل سنتين أو ثالثة سنوات لكى يعيد التوازن بين التقويمين ,و يعتبر شهرا مقدسا ل
"تحوت" .
بعد الشروق االحتراقى لنجمة "ايزيس – سوبدت" (الشعرى) مباشرة يتجاوب معها النيل و يبدأ فى
زوجها و حبيبها أوزير .و لذلك يطلق على العيد الذى يقام لالحتفال ببداية موسم الفيضان "آخت"
اسم "عيد سقوط دموع ايزيس" ( و يعرف فى ريف مصر حتى اليوم باسم "ليلة النقطة" ) .
يقول المؤرخ االغريقى هيرودوت الذى زار مصر فى القرن الخامس قبل الميالد أن االحتفال ببداية
السنة و الذى يتزامن مع الشروق االحتراقى لنجمة "ايزيس -سوبدت" هو أهم األعياد فى مصر
القديمة .
يأتى ذلك العيد فى منتصف الصيف و يتزامن مع بداية الفيضان .و ال يوجد أى عيد آخر فى مصر
فى نظر عامة الشعب ,كان ذلك العيد هو احتفال برب النيل "حابى" .
يظهر "حابى" فى المشهد التالى فى صورة "خنثى" (أى بمالمح ذكر ,و صدر و بطن أنثى حبلى)
,و يرتدى حزام الصيادين ,و يحمل الزهور و أوانى الماء و هى الهدية أو الهبة التى يهديها لشعب
و بسبب تعدد جوانب التجليات االلهية ,لم تكن األعياد المصرية الموسمية تنحصر فى تقديس كيان
الهى واحد فقط .فمن الممكن – بل من المقبول فى نظر قدماء المصريين – أن يرتبط االحتفال
لم يكن لحابى معابد خاصة فى مصر القديمة ,و مع ذلك فقد كان قريبا لقلوب عامة الشعب ,و كان
و هناك أنشودة شهيرة ل "حابى" (و قد حفظها قدماء المصريين بصيغ مختلفة) تصف مشاعر
البهجة التى كانت تصاحب بداية موسم الفيضان و تصف جانبا من االحتفاالت التى كانت تقام بهذه
*** من أجلك تعزف األغانى على الهارب ...و لك ينشد الناس االبتهاالت و هم يصفقون ...
و يصيح الشباب و الصبية ابتهاجا بقدومك ...من أجلك ترتدى حشود الناس أبهى زينتها ...يا من
يأتى بالخيرات فتبدو األرض فى أبهى صورها ,و تزهر األشجار ...و يبتهج قلب كل امرأة حبلى
بفضلك ...يا من تحب الخير و النماء لكل المخلوقات ...حين ترتفع و تصل الى مقر الملك ,يقيم
الناس الموائد و المأدبات مما يخرج من الحقول و المروج ...و يتزينون بأزهار اللوتس الفواحة ...
و تمتلئ أيادى األطفال باألعشاب ,و لكنهم ينسون تناولها من البهجة التى تمأل قلوبهم ...تحيط
الزروع و األزهار بالبيوت ,و تقفز األرض كلها من الفرحة ...حين ترتفع يا حابى ,تقدم لك
األضاحى و القرابين ,و تذبح الثيران من أجلك ...يقدم لك القربان العظيم ...و تذبح الطيور من
أجلك ...ان ما قدمته من خير و عطاء يرد لك مرة أخرى فى صورة قرابين ...تقدم القرابين لكل
الكيانات االلهية ,من كل ما أنعم به حابى على أرض مصر ,من كل أنواع البخور و الثيران
و الماعز و الطيور المشوية ...حين تأتى ,ترافقك البهجة ...يا من تطعم البشر و قطعان الماشية
لكى نفهم مغزى هذه األنشودة و البهجة المقصودة فى سياقها ,علينا أن نعى أوال أن النيل كان فى
بعض األحيان يأتى بمعدل أقل من المياه التى تكفى لموسم الزراعة القادم .لذلك كان هناك دائما
خوف عند قدماء المصريين من أن يأتى الفيضان بأقل مما تحتاجه أرض مصر ,أو ال يأتى .
و قد جاء ذكر العديد من المجاعات و األزمات االقتصادية التى عانتها مصر طوال تاريخها القديم
لم يكن هناك أى ضمان أن مياه الفيضان سوف تأتى بكل احتياجات األرض فى كل األعوام .
كما أن أيام الفيضان يمكن أن تتغير أو تتأخر لبضعة أيام من سنة الى أخرى .
يمكننا أن نتخيل مدى القلق الذى ينتشر فى كل أنحاء مصر اذا تأخر الفيضان .
و من عادات االحتفال بفيضان النيل فى منطقة جبل السلسلة (و تقع على بعد 05كيلو متر شمال
أسوان) قيام الكاهن األكبر أو الملك فى بعض األحيان بتقديم أضحية من ثور و أوز ,يعقبها القاء
لفافة بردى مغلقة و مختومة تحوى رسالة من الملك الى حابى تأمره بأن يفيض الى المنسوب الذى
فى هذا الطقس يوجه الملك (أو الكاهن األكبر الذى ينوب عنه) – بوصفه حورس – خطابه لحابى
و يأمره بأن يؤدى دوره فى منظومة الخلق حسب قوانين النظام الكونى التى تقوم على التناغم
و االتزان ,فال تأتى مياه الفيضان أكثر و ال أقل مما تحتاجه األرض .
و باالضافة الى "حابى" ,كان المصرى القديم يستشعر حضور قوة الهية أخرى تتجلى بشكل خاص
فى مياه الفيضان التى ترتفع بالتدريج .و هذه القوة االلهية هى أوزير .
*** يا أوزير ,اصعد الى حورس ,اقترب منه ,و ال تبتعد عنه ...لقد أتى حورس لكى يتعرف
عليك ...لقد ضرب على يد ست من أجلك ...أنت قدر "ست" ...لقد أتى حورس و عرف أنك أباه
...لقد ولد حورس طفال يانعا بسبب قدرتك التى تتجلى فى اسمك المقدس و هو المياه المتجدده ***
فى فصل الجفاف "شمو" تقل قدرة أوزير على منح الخصوبة تدريجيا الى أن تتالشى ,و تجف مياه
نهر النيل ,و يبدو و كأنه شخص مات و فقد طاقته تماما .
كتب المؤرخ االغريقى بلوتارك يصف الطقوس التى تجرى فى ذلك الوقت الحرج من السنة
يقول -:
*** فى ذلك الوقت من السنة يقوم كهنة مصر بالعديد من الطقوس ,و منها طقس يأتون فيه ببقرة
مغطاه بالذهب و يلفون جسدها بشرائط من الكتان األسود كعالمة على الحزن و الحداد ,و هذه
البقرة هى صورة اليزيس و لألرض بوجه عام .يبدأ هذا الطقس فى اليوم السابع عشر من الشهر
..و فى الليلة التاسعة عشرة من الشهر ينزل الكهنة الى المياه الضحلة للنيل و يستخرجون منها
الصندوق المقدس المحفوظ داخل تابوت ذهبى ,و يسكبون بداخله قدرا من مياه الشرب التى
أحضروها معهم فى وعاء ,و هنا يصيح الحاضرون "لقد عثر على أوزير" .ثم يقومون بخلط
المياه بتربة األرض ,و بعد ذلك يمزجون الخليط الطينى بالتوابل و البخور و يشكلون منها تمثال
على هيئة هالل يرمز التحاد و تزاوج كل من ايزيس (األرض) و الماء (أوزير) ***
تصف متون األهرام حدث عثور ايزيس و نفتيس (و أحيانا حورس) على جسد أوزير راقدا فوق
جنبه على أحد ضفتى النيل .و مكان العثور على جثمان أوزير عادة ما يكون هو مدينة "نديت"
فى الشكل السابق يرفع أوزير جسده الراقد استجابة لحورس الذى أتى للمكان الذى يرقد فوقه أوزير
ان لشفاء أوزير و عودته للحياة فى العالم الميثولوجى تأثير مباشر على العالم المادى .
فبينما يقوم أوزير برفع جسده الراقد ,ترتفع مياه النيل لتمنح الحياة ألرض مصر .
و ربما كان طقس العثور على أوزير جزءا من احتفالية أطول كانت تجرى شعائرها فى أبيدوس .
فى كل أنحاء مصر كانت هناك طقوس تقام لالحتفال بارتفاع مياه الفيضان كل عام ,و كان معظمها
يتخذ طابعا أوزيريا و يعيد تكرار أحداث موت أوزير و سقوطه فى حالة فقدان الوعى و فقدان
القدرة على الحركة ثم عودته للحياة و بذلك يعيد الحياة لألرض مرة أخرى .
يهيمن على تلك االحتفاالت شعور عام بالمشاركة فى أحداث أسطورية تقع فى عالم باطنى و لكنها
أعتقد المصرى القديم أنه ال يوجد حدث يقع فى عالمنا المادى ليس له سبب أو جذر فى عالم الروح
فى مصر القديمة كان فيضان النيل حدثا ماديا و باطنيا (روحانيا) فى نفس الوقت .
فهو باطنى ألنه ينتمى الى عالم األسطورة ,و لذلك كان موضع استحضار و اعادة تكرار بشكل
طقسى .
فبينما يعيد الكهنة االحتفال بحضور أوزير المتجدد ,كانت الطقوس فى نفس الوقت تستحضر القوى
ان األفعال الطقسية التى يأتى بها الكهنة و أفراد الشعب يصل صداها الى عالم الروح ,و هو عالم
الكيانات االلهية الذى تكمن فيه األسباب التى تنبع منها كل مظاهر الطبيعة فى عالمنا .
لم تكن الطقوس المقدسة فى مصر القديمة مجرد ممارسات دينية ,و انما هى ممارسات سحرية
أخرى باطنية تجرى فى المعابد ,و فيها يصل الطلبة الذين بلغوا درجة عالية من المعرفة الروحانية
الى رؤى و اشراقات صوفية واضحة تتجاوز الصور الميثولوجية (األسطورية) .
و بالرغم من ذكر هليودوروس لهذه الطقوس ,اال انه لم يذكر تفاصيل حول كيفية اقامة هذا
االنبعاث -:
فى نهاية فصل ال "آخت" (الفيضان) – فى شهر أكتوبر /نوفمبر – تبدأ مياه النيل فى االنحسار
وبقدوم شهر كيهك (الذى يتزامن مع بدايات شهر ديسمبر) يبدأ االحتفال بأحد أهم األعياد .
سجل قدماء المصريين هذا االحتفال على جدران معبد دندرة و وصفوه بأنه احتفال الثمانية عشر
يبدأ االحتفال فى النصف الثانى من شهر كيهك ,بعد اكتمال القمر مباشرة .أى أن االحتفال يقام فى
النصف الثانى من الشهر القمرى الذى ينظر فيه للقمر على أنه يمر بمرحلة موت تسبق انبعاثه من
يتشابه عيد كهيك المصرى مع أحد األعياد األوروبية القديمة التى كانت تقام فى بالد شمال أوروبا
فى نهاية شهر كيهك ,يبدأ الفالحون فى مصر فى غرس بذور القمح و الشعير و غيرها من
يحمل احتفال شهر كيهك طابعا أوزيريا خالصا .ففيه تتم اعادة دراما موت و بعث أوزير من خالل
الطقوس .
كان أوزير فى نظر عامة الشعب فى مصر القديمة هو القدرة االلهية التى تنبت بسببها الحبوب
و الغالل .أوزير هو الذى يجعل الغالل تنبت بفضل المياه التى تحمل فى داخلها سر الحياة ,
فى معبد فيلة ,هناك نقش يصور ربة على هيئة امرأة برأس بقرة ( رمز "ايزيس – حتحور –
سوبدت" ) و هى تسكب الماء من اناء لينهمر فوق األرض السوداء التى تنبت منها الغالل .و من
الغالل تنبثق روح أوزير على هيئة طائر ال "با" (الروح) .
يعبر النقش عن فكرة االنبعاث من جديد و التى تتجلى فى عودة الحياة لألرض بفضل المياه التى
تأتى مع الفيضان فتنبت الحبوب و يخرج الزرع كما انبعثت روح أوزير فى عالم األسطورة
كان غرس الحبوب فى نظر قدماء المصريين بمثابة اعادة تكرار لحدث أزلى هو دفن جثمان أوزير
الميت و ذلك قبل انبعاثه مباشرة فى صورة نباتات حية تخرج من البذور الميته الخالية من الحياة .
وصف المؤرخ االغريقى بلوتارك مشاعر الحزن التى كانت تنتاب الفالحين فى مصر القديمة
عند غرس البذور فى بداية موسم االنبات ,و كأنهم يقومون بدفن جثمان أوزير .يقول بلوتارك -:
*** عند قيام الفالحين فى مصر بتسوية األرض بعد أن حرثوها و غرسوا فيها البذور و دفنوها
تحت التربة كانت وجوههم تعكس الحزن و كأنهم فى حداد على عزيز لديهم قاموا للتو بدفنه ***
للكيان االلهى أوزير جوانب أخرى تتعدى االنبات و هى جوانب كانت جلية حتى بالنسبة ألبسط
الفالحين .
ان أوزير ليس هو البذرة ,و انما هو سر الحياة الكامن فى البذرة و الذى ينبعث من جديد حين
أوزير هو القدرة االلهية التى تتجلى بفضلها الحياة الكامنة داخل البذرة و تأتى للوجود لتتجسد فى
أوزير هو الذى ينظم عملية تجلى و مجئ المخلوقات من عالم الروح لتتخذ جسدا ماديا .
حين يتوقف عمل طاقة الحياة فى العالم المادى ,فان ذلك يعنى أن أوزير قد فقد أو مات .و حين
تعود هذه الطاقة للعمل مرة أخرى (حسب ايقاع دورات الطبيعة) ,فان ذلك يعنى عودة أوزير
أوزير هو القدرة االلهية على خلق حياة جديدة من داخل بذرة كانت تبدو ألعيننا ميته قبل غرسها
فى األرض .و لكى تنبت البذرة و تخرج ما بداخلها من حياة جديدة يجب أوال تفعيل القدرة االلهية
بتوافر شروط الحياة تنبعث القدرة االلهية من جديد و تعبر عن حضورها من خالل مظاهر
فى مصر القديمة ,هناك عالقة وثيقه تربط بين مظاهر الطبيعة و بين عالم األسطورة الذى تكمن
فعالم األسطورة فى نظر قدماء المصريين هو عالم حقيقى .و برغم كونه عالما باطنيا ,اال انه
تصف أسطورة أوزير من خالل الصور و الرموز عالقة التشابك و التداخل بين العالمين .و من
من ذلك المنظور يمكننا أن نتأمل الطقوس و الشعائر الدينية التى كانت تقام فى عيد كيهك فى مصر
يبدأ االحتفال فى الثانى عشر من شهر كيهك بطقس حرث األرض و غرس البذور فيها ,حيث يتم
ربط بقرتين سوداوين (بلون األرض) الى محراث مصنوع من خشب شجرة األثل و من النحاس .
و خلف المحراث يسير صبى و ينشر بذور الشعير فى جانب من الحقل ,و بذور القمح فى جانب
آخر ,و بذور الكتان فى جانب ثالث .و أثناء نثر البذور فوق األرض المحروثه ,يقوم الكهنة
بترتيل نص دينى يعرف باسم نص "غرس البذور فى الحقل" .و يعتبر هذا الطقس محاكاة لحدث
فى بعض األحيان يكون الصبى الذى ينثر البذور متبوعا بحمار يسير خلفه ,حيث تقوم حوافر
الحمار بدهس الغالل و جعلها تنغرس فى التربة .و هنا علينا أن ننتبه الى أن الحمار كان أحد
رموز "ست" فى مصر القديمة ,و هو ما يؤكد أن ذلك الطقس هو محاكاة لقصة موت و بعث
أوزير .
يقام هذا الطقس فى كل أنحاء مصر بصور مختلفة ليكون عالمة على بداية موسم الحرث و االنبات
و ربما كانت هذه العالقة بين الحرث و بين ذلك الجزء من أسطورة موت و بعث أوزير هى
المغزى وراء تصوير مشاهد الحرث فى كتاب الخروج الى النهار (فى عصر الدولة الحديثه )
كجزء من رحلة الروح بعد الموت الى ال "دوات" (العالم السفلى/النجمى) .
و لما كان ال "دوات" هو عالم التحوالت و الميالد من جديد ,لذلك كان لتصوير الرموز التى تعبر
عن موت أوزير و آالمه ثم انبعاثه من جديد تأثيرا سحريا على روح المتوفى .
فى المشهد التالى يظهر الكاتب "آنى" و هو يقوم بحرث األرض فى منطقة من مناطق العالم السفلى
وصفتها نصوص الدولة الوسطى بأنها منطقة فرس النهر األبيض .
و كما سنرى فى الفصل العاشر ,فرس النهر األبيض هو أحد رموز "ايبى" ,ربة بعث األرواح .
و بالتزامن مع طقس حرث األرض الذى يجرى أمام أعين عامة الشعب ,كان هناك طقس آخر
باطنى /سرى يجرى داخل المعابد و قد جاء وصفه فى نصوص تعود للعصر البطلمى .و فيه يأتى
الكهنة بتمثال مجوف من الذهب على هيئة جسد أوزير المحنط و يمألونه بحبوب الشعير و بالرمل
يتم ذلك فى حضور الربة "شنتى" التى تصور على هيئة بقرة منحوته من خشب الجميز و يغطى
جسدها بصفائح من الذهب .ثم يوضع التمثال فى حوض من الحجر فى قاعه بعض المياه الضحلة
,و يتم سكب القليل من الماء فيه كل يوم لمدة تسعة أيام متتالية .
و فى اليوم التاسع يوضع الحوض فى مكان مكشوف ليتعرض لضوء الشمس قبل الغروب .
و فى اليوم التالى يتم حمل التمثال و براعم الزرع التى بدأت تبرز منه و الطواف به حول البحيرة
المقدسه فى المعبد ,و يستمر ذلك لثالثة أيام ,يتم بعدها دفن التمثال فى مقبرة يطلق عليها اسم
"بيت سوكر" ,و هو نفس الموضع الذى دفن فيه تمثال مشابه فى العام السابق ,حيث يتم ازالة
لم يكن ذلك الطقس يجرى حصريا بواسطة الكهنة و انما كان عامة الشعب أيضا يقومون به و لكن
جسد أوزير المحنط و يحشونها ببذور الشعير و القمح و يغمسونها فى الماء لبضعة أيام لتنبت
المشهد التالى من معبد فيلة ,و هو يصور طقس انبات الغالل من دمية على هيئة جسد أوزير
المحنط بعد أن يروى بالماء الذى يكمن فيه سر انبعاث الحياة من جديد .
يتزامن ظهور براعم النبات مع حالة من النشوة تنتاب جسد أوزير الراقد فينتصب عضوه الذكرى
كداللة على عودته للحياة .فانبعاث أوزير يتضمن تفعيل الطاقة الجنسية الكونية و التى يكمن فيها
تنتقل هذه الطاقة من عالم الروح الى العالم المادى من خالل أوزير الذى يجلس فوق عرشه فى ال
"دوات" .
يطلق على اليوم الذى يتم فيه دفن الدمية األوزيرية الشكل اسم "يوم دفن أوزير" ,و هو آخر
و انبات الغالل من الدمية األوزيرية يحدث داخل المقبرة الرمزية المخصصة لها .
يتزامن يوم دفن أوزير مع اليوم األخير من الشهر القمرى ,أى يوم المحاق .ثم يعقب ذلك أول أيام
الشهر القمرى الجديد .و لما كان القمر يختفى فى كثير من األحيان فى بداية الشهر القمرى و ال
و الطقس التالى من هذه السلسلة من الطقوس يقام فى اليوم التالى و هو أول أيام الشهر القمرى
الجديد .يطلق على هذا الطقس اسم "طقس اقامة عامود الجد" .
ترمز اقامة عامود ال "جد" لقيامة أوزير من عالم الموتى و بالتالى تجدد طاقة الحياة .
سجل الفنان المصرى القديم بعض مشاهد من ذلك الطقس فى معبد الملك سيتى األول بأبيدوس (من
فى الجانب األيسر من المشهد يظهر عامود ال "جد" و هو مائل بينما يقوم الملك سيتى األول باقامته
و فى الجانب األيمن من المشهد يظهر عامود ال "جد" بعد اقامته فى وضع رأسى و قد اكتسى
برداء صنع من شرائط الكتان التى قدمها الملك سيتى األول كقربان .
تبدو رمزية عامود ال "جد" فى هذا المشهد معقده ,و قد يتعذر علينا أن نستوعبها بشكل كامل ألول
وهلة .
من ناحية ,يرمز عامود ال "جد" للعامود الفقرى ألوزير .حين يكون عامود ال "جد" ممددا فى
وضع أفقى فوق األرض ,فهو رمز سقوط أوزير فى حالة من فقدان الوعى و الحركة و الحياة .
و بعد رفعه فى وضع رأسى ,يرمز النبعاث أوزير و تحوله من رب للموت الى رب للحياة األبدية
و الخلود ,ذلك أن أوزير هو الينبوع الذى تنبثق منه طاقة الحياة من عالم الروح و تأتى لعالمنا .
يقال أن عامود ال "جد" فى العصر العتيق كانت له آذان من الغالل و الحبوب التى تلصق فوقه
يوصف عامود ال "جد" فى كثير من األحيان بأنه المستودع الذى تختزن فيه طاقة الحياة التى تنبت
بفضلها الغالل .و برغم أن ذلك التفسير لعامود ال "جد" يبدو منطقيا و يتجلى فى الطبيعة بشكل
واضح ,اال انه ليس هو التفسير الوحيد لعامود ال "جد" الذى يحمل مغزى أعمق يعبر عن صفات
ان اقامة عامود ال "جد" ترمز فى المقام األول النبعاث الروح من جديد .
كان طقس اقامة عامود ال "جد" عالمة بداية موسم االنبات "بيريت" .و برغم أن بداية موسم
االنبات تقع فى الشهر الخامس من السنة المصرية (طوبة) الى أن قدماء المصريين كانوا يرونها
بداية أخرى للسنة .
كان المصرى القديم يعتقد أن تدفق طاقة الحياة الى العالم المادى يعتمد بشكل أساسى على انبعاث
أوزير من موته فى الجانب اآلخر من الوجود ,و تحديدا فى ال "دوات" (العالم السفلى) .
تنتهى طقوس المعابد فى اليوم األول من فصل االنبات ,و لكن تتوالى االحتفاالت على المستوى
الشعبى فى كل أنحاء مصر .و هى احتفاالت تشبه الى حد ما احتفاالت أول مايو فى ثقافات شمال
أوروبا .
من الصعب تحديد كيف تركت طقوس المعابد أثرها على االحتفاالت الشعبية فى مصر .اال أن
االحتفاليات كانت تحمل بشكل عام طابعا روحانيا .و هى تختلف من مكان آلخر حسب فهم
المشاركين لطبيعة الحضور األوزيرى فى عالم الروح و عالم المادة و عالقته بروح االنسان
و لكن من وصف بلوتارك ألعياد كيهك ,يمكننا أن نضع تصورا عاما لحالة من الحزن تخيم على
عامة الشعب فى مستهل االحتفال الذى يبدأ بدفن أوزير ,يعقبها حالة من البهجة و الفرحة تصاحب
بعث أوزير و الذى تتم محاكاته من خالل طقس اقامة عامود ال "جد" .
الحصاد -:
يتزامن ذلك العيد مع بداية موسم الحصاد و يحتفل به مرتين ,مرة فى الشهر الثامن و مرة أخرى
و بعكس عيد كيهك الذى يبدأ فى منتصف الشهر القمرى و ينتهى بميالد القمر الجديد ,نجد أن
عيد الحصاد يبدأ مع ظهور هالل الشهر الثامن من شهور السنة المصرية "برمودة" ,و هو الشهر
مع ميالد القمر الجديد لشهر "رينينوت" المقدس يتم تقديم أول ثمار الحصاد لربة الحصاد .
أما االحتفاالت الكبرى المخصصة لتبجيل هذه الربة فهى تقام فى منتصف الشهر عند اكتمال القمر
كانت "رينينوتت" قريبة من حياة الفالحين اليومية ,و بدال من المعابد الكبيرة كان لها مقاصير
صغيرة فى القرى .و بعد حصاد الغالل و عصر العنب مباشرة يتم تقديم بواكير ما تنتجه األرض
كقرابين ل "رينينوتت" فى مقاصيرها المنتشرة فى كل أنحاء ريف مصر حيث يتم تصويرها أحيانا
على هيئة امرأة برأس حية و أحيان أخرى على هيئة حية برأس امرأة .
مريديها فى وضع تبجيل و يقدم لها قرابين من الزهور و الفاكهة و الكعك .
و من الجدير بالتأمل أن "رينينوتت" كانت تظهر فى بعض األحيان فى هيئة امرأة برأس حية
فى العصر المتأخر مزج المصرى القديم بين "رينينوتت" و بين ايزيس ,و هو ما يعبر عن دور
ايزيس كزوجة ألوزير و فى نفس الوقت كأم له ,ألن "نبرى" هو أحد أشكال أوزير .
تحمل عالقة ايزيس ب "مين" (رب االخصاب) أيضا نفس الغموض ,و كذلك عالقتها بحورس .
فى بداية الشهر التاسع من شهور السنة المصرية (بشنس) ,و مع بداية القمر الجديد يتغير الحضور
االلهى الذى يهيمن على الحصاد من "رينينوتت" الى "مين" رب االخصاب و الذى يظهر فى الفن
المصرى القديم عادة على هيئة رجل بعضو ذكرى منتصب برغم لفائف الكتان التى تحيط بجسده
المحنط .
منذ عصر الدولة الوسطى بدأ المصرى القديم فى دمج "مين" و "حورس" معا فى كيان واحد تحت
و فى نفس الوقت يمكن اليزيس أن تكون أيضا زوجة "مين" فى ثالوث مكون من ايزيس و مين
الملك تتضمن عادة موكبا و عيدا خاصا يكرس لتبجيل "مين" و استحضاره ,لكى تسرى طاقته
و بعد التتويج األول للملك ,يعاد تكرار موكب و عيد "مين" كل عام فى موسم الحصاد .
يبدأ عيد "مين" كل عام فى مستهل الشهر التاسع من شهور السنة المصرية (بشنس) و هو بداية
و يراعى أن تتزامن بداية االحتفاالت دائما مع آخر أيام الشهر القمرى ,حين يكون القمر فى
المحاق .
ترك قدماء المصريين وصفا تفصيليا لمراسم ذلك االحتفال على جدران الصرح الثانى بمعبد
الرامسيوم باألقصر و الذى شيد فى عصر الملك رمسيس الثانى (أسرة , 09دولة حديثه) ,و فى
الفناء الثانى بمعبد هابو باألقصر و الذى شيد فى عصر الملك رمسيس الثالث (أسرة , 21دولة
حديثه) .
و اذا عدنا الى جذور االحتفال بذلك العيد نجد أنها تعود بال شك الى الدولة القديمة ,ألن هناك نص
مسجل فوق جدران احدى المصاطب فى الجيزة من عصر األسرة الخامسه (دولة قديمة) جاء فيه
ذكر "موكب مين" ,مما يدل على أن االحتفال بعيد "مين" كان معروفا منذ عصر الدولة القديمة .
و معظم التفاصيل التى نعرفها عن عيد "مين" مستمدة من معابد طيبة (معبد الرامسيوم و معبد
هابو) اال ان ذلك ال يعنى أن االحتفال كان يقام فى طيبة فقط .فاحتفاالت "مين" كانت تقام فى كل
يبدء االحتفال بموكب يتجه من قصر الملك أو استراحته الى مقصورة "مين" أو محرابه .
و فى المحراب يقوم الملك بحرق البخور و يسكب السوائل فى حضرة "مين" .و بعد ذلك الطقس
االفتتاحى ,يقوم الكهنة بحمل تمثال "مين" من داخل مقصورته و يسيرون به فى موكب يتقدمه
كهنة يحملون شعارات "مين" و تماثيل األجداد ,و خلفهم ثور أبيض يرمز ل "مين" يتبعه الملك أو
و خلف الملك تمثال "مين" يحمله مجموعة من الكهنة حليقى الرؤوس ,و من خلفهم مجموعة
أخرى من الكهنة تحمل باقات من نبات الخس و هو النبات المقدس ل "مين" و الذى عرف عند
يصاحب الموكب عدد من العازفين و المنشدين الذين ينشدون االبتهاالت ل "مين" .
تنتهى المسيرة فى أحد الحقول ,حيث يوضع تمثال "مين" فوق منصة تم تشييدها خصيصا لالحتفال
ثم يبدأ الطقس الرئيسى فى عيد "مين" ,حيث يقوم الملك (أو الكاهن األكبر الذى ينوب عنه) بقطع
أول حزمة من أعواد القمح من الحقل الذى يقام فيه االحتفال و يقدمها قربانا ل "مين" .
يقول عالم المصريات هنرى فرانكفورت أن شعائر االحتفال بعيد "مين" ربما اشتملت أيضا على
معاشرة جنسية بين الملك و الملكة فى خيمة أو استراحة ملكية بعيدا عن أعين الحاضرين ,و هى
معاشرة طقسية يقوم فيها الملك بدور "مين" و تتجلى فيه قدراته و تسرى فيه طاقته .
تنتهى الشعائر باطالق أربعة أسهم فى الجهات األصلية األربعة لتحمل الى أركان الكون األربعة
أنباء اكتمال عيد "مين" و تجدد طاقة الملك و طاقة األرض كلها .
و أثناء هذه الطقوس يتجلى حضور "مين" بشكل محسوس ,حيث يمتزج عالم الطبيعة بعالم
األسطورة .
"مين" هو الصورة األولية و المبدء الكونى أو القدرة االلهية التى تعبر عن الخصوبة و تجدد الحياة
و االحتفال المكرس له يهدف الى استحضار تلك القدرة االلهية فى عالمنا .
لذلك فمن الضرورى أن يتحول الملك نفسه فى مرحلة من مراحل االحتفال الى تجسيد ل "مين" ,
بمعنى أن تمتزج بداخله الصورة األولية التى يعبر عنها الكيان االلهى بالنسخة المادية التى يمثلها
فى مصر القديمة ,كان من أهم واجبات الملك ضمان خصوبة األرض ,لذلك فان امتزاج كيان
الملك بكيان "مين" ليس مجرد طقس رمزى و انما هو طقس عملى يهدف لتحقيق نتائج ملموسة
ان تزامن توقيت عيد الخصوبة مع عيد الحصاد يحتاج الى مزيد من الشرح و التوضيح .
و لكى نفهم مغزى و طبيعة عيد الحصاد فى مصر القديمة علينا أن ننظر اليه فى سياق أسطورة
أوزير .
لما كان أوزير هو سر الحياة الكامن فى بذور الغالل ,فان قطع أعواد الغالل أثناء الحصاد هو
يقول ديودور الصقلى ان الفالحين فى مصر القديمة كانوا يشعرون بالحزن عند قيامهم بقطع أول
حزمة غالل فى موسم الحصاد و كانوا يطلقون صيحات استغاثه بايزيس .
الشعير التى يتم قطعها ثم دهسها و تقطيعها تحت أقدام حمار و هو واحد من الحيوانات التى
يوصف ذلك الحدث بأنه "تقطيع أوصال أوزير" و هناك وصف آخر لطقس دهس و تقطيع اعواد
الشعير يعود لعصر األسرة الخامسه ,و فيه نقرأ أن عملية الدهس يتم فيها استخدام عجول تسير
فوق أعواد الشعير لتدهسها و تقتتها ,و ربما كان الهدف من ذلك الدهس لألرض هو اخفاء مكان
اذا كان دهس و تقطيع أعواد الشعير و القمح يرمز لموت أوزير ,فلماذا اختار قدماء المصريين
ان مفتاح فهم ذلك االحتفال يكمن فى العالقة بين أوزير و حورس .و من الضرورى أوال أن نشير
و التى يحملها الكهنة و يسيرون بها خلف الملك هم الشهود على الحدث الهام الذى يقع أثناء
االحتفال .
فمن خالل موت أوزير و بسببه ,يعتلى حورس عرش األرضين (مصر) و بذلك يضمن الخصوبة
و منذ عصر الدولة الوسطى بدأ قدماء المصريين يمزجون بين حورس و "مين" فى كيان واحد
ان عيد الخصوبة و الحصاد اذن هو المناسبة التى يتم فيها التركيز على دور حورس بدال من
و لذلك كان من طقوس ذلك االحتفال وصف الملك فى األناشيد بأنه "مين -حورس القوى" .
و لذلك كان هناك دائما تركيز على فكرة ميالد الحياة من جديد (كما ولد حورس من جسد أبيه
ان انبعاث الحياة من جديد ليس نقيضا لموت أوزير ,و انما هو نتيجة له .فالحياة ولدت من
و من خالل موت أوزير أصبح حورس وسيطا لنقل طاقة الحياة من العالم السفلى "دوات" الى عالم
األرض ,و هذه القدرة على القيام بدور الوسيط فى نقل طاقة الحياة هى التى تمكن حورس من أن
يعيد الحياة ألبيه أوزير و يساعده على أن يبعث من جديد فى العالم السفلى .
يقوم االحتفال بعيد الحصاد على ادراك العالقة المركبة و المتداخله بين العالم السفلى "دوات"
ففى هذا الوقت من كل عام ,مع بداية موسم الجفاف "شمو" ,يحتفل قدماء المصريين بعيد "مين"
يقدم لنا عيد الحصاد/الخصوبة (عيد "مين") مثاال واضحا ألحد جوانب الفكر الدينى فى مصر
فالطقوس الدينية فى مصر القديمة هى طقوس سحرية يسعى االنسان من خاللها الى الزج بلحظة
تاريخية معينة و نقلها من عالمنا لكى تشارك فى العالم االلهى الخالد ,و هو عالم الكيانات االلهية ,
و الذى يطلق عليه فى مصر القديمة اسم "سب -تبى" ,أى الزمن األول .
يقف موت أوزير و بعثه من جديد فى قلب تلك الطقوس التى تحاكيه باستخدام رموز مستمدة من
الحياة الزراعية حيث يتم دهس أعواد الشعير و القمح و تفتيتها و تذريتها فى الهواء لترتفع سحابة
فى بداية عصر األسرات كان "نبرى" هو رب الغالل و لكن بمرور الزمن امتزجت شخصية
"نبرى" فى شخصية أوزير و أكتسب أوزير صفات "نبرى" و ارتدى عباءته و اتصف بصفاته .
و لذلك فان كل النصوص التى تصف ميالد "نبرى" و بعثه من جديد تنطبق على أوزير .
على سبيل المثال ,جاء فى متون التوابيت (نص رقم -: )011
يصور المشهد التالى حصاد الغالل و فصلها عن أعوادها ,ففى اليمين تتم غربلة الحبوب ,و فى
ان مشهد دهس أعواد الغالل و غربلتها و نقلها الذى نراه هنا ليس مجرد تسجيل ألنشطة الحياة
على سبيل المثال ,جاء فى أحد نصوص التتويج التى تعود لعصر األسرة الى ( 02دولة وسطى)
وصفا لطقس يتضمن قيام ثيران بدهس أعواد شعير و تفتيتتها تمهيدا لغربلتها .
يقول النص أن حورس هو الذى يقود الثيران التى تدهس أعواد الشعير و أثناء قيامه بذلك يردد
العبارة التالية موجها حديثه ألبيه أوزير ( :لقد ضربت من ضربك يا أوزير ) .
ثم يتم جمع الغالل بعد غربلتها و تنقل على ظهر الحمير ,و ترمز عملية نقل الغالل الى صعود
كان العالم المادى فى نظر قدماء المصريين يشف عن العالم االلهى الذى تنبع منه أسباب كل
الظواهر الطبيعية التى نراها .و يجب على االنسان أن يحافظ عل تلك الشفافية و يبقى على
الجسور الممتدة بين العالمين (عالم المادة و عالم الروح) و ذلك باقامة الطقوس بشكل دائم و متكرر
و عدم اهمالها .
هذه االحتفاالت و الشعائر هى محاولة وصل عالم الطبيعة بعالم ما وراء الطبيعة فى فترات معينة
و خاصة فترات االنتقال من موسم الى موسم آخر ,لكى تتالمس حلقات الزمن المادى (النسبى) مع
رأينا فى الفصل السابق أن الزمن فى مصر القديمة كان يرتبط ارتباطا وثيقا بالدورات الكونية
أى أن قدماء المصريين كانوا ينظرون للزمن نظرة كيفية و ليست كمية .و دائما ما كانت تلك
النظرة تركز على عالقة الزمن النسبى الذى يحكم عالمنا بالزمن المطلق الذى يحكم العالم
فنهر النيل و كذلك كل األجرام السماوية التى تتخذ حركتها أو تغيراتها فى األفالك كعالمة لدورات
و ألن الكيانات االلهية خالدة ,فان العالمات التى يضعها المصرى القديم فوق تيار الزمن المتدفق
من خالل األعياد و االحتفاالت السنوية هى الوسيلة التى يتحرر بها االنسان بشكل مؤقت من الزمن
النسبى المحدود و ينتقل الى الزمن المطلق " ,الزمن األول" .
فى مصر القديمة كانت هناك دائما جسور تصل الزمن الدنيوى الزائل بعالم الكيانات االلهية الخالد
فى هذا الفصل سنستكمل البحث فى نظرة المصرى القديم للزمن ,و سنركز بشكل خاص على
نظرته للتاريخ .و لكن علينا أوال أن نبحث فى اثنين من أهم المفاهيم فى الفكر الدينى المصرى ,
باالضافة الى ارتباط الزمن األول و الماعت بشكل مباشر بالتاريخ (كما رآه المصرى القديم) ,كان
لتلك المفاهيم أيضا صلة مباشرة بمنصب الملكية ,حيث يتولى الملك مسئولية اقامة جسور الصلة
رأى المصرى القديم أن الزمن يسير فى "دوائر /دورات" ,حيث كل نهاية لدورة زمنية هى فى
نفس الوقت بداية لدورة أخرى .و عند تدوير الزمن فى عالمنا و انتقاله من حلقة الى أخرى
يتالمس مع الزمن المطلق الذى يحكم العالم االلهى الخالد ,و هو العالم الذى توجد فيه الصور
األولية لكل شئ و فيه تحيا الكيانات االلهية التى تدور حولها األساطير حياة أبدية .
و اذا كانت الكيانات االلهية تتواجد و تقوم بأفعال (كما جاء فى األساطير) فالبد أن هناك زمن تقوم
و لكن الزمن الذى تحيا فيه الكيانات االلهية و تقوم بأفعالها يختلف عن الزمن النسبى الذى يحكم
عالمنا و الذى يموت و يولد من جديد ,و بذلك يعيد تدوير نفسه .
البد أن هناك زمن آخر فوق الزمن النسبى الدوار تحيا فيه الكيانات االلهية ,و هو زمن خارج
ذلك الزمن الذى يقع خارج حدود الزمن النسبى هو ما أطلق عليه قدماء المصريين اسم "الزمن
األول" .
ان مفهوم الزمن الغير نسبى أو الزمن الباطنى هو الوجه اآلخر من مفهوم المكان الباطنى ,و كل
تكمن أسباب عدم استيعاب انسان العصر الحديث لمفهوم الزمان و المكان الباطنى فى أنه دائما ما
يتصور أن الزمان و المكان هما الشروط التى تحكم عالقة كل شئ ظاهر متجسد بغيره من األشياء
و لكننا اذا أدركنا أن الزمان و المكان يمكن أن يصبحا بوابات تفضى الى عوالم باطنية فستزول
,ألن األحداث التى تقع فيه هى الصور األولية الروحانية التى تنعكس فى عالمنا المادى ,حيث كل
ظاهرة طبيعية أو فلكية فى عالمنا هى نسخة مكررة من حدث أزلى قامت به الكيانات االلهية فى
تكتسب األحداث التى تقع فى الزمن الدنيوى مصداقيتها و واقعيتها من مدى تطابقها مع أحداث
كل حدث فى عالمنا هو حقيقى بقدر ما يحاكى و يعيد تكرار ما وقع فى الزمن األول .
و الكلمة المصرية القديمة التى تعبر عن الزمن األول هى كلمة "سب -تبى" ,و تتكون مقطعين
هما "سب" و معناه مناسبة أو حدث (أزلى) ,و "تبى" معناه األول .
و المناسبة أو الحدث المقصود فى سياق قصة الخلق هو تطور الكون من حالة الالوجود التى تمثلها
"نون" الى الوجود الذى بدأ حين تحرك "آتوم -رع" أول مرة داخل محيط نون األزلى .
كانت هذه اللحظة هى بداية زمن جديد أو مرحلة جديدة تغير فيها شرط الوجود بعد أن كان االله
ان الزمن األول ال يشير فقط الى الحدث األزلى الذى تجلى فيه االله للوجود (و بالتالى تجلى الخلق
للوجود) ,و انما يشير أيضا الى الزمن الذى يقع خارج حدود الزمن الذى نعرفه .
و كل األحداث التى جاء ذكرها فى األساطير المصرية تنتمى للزمن األول ,بدءا من الخروج أو
التجلى العظيم آلتوم من داخل مياه األزل ,الى خالص أوزير و انبعاثه الى تبرئة حورس
كل األفعال التى تنسب للكيانات االلهية تنتمى الى الزمن األول .
قبل أن يأتى الزمن األول للوجود ,لم يكن هناك أى أحداث ,ألنه لم يكن هناك وجود ,و هو ما
و بعد أن أتى الزمن األول للوجود ,خلق العالم المادى الذى يحكمه الزمن الدنيوى ,و هو الزمن
فى الزمن الدنيوى تقع األحداث مرة واحدة فقط ثم تزول ,و يسبقها و يعقبها أحداث مختلفة عنها .
يصف عالم األنثروبولوجى "ميرسيا ايلياد" أحداث الزمن األول بأنها "قابلة للعودة و التكرار الى
الزمن األول هو زمن أو عصر ,بمعنى أنه كان موجودا قبل خلق الزمن الذى نعرفه ,و هو أيضا
*** يبقى ذلك الزمن االلهى مساويا لنفسه ,فهو ال يعتريه التغير ,و ال ينتهى ***
الزمن األول هو عالم باطنى خالد تكتسب منه أحداث عالمنا مصداقيتها و واقعيتها و يتوقف ذلك
على مدى تطابق األحداث الدنيوية مع األحداث األزلية التى تنتمى للزمن األول ,ألن عالمنا المادى
ان مفهوم الزمن األول فى مصر القديمة أقرب الى فكرة عالم الجوهر فى الفلسفة األفالطونية .
و لكن الزمن األول فى الفلسفة المصرية يختلف عن عالم الجوهر فى الفلسفة األفالطونية فى أن
سكانه ليسوا مجموعة من األفكار المجردة ,و انما هم كيانات الهية تحيا و تتفاعل مع بعضها
البعض ,و من ذلك التفاعل و العالقة المتبادلة تنشأ الصور األولية أو النموذج األصلى/االلهى
الزمن األول هو العالم السببى ,هو عالم الحقائق الماورائية التى ال يمكن فهمها اال من خالل
ان ادراك االنسان للعالقة التى تربط بين أحداث األسطورة و بين األحداث الدنيوية و الظواهر
الطبيعية و الفلكية هو الذى يجعل العالم المادى شفافا ,روحانيا ,كالعالم االلهى .
فى الزمن األول وجد المصرى القديم الصورة المثالية لكل شئ .فالزمن األول هو العصر الذهبى
الذى كان موجودا قبل أن يأتى للوجود الغضب و المعاناة و التنافس .
و لكن ذلك ال يعنى أن األحداث األسطورية التى وقعت فى الزمن األول كانت صورة من التناغم
و السالم التام الذى ال يشوبه أى صراع .فأحداث األساطير تتناول أيضا أشكاال مختلفة للصراع
و العداوة ,و لكن الصراع ال يستمر ,فسرعان ما يعود التناغم و االتزان مرة أخرى .
ان االتزان و التناغم هما األساس الذى يقوم عليه العالم االلهى .
اما العالم المادى ,فهو غير محصن ضد قوى الفوضى و الهدم ,و لذلك يحتاج دائما الى اعادة
ماعت -:
يرتبط الزمن األول فى الفلسفة المصرية القديمة بمفهوم آخر هو "ماعت" ,و هى كلمة تترجم عادة
الى "الحقيقة /الحق /العدل" ,لكنها تحمل أيضا دالالت و معانى أخرى .
ماعت هى النظام الذى يحكم الزمن األول الذى وقعت فيه كل أحداث أساطير الخلق .
اذا كان الزمن األول هو العصر الذى أتت فيه الكيانات االلهية للوجود من المحيط األزلى "نون" ,
فمن المتوقع أن تكون ماعت قد أتت للوجود قبل الكيانات االلهية لكى تخلق النظام الذى سيحكم
لم يكن تجلى االله للوجود -عن طريق خروج الكيانات االلهية من المحيط األزلى -تجليا عشوائيا ,
تعتبر مياه األزل "نون" الصورة األولية للفوضى الكونية التى يتم اخضاعها لقوى النظام الكونى .
ان "ماعت" ليست فقط مفهوم كونى ,و انما هى "نترت" أى ربة /كيان الهى .
تظهر ماعت فى الفن المصرى القديم فى صورة امرأة جميلة ذات جناحين .و نالحظ أنها لم تظهر
فى صورة أى حيوان أو برأس حيوان كما يحدث مع الكيانات االلهية األخرى فى مصر القديمة ,
و بذلك تكون صورة ماعت أقرب الى صورة المالك .و كأنه ال يوجد فى مملكة الحيوان أى رمز
فى الشكل التالى تظهر ماعت فى صورتها التقليدية و هى تنشر جناحيها و تحمل فوق رأسها
شعارها المميز و هو الريشة .و نالحظ أن ماعت تتشارك هذا الشعار مع "شو" ,و هو ما يعنى
جاء فى متون التوابيت (نص رقم )31أن آتوم بدأ الخلق حين أراد أن يميز نفسه عن مياه األزل
*** قبل ابنتك ماعت ,و ضعها فى أنفك (تنفسها كالهواء) ...لكى يقتات عليها قلبك و يحيا ...
أنها لن تبتعد عنك ...ماعت هى ابنتك ...و "شو" هو ابنك الذى يحيا اسمه لألبد ..لتكن ابنتك
ماعت هى الخبز الذى تقتات به ...أما ابنك "شو" ,فهو الذى سيرفعك ***
فى النص السابق يقوم "شو" بدور ايجابى فعال ,أال و هو رفع آتوم ,بعكس أخته ماعت التى يبدو
يقول النص أن "آتوم -رع" يقتات على ابنته ماعت .أى أن ماعت هى الخبز الذى يتغذى عليه
"رع" ,كما جاء فى النص السابق و فى غيره من النصوص المصرية القديمة .
ماعت هى الخبز الذى يقتات به "رع" ,و بالتالى فهى أيضا الغذاء الذى تحيا به كل الكيانات االلهية
التى تشكل جسد "رع" .و هل هناك خبز أفضل من الحقيقة لتقتات به الكيانات االلهية !
ان ماعت -كمفهوم ماورائى و أيضا ككيان الهى -هى النظام الروحى الذى يقوم عليه الزمن األول
فالنجوم و الكواكب و الفصول األربعة و األنهار و النباتات و الحيوانات كلها فى تناغم مع الماعت.
فى الزمن األول تمت السيطرة على قوى الفوضى و الظالم بشكل حاسم و دائم منذ بدء الخليقة
و هكذا صار الزمن األول عالما مثاليا .بعكس العالم المادى الذى نحيا فيه .
فالعالم المادى ليس بمأمن من عوامل الفوضى و الظالم و هو مهدد بشكل دائم من تلك القوى التى
تقف على حدوده تتربص به و توشك أن تنقض عليه لتهدمه و تعيده الى حالة ما قبل الخلق .
ينطبق ذلك المبدأ الكونى بشكل خاص على المجتمع االنسانى و هو عرضة دائما لهجوم أعداء من
الخارج (فى صورة احتالل أجنبى) أو من الداخل (فى صورة انهيار أخالقى) .
و كأن الخالد/األبدى قد تفتت الى قطع و شظيا فى العالم المادى الزائل .
ان الجسور التى تربط العالم المادى بالزمن األول دائما ضعيفة و هشه و تحتاج الى صيانة
صمم العالم المادى بحيث يكون هشا زائال ,بعكس الزمن األول الذى تتواجد فيه الصور األولية
لذلك كان من الضرورى اقامة الماعت و اعادة اقامة الماعت مرارا فى عالمنا .
فى مصر القديمة كانت مهمة اقامة الماعت فى النظام المجتمعى توكل الى الملك .
بل ان السبب األصلى الذى وجدت من أجله الملكية هو أن يقيم الملك الماعت على األرض ,بحيث
ينعكس النظام االلهى الذى يحكم الزمن األول على المجتمع االنسانى .
النصوص المصرية القديمة منذ عصر االنتقال األول ,و لكن جذور تلك الفكرة تعود الى عصور
تناولت النصوص المصرية القديمة فكرة عدم استمرار المثالية و االتزان فى المجتمع االنسانى الى
األبد .فالمجتمع بطبيعته ال يستمر محتفظا بنظامه و توازنه و انما هو يميل الى السقوط من تلك
الحالة و يخرج عن االتزان من فترة ألخرى حيث يكون عرضه لعوامل الفوضى و الهدم .
يطلق على تلك الفترات التى يفقد فيها المجتمع اتزانه اسم "عصور الفوضى" .
تتخلص السمات العامة لعصور الفوضى فى عدة مظاهر منها اهمال المعابد و نشوب الحروب
تقع مسئولية اقامة الماعت فى كل أنحاء الدولة على عاتق الملك .
و يعتبر نص تتويج الملك توت عنخ آمون أحد األمثلة التى توضح دور الملك فى اقامة النظام
و ازاحة الفوضى من أرض مصر .تولى توت عنخ آمون الحكم بعد فترة الفوضى االخناتونية التى
أهملت فيها التقاليد الدينية المصرية العريقة ,و تعرضت فيها المعابد لالهمال أحيانا و للتدمير
*** أزاح الملك توت عنخ آمون الفوضى من األرضين ...و أقام الماعت (النظام) محل الفوضى
و سواء مرت على المجتمع عصور فوضى أم ال ,كان على كل ملك جديد يعتلى عرش مصر أن
يعيد األرض كما كانت فى الزمن األول حيث تهيمن الماعت (االتزان و التناغم) على كل شئ .
ان المهمة الرئيسية التى يدور حولها منصب المليكة هى جعل المجتمع االنسانى متناغما مع النظام
الكونى .و تقع هذه المسئولية على عاتق الملك ,ألن الملك انسان و أيضا كيان الهى ,فهو يحيا فى
عالم البشر الزائل و فى عالم الكيانات االلهية الخالد فى نفس الوقت .
كان بمقدور الملك أن يصل بين العالمين و يصهرهما معا بفضل ما لديه من صفات و قدرات الهية
و لما كان الملك كيان الهى ,فهو يقتات و يتغذى على الماعت مثل الكيانات االلهية األخرى .
لذلك نقرأ فى أحد النصوص المصرية القديمة على لسان ملك مصر -:
*** لقد اتخذت خبزى من ال "ماعت" التى يحبها "رع" ...فقد علمت أن "رع" يحيا بالماعت ,
و لذلك جعلتها خبزى الذى أقتات به ..و أنا أحيا على نورها **
هناك العديد من النصوص المصرية القديمة التى تنتمى الى فترات زمنية مختلفة تؤكد على صلة
الملك الوثيقة بالماعت و دوره المقدس فى اقامة النظام (ماعت) محل الفوضى .
يلعب الملك دور الوسيط الذى يمكن من خالله للماعت أن تتنزل من العالم االلهى األسمى الى عالم
و بعبارة أخرى ,يمكن اسقاط العوالم األدنى داخل الزمن األول و ذلك باقامة جسور روحانية عن
طريق الطقوس السحرية ,و بذلك تحيا تلك العوالم فى الماعت كما يحيا العالم االلهى .
و لكى يحدث ذلك ,يجب أوال ازاحة الفوضى "اسفت" – و هى نقيض الماعت – من األرض .
و من األشياء الجديرة بالتأمل أن نقيض الماعت ,و هى "اسفت" (الفوضى) ,ليست سوى فكرة
مجردة ,بعكس الماعت التى تصور دائما على هيئة كيان حى أو ربة .
فال يوجد فى الفن المصرى أى مشهد يصور ال "اسفت" فى صورة كيان الهى مثل ماعت .
هناك بعض الكيانات االلهية التى تعبر عن أشكال مختلفة للفوضى (على سبيل المثال تعبر "نون"
عن الفوضى الكونية ,بينما يعبر "ست" عن الفوضى فى عالم البشر و خاصة الفوضى األخالقية
و العنف ) .و لكن ال يوجد كيان الهى يجسد "اسفت" ,ألنها ال تتواجد وجودا ايجابيا حقيقيا .
و على جانبى الزمن األول ,يتأرجح العالم بين الفوضى سواء فى هيئة محيط الفوضى األزلى
"نون" أو فى صورة عوامل الفوضى التى تتربص بالعالم المادى الهش و تتحين الفرصة لكى
تنقض عليه و تهدمه .
و منذ مجئ العالم المادى للوجود ,أصبح من الضرورى اعادة اقامة الماعت فى ذلك العالم
و كما تتواجد ماعت فى الزمن األول ,تتواجد أيضا فى وعى االنسان و فى قلبه ,و تشكل ما
الماعت هى المعيار الذى يميز به االنسان األفعال التى تتناغم مع النظام الكونى من األفعال التى
ان ارتكاب االنسان الثم أو فعل خاطئ يعنى ان روحه تنتمى لعالم الفوضى .
يقول الكاهن المصرى "بيتوزيريس" الذى عاش فى القرن الرابع قبل الميالد -:
*** لن يصل الى الغرب الجميل (مملكة الموتى التى يحكمها أوزير) اال من جاء بقلب سليم ,و من
حرص المصرى القديم أشد الحرص على أن يفعل الماعت (الخير) و أن يقول الماعت (الصدق) .
و كلما كانت أفعال االنسان و أقواله متناغمه مع الماعت ,كلما كان قريبا من االلهى /المقدس ,
و بذلك يسمو االنسان فوق العالم المادى ليحيا فى الماعت ,أى يحيا فى العالم االلهى .
صور الفنان المصرى القديم فى كتاب البوابات أرواح البشر الذين عاشوا حياتهم وفقا للماعت ,
و يطلق عليهم فى مصر القديمة اسم المبجلين أو الصالحين ,و هم يدخلون ال "دوات" (العالم
السفلى) .
( الفصل األول من كتاب البوابات ,من مقبرة الملك رمسيس السادس ,أسرة , 22دولة حديثه )
*** كانوا يقولون الماعت (الصدق) فى حياتهم الدنيا على األرض ,و هم اآلن "يعيشون فى
الماعت" ***
*** ان الماعت هى ما ستحيون به فى هذا العالم ...ماعت هى خبزكم ,أيها الصادقون ***
*** لقد صاروا يمتلكون قوتهم (الماعت) ,و الذى يتحول الى سائل يغلى فى حلق المذنبين ***
ان خبز الماعت يكون طيبا فقط فى أفواه الصالحين الذين كانت أفعالهم فى الحياة الدنيا متناغمة مع
الماعت أما من كانت أفعالهم متوافقة مع ال "اسفت" (الفوضى) فان هذا الخبز يتحول فى حلوقهم
يتضح لنا من كل ما سبق كيف تأثرت شتى نواحى الحياة فى مصر القديمة بمفهوم الزمن األول
يتجه عالم الزمان و المكان بطبيعته نحو الفوضى و العشوائية و لذلك فهو بحاجة دائمة الى صيانة
دورية ,و الى قوة تعيد اليه الماعت مرة أخرى ليصير متناغما مع العالم االلهى .
فى نظر المصرى القديم ,كانت حركة التاريخ تبتعد تدريجيا عن الماعت ,و لذلك كان من
ال يقتصر ذلك فقط على النظام االجتماعى و انما يجب أيضا اعادة القيم األخالقية للفرد مرة أخرى
كان الزمن فى نظر قدماء المصريين عرضة لعوامل الهدم و التحلل .فى الحقيقة ان فكرة التطور
تبدو غريبة تماما على عقل قدماء المصريين .فالزمن فى نظرهم ال يتطور فى اتجاه واحد ,و انما
و بعكس االنسان المعاصر الذى يتطلع دائما الى مستقبل أفضل و أكثر مثاليه من الحاضر و من
الماضى ,نجد أن العصر الذهبى فى نظر قدماء المصريين ال ينتمى الى المستقبل و انما الى
كان المصرى القديم دائما ما يربط الزمن على األرض بالدورات الكونية التى تحكمها الكيانات
االلهية .
و تحت اشراف الكيانات االلهية و الكيانات النصف الهية (أرواح الطبيعة) يسير ايقاع هذه الدورات
حسب حركة النجوم فى السماء ,و أهم هذه النجوم على االطالق هو نجم زيريوس (الشعرى) .
ليس فقط دورة الشعرى الكبرى (و مدتها 0400سنة) و انما أيضا وحدات زمنية أصغر تتكون
منها هذه الدورة الكبرى ,كما سنرى الحقا .و كأن نجمة الشعرى هى الجسر أو همزة الوصل بين
بهيكلة الزمن على األرض ليتوافق مع دورة نجم الشعرى فى السماء يصبح الزمن الدنيوى النسبى
يقول المؤرخ المصرى مانيتون السمنودى (الذى عاش فى العصر البطلمى) أن تاريخ مصر يعود
(حوالى عام 1111قبل الميالد) تولى عرش مصر تسعة عشر من الكيانات االلهية و النصف الهية
قد يبدو الرقم عشوائيا فى نظر القارئ ألول وهلة ,و لكن عند النظر اليه فى ضوء دورة الشعرى
ان الفترة الزمنية التى ذكرها مانيتون السمنودى هى عبارة عن 09أسبوع كونى .
و األسبوع الكونى هو نصف دورة الشعرى الكبرى التى تستغرق 0400سنة (أسبوع كونى =
711سنة) .
أى أن كل حاكم من تلك الكيانات االلهية تولى عرش مصر لمدة أسبوع كونى (= 711سنة) و هو
يتفق ذلك مع ما جاء فى كتاب الشعرى ( , )Book of Sothisالذى ظهر فى القرن الثامن الميالدى
و ينسب ما جاء فيه الى مانيتون السمنودى .يقول كتاب الشعرى أن اجمالى عدد السنوات التى
تولى فيها عرش مصر كيانات الهية و نصف الهية باالضافة الى ملوك عصر األسرات من البشر
و مرة أخرى تثير هذه الفترة الزمنية الطويلة عالمات استفهام فى عقل القارئ ,و ال يوجد أى
عالقة بينها و بين األرقام التى ذكرها تاريخ مانيتون السمنودى .
و عند تحليل ذلك الرقم فى ضوء دورة الشعرى الكبرى نجد أنه عبارة عن 25دورة من دورات
يتضح من األمثلة السابقة أن المؤرخين القدماء لتاريخ مصر العتيق كانوا يتبعون معادلة كونية .
و حسب المصادر التاريخية المصرية القديمة و من أهمها بردية تورين ( و هى تعود الى عصر
الملك رمسيس الثانى ) انتقل حكم مصر من الكيانات االلهية "نترو" الى كيانات نصف الهية تعرف
باسم "شمسو -حور" أى أتباع حورس ,و ذلك قبل أن يبدأ عصر األسرات بتولى الملك مينا عرش
و عند النظر الى التوايخ التى جاء ذكرها فى بردية تورين نالحظ تقلص تدريجى فى الفترات
الزمنية كلما انتقل الحكم من الكيانات االلهية الى أتباع حورس الى ملوك البشر .فكل فترة حكم
جاء فى كتاب الشعرى ( )Book of Sothisأن "رع" حكم مصر لمدة 11ألف سنة ,ثم تبعه اثنا
عشر من الكيانات االلهية حكموا مصر لمدة 1934سنة (و هذا الرقم هو اجمالى فترة حكم ال 02
ملك مجتمعين) .ثم تبعهم 3من أتباع حورس و 001ملك من ملوك البشر و قد استغرق حكمهم
و هناك مصادر تاريخية مصرية أخرى تعكس نفس الفكرة و هى تقلص فترات حكم الملوك كلما
انتقل الحكم من أيدى السماء (الكيانات االلهية) الى أيدى ملوك البشر المتجسدين فى جسد مادى
كلما اقتربت فترة الحكم من العصر الحاضر كلما تقلصت فترة حكم الملك لتتناسب مع متوسط عمر
و لما كان قدماء المصريين دائما ما يحاولون الربط بين الزمن على األرض و بين الدورات الكونية
,فمن المنطقى انهم لم يفصلوا حركة التاريخ عن الدورات الكونية التى تحكمها الكيانات االلهية
و برغم تقلص فترة حكم كل ملك لتقترب من معدالت عمر االنسان ,اال أن هذه الفترات القصيرة
عند تدوين قوائم الملوك و فترات حكمهم لم يكن المصرى القديم يهدف لتسجيل التاريخ (بالمعنى
الحديث للتاريخ كما نعرفه فى عصرنا الحديث) .فالهدف لم يكن تاريخى و انما هو هدف رمزى ,
ماورائى .
كان المصرى القديم يهدف بذلك الى هيكلة الزمن الدنيوى على األرض ليتوافق مع الزمن
باالضافة الى دورة الشعرى الكبرى (= 0400سنة) استخدم قدماء المصريين دورة كونية أخرى
فى بداية عصر األسرات كانت بداية السنة الشعرية (و هى الشروق االحتراقى لنجم الشعرى)
تتزامن مع بداية السنة الشمسية .و خالل 11سنة ال يتزامن الشروق االحتراقى لنجم الشعرى مع
بداية الشهر القمرى اال مرة واحدة فقط .و نتيجة اختالف مدة السنة القمرية عن السنة الشمسية
فان التزامن الحقيقى بين بداية السنة الشعرية و القمر الجديد ال يحدث اال كل 70سنة (. ) 4 X 09
انعكست دورة "القمر -الشعرى" التى تستغرق 09سنة بشكل واضح على تدوين فترات حكم ملوك
لذلك نجد فى بردية تورين أن هناك خمسة من ملوك األسرة الثانية و بداية األسرة الثالثه تدور
فترات حكمهم حول دورة "القمر -الشعرى" التى تستغرق 09سنة .
* الملك "نفر كا سوكر" ( )Neferkasokarحكم لمدة 3سنين ,أعقبه ملك آخر (االسم غير واضح
ان هذه السلسلة من التواريخ -كما يقول "باتريك ف .أومارا" ( - )Patrick F. O’Maraليست
مجرد أرقام تسجل فترات تاريخية ,و انما هى هيكلة عقالنية لفترات تاريخية بحيث تتركز جميعا
هناك حضور طاغى لرقم 09فى قوائم الملوك التى وردت فى بردية تورين ,و كذلك فى قائمة
فى قائمة ملوك بردية تورين و أيضا قائمة مانيتون نجد أن الملوك يتم ترتيبهم فى مجموعات تدور
حول رقم . 09فقد ذكرت بردية تورين أن هناك 09ملك حكموا مصر منذ عصر الملك مينا فى
بداية األسرة األولى الى عصر الملك زوسر فى بداية األسرة الثالثه .
أما مانيتون السمنودى فقد ذكر أسماء 09ملك حكموا مصر فى عصر األسرة التاسعة و العاشرة ,
كما ذكر أسماء 70ملك ( )4 X 09حكموا مصر فى عصر األسرة الرابعة عشرة .
و جاء فى تاريخ مانيتون السمنودى أيضا أن ملوك األسرة السابعة عشرة حكموا لمدة 050سنة
( , ( 2 X 70و أن ملوك األسرة الثالثه عشرة حكموا لمدة 451سنة (. )1 X 151
ان استخدام قدماء المصريين لرقم ( 09و مضاعفاته) فى ترتيب سنوات حكم الملوك و ترتيب
األسرات يعكس االعتقاد السائد فى مصر القديمة بوجود عالقة قوية بين ملك مصر و بين نجمة
فكما تقوم نجمة الشعرى فى السماء بدور الوسيط أو همزة الوصل بين العالم المادى و العالم
السماوى كذلك يقوم الملك على األرض بنفس الدور بأن يصل ذاته الدنيا بالذات العليا/االلهية .
ذكرت متون األهرام فى أكثر من موضع العالقة بين ملك مصر و بين نجمة الشعرى ,بل ان
النصوص قد تخاطب الملك باعتباره هو نجم الشعرى ,كما فى النص رقم 332من متون األهرام
*** أيها الملك "مرنرع" ,أنت النجم العظيم (الشعرى) ...رفيق النجم "رجل الجبار" ()Rigel
و فى مواضع أخرى من متون األهرام وصف الملك بأنه ابن نجمة الشعرى ,على سبيل المثال
*** ان نجمة الشعرى تحيا ,ألن الملك ونيس يحيا ,و هو ابن نجمة الشعرى ***
و لكى تحمل نجمة الشعرى بملك مصر ,فان المعاشرة بين أبو الملك (باعتباره أوزير) و بين نجمة
و سواء كان الملك هو نجم الشعرى نفسه أو رفيق نجم الشعرى (أو الرفيق المستقبلى لنجم
الشعرى) ,فمن الواضح أن الملك بين البشر هو المقابل لنجم الشعرى بين نجوم السماء .
و من الجدير بالذكر هنا أن النجمة كانت هى شعار الملك فى مصر القديمة قبل أن يصبح الصقر
هو شعار الملك .فالنجمة تظهر دائما فوق رأس الملك العقرب أو خلفها .
قام قدماء المصريين بتدوين سجالتهم التاريخية بحيث تعكس تلك العالقة الوثيقة بين الملك و بين
نجمة الشعرى و ذلك من خالل وضع رقم ( 09و مضاعفاته) بصورة مشفرة فى عدد سنوات حكم
الخامسه ,دولة قديمة) و أيضا تاريخ مانيتون السمنودى يحتويان على دورة أخرى مكونة من 07
أو 14عام ,و هى دورة تتعلق بتزامن الشروق االحتراقى لنجم الشعرى مع منازل القمر .
اذا فرضنا أن الشروق االحتراقى لنجم الشعرى تزامن فى أحد األعوام مع ميالد القمر الجديد ,فبعد
07عام سيتزامن الشروق االحتراقى مع منزل القمر المسمى تربيع أول (و هو المنزل الوسط بين
الهالل و البدر) ,و بعد 14سنة سيتزامن الشروق االحتراقى لنجم الشعرى مع اكتمال القمر .
و لكن ذلك ال يعنى أن قوائم الملوك التى دونها قدماء المصريين كانت مزيفة ,و انما يعنى أن
قدماء المصريين كانوا يعتقدون أنه من الضرورى أن تنعكس الدورات الكونية على سنوات حكم
الملك .
*** اذا اكتشف الباحث فى العصر الحديث أن التواريخ عند قدماء المصريين لم تكن "واقعية"
بالمعنى الذى تحمله كلمة واقعية بالنسبة لنا ,فان ذلك ال يفقد السجالت التاريخية المصرية
مصداقيتها فمنذ عصر األسرة الخامسه (دولة قديمة) نجد أن السجالت التاريخية المصرية القديمة
تحوى قدرا هائال من التفاصيل المذهلة .ان ذلك يعنى ببساطه أن المصرى القديم كان يقوم بعملية
حياكه و اعادة هيكلة للزمن الدنيوى لكى يتوافق مع الدورات الكونية بحيث يصبح عدد سنوات
حكم الملوك و األسرات جزءا من تلك الدورات .كان منهاج احصاء السنوات التاريخية يعكس
وجود نموذج واضح فى ذهن المصرى القديم ,و هو ما يعنى أن المؤرخ المصرى القديم كان
يستخدم معيارا موثوقا فيه يعكس مفهوم الزمن فى الفكر الدينى المصرى ***
و هناك رقم كونى آخر ينعكس فى السجالت التاريخية المصرية ,و هو رقم . 044
و بدال من رقم 011الذى يستخدمه االنسان المعاصر لحساب الفترة الزمنية التى يستغرقها قرن من
يرتبط هذا الرقم أيضا بدورة الشعرى الكبرى ,فهو عبارة عن 10أسبوع كونى . 4 X
الثالثه و عصر األسرة الرابعة باعتبارهما فترة زمنية واحدة مدتها 044سنة .
أما بردية تورين فينعكس فيها الرقم 044أو كسوره ,على سبيل المثال -:
** استمر عصر األسرة السادسه لمدة 030عام +بضعة أشهر ,أى حوالى 032عام
( ) 044 + 2 X 09
** استمر عصر األسرة الحادية عشر لمدة 041عام +بضعة أشهر ,أى حوالى 044عام .
** استمر عصر األسرة الثانية عشر لمدة 201عام +بضعة أشهر ,أى حوالى 204عام
( . ) 71 + 044
** استمر عصر األسرة الخامسه عشر (أثناء االحتالل الهكسوسى) لمدة 013عام ( ¾ من )044
يقول المؤرخون االغريق أن كهنة مصر القديمة كانوا يحتفضون بسجالت تاريخية و فلكية تعود
يقول هيرودوت -الذى ينظر له الغرب باعتباره أول مؤرخ فى العالم " -ان قدماء المصريين هم
كما أثبتت الدراسة التفصيلية التى قام بها “ردفورد” لقوائم ملوك مصر و حولياتهم و سجالتهم
التاريخية أن قدماء المصريين كان لديهم قدرة مذهلة على حفظ السجالت ,و يبدو أن ذلك كان
مصدر متعة و سعادة لهم .و لكن تدوين هذه السجالت التاريخية – ضمن السياق التاريخى كما
فى دولة احتل فيها الفكر الدينى األهمية الكبرى مثل مصر ,من المتوقع أن يكون لتفاصيل
اذا كان منصب الملكية فى مصر القديمة يرتبط بنجم الشعرى ,فان السجالت التاريخية يجب أن
تعكس هذه الحقيقة .لذلك تحمل فترات حكم الملوك و األسرات أرقاما فلكية تعكس دورة نجم
و بذلك استطاع المصرى القديم اسقاط الزمن على األرض داخل الزمن السماوى المقدس .
اعتاد انسان العصر الحديث على التأريخ الذى تتعاقب فيه األحداث فى خط مستقيم و فى اتجاه واحد
عبر قرون تمتد من "ما قبل الميالد" الى "ما بعد الميالد" .و هكذا يوجه االنسان المعاصر وعيه
بالكامل الى التتابع و ينسى المغزى الباطنى الذى تدور حوله األحداث .
يعتمد احصاء الزمن لدينا على حدث ميالد المسيح (االله المتجسد فى هيئة انسان) .
و فى كل مرة نقوم فيها بذكر أحد التواريخ متبوعا بكلمة قبل الميالد أو بعد الميالد ,فاننا نؤكد على
ينطبق ذلك على انسان العصر الحديث بوجه عام ,سواء كان ينتمى للديانة المسيحية أم ال .
يقوم بعض المؤرخين أحيانا باستبدال مصطلح ( B.C.أى قبل ميالد المسيح) و ( A.D.أى بعد
ميالد المسيح) بمصطلح B.C.E.و هو اختصار Before Common Eraأى قبل العصر الحديث
و العصر المشار اليه بأنه الحديث أو الحالى أو المعاصر هو العصر الذى بدأ بظهور المسيحية .
تشترك نظرة قدماء المصريين للزمن مع نظرتنا فى أحد الجوانب .حيث كان حدث تجسد االله فى
كانت ألقاب الملك فى مصر القديمة ال تكتفى بتبجيله بكلمات مثل "جاللتك" ,و انما تؤكد على
كل ملك من ملوك مصر هو تجسيد لحورس أثناء حياته على األرض ,و بمجرد موته يخرج
حورس من ذلك الجسد ليحل فى جسد الملك الجديد ,فى حين يتحول الملك المتوفى الى أوزير .
يعيد حورس التجسد فى كل مرة يتم فيها تتويج ملك جديد على عرش مصر .
بعد تجسد المسيح صرنا نعيش فى زمن يسير فى خط مستقيم له بداية محددة هى ميالد المسيح ,و
أيضا نهاية محددة ,و هذه النهاية هى يوم القيامة الذى سيأتى فى "عام االله" .
فى نظر قدماء المصريين كان تجسد حورس فى جسد انسان هو حدث يعيد تكرار نفسه مرارا .
و كان تتويج كل ملك جديد يعتبر بداية دورة زمنية جديدة تستمر طوال فترة حكم ذلك الملك الذى
يعتبر صورة حورس على األرض .لذلك كان التاريخ عند قدماء المصريين يبدأ فى اليوم الذى يبدأ
فيه حكم الملك الجديد ,حيث يعتبر يوم تتويج الملك هو اليوم األول من الشهر األول من السنة
و لذلك نقرأ دائما فى السجالت التاريخية المصرية القديمة أن حدثا ما وقع فى العام رقم كذا من
حكم الملك فالن باعتبار أن الزمن بدأ فى اليوم الذى اعتلى فيه ذلك الملك العرش .
فى عصر الدولة الحديثة كانت األحداث تؤرخ بذكر ترتيب السنة بدءا من يوم تتويج الملك ,ثم
الشهر ,ثم ذكر الفصل أو الموسم (حيث كانت السنة تقسم لثالثة فصول فقط و ليس أربعة) ,ثم
و عند تتويج ملك جديد يعود احصاء السنين الى نقطة الصفر و يبدأ العد من جديد باليوم األول من
بوفاة كل ملك من ملوك مصر يموت الزمن ,و لكنه يولد من جديد مع اعتالء الملك الجديد العرش
ان اعادة تدوير الزمن مع تتويج كل ملك جديد لم تكن مجرد عادة أو تقليد أو عرف ,و انما هى
مفهوم دينى عميق يرى فى الملكية منصبا مقدسا .فالملك هو صورة االله على األرض ,لذلك فهو
الجسر أو همزة الوصل التى تصل عالم البشر بالعالم االلهى و هو القناة التى تنتقل خاللها الطاقة
الملك فى مصر القديمة هو ينبوع الخصب و النماء لألرضين (مصر) ,و دوره ال يقتصر على
بعبارة أخرى كانت مهمة الملك هى جعل المجتمع و مظاهر الطبيعة فى تناغم مع الماعت (النظام
الكونى) .
و موت الملك فى مصر القديمة يعنى سقوط الماعت أى اختالل التوازن فى المجتمع و فى النظام
البيئى فى مصر ,و لذلك كان على الملك الجديد أن يقيم الماعت من جديد .
كانت فترة خلو العرش فترة حرجة ,ألن أرض مصر تكون معرضة خاللها لهجوم قوى الفوضى
فبرغم أن الملك الجديد يتولى المسئولية بعد وفاة سلفه مباشرة ,اال أن طقوس التتويج الرسمية كانت
تؤجل ليحتفل بها مع أقرب مناسبة تتزامن مع بداية دورة من دورات الطبيعة مثل بداية الفيضان
(أول شهر توت) أو بداية فصل االنبات (أول شهر طوبة) .
و المخاطر التى يجلبها خلو العرش ال تزول اال بتتويج الملك الجديد الذى يقيم الماعت ,أى يعيد
عند تتويج الملك الجديد تبدأ دورة جديدة من دورات الزمن .
كان احتفال قدماء المصريين بتتويج الملك يعكس شعورا عاما باالرتياح و البهجة و يعبر عن أهمية
و النص التالى هو عبارة عن أنشودة سجلت حدث تتويج الملك مرنبتاح (أسرة , 09دولة حديثه) ,
و فيها وصف لتأثير ذلك الحدث كما رآه المصرى القديم .يقول النص -:
*** ابتهجى يا أرض مصر ,ها قد أتى الزمن الجميل ...فقد تولى الحكم سيد األرضين ...يا كل
الصالحين /المبجلين ,أقبلوا جميعا و انظروا ...ان ال "ماعت" (النظام) قد أزاحت ال "اسفت"
(الفوضى) ...و سقط اآلثمون على وجوههم ...و أزيح الحاقدون ...صارت المياه وفيرة ,
و فاض النيل ...أصبحت األيام طويلة ,و أصبح لليل ساعات ...و أتت الشهور فى أوانها ...
ان ما يصفه النص السابق هو اعادة تكرار لقصة الخلق ,ألن فترة خلو العرش تمثل نهاية الزمن ,
فى فترة خلو العرش تبدو أرض مصر و كأن مياه األزل "نون" قد غمرتها ,و لذلك كان من
وصف حدث تتويج الملك – أو باألحرى تنصيبه – فى العديد من النصوص المصرية القديمة بأنه
يقع فى نفس اللحظة التى تشرق فيها الشمس و هى لحظة انتصار "رع" على قوى الفوضى
و الظالم .
و برغم أن الملك هو تجسيد حورس على األرض ,اال ان النموذج االلهى للملك هو "رع" .
فالملك هو "سا – رع" أى ابن "رع" (االله الخالق) و خليفته ,و هو يتبوأ مثله نفس العرش ,
"عرش آتوم" أو عرش "رع" ,و يأخذ على عاتقه القيام بنفس المهمة و هى اعادة األرض كما
فى مصر القديمة كان الملك هو محور حركة التاريخ ,كما كان "رع" هو محور الفكر الدينى .
الملك هو صورة "رع" على األرض و بالتالى هو البؤرة التى تدور حولها عجلة التاريخ .
يوصف الملك فى النصوص المصرية القديمة بأنه يصعد درجات "بيت الصباح" فى المعبد و يشرق
على األرض كما يشرق "رع" فى السماء ,و هى جميعا أوصاف تعبر عن دور الملك المحورى
فى المشهد التالى يطل الملك رمسيس الثانى على الشعب من شرفة التجلى فى أبيدوس ,بينما تقف
الملكة نفرتارى خلفه .يسجل النقش المصاحب للمشهد قرار تعيين الملك رمسيس الثانى الكاهن
كان الملك صورة من الشمس ليس فقط فى عالقته بكبار الموظفين و بالمجتمع و لكن أيضا فى
فى الفقرات السابقة من هذا الفصل تعرفنا على عالقة الملك بنجم الشعرى ,و فى الفصل السابق
استعرضنا رأى عالم الكيمياء Schwaller De Lubiczالذى قال فيه أن نجم الشعرى فى مصر
ان شمسنا (جسد رع) التى تدور حولها أرضنا هى صورة مصغرة من نجم الشعرى .
و ملك مصر -مثله مثل رع – هو أيضا صورة من نجم الشعرى على األرض .لذلك نجد هناك
أليس من المتوقع اذن أن تكون فترة حكم كل ملك على األرض صورة مصغرة أو انعكاس لدورة
و كما تعكس فترات حكم الملوك االتى سجلها قدماء المصريين فى قوائم الملوك ايقاع العالم
السماوى و دوراته ,كذلك كانت األحداث على األرض أثناء فترات حكم الملوك هى أيضا انعكاس
بعبارة أخرى ,لكى يكون التاريخ حقيقيا ,يجب أن يخضع لنظام ميثولوجى أسمى و أن يعكس ذلك
النظام .
فى مصر القديمة ,كانت الدورات الملكية التى تقع فيها أحداث التاريخ تحت اشراف حورس ,ألن
حورس هو الكيان االلهى الذى يتجسد فى كل ملك يتبوأ عرش مصر .
و العالم الروحى الذى ينتمى له ذلك الكيان االلهى (حورس) ال يخضع لحدود الزمن الذى نعرفه.
لذلك كان التاريخ أحيانا ما يتم تجاهله من جانب المؤرخ المصرى القديم و أحيان أخرى يتم دمجه
فى عصر الدولة القديمة كان هناك ميل من جانب المؤرخين المصريين القدماء الى اغفال ذكر
بعض األحداث من السجالت الرسمية ,و قد فسر ذلك بأنه ندرة فى المعلومات المتاحة عن أنشطة
على سبيل المثال ,سجل حجر باليرمو أعمال العديد من ملوك الدولة القديمة و لكنه اعتبر أن هذه
األعمال جميعا هى منح و هبات من الكيانات االلهية تم تنفيذها من خالل الملك ,و هو صورة
فى حجر باليرمو ال نكاد نعثر على ذكر ألعمال مثل خوض حروب أو شق قنوات أو اقامة منشآت
أن هذه األعمال كانت فى نظر المؤرخ المصرى زائلة و مؤقته لدرجة تجعلها غير جديرة بأن تدخل
ان النظرة المتأملة لسجالت و حوليات ملوك الدولة القديمة يكشف لنا أنها عبارة عن مذكرات ذات
طابع دينى ,تم فيها دمج شخص الملك فى عالم الصور األولية (عالم األسطورة) .
و طبقا للنموذج االلهى الموجود فى عالم األسطورة ال تقتصر عالقة الملك بالكيانات االلهية على
الملك الحى الجالس على العرش ,و انما تمتد لتشمل أيضا الملك المتوفى و الذى ينظر له باعتباره
أحد الكيانات االلهية .فعند موت الملك يقال أنه قد "عاد الى كاواته" أو أنه اتحد ب "رع" أو أوزير.
ان أجداد الملك – أيا كانت هيئتهم – ال ينتمون الى الماضى الذى هو جزء من زمننا الدنيوى ,
و انما ينتمون الى الزمن األول .و لذلك فهم ما زالوا حاضرين ,و هم فى حالة حضور دائم و لكن
و ألن العالم السماوى ليس منفصال عن عالم األرض و انما هو يتداخل معه و يتشابك ,لذلك فان
يصور المشهد التالى ملك مصر الحى الجالس على العرش الملك "منتوحتب الثانى" و هو يقدم
و نالحظ أن حجم الملك منتوحتب الثانى (الى اليمين – مرتديا غطاء النمس فوق رأسه الذى يعلوه
اسمه داخل خرطوش) ضئيل بالمقارنة بحجم الملك منتوحتب األول الذى يبدو فى منتهى الضخامة
كان على كل ملك من ملوك مصر أن يقدم طقوس التبجيل ألرواح األجداد ,لكى تحل البركة على
أرض مصر ,ألن البركة و الخير و النماء ترتبط باقامة الجسور بين عالمنا و بين أرواح األجداد
المبجلين .
من أهم سمات المجتمع المصرى القديم النظر الى أرواح الموتى الصالحين نظرة احترام و تبجيل ,
و االعتقاد بأن هذه األرواح باستطاعتها التأثير على عالم األحياء و التدخل فيه أحيانا .
ان الموت الذى يعتبر فى نظر االنسان المعاصر أكبر دليل على ضعف االنسان و زواله أمام قوة
الزمن كان فى نظر المصرى القديم مجرد عتبة يخطوها االنسان فى طريقه الى عالم آخر أبدى يقع
فى مصر القديمة – و فى كل الحضارات القديمة – كان عالم الموتى يتداخل مع عالم األحياء
من وجهة نظر طقسية ,يعتبر الملك بوتقة تمتزج فيها القوى االلهية التى يمثلها الملك الحى الجالس
على العرش بالقوى الروحانية لسلفه المباشر (أبيه) و أيضا أجداد كل ملوك مصر الذين يندمجون
لمنصب الملكية وجهان ,فهو يجمع بين كل من حورس و أوزير فى عالقة متشابكه .
يتعامل منصب الملكية مع عالم األسطورة أو بعبارة أخرى يعمل من خالله .
عالم األسطورة الذى يقع خارج حدود التاريخ هو العالم الذى ينتمى له ملوك مصر ,و هو العالم
الذى تشير السجالت التاريخية المصرية اليه و الى تأثيره على عالمنا .
كانت قوائم الملوك فى مصر القديمة -باستثناء قائمة تورين و قائمة مانيتون السمنودى -تدون
ألهداف طقسية .و فيها يأتى ذكر أسماء األجداد المبجلين الذين تقدم لهم القرابين على أيدى حورس
ان ما يبدو فى نظرنا ترتيبا تاريخيا صحيحا ألجداد ملك مصر لم يكن هو الهدف األساسى الذى
على سبيل المثال ,كان من المقبول فى بعض األحيان تسجيل أسماء ملوك بعض األسرات بترتيب
معكوس .
فى قائمة سقارة (من مقبرة "تينرى" ,من عصر الملك رمسيس الثانى) على سبيل المثال قام
المصرى القديم بتدوين أسماء أكثر من 51ملك ,و من بين كل هذه األسماء ال نكاد نعثر على
ترتيب تاريخى صحيح اال فى أسماء ملوك األسرة الثانية عشرة .
يصور المشهد التالى جزء من قائمة سقارة و فيه تظهر خراطيش بأسماء ملوك األسرة الخامسه
بالنسبة للمؤرخ المصرى القديم ,لم يكن اكتمال قائمة الملوك يشكل أولوية .ففى الغالب كانت
القوائم تغفل ذكر أسماء بعض الملوك الذين يبدون أقل أهمية -لسبب ما -فى نظر المدون بالنسبة
و حتى أكثر قوائم الملوك موضوعية و شمولية مثل قائمة تورين و قائمة مانيتون السمنودى لم تكن
علينا أن نعى هذه الحقيقة عند النظر لقوائم الملوك حتى ال نسقط فى فخ تأويل ذلك من منظور
عند النظر الى قوائم الملوك علينا أن نتذكر أن الحقائق التاريخية فى مصر القديمة لم تكن هى
الهدف األساسى ,و لذلك كان المدون المصرى يعيد صياغتها لخدمة الطقوس الدينية .
و لذلك نجد أن السجالت و المعلومات التى وصلتنا عن الحروب التى خاضها بعض ملوك مصر
و عن انتصاراتهم و أفعالهم البطولية قد أعيد صياغتها لكى تتوافق مع بعض األحداث التى وردت
فى المعبد الجنائزى للملك "ساحورع" من عصر األسرة الخامسه (دولة قديمة) هناك مشهد يصور
و بعد حوالى مائتى عام ,قام الفنان المصرى المصرى القديم بنقل نسخة من نفس المشهد فى المعبد
الملحق بهرم الملك بيبى الثانى ,آخر ملوك األسرة السادسه .و حرص الفنان على اعادة نسخ
و بعد حوالى ألفى عام ,أعيد نسخ نفس المشهد فى معبد شيده الملك طهارقا (حوالى عام 091قبل
نفس المشهد بنفس أسماء زعماء القبائل الليبية أعيد نسخه بعد 211عام ,و بعد 2111عام كما
هو .فهل من المعقول أن كل ملك من الملوك الذين نسخوا المشهد انتصر على نفس األشخاص
تعتبر هذه الحالة أحد أهم أمثلة أسطرة التاريخ ,أى كتابة التاريخ على غرار األسطورة ,و هى
فالملك رمسيس الثالث – على سبيل المثال – قام بتدوين قائمة بحروبه فى آسيا و هى فى الحقيقة
منسوخة من قائمة دونها الملك رمسيس الثانى قبله بحوالى 011عام .وقائمة الملك رمسيس الثانى
بدورها منسوخة من قائمة دونها الملك تحتمس الثالث قبله بحوالى 111عام .
ان الهدف من اعادة نسخ التفاصيل التاريخية هو نقلها من نطاق التاريخ الى نطاق األسطورة ,
و بدال من تدوينها باعتبارها حدث تاريخى وقع مرة واحدة فقط ,قام المؤرخ المصرى بتدوينها
و كأنها حدث أسطورى يعيد تكرار نفسه أكثر من مرة ,ألن من سمات األسطورة العودة و التكرار
األبدى ,بعكس التاريخ الذى يسير فى خط مستقيم ال تعود فيه األحداث مرة أخرى .
هم العدو التقليدى الذى يجب على كل ملك من ملوك مصر أن ينتصر عليه .
و أيا كان شكل او اسم العدو ,فهو دائما رمز عوامل الفوضى و الهدم فى الكون .
و لذلك نجد أن النصوص التى وصفت اعداء مصر التقليديين قد أسقطت عليهم صفات "ست"
و شخصيته .
على سبيل المثال ,كان ذكر اآلسيويين فى النصوص المصرية القديمة يأتى غالبا مسبوقا بأوصاف
و من أمثلة تلك النصوص هذا النص الذى يعود لعصر الدولة الوسطى و يطلق عليه تعاليم "مرى
*** ان العامو (اآلسيوى من جنوب كنعان) بائس ...فهو أينما حل يحل البؤس ...و هو ما زال
و من نفس الفترة الزمنية (أى عصر الدولة الوسطى ) هناك نص آخر يصف األثيوبيين بهذه
العبارات -:
*** اذا هجمت عليهم ولوا األدبار و فروا هاربين ...و اذا انسحبت يبدأون فى الهجوم ..هم جبناء
و فى المقابل نجد أن ملك مصر بطل ال يقهر ,و منذ بداية عصر األسرات تصوره المشاهد الفنية
و هو يضرب رؤوس األعداء األسطوريين (رمز قوى الفوضى الكونية) بيد واحدة .
يصور المشهد التالى الملك مينا أول ملوك عصر األسرات فى الوضع التقليدى للمحارب الذى يقوم
( لوحة نارمر ,و هى تعود لحوالى 3122قبل الميالد ,المتحف المصرى بالقاهرة )
ظهر ملوك مصر فى أقدم المشاهد التى صورتهم فى وضع المحارب و هم يرتدون التاج األبيض ,
على سبيل المثال يصور المشهد التالى الملك "سخم خت" (ثالث ملوك األسرة الثالثه) و هو يرتدى
و هنا نالحظ أن الملك يقف وحده و يقهر األعداء فيما يبدو بدون مجهود ,و هى السمات التى
و ال شك أن هذه المشاهد تستند الى أحداث تاريخية ,اال أن المصرى القديم قام باسقاط األحداث
التاريخية داخل عالم األسطورة أو عالم الصور األولية الذى يتجلى فيه الملك كقوة كونيه رهيبة
تمسك بناصية العدو (رمز قوى الفوضى) الذى ال يستطيع فرارا ,و تسحقه .
و تعتبر مشاهد االنتصار فى عصر الدولة الحديثه أكثر واقعية ألنها تصور الجيش المصرى و هو
يقوم بمساعدة الملك .و لكنها فى نفس الوقت ال تبتعد عن عالم األسطورة حيث يعزى االنتصار
المشهد التالى من معبد هابو بالبر الغربى باألقصر ,و هو يصور انتصار الجيش المصرى على
و هنا نالحظ أن الجيش المصرى تم اختزاله فى مجموعة من الرماة تقف أمام الملك الذى يحمل هو
يبدو حجم الرماة من الجيش المصرى أصغر كثيرا من حجم الملك الذى يقف فوق أكوام من أشالء
و فى مقابل النظام و االنضباط و الثقة بالنفس التى تهيمن على مشهد الجيش المصرى بقيادة الملك
رمسيس الثالث ,تهيمن العشوائية على جيش األعداء الذى يبدو فى حالة فوضى شاملة ,ألن جيش
لهذه المشاهد مغزى ميثولوجى ,فهى تستخدم الحدث الدنيوى كبوابة لالنتقال الى الزمن األول ,الى
هو أيضا "ابن رع" ( سا -رع ) ,الذى يعيد تكرار فعل الخلق األزلى الذى قام به "رع" فى الزمن
األول و الذى يتضمن االنتصار على قوى الفوضى الكونية بعد خوض صراع ضدها .
وصف الملك تحتمس الثالث فى أنشودة تتناول انتصاره فى معرك "مجيدو" بأنه هو محبوب آمون
رع .ترجع األنشودة سبب االنتصار فى هذه المعركة الى "آمون -رع" الذى أسبغ قدرته االلهية
على الملك تحتمس الثالث و وهبه االنتصار على قوى الظالم فى البالد األجنبية التى تقع على حدود
*** ان مشاهد االنتصار فى مصر القديمة ليست مجرد استعراض للقوة ,و انما هى تعبر عن
مغزى يتعلق بقصة الخلق ,و هو اخضاع قوى الفوضى و الظالم للنظام الكونى .فالملك ال
يتصرف بعشوائية ,و انما هو يقوم بعمل صيانة للنظام الكونى (الذى تعتبر الماعت عنصرا
رئيسيا فيه) و حمايته من الهجوم المتكرر لقوى الفوضى .ان دور الملك فى صيانة النظام الكونى
و حمايته ليس جزءا من التاريخ ,و انما هو حقيقة أبدية .تلك الحقيقة هى الهدف الذى سعى الفنان
ان أفعال الملك فى مصر القديمة تنتمى لعالم األسطورة و ليس للتاريخ .
و مهما كانت أوجه التشابه بين هذه المشاهد و بين أحداث أو ظروف تاريخية ,يظل المغزى
يعتبر الملك جسر أو همزة وصل تصل بين عالمنا و بين عالم الصور األولية (عالم األسطورة) ,
فهو يحيا بجسده فى عالمنا األرضى و فى نفس الوقت يحيا بوعيه فى عالم األسطورة و فى كل
أفعاله يقوم بوضع بصمة عالم األسطورة على األحداث التاريخية التى يشارك فيها .
حين نقرأ أن الملك تحتمس الثالث أثناء حملته فى سوريا قم باصطياد سبعة أسود و اثنا عشر من
سورية و عاد و هو يقود 00أسيرا و ستين رأسا من الماشية فنحن هنا بصدد أحداث أسطورية
و األسطورة هنا ال تعنى أحداث خيالية و انما أحداث أزلية (وقعت عند نشأة الكون) تقوم باعادة
ان ما هو استثنائى و فوق العادة تصوره مشاهد االنتصار و كأنه حدث عادى ألن العالم الدنيوى
اندمج مع عالم األسطورة و هذا االندماج هو الذى رفع مستوى األحداث الدنيوية فجعلها أسطورية .
من خالل الملك تتدفق الطاقة من عالم األسطورة الى عالمنا فتمكن الملك من االتيان بما هو فوق
من العبث أن نفسر هذه المشاهد باعتبارها مجرد دعاية سياسية للملك .
ألن الملك ليس بشرا عاديا و انما هو تجسيد لالله على األرض ,و لذلك كان بمقدوره أن يأتى بما
فى مصر القديمة ,كان الملك يحيا فى مستوى آخر من مستويات الوجود أسمى من المستوى الذى
يحيا فيه العامة .و من خالله يمكن لمستوى الوجود األدنى أن يتصل بالوجود األسمى/األقدس .
ان المغزى من مشاهد االنتصار ليس األحداث التاريخية و انما المعانى الماورائية التى تعبر عنها
تعتبر معركة قادش أحد أوضح األمثلة التى قام فيها المصرى القديم باسقاط أحداث ميثولوجية
(أسطورية) على الحدث التاريخى ,و ذلك من خالل شخص الملك .
وقعت معركة قادش أثناء حملة الملك رمسيس الثانى فى منطقة الشرق األوسط ضد الحيثيين .وقد
سجل الفنان المصرى أحداث المعركة على جدران معبد رمسيس الثانى بأبيدوس ,و معبد األقصر
و فكرة تسجيل أحداث المعركة على جدران المعابد تكفى دليال على أن هذه المعركة لم تكن مجرد
حدث تاريخى فى نظر قدماء المصريين ,و انما هناك عالقة بين هذا الحدث و بين العالم االلهى أو
هناك من األدلة األركيولوجية ما يكفى الثبات أن هذه المعركة حدثت بالفعل ,و لكن فى نفس الوقت
قد ينتهى األمر بالباحث الى اساءة فهم الرموز المتعلقة بتسجيل تلك المعركة الهامة اذا نظر الى
معركة قادش على أنها حدث تاريخى فقط ,و أغفل عالقتها بعالم األسطورة و أحداث نشأة الكون .
فى مصر القديمة لم تكن أفعال الملك تنعكس فقط على حركة التاريخ .فاألحداث االتاريخية التى
كل فعل يقوم به الملك يخاطب به عالمين فى نفس الوقت ,العالم المادى و عالم الروح .لذلك
كانت األحداث التاريخية هى فى نفس الوقت أحداثا ميثولوجية فى نظر المصرى القديم .
تروى المصادر التاريخية المدونة على جدان المعابد عن توجه الملك رمسيس الثانى بجيشه المكون
من 4فرق الى قادش .و عند اقترابه من مدينة قادش التقى برجلين من البدو أخبراه بمعلومات
خاطئة عن موقع جيش الحيثيين .و قد اتضح فيما بعد ذلك أنهما من جواسيس الحيثيين و أنهما قاما
و بناء على تلك المعلومات المضللة التى تقول بأن جيش الحيثيين ما زال بعيدا عن قادش انفصل
الملك رمسيس الثانى عن قواته و قام بالتخييم على قمة أحد التالل ,و هناك "تبوأ عرشا من الذهب"
و بعد ذلك مباشرة أسر قادة الفرقة التى تصاحب الملك رمسيس الثانى اثنين من جيش الحيثيين ,
و بعد استجوابهما اتضح أن الجيش الحيثى يعسكر فى مكان قريب جدا شمال شرق قادش و أن
قواته التى تنتمى لتحالف من عدة دول الى جانب مملكة الحيثيين بها من المشاة و الفرسان ما هو
و هنا يرسل الملك رمسيس الثانى اشارة سريعة لباقى فرق الجيش لتأتى و تنضم اليه فى مواجهة
المصرية للهجوم ,و يقوم األعداء بحصار الملك الذى أصبح وحيدا .
وسط ذلك الخطر الرهيب ,ينتفض الملك رمسيس الثانى مثل أبيه "مونتو" (رب الحرب و القتال)
,و يمسك بسيفه و يرتدى درعه و يمتطى عربته و يبدأ الهجوم على األعداء .
جاء فى أحد النصوص التى تصف معركة قادش على لسان الملك رمسيس الثانى -:
*** كنت وحدى و ال موجود معى ...ال ضابط و ال عربة ,و ال جندى و ال حامل درع ...
انهارت أمامى قوات المشاة و العربات ...لم يعد منهم أحد ليحارب معى ***
فى ذلك الموقف الرهيب وقف الملك رمسيس الثانى وحده و قد تخلت عنه قواته ,و هنا يبدأ الملك
*** بك أستغيث يا أبى آمون ...فقد أحاط بى األعداء ...كل الدول تحالفت ضدى ...صرت
وحدى ,و ال رفيق لى ...تخلت عنى كل قواتى ...لم يبقى معى أى فارس من فرسان العربات
ليبحث عنى ...و أنا أصرخ و أصيح مناديا اياهم ,و لكن ال مجيب ...ال أحد يسمع ندائى سوى
آمون ...ان قدرة آمون و عونه لى أفضل من مليون فرقة ,و من مائة ألف قائد عربة و أفضل من
عشرة آالف أخ و ابن مجتمعين معا على قلب رجل واحد ...ان قدرة البشر مهما بلغ عددهم هى
و هنا يسمع آمون دعاء ابنه رمسيس الثانى و يخاطبه مباشرة و كأنه قريب منه قائال -:
*** الى األمام أيها الملك ,فأنا معك ...يدى فوق يدك ,ألنى أنا أبوك ...أن مددى أقوى من
و هنا تتنزل على الملك رمسيس الثانى قوة الهية خارقة تتقمصه و تتجلى من خالله ,فيصير مثل
و عندما يكتشف زعيم القوات الحيثيه أن الملك رمسيس الثانى وحده ,يجمع ألف عربة من قواته
تقول نصوص معركة قادش على لسان الملك رمسيس الثانى -:
*** اتجهت كل عرباتهم التى يبلغ عددها ألفا نحوى ...و لكنى قذفتهم بالسهام بقوة و شراسه مثل
"مونتو" ...و فى لحظة واحدة أذقتهم بأس و قوة يدى ...فقتلت منهم و سقطوا فى ساحة المعركة
...و أخذوا يتصايحون قائلين :ان ذلك الرجل ليس بشرا و انما هو "ست" شديد البأس ,بل هو
"بعل" نفسه ,ان هذه ليست أفعال بشر ,و انما هى أفعال كائن فريد ليس له مثيل ,يحارب جيش
مكون من مائة ألف بدون أى مساعدة من جنود أو عربات ,أسرعوا بالهرب من أمامه لننجو
بحياتنا ***
يهزم الملك رمسيس الثانى األعداء وحده و يمأل سهل قادش بالضحايا من جيش الحيثيين ,فال يعد
يصرع الملك رمسيس الثانى مئات االالف من األعداء بقوة ذراعه ,بينما تتخلى عنه قواته التى
ثم تصف نصوص معركة قادش مرحلة أخرى من المعركة و هى المرحلة التى تلحق فيها قوات
الجيش المصرى بالملك رمسيس الثانى الذى يسير وسط جنوده مع طلوع الفجر و يستكمل المعركة.
تتزامن هذه المرحلة األخيرة و الحاسمه فى المعركة مع لحظة شروق الشمس .
*** كنت مثل "رع" حين يشرق عند الفجر ...و قد حرقت أشعة نورى أجساد أعدائى ...و أخذوا
يتصايحون أن انتبهوا و ال تقتربوا منه ,و اال ستحرقكم ناره ...و هنا لم يجرؤ أحد منهم على
يتضح مغزى القصيدة حين نقرأها فى ضوء المشاهد المصاحبة لها ,و منها النقوش التى صورها
الفنان المصرى القديم فوق الجدران الخارجية لصرح معبد األقصر .
ففى الجانب الغربى من الصرح يظهر الملك رمسيس الثانى و هو يجلس فوق عرش من ذهب
و يولى وجهه شطر الغرب .و الذهب هو المعدن الذى يرمز للشمس .
أن يتبوأ الملك رمسيس الثانى عرشا من ذهب قبل اندالع المعركة فان ذلك يعبر عن كونه تجسيدا
و على يمين ذلك المشهد هناك مشهد آخر يصور الملك فوق عربته و هو يصوب سهامه نحو
الغرب ,فى اتجاه الليل و الظلمة التى بدأت تزحف على العالم .
و بين مشهد الملك فوق عرشه و مشهد الملك فوق عجلته الحربية هناك ست عجالت حربية أخرى
تنتمى للجيش المصرى تتجه نحو الغرب و تصعد الى أعلى بالتدريج حيث تقابل العجالت الحربية
الحيثيه فى قمة المشهد فوق الموضع الذى يقف فيه الملك فوق عربته .
تصعد بالتدريج الى أعلى تأخذنا خطوة بخطوة من لحظة غروب الشمس الى الساعة التى ينتصف
فيها الليل .يبدو أن هذه العربات الستة تمثل المراحل األولى للمعركة .
اعتقد المصرى القديم أن الشمس بعد أن تغرب يجب عليها أن تقطع العالم السفلى و ترتحل فى كل
مناطقه لكى تولد من جديد فى األفق الشرقى فى صباح اليوم التالى .
و فى تلك الرحلة الباطنية تتزامن كل مرحلة رئيسية من مراحل الرحلة مع ساعة من ساعات الليل
و لما كان الملك هو صورة الشمس على األرض ,فان ارتحاله فوق عربته فى اتجاه الغرب يرمز
و لذلك فان معركة قادش تقع فى زمن األسطورة كما تقع أيضا فى الزمن الدنيوى ,أو بعبارة
أخرى ان أحداث معركة قادش هى تجسيد لرموز تنتمى لعالم األسطورة .
و على نفس الجانب من الصرح الغربى بمعبد األقصر يظهر الملك رمسيس الثانى مرة أخرى
كما فى الشكل التالى ,حيث نالحظ وجود اضافة أو تعديل على المشهد األساسى .
من مشاهد معركة قادش :الملك رمسيس الثانى يتحول الى الشرق فى لحظة فارقة أثناء المعركة
و نالحظ أن حجم الصورة الثانية هو تقريبا ضعف حجم الصورة األولى ,و أن الملك فى الصورة
هناك من يرجع السبب فى ذلك الى تعديل أضافه الفنان المصرى القديم الذى غير رأيه أثناء العمل ,
و هى بالطبع اجابة سهلة توفر علينا عناء البحث ,و لكنها تجعلنا نفقد المغزى الذى يعبر عنه
المشهد .
اذا تأملنا المشهد فى ضوء نظرة قدماء المصريين للملك باعتباره صورة "رع" و أن توجهه نحو
الغرب يعنى بداية ارتحاله فى العالم السفلى مثل "رع" ,فمن المتوقع أن يغير الملك وجهته بعد
نزوله الى العالم السفلى و يتجه نحو الشرق ألن األفق الشرقى هو المكان الذى سيولد منه مجددا
ان تغير وجهة الملك يتزامن أيضا مع اللحظة الحاسمة فى المعركة حين أدرك الملك أنه منعزل عن
جيشه و أنه محاصر من كل اتجاه باألعداء .و أسفل عرش الملك صور الفنان المصرى القديم قادة
و تلك هى اللحظة التى يجب على الملك رمسيس الثانى أن يتجه فيها بالدعاء و الصالة آلمون .
فى كتاب "وصف ما هو كائن فى العالم االخر" (أمدوات) و الذى دون فى عصر الدولة الحديثه ,
نجد وصفا تفصيليا لرحلة الشمس فى العالم السفلى أثناء ساعات الليل االثنى عشر .
و الساعة السابعة (أى منتصف الليل ) هى الساعة التى يتعرض فيها قارب رع لهجوم ثعبان
الفوضى و الظالم "عبيب" (أبوفيس) الذى يحاول عرقلة سير القارب و منعه من الوصول الى غاية
و تلك هى الساعة التى حوصر فيها الملك رمسيس الثانى من األعداء الذين يمثلون قوى الفوضى
و الظالم .و عند ذلك المنعطف تنتقل المشاهد الى الجانب الشرقى من الصرح ,و هو الموضع
يسدد سهامه نحو الشرق حيث تولد الشمس من جديد منتصرة على قوى الظالم .و هنا يتساقط
من مشاهد معركة قادش :الملك رمسيس الثانى يسدد سهامه نحو األعداء
فى نفس اللحظة التى يقوم فيها "رع" بذبح ثعبان الظالم و الفوضى أبوفيس ,يقوم الملك رمسيس
الثانى بذبح األعداء من الحيثيين الذين يجسدون قوى الفوضى الكونية على األرض .
فى رحلة "رع" الباطنية الى العالم السفلى يتغير مجرى األحداث تماما بعد هزيمة أبوفيس و تتحول
و فوق سهل قادش الذى امتأل بجثث األعداء الذين لقوا مصرعهم على يد الملك رمسيس الثانى ,
يبدأ الملك فى السير مع قوات جيشه مع طلوع الفجر ,بينما يقبل األعداء األرض بين يديه .
يقول عالم الكيمياء الفرنسى Schwaller De Lubiczأن كل أحداث معركة قادش تقع أثناء الليل
قد تكون األحداث التاريخية الفعلية وقعت بالنهار ,و لكن ذلك ال يهم .
لن نستطيع أن نفهم سجالت معركة قادش اال اذا ذهبنا فيما وراء الوقائع التاريخية الحقيقية لنصل
الى المغزى األسطورى الذى يفرض نفسه على أحداث المعركة .
تعبر مشاهد معركة قادش -بما فى ذلك ابتهال الملك رمسيس الثانى آلمون – عن مغزى كونى
أما سجالت معبد أبو سمبل التى تناولت معركة قادش فقد أنهت سردها لألحداث بذكر معاهدة السالم
التى تم توقيعها بين الملك رمسيس الثانى و بين ملك الحيثيين و ذلك بعد انتهاء المعركة بخمسة
عشر عام .نقشت بنود معاهدة السالم فوق لوح من الفضة و قام ملك الحيثيين بالتوقيع عليها ,
و أعقب ذلك مراسم زواج الملك رمسيس الثانى من ابنة ملك الحيثيين ,الذى قدم أيضا العديد من
قام الملك رمسيس الثانى بتخليد حدث زواجه بابنة ملك الحيثيين على لوحة بمعبد ابو سمبل تعرف
باسم لوحة الزواج ,و فيها تم اطالق اسم مصرى جديد على األميرة الحيثية .
أطلق الملك رمسيس الثانى على زوجته الجديدة لقب "التى ترى حسن رع" ,و هو نفس اللقب
الذى أطلقه قدماء المصريين على الساعة األخيرة من ساعات الليل -كما جاء فى كتاب األمدوات
(وصف ما هو كائن فى العالم اآلخر) – و هى الساعة التى يولد فيها "رع" من جديد .
يقول عالم الكيمياء الفرنسى Schwaller De Lubiczأن زوجة الملك الجديدة ترمز للقمر الذى بلغ
أوج اكتماله بعد رحلة زيادته التى تنقسم الى 05مرحلة/يوم (و التى رمز لها المصرى القديم
بمرور 05عام على معركة قادش) .لذلك فان زواج الملك رمسيس الثانى باألميرة الحيثية ال يرمز
فقط للتصالح السياسى بين قوتين متعارضتين ,و انما يرمز أيضا لتصالح قوى كونية ,و لالتحاد
ان سجالت معركة قادش تعتبر مثال حى لما يعرف ب "التاريخ األسطورى" .
و اذا أردنا أن نفهم تاريخ مصر القديمة كما دونه قدماء المصريين أنفسهم علينا أوال أن نتخلص من
األحكام المسبقة و من تصوراتنا الشخصية التى تستند لمعايير ثقافتنا و التى نطلق من خاللها
األحكام فنقول أن هذا حقيقى و ذاك خيالى ,أو أن هذا واقع و ذاك زيف .
فقط عندما نتخلص من تلك األحكام المسبقة سيتضح لنا أن عالم األسطورة و عالم التاريخ
و هنا أود أن أكرر مرة أخرى ما قاله عالم األنثروبولوجى ميرسيا ايلياد عن تعريف األسطورة -:
*** األسطورة هى نواة علم الوجود عند انسان الحضارات القديمة ,فهى تتحدث عن حقيقة
مطلقة ***
ان األسطورة فى نظر قدماء المصريين ال تتناول فقط أحداث حقيقية و انما هى تتحدث عن عالم
تدور أحداث األسطورة فى عالم الروح و هو العالم السببى الذى توجد فيه الصور األولية /األصلية
فكل األشياء المادية التى نراها بحواسنا ما هى اال ظل أو انعكاس لجوهر أو أصل موجود فى العالم
ان التاريخ المنفصل عن عالم األسطورة هو تاريخ مبتور ,منفصل عن جذوره .
و هذا الوصف ينطبق تماما على تاريخنا المعاصر الذى أصبح تاريخا مبتورا ال جذور له .
لذلك حرص المصرى القديم دائما على أن يضع األحداث التاريخية داخل اطار األسطورة ,و على
أن يصل كل حدث منها على حدة بأصله و جذوره فى عالم الروح .
هذا الوصل بين األصل و الصورة لم يكن يحدث بعد انتهاء الحدث التاريخى و انما يبدأ مع بداية
األسطورة .
كان تطور أحداث معركة قادش و النتيجة التى أسفرت عنها و هى انتصار الجيش المصرى شيئا
محسوما بفضل دور الملك و ارتباطه الوثيق بعالم األسطورة باعتباره صورة "رع" على األرض .
ال يمكننا االجابة على ذلك السؤال بفصل الوقائع التاريخية عن األحداث األسطورية .
و بدال من أن نحاول تفسير الرموز الفنية المصرية باستخدام معايير ثقافتنا و نحاول فرض أحكامنا
المسبقة على تلك المشاهد ,يجدر بنا أن نعيد تقييم المعايير التى نحكم من خاللها على األشياء بأنها
منذ القرن السابع عشر بدأت نظرة االنسان األوروبى للعالم تأخذ طابعا أكثر مادية ,بحيث أصبحت
كلمة حقيقى تطلق على كل ما يمكن ادراكه بالحواس المادية فقط .
أصبحت كلمة حقيقة فى نظر انسان العصر الحديث تعنى ما يمكن تقديم دليل مادى ملموس على
وجوده .
من وجهة نظر قدماء المصريين يعتبر فصل الواقع المادى عن عالم األسطورة نوع من أنواع
الرؤية المشوشة و المشوهة للحقيقة ,ألنها نظرة تستبعد أهم العناصر التى تشكل أى حدث فى
الوجود ,و هذه العناصر هى الكيانات االلهية التى تحيا فى عالم األسطورة .
ان محاولتنا قراءة األحداث التاريخية بمعزل عن األسطورة يعنى أن لدينا حكم مسبق يفترض أن
و بناء على ذلك الحكم المسبق يخرج الباحث المعاصر بنظرة للتاريخ تختلف تماما عن نظرة قدماء
المصريين له .
األحداث الدرامية و األفعال التى تقوم بها الكيانات االلهية فى األسطورة ليست خرافة و انما هى
لم تكن أحداث األسطورة أحداثا خيالية فى نظر المصرى القديمة و انما العكس .
فعالم األسطورة حقيقى أكثر من العالم المادى الذى نعيش فيه ,ألن عالمنا يستمد وجوده من عالم
و ما حدث فى قادش هو تزامن أو امتزاج بين عالم األسطورة و بين التاريخ .
اعتاد المصرى القديم بناء الجسور التى تصل بين عالم األسطورة و العالم المادى ,و تلك الجسور
هى األساس الذى قام عليه الفن و العلم الذى برع فيه قدماء المصريين و الذى نطلق عليه اسم
هناك عدة عقبات تواجهنا عندما نحاول البحث فى علم السحر كما عرف فى مصر القديمة .
و أول هذه العقبات هى التراث الدينى المسيحى الذى جعل االنسان األوروبى ينظر للسحر نظرة
كان موقف الكنيسة دائما -و ال يزال -يتسم بالعداء و االدانة ,حيث يوصم السحر بأنه ضد الدين .
فى بداية القرن العشرين قامت موسوعة الكنيسه الكاثوليكية بتعريف السحر بأنه ( فن ممارسة
أعمال خارقة تتخطى حدود قدرة االنسان العادى و ذلك باالستعانة بقوى غير الهية ) .
و هكذا أدانت الكنيسة الكاثوليكية أى محاولة لممارسة السحر و وصفتها بأنها خطيئة كبرى
و مخالفة للدين ألن كل الممارسات السحرية تقوم على االستعانة بقوى شيطانية أو بأرواح ضالة .
و الكنيسة هنا تتحدث باسم المجتمع كله ,و ال يوجد ما يشير الى تغير فى هذا الموقف السلبى من
لقرون عديدة ظل االتصال بعالم الروح خارج اطار الدين الرسمى للمجتمع الغربى و هو المسيحية
و هكذا وصم السحر -و كل العلوم الباطنية بوجه عام – بأنه خروج على أسس االيمان و العبادة
و ما ينطبق على الديانة المسيحية فيما يخص السحر ينطبق أيضا على األديان الكتابية األخرى
(اليهوية و االسالم) .فكلمة "دين" أصبحت تقتصر فى ذهن انسان العصر الحديث على الطقوس
هناك دائما شعور عام باألمان يكتنف الممارسات التى ترعاها هذ المؤسسات الدينية التقليدية ,
بعكس السحر الذى يثير فى نفس االنسان المعاصر شعورا عاما بعدم األمان .
يبدو السحر فى نظر االنسان المعاصر عالما ال يمكن فيه التمييز بين النور و الظالم ,بين الخير
و الشر ,بل ان تعريف الكنيسه للسحر يقول بأنه يتضمن استحضار الشياطين .
يعود فصل السحر عن الدين الى تغير فى عالقة االنسان المعاصر بعالم الروح ,و هى عالقة
ظل فصل السحر عن الدين من سمات الثقافة الغربية طوال األلفيتين األخيرتين ,و هنا علينا أن
ننتبه الى أن تلك الفجوة و التناقض بين المعرفة الباطنية و بين الممارسات الدينية الشكلية (برعاية
الكنيسه) لم يظهر فى التاريخ الغربى اال فى األلفيتين األخيرتين من تاريخ أوروبا ,أى مع بداية
ظهور المسيحية .فالفكر الدينى فى أوروبا قبل العصر اليونانى الرومانى (و أيضا خالله) لم يكن
يفصل الدين عن الممارسات التى يتم فيها االتصال بقوى روحانية أثناء تجارب باطنية مثل الخروج
لم يكن السحر فى نظر انسان الحضارات القديمة شيئا منفصال عن الدين .
فى الحضارات القديمة كان السحر ينطوى تحت مظلة الدين ,أو بعبارة أخرى كان الدين سحريا
يمكننا تتبع انفصال السحر و المعرفة الباطنية عن الدين بشكل تدريجى عبر المراحل التاريخية بدءا
من نهاية العصر اليونانى الرومانى وصوال الى عصرنا الحاضر .
تعود جذور ذلك االنفصال الى القرن األول الميالدى الذى بدأ فيه أفول نجم العرافة و الممارسات
ثم أعقب ذلك تأسيس المسيحية كديانة رسمية لالمبراطورية الرومانية ,ثم الحمالت التبشيرية
الكنسية فى العصور الوسطى المظلمة فى أنحاء أوروبا ,و هى حمالت استهدفت القضاء على ما
و فى تلك الحمالت تمت مالحقة كل من يمارس أى طقوس روحانية خارج اطار الكنيسه بتهمة
الهرطقة و تم احراق ماليين من النساء بتهمة ممارسة السحر .و هكذا تم حظر المعرفة الباطنية
و تحولت الى علوم سرية تمارس فى الخفاء تحت قناع من الرموز المبهمة التى يصعب فك
شفرتها كما فى بعض مدارس العلوم الباطنية مثل الخيمياء و جماعة الصليب الوردى .
تحولت العلوم الباطنية الروحانية الى علوم سرية ترعاها جماعات صغيرة غير معلنة تعرف باسم
احتجبت تلك العلوم عن العامة ,و لكنها لم تمت و لم تندثر بشكل تام .
عادت العلوم الباطنية للظهور العلنى مرة أخرى فى عصرالنهضة برغم مخاطر التعرض لبطش
الكنيسه ,فى صورة احياء لتعاليم و ممارسات تعود جذورها لما قبل الحضارة اليونانية ؛ للحضارة
فى أواخر القرن الخامس عشر قام االيطالى "مارسيليو فيتشينو" بترجمة متون هرمس ,و هى
مجموعة من النصوص اليونانية القديمة تدور حول تعاليم باطنية نقلها الفالسفة اليونانيون عن
فى عصر النهضة ظهر العديد من المفكرين الذين قاموا بمحاوالت لرأب الصدع بين الدين الرسمى
الذى ترعاه الكنيسه و بين السحر .و من هؤالء الفيلسوف "بيكو ديلال ميراندوال"
( )Pico della Mirandolaو "جوردانو برونو" ( , )Giordano Brunoحيث دعا االثنان البابا
الى أن يعيد الصلة بين الدين األورثوذكسى الرسمى للدولة و بين التقاليد الباطنية السحرية القديمة
و تعاليم هرمس .و قد صرح الفيلسوف األلمانى "جاكوب بويم" ( )Jacob Boehmeالذى عاش
فى القرن السادس عشر بجرأة أن ( السحر هو أفضل دين ,ففيه يمكن للمرء أن يجد االيمان
الحقيقى .و األحمق هو من يدين السحر فقط ألنه ال يعرفه .فمن يفعل ذلك ليس برجل دين
حقيقى ) .
فى المصادر التى صارت متاحة بشكل أكبر للعامة ,مما يشير الى وجود اتجاه عام نحو التصالح
بين الدين و السحر .
اذا بحثنا فى أصل كلمة "ماجيك" ( )magicنجد أنها مشتقة من الكلمة اليونانية "ماجوس"
( , )magosو هى عبارة عن مصطلح أطلقه اليونانيون على الكهنة و العرافين القادمين من
و كلمة "ماجى" ( – )magiباليونانية "ماجوى" ( - )magoiالتى وردت فى انجيل متى تشير الى
أولئك العرافين الذين ينتمون لمدرسة روحانية على خالف مع المدرسة اليونانية و المدرسة
كان االغريق يخشون هؤالء الكهنة و العرافين القادمين من فارس و ما بين النهرين و يطلقون
عليهم "ماجوس" ,ألنهم كانوا على اتصال بقوى روحانية ال يستطيع االغريق ادراكها أو فهم
طبيعتها ,و هو الخوف الذى انتقل الينا فصارت كلمة سحر تثير فى نفوسنا مشاعر الخوف
و االرتياب .
أما كلمة ( )magosاليونانية ,فهى بدورها مشتقة من الكلمة الفارسية القديمة التى جذرها
( , )mog , megh , maghو تعنى كاهن ,أو حكيم ,أو بارع ,أو خارق .
و من ذلك الجذر الفارسى القديم جاءت الكلمة الكدانية "ماجديم" ( )maghdimو هى مصطلح
عندما نقرأ تعريف الفيلسوف السويسرى "باراسيلسوس" (الذى عاش فى القرن السادس عشر)
للسحر نجده يعكس تلك المفاهيم األصيلة ,حيث يقول "باراسيلسوس" -:
*** ان السحر هو جوهر الحكمة .فهو العلم بقوى ما وراء الطبيعة .ذلك العلم الذى يكتسبه
ان الفلسفة االغريقية ما هى اال ظل باهت للحكمة و المعرفة الباطنية التى كانت لدى انسان
يقول الفيلسوف االغريقى أفالطون أن قدماء المصريين كانوا يصفون االغريق بأنهم أطفال ,و ذلك
مات السحر (بمعنى علوم ما وراء الطبيعة) فى الحضارة االغريقية ,و حاربته الثقافة االسرائيلية
و قامت بفصله عن الدين ,كما حاربته المسيحية أيضا طوال تاريخها .
و ما كان يعتبر اتصاال بعالم الروح فى الحضارات القديمة ,أصبح فى العصر الحديث محظورا
و ممنوعا .
و برغم ادانة المسيحية للسحر و ازدراءها للسحرة "ماجى" ( )magiفقد ذكرت األناجيل ظهورهم
لحظة ميالد المسيح ,و ربما كان ذلك رمزا ألفول نجمهم و بداية اندثار علومهم و افساحها الطريق
و ما كان مقبوال فى عصر من العصور كوسيلة لالتصال بعالم الروح أصبح غير مقبول فى عصر
آخر .
شهدت األلفيتان األخيرتان من تاريخ أوروبا تطور الوعى المادى القائم على المالحظة العلمية
و لكن باقترابنا من نهاية األلفية الثانية ,عاد االهتمام بدراسة السحر و علوم ما وراء الطبيعة
----------
لم تعرف اللغة المصرية القديمة كلمة "دين" ( )religionالتى نعرفها حاليا .و أقرب لفظ مصرى
الى كلمة "دين" هو لفظ "حكا" ( , )Hekaو الذى يترجم عادة بمعنى "السحر" .
*** فى مصر القديمة لم يكن هناك كلمة تعادل كلمة "دين" فى لغاتنا الحديثه ,و انما كان هناك
"حكا" ,و أقرب لفظ فى اللغة االنجليزية لمفهوم ال "حكا" هو لفظ " القوى السحرية" ***
"حكا" – مثله فى ذلك مثل ماعت – هو أحد المفاهيم الكونية ,و قد صوره الفنان المصرى القديم
و من األشياء التى تستحق التأمل أن قدماء المصريين كانوا ينظرون الى "حكا" على أنه "كيان
الهى" و ليس علما ( , )scienceبمعنى أنه لكى يعرف االنسان ال"حكا" ,عليه أن يدخل فى
فى متون التوابيت يقول "حكا" عن نفسه أن وجوده يكمن فى كلمة آتوم األزلية الخالقة ,التى أتت
ب "النترو" (الكيانات االلهية) للوجود ,و يصف نفسه بأنه الطاقة االلهية التى تحتوى كل شئ انبثق
يقوم "حكا" بدور القدرة االلهية الكامنة فى كلمة الخلق ,و بذلك يهب الحياه لكل ال "نترو"
جاء فى أحد النصوص المصرية القديم هذه العبارات على لسان حكا -:
*** أنا من يهب الحياة للجمع االلهى (التاسوع) ...أنا من فعل كل ما اقتضت مشيئته ...أنا أب كل
ال "نترو" (الكيانات االلهية) ...كل األشياء كانت بداخلى ,قبل أن تأتى ال "نترو" للوجود ...كل
ان "حكا" ال يعتبر فقط األب و األصل لكل ال "نترو" ,و لكنه أيضا األب لكل ما يأتى الى الوجود.
حكا هو القوة االلهية التى تتخلل كل مستويات الوجود ,المادية و الماورائية .
صور الفنان المصرى القديم "حكا" على شكل رجل يقبض على ثعبانين يتقاطعان فوق صدره .
و فوق رأسه عالمة هيروغليفية على شكل الساق الخلفية ألسد رابض محمول فوق عامود مرتفع .
و منذ عصر األسرة العشرين بدأت هذه العالمة الهيروغليفية تحل محل االسم الكامل ل "حكا" ,
تحمل العالمة الهيروغليفية التى يكتب بها اسم "حكا" بوجه عام دالالت تتعلق بالقوة و القدرة
فى الفصل الثالث رأينا مشهد ظهر فيه "حكا" و هو يحمل جسد "نوت" (السماء) و يفصلها عن
"جب" (األرض) .و هو بذلك يقوم بالدور الذى اعتاد أن يقوم به "شو" (الهواء) .
يقول النص المصاحب لذلك المشهد " ( :حكا" ,االله العظيم ,رب السماء ) .
"حكا" هو القوة الكونية التى تستطيع من خاللها الكيانات التى تتواجد وجودا باطنيا أن تتجسد فى
"حكا" – بصحبة شو و تحوت – هو القدرة االلهية التى يتحول بها ما هو باطنى/روحى الى كيان
ظاهر/متجسد .
"حكا" هو همزة الوصل بين العقل األسمى "آتوم" و بين كل ما ينبثق من ذلك العقل األسمى .
أوال :أن "حكا" هو القوة االلهية الخالقة التى تتخلل كل الموجودات فى عالم الروح و أيضا فى
ثانيا :أن "حكا" هو همزة الوصل التى من خاللها تستطيع كل المستويات الروحانية و المادية فى
الوجود أن تقيم اتصاال مباشرا مع بعضها البعض .و هو المركبة التى تنتقل عن طريقها
يقول الباحث الفرنسى "كريستيان جاك" فى دراسة قام بها عن السحر فى مصر القديمة -:
*** يمكن تعريف السحر بأنه الطاقة الكونية األزلية التى تحيط بكل أبعاد الكون المختلفة سواء
األبعاد الروحانية التى تسكنها ال "نترو" (الكيانات االلهية) أو األبعاد المادية التى تسكنها مخلوقات
متجسده مثل االنسان .لقد نسجت الروح و المادة من أصل واحد فى األزل .و أهم شئ فى ممارسة
السحر هو أن يدرك الساحر ذلك الخيط الرفيع الذى يربط كل أبعاد الكون و يقوم بتوحيد كل
ان التمكن من علم السحر يتوقف على فهم طاقة ال "حكا" فهما عميقا ,و التناغم معها ,و تفعيل
و لكى يستطيع المرء تحقيق ذلك ,عليه أن يبحث عن المعرفة الباطنية و يقوم بتطوير قدراته
أو تأمرهم .فقط "حكا" هو الذى يستطيع أن يهيمن على ال "نترو" ,و يصدر لهم األوامر .
و الساحر هو ذلك االنسان الذى استطاع أن يجعل من نفسه قناه تسرى من خاللها طاقة "حكا"
السحرية .
و نجد مثاال لذلك فى متون األهرام حيث جاء على لسان الملك بيبى -:
( لست أنا الذى ألقى اليكم هذه الكلمات أيها ال "نترو" ,و انما هو "حكا" الذى يلقيها اليكم ) .
أى أن الملك نفسه قد تحول الى "حكا" ,و تلك هى الطريقة الوحيدة التى يستطيع بها أن يهيمن
كان تعبير "ابتالع الحكا" فى اللغة المصرية القديمة كناية عن معرفة االنسان و خبرته العميقة
بطاقة السحر ,بحيث يتحول االنسان الى قناة تسرى من خاللها تلك الطاقة الكونية .
استخدمت اللغة المصرية القديمة تعبيرات مثل ابتالع االنسان للحكا ,بل و هضمه بحيث يستقر بعد
فى متون األهرام -و تحديدا فى النص المعروف باسم نص التهام األضحية ()Cannibal Hymn
– يقول الملك الذى يقوم بدور الساحر أنه يلتهم سحر (حكا) الكيانات االلهية فتنتقل اليه طاقتهم
فقط عن طريق ابتالع طاقة الحكا يستطيع الملك أن يشق طريقه أثناء رحلته فى العالم اآلخر .
جاء فى متون األهرام على لسان ملك مصر و هو يصف رحلته الى السماء قائال ( هاأنذا أصعد الى
و نجد فى كتاب الخروج الى النهار أن امتالك القدرات السحرية و المهارة فى استخدام الكلمات
السحرية يعتبر من أهم المواهب التى يجب على االنسان أن يكتسبها لكى يتمكن من اجتياز العقبات
*** أنا أجمع السحر من كل مكان ,و من كل كائن يمتلك طاقة السحر ,بسرعة كلب الصيد ,بل
بسرعة الضوء ...السحر الذى يخلق الصور و األشكال و الذى ينبثق من رحم األم (الكونية) ...
و السحر الذى يستدعى الحضور االلهى ,و الذى ينبثق من الصمت ...هذا السحر يأتينى من كل
مكان ,و من كل كائن يمتلكه ,بسرعة كلب الصيد ,بل بسرعة الضوء ***
يتوقف نجاح رحلة الروح فى العالم السفلى على المام المرتحل بفن السحر باعتباره علما "باطنيا /
روحانيا" .
باستخدام السحر يمكن لروح المتوفى أن تمر من بوابات العالم السفلى و تجتاز العقبات و تتغلب
على قوى الفوضى و الظالم التى تظهر فى صورة وحوش مخيفة .
و لكى يجمع االنسان السحر -أى يلم بفن السحر -عليه أن يستخدم شبكة كشبكة الصياد يتم بها
كان قدماء المصريين يستخدمون طاقة الحكا فى التغلب على ثعبان أبوفيس الذى يعترض رحلة
الروح فى العالم اآلخر فى الساعة التاسعة أو البوابة التاسعة كما جاء فى كتاب البوابات .
و يختلف سياق كتاب الخروج الى النهار عن سياق متون األهرام فيما يتعلق بالقوى السحرية .
ففى حين يركز كتاب الخروج الى النهار على تفعيل طاقة الحكا للوصول الى التحول الباطنى
( )transformationقبل انتقال االنسان للعالم اآلخر ,نجد فى متون األهرام أن االنسان يكتسب
طاقة الحكا بتلقائية بمجرد انتقاله للعالم اآلخر ,و يحدث التحول الباطنى لروحه و نفسه بشكل
تلقائى .
ان العقبات التى تعترض طريق االنسان أثناء رحلته فى العالم االخر و القوى الماورائية التى
يصادفها هى قوى ذات طبيعة سيكولوجية ,و على االنسان أن يكتسب العلم الذى يؤهله للهيمنة
فى حين نجد أن ملوك متون األهرام يتمتعون بالموهبة البارعة فى استخدام طاقة الحكا بمجرد
هذا الفارق بين الكتابين فيما يتعلق بالسحر يبدو فارقا طفيفا و غير ملحوظ ,و لكنه يوضح لنا أنه
بقدوم عصر الدولة الحديثة أصبح من الضرورى لالنسان اكتساب المعرفة الباطنية بقوى السحر
الكونية من أجل الوصول الى حالة التحول الباطنى ( )transformationالتى تخرج االنسان من
سجن الوعى المادى الى رحابة الوعى الكونى ,و بالتالى يستطيع االنتقال الى العالم السماوى .
حكا هو القوة االلهية األزلية التى استخدمها "خبرى آتوم" بمهارة و اقتدار فى الزمن األول ,و هى
التى أتت بالمخلوقات للوجود .و عن طريق "حكا" يستطيع االنسان أن يستحضر تلك الطاقة االلهية
األزلية ل "خبرى آتوم" و التى ال تستطيع أى قوة أخرى أن تضاهيها فى قدرتها .
السحر اذن هو قوة الهية غامضة تتجلى فى كل الموجودات سواء فى عالم الروح أو فى عالم المادة
,و هى قوة تتخلل كل مستويات الوجود و تصل بعضها ببعض ,من أعلى المستويات الروحانية
و السحر هو أيضا الوسيلة التى يستطيع بها االنسان (و كذلك كل المخلوقات) أن يعود مرة أخرى
الى العقل األسمى ,الى "األصل /المنبع" الذى انبثقت منه كل الموجودات .
و هذا الجانب من جوانب السحر يعبر بشكل خاص عن رؤية قدماء المصريين لعلم السحر و دوره
و فى كل من التعريفين لقوة السحر ,نجد أنه يرتبط ارتباطا وثيقا بالماعت .
و الماعت عند قدماء المصريين هى النظام األسمى للكون الذى أرساه االله فى الزمن األول ,و هذا
النظام الكونى هو المعيار الذى يجب على االنسانية أن تضبط به الحياة السياسية و االجتماعية
حور – آختى" ,و قد صورهما الفنان المصرى و كأنهما أخ و أخت يقومان بنفس الحركة و هى
كان تفعيل طاقة ال "حكا" عند قدماء المصريين ضروريا من أجل ضبط ايقاع العالم المادى ليصبح
انعكاسا لعالم الروح ,و لكى تصبح األرض صورة من السماء .
هذا التفعيل لطاقة الحكا يعنى أن يحيا االنسان فى الماعت ,أى يحيا فى تناغم مع النظام الكونى .
"حكا" هو القوة االلهية التى تشكل البنية التحتية و األساس لكل الطاقات التى نشأ بها الكون .
كان قدماء المصريين ينظرون الى المرض على أنه اختالل فى التوازن بين جسد االنسان
لكى يتم تفعيل طاقة ال "حكا" ,هناك أربعة عناصر رئيسية يجب توافرها ,و هى -:
( )1الساحر
سنبحث فى كل عنصر من هذه العناصر على حدة ,و بعد ذلك سننتقل فى الفصل التالى الى
الساحر -:
برغم أن السحر كان من العلوم الباطنية (السرية) ,اال انه كان يحظى باحترام كبير فى المجتمع
المصرى القديم .و بعكس نظرة انسان العصر الحديث لمن يمارس السحر ,كان السحرة فى مصر
القديمة يتمتعون باالحترام و التقدير .فمعظم السحرة (و ليس جميعهم) هم فى األصل كهنة يشغلون
كان السحرة ينتظمون داخل مؤسسات علمية معروفة و كان لهم تأثير على جميع نواحى الحياه
و بوجه عام يمكننا القول أنه كان على المرء أن يصبح ساحرا لكى يحظى بمكانة مرموقة فى الدولة
و السبب فى ذلك أن الدولة المصرية كانت تضع على قائمة أولوياتها اقامة الماعت على األرض ,
أى ضبط المجتمع المصرى لكى يصبح صورة من النظام الكونى ,و ضمان سريان الطاقة الكونية
و لكى يصبح المرء وزيرا أو مسئوال فى مصر القديمة كان عليه أن يكون مرتبطا بشكل من
األشكال بطاقة ال "حكا" ,و عليه فهمها و استيعابها و تعلم كيفية استخدامها .
فالتوازن المنشود فى الطاقة و الذى كان على رأس أولويات الدولة المصرية يتحقق فقط عن طريق
كان تدريب السحرة يتم فى جامعات و مدارس العلم المقدس الملحقه بالمعابد الكبرى و التى يطلق
عليها فى مصر القديمة "بر -عنخ" أى "بيت الحياه" ,و هى تشبه -الى حد ما – المدارس
و بيت الحياة هو المكان الذى يتم فيه نسخ و حفظ الكتب ,أى أن بيت الحياة هو الجامعة و المكتبة
يصور المشهد التالى شعار بيت الحياة كما جاء فى بردية تعرف باسم بردية سولت
( , )Papyrus Salt 825فى سياق طقس سحرى يهدف لحماية بيت الحياة .
و الشعار عبارة عن مكعب ,فى وسطه تمثال ألوزير على هيئة مومياء و هو يولى وجهه نحو
و اسم بيت الحياة باللغة المصرية القديمة هو "بر -عنخ" ,حيث بر = بيت ,و عنخ = حياة .
"بر -عنخ" هو بيت الحياة بالمعنى الحرفى للكلمة ,و أوزير هو مفتاح فهم المغزى من وجود تلك
و حول المربع الذى يقف فيه أوزير هناك عالمات هيروغليفية تشير ألسماء بعض الكيانات االلهية
مثل تحوت و ايزيس و نفتيس ,ثم مربع آخر أكبر تحيط به أربعة عالمات تشير ألركان الكون
األربعة .
و برغم الكم الهائل من الكتب التى كان يحتفظ بها كتبة بيت الحياه فى مكتباتهم ,اال أن العلم الذى
كانوا يتدارسونه لم يكن فى األساس علما نظريا يتم تحصيله بالقراءة فقط ,و انما هو علم يعتمد
على اكتساب االنسان قدرات روحانية من خالل التدريب العملى و تحت حماية و ارشاد الكيانات
االلهية .
و تكتمل الدراسة العملية بقراءة النصوص المقدسه ,حيث ذكر الملك رمسيس الرابع أنه قرأ كل
النصوص المقدسه فى مدرسة بيت الحياه لكى تكشف له أسرار العوالم الخفية التى تسكنها ال
تلك األسرار ال يمكن كشفها عن طريق التأمل العقلى وحده ,بل يحتاج االنسان أن يتصل بتلك
العوالم اتصاال مباشرا ,بل و يسافر اليها بنفسه ,و ذلك عن طريق ما يعرف ب "تجارب خارج
يمكننا القول أن التعليم فى مدارس بيت الحياه كان يتضمن كال من التعليم النظرى (عن طريق
القراءة) ,و أيضا التدريب العملى .و من أساسيات ذلك التدريب العملى تعليم الساحر (أو كاتب
بيت الحياه) كيفية استحضار الطاقة من عالم الروح ,و اعادة بثها فى العالم المادى من أجل تحقيق
التوازن و التناغم المنشود بين الجسد و الروح .و لكى يتمكن الساحر من القيام باستحضار الطاقة
الروحية ,عليه أن يكون مدركا ألبعاد الكون المختلفة ,بما فيها العالم المادى ,و العالم السفلى
(الدوات) الذى يقع فيما وراء العالم المادى ,و عالم الروح الذى يقع فيما وراء العالم السفلى .
يقول آالن جاردنر أن كتاب "الخروج الى النهار" (كتاب الموتى) هو نتاج عمل كتبة مدارس بيت
و كتاب الخروج الى النهار يعتبر دليال للساحر فى كيفية التعامل مع القوى الكونية ذات الطبيعة
السيكولوجية التى تسكن ال "دوات" (العالم السفلى) ,و هو عالم ملئ بالخداع و به العديد من
الكيانات التى تشكل خطرا على االنسان و تعتبر فخاخا قد يقع فيها الساحر اذا لم يعرف كيف
و كانت مدارس بيت الحياه هى أيضا المكان الذى يتم فيه تدوين الكتب الدينية و الطبية ,ذلك أن
الطب و الدين لم يكونا منفصلين فى مصر القديمة ,ألن الصحة أو المرض ما هى اال انعكاس
لتأثير القوى الكونية على جسم االنسان و روحه .و كانت قدرة الساحر على عالج األمراض
تتوقف على قدرته على رؤية الطاقات السلبية التى تسببت فى المرض ,و أيضا قدرته على التحكم
فى تلك الطاقات عن طريق اتصاله بالكيانات الماورائية التى تتحكم فيها و استدعاء كيانات بعينها
و لكى ينجح الساحر فى ذلك ,عليه أيضا أن يعرف القوى التى تنتمى للعوالم المظلمة و لألعماق
نظر انسان الحضارات القديمة لهذه القوى النفسية المدمرة باعتبارها شياطين أو أرواح شريرة .
و العلوم التى يدرسها الساحر فى بيت الحياة هى علوم باطنية يتلقاها الساحر عن طريق التمرين
العملى .
على الساحر أن يتدرب على ادراك العوالم الغير مرئية و االتصال بأبعاد الكون الخفية عن طريق
يتضمن برنامج تدريب الساحر زيارة العالم السفلى (الدوات) ,لكى يرى بنفسه ذلك العالم و يتعرف
على سكانه من القوى الكونية ,و بذلك يختبر كيفية التعامل مع تلك القوى و يكتشف تأثيراتها على
االنسان .
تعرف تلك الزيارة لل "دوات" باسم "الموت الطقسى" ,حيث يرتحل الساحر المتدرب بجسمه
األثيرى/النجمى الى العالم السفلى و يسلك نفس الطريق الذى تسلكه الروح عند موتها ,و يعود مرة
أى أن بيوت الحياة كانت مراكز تدريب تمارس فيها مختلف درجات الموت الطقسى فى تجارب
خارج الجسد .لذلك تقف صورة أوزير فى قلب الشعار المميز لبيت الحياة ,ألن أوزير هو رب ال
على الساحر أن يمر بتجربة الموت الطقسى حيث يترك جسده المادى و يولد من جديد والدة
روحانية ,و بدون تلك التجربة الباطنية ال يكون للساحر تأثير فى عالم الكيانات االلهية .
على الساحر أن ينزل للمناطق المظلمة فى العالم السفلى ليقتلع الطاقات السلبية المسببة للمرض
و يبدو أن النصوص التى يصنفها األثريون على أنها "نصوص جنائزية" مثل كتاب الخروج الى
النهار و كتاب األمدوات لم تكن نصوصا موجهة فقط ألرواح الموتى و انما كانت أيضا دليال
للطالب الساحر يستخدمه أثناء تدريبه على القيام بتجربة الموت الطقسى التى يقوم فيها بزيارة العالم
السفلى (الدوات) و يعود بعدها الى العالم المادى مرة أخرى .
لذلك نجد فى فى كتاب الخروج الى النهار نصوصا معينة مصحوبة بعناوين أو تعليقات توضح أن
تلك النصوص تهدف لمساعدة أولئك "الذين ما زالوا على األرض" ,و هى عبارة تكررت أيضا فى
و بعد أن عرفنا أهمية بيت الحياه و طبيعة العلوم التى كانت تدرس فيه و الهدف منها و أهميتها
بالنسبة للمجتمع المصرى القديم ,يصبح من اليسير علينا فهم السبب وراء سعى كبار رجال الدولة
فعند دراسة ألقاب العديد من كبار رجال الدولة فى مصر القديمة نجد أنها لم تكن مجرد ألقاب
على سبيل المثال ,نجد فى الدولة القديمة الوزير "تى" الذى كان مشرفا على أهرامات و معابد أبو
و معظم الكتب األثرية تتجاهل ذكر مثل هذه األلقاب أو تقوم بتأويلها .
يقول الباحث األمريكى "جون أنتونى ويست" أن األثريين عادة ما يفسرون مثل هذه األلقاب بأنها
نوع من التفاخر بأن المتوفى كان يتمتع بثقة الملك ,و لكن الحقيقة أن هذه األلقاب تعبر عن امتالك
صاحبه .
و فى عصر الدولة الوسطى كان وزير الملك سنوسرت األول "منتو حتب" هو كاتم أسراره و أمين
خزائنه ,و كان يحمل لقب ( الذى ال يوجد له شبيه ,المطلع على األسرار الخفية ) .
و فى عصر الدولة الحديثة كان وزير الملك تحتمس الثالث "رخمى -رع" يوصف بهذا الوصف
الفريد ( :ال يوجد شئ فى األرض و ال فى السموات ,و ال فيما وراءهما اال و قد اطلع عليه
لم تكن تلك األلقاب لمجرد الدعاية ,و انما هى تكشف عن أهمية اكتساب العلم المقدس لكى يصبح
الشخص مسئوال ,و بالتالى يستطيع أن ينفذ الهدف األساسى للدولة و هو اقامة الماعت (النظام /
و برغم أن السحرة فى مصر القديمة كانوا يشكلون طبقة اجتماعية متفردة ,ألن حياتهم كانت تقوم
على االتصال بالعوالم األخرى التى تسكنها ال "نترو" (الكيانات االلهية) و بالتالى يحتاجون الى
العزلة ,اال أنهم كانوا يحظون بمراكز مرموقة فى الحياه االجتماعية و السياسة .
كان المجتمع المصرى القديم يعتمد على السحرة فى الحفاظ على التوازن و التناغم بين العالم المادى
و عالم الروح .و بالرغم من أن معظم السحرة كانوا ينتظمون داخل اطار مؤسسى معروف و هو
بيت الحياه التابع للمعبد ,اال انه كان هناك أيضا بعض السحرة الغير تابعين ألى مؤسسة و كانوا
يعيشون حياه مستقلة تماما عن حياة المعبد و هؤالء هم من يطلق عليهم "شامانز" (. )Shamans
و من أشهر هؤالء السحرة الشامانز ,ذلك الساحر الذى جاء ذكره فى بردية ويستكار فى قصة
خوفو و السحرة ,و الذى قيل عنه أن باستطاعته اعادة الحيوانات الى الحياه بعد ذبحها و تقطيعها
الى أجزاء ,و باستطاعته أيضا ترويض األسود الشرسه ,و التنبؤ بالمستقبل .
الغربى ما زال أسير الفكر االسرائيلى ,و أعنى تحديدا الوصية الثانية من الوصايا العشر التى يقول
*** ( ال تقم بصنع أى صورة ألى شئ فى السماء أو األرض ,و ال تنحنى أمامها ,ألنى أنا الهك
كان لهذا النص التوراتى – و مال زال – تأثير كبير على عقل االنسان الغربى و على معيار القيم
لديه .
ظهرت "الوثنية" (بالمفهوم االسرائيليى) للوجود فى مراحل حديثة من تطور الوعى االنسانى ,
و بالتحديد بعد الحدث المعروف باسم الخروج ( , )Exodusأى خروج االسرائيليين من مصر .
ان فكرة اخراج االله لشعبه المفضل و المختار من مصر هى فكرة تعبر عن عالقة جديدة "زائفة"
بين االنسان و االله ,و بين االنسان و الطبيعة بشكل عام .
فاله االسرائيليين "الغيور" هو اله ال يمكن وصف طبيعته عن طريق الرمز التصويرى .
و على النقيض من ذلك ,نجد أن قدماء المصريين رأوا فى الصور المقدسه لل "نترو" انعكاسا
للتجليات االلهية ,و كانت تلك الصور فى نظرهم مفعمة بالحضور االلهى .
لم يكن المصرى القديم يرى حدودا بين عالم الروح و عالم الماده .فالطبيعة كلها تعبر عن الحضور
االلهى .ال يوجد شئ فى الطبيعة ال تسكنه قوة الهية .فالنجوم و الشمس و القمر و الرياح
و األرض ,كلها هى "االله" ,بمعنى أن كل منها هو صورة من صور تجلى األلوهية فى العالم
المادى .و كانت الحيوانات و النباتات و األشجار و الحيات عند قدماء المصريين بمثابة وسيط أو
جسر يصل عالمنا بالعالم االلهى و ينقل الينا الطاقة من عالم الروح .
فاالله حاضر فى كل شئ فى الطبيعة .و لكن هناك أشكال معينة (و مواد معينة) تتمير بقدرتها
الفائقة على أن تصبح وسيطا أو قناة تنتقل عن طريقها القوى االلهية من عالم الروح ,و تأتى
أما االسرائيليين فبعد عبورهم البحر األحمر ,أصبح ادراكهم للعالم ادراكا ماديا صرفا .
فهم يرون األشياء حولهم على أنها مجرد مادة معتمة مظلمة ,خالية من الروح ,خالية من الحضور
االلهى .
االسرائيليون هم من جعل عالم الروح بعيدا ,بعد أن كان قريبا عند انسان الحضارات القديمة .
لم يعرف قدماء المصريين طوال تاريخهم فكرة "عبادة األوثان" ,و لم يكن للوثنية أى وجود فى
تاريخ مصر القديم .لسبب بسيط ,و هو أن الوثن أو الصنم هو شئ مادى معتم /مظلم خالى من
الروح .لم يكن لمثل هذه األفكار وجود فى مصر القديمة ,ألن العقل المصرى لم يكن يفكر بهذه
ان فكرة "األوثان /األصنام" هى نتاج العقل االسرائيلى ,و نجد شرح لفكرة األوثان فى أحد
*** من صنع االنسان ...لها فم و لكنها ال تتكلم ...لها أعين و لكنها ال ترى ...لها آذان و لكنها
ال تسمع ...لها أنف و لكنها ال تشم ...لها أيدى و لكنها ال تلمس ...لها أرجل و لكنها ال تمشى
يقول الفيلسوف و الشاعر االنجليزى "أوين بارفيلد" ( – )Owen Barfieldالذى توفى عام 0997
ميالدية – أن "األوثان /األصنام" فى الفكر االسرائيلى هى مجرد صور خالية من أى محتوى أو
طاقة روحانية ,هى صور ميته ,خالية من الحياه .و مثل هذه الصور الميته لم تكن موجوده فى
لم تكن الصور عند قدماء المصريين مجرد شئ مادى ,و انما كانت عبارة عن مركبة تنتقل عن
طريقها القوى الكونية من أبعاد الكون الخفية (و هى أبعاد خارج حدود التجسد) و تأتى لكى
القدرة على أن ترى و تسمع ,بل و "تتكلم" كما كان يفعل تمثاال ممنون حتى العصر الرومانى .
فقط االسرائيليون لم يكن باستطاعتهم أن يروا أو يسمعوا ما بداخل الصور المقدسه من حضور
الهى .
كان الكون فى نظر قدماء المصريين كونا حيا ,ال يوجد فيه جماد .كل شئ فى الكون ينبض
بالحياه .و كان المصرى القديم يرى ال "نترو" (الكيانات االلهية) فى كل شئ حوله .
فى مصر القديمة لم يكن قد ظهر بعد ذلك الحجاب الذى يفصل بين عالم الروح و عالم الماده ,
و نجد مثاال على ذلك فى مقبرة الكاهن "أمون مس" الذى عاش فى عصر الملك أمنحتب األول
و الذى رفعه الشعب الى مصاف الكيانات االلهية (و هى مكانة أشبه بمكانة األولياء و القديسين)
بعد موته .يصور المشهد التالى موكب يخرج من المعبد يحمل تمثال الملك المتوفى أمنحتب األول
,و أمام الموكب يقف اثنان من أفراد الشعب المصرى بينهما نزاع (المتخاصمان ال يظهران فى
الصورة) و يطلبان من روح الملك أمنحتب األول أن تتدخل و تقضى بينهما .و همزة الوصل التى
يتم من خاللها االتصال بروح الملك هى صورته المقدسة ,أى تمثاله .
يقوم الكاهن "آمون مس" بعرض القضية أمام تمثال الملك المتوفى و يطلب من روحه أن تقضى
بينهما و تحل ذلك النزاع .و تجيب الصورة المقدسة لروح الملك بطريقة خاصة جدا يشعر بها
الكهنة الذين يحملون تمثاله و ذلك عن طريق حركة مفاجئة اما لألمام أو للخلف ,و هى حركة
الارادية ال يستطيع الكهنة التحكم فيها .و الحركة األمامية تعنى نعم ,أما الحركة التراجعية فتعنى
ال .بهذه الطريقة يمكن للروح أن تتصل بعالم البشر و تقضى بينهم من خالل الصورة المقدسة .
قد يتبادر الى ذهن البعض أن األمر ينطوى على حيلة أو خدعة .و لكن قبل اصدار األحكام النابعة
من معايير ثقافتنا المعاصرة علينا أن نتذكر أن العالم فى نظر قدماء المصريين يختلف عن العالم
كما نراه نحن .لم يكن هناك جماد فى نظر قدماء المصريين .
فكل شئ فى هذا العالم بداخله حياة ,بما فى ذلك الحجر .الكون كله حى منذ بدء الخليقة .
و لكن ذلك ال يعنى أن قدماء المصريين كانوا يسقطون نظرتهم الذاتية و تخيالتهم السيكولوجية على
العالم المحيط بهم .و انما يعنى أنهم كانوا على وعى بوجود قوى روحانية تنتمى للعالم السببى
يقول عالم النفس السويسرى كارل يونج فى كتابه "علم النفس و الدين" أن االنسان األول قام باسقاط
الصور األولية الموجودة داخل نفسه على كل ما حوله فى صورة كيانات الهية أو أرواح طبيعة
و شياطين ,و لكن هذا الطرح من جانب كارل يونج يتجاهل وجود عالم باطنى آخر فيما وراء
العقل الباطن .هذا العالم هو عالم الروح ,و هو الذى ينبع منه العالم السيكولوجى أو العقل الباطن
ان حركة التاريخ ال تتحكم فيها النوازع النفسية لالنسان ,ألن العقل الباطن النسان الحضارات
القديمة كان لديه القدرة على االتصال بقوى روحانية تشكل ركيزة أساسية فى علم الوجود عند تلك
الحضارات .
فالقوى الروحانية ال تنتمى للنفس (العقل الباطن /العالم السفلى /الدوات) و انما هى تنتمى للعالم
الروحى/السببى ,و هو عالم قائم بذاته ال يستمد وجوده من النفس ,ألن وجود الروح سابق على
ان سكان الحضارات القديمة لم يقوموا باسقاط الكيانات االلهية من عقلهم الباطن على الطبيعة ,
فى تلك األزمنة القديمة ,لم يكن هناك حجاب يفصل بين العوالم الباطنية و بين الطبيعة .لم تكن
النفس االنسانية قد انفصلت بعد عن روح الطبيعة و أصبح كل انسان ال يرى اال ذاته .
من وجهة النظر المصرية كان من الممكن حدوث اندماج بين الصورة المقدسه و بين القوة الكونية
التى تعبر عنها .فتمثال "سخمت" – على سبيل المثال – ليس مجرد رمز مادى للتعبير عن
"سخمت" .
فى مصر القديمة كانت تماثيل ال "نترو" تصنع بعناية فائقه من حيث النسب الهندسية و من حيث
المادة الخام التى يصنع منها التمثال (مثل حجر الديوريت األسود) و من حيث مالمح التمثال
من أجل استحضار تلك الطاقة الكونية التى تحمل اسم "سخمت" الى عالمنا المادى و جعلها تسكن
عند اعداد الصور المقدسة يتم مزج المهارة الفنية مع الطقوس السحرية ,و بذلك يصبح التمثال
بمثابة مركبة تنتقل عن طريقها القوى الكونية من عالم الروح (الذى يقع خارج حدود التجسد) الى
ال يمكننا أن نطلق على ذلك "وثنية" ,و انما هو استحضار للقوى االلهية باستخدام صورة مادية
يتم اعدادها بطريقة معينة بحيث ال تعد مجرد صورة مادية و انما تكتسب بعدا باطنيا و تصبح
كان هذا هو مفهوم الصور المقدسه فى كل حضارات العالم القديم باستثناء الثقافة االسرائيلية و من
فى متون هرمس هناك نقاش حول طبيعة الكيانات االلهية و العالقة بينها و بين صورها المقدسة
تعبر النصوص القديمة مثل متون هرمس عن وعى يختلف تماما عن وعى االنسان المعاصر .
فى الحضارات القديمة لم يكن هناك فرق بين الكيان االلهى و بين صورته المقدسه أو تمثاله .
ان جسد االنسان ال يعتبر شيئا منفصال عنه ,ألن الجسد المادى هو الوعاء الذى تسكن فيه الروح
,و هو المركبة التى تستخدمها الروح لتعبر عن نفسها و تعلن عن حضورها فى العالم المادى .
و بنفس الطريقة ,يمكن للكيانات االلهية أن تتجسد فى عالمنا من خالل الصور المقدسة لتعبر
يقوم انسان العصر الحديث ببساطه برفض مفهوم الكون الحى عند الحضارت القديمة ,و ينكر فكرة
العالم الذى تنظمه قوى سحرية و يصفها بأنها شعوذه و خرافات و أفكار بدائية طفولية ال يجدر
باالنسان المتحضر أن يتبناها ألنه وصل اآلن لمرحلة أرقى من النضج و التحضر .و لكن ذلك
االنسان المتحضر الناضج فقد القدرة على ادراك الماورائيات و االحساس بأرواح الطبيعة و رؤية
أبعاد الكون الخفية (التى تقع خارج حدود التجسد) ,كما كان يفعل انسان الحضارات القديمة .
اننا نتخيل أننا نعرف أكثر من الحضارات القديمة ,و لكن الحقيقة أننا نعرف أقل منهم بكثير .
كتب الفيلسوف أفلوطين -الذى عاش فى القرن الثانى الميالدى -يقول أن الحكماء فى العالم القديم
كانوا يقومون بتعزيز وجود ال "نترو" (الكيانات االلهية /القوى الكونية) فى عالمنا عن طريق
الصور المقدسه و التماثيل و المقاصير ,و كانوا قادرين على رؤية "باطن /جوهر" كل شئ .
جميع الخالئق .فالكون كائن حى ,و الوجود كله مفعم بالحضور االلهى .و فى نفس الوقت يمكن
لالنسان أن يعزز ذلك الحضور عن طريق مستقبالت خاصة ,مثل صور مقدسه أو مكان خاص
(مقصورة أو معبد) يصمم بطريقة خاصة تجعله قادرا على استقبال جانب من جوانب القدرة االلهية
و أن يقوم باعادة بثها مرة أخرى ,مثل المرآه التى تعكس صورة الشئ الذى يقابلها ***
لم يكن دور الصور المقدسة (سواء جداريات أو تماثيل) يقتصر على توفير الجسد الذى تتجلى من
خالله القوى الكونية فى عالمنا ,و لكنها كانت أيضا تجسيدا "ألفكار" يتم استقبالها من أبعاد كونية
أخرى ,أو هى بوابات تربط بين عالمنا و العوالم األخرى .و من أمثلة ذلك اللوحات الجنائزية
و الصور المحفورة بالنقش البارز أو الغائر على جدران المقابر و النصوص المدونة على برديات ,
و التى كان الهدف منها مخاطبة مثيلها فى العالم اآلخر ,فكل شئ مادى فى عالمنا يوجد منه نسخة
أثيرية فى عالم الصور األولية /الجوهر ,أو بمعنى أصح ان األشياء المادية هى انعكاس لألصل
كانت صور موائد القرابين فى الفن المصرى القديم تهدف الستحضار و مخاطبة الصور المماثلة
لها فى عالم الروح ,و منها المشهد التالى على سبيل المثال .
و ما نجده على موائد القرابين من صور خبز و خضروات و فواكه و لحوم و طيور كان الهدف
منه هو صنع بوابة أو جسر بين عالمين أو بعدين من أبعاد الكون أحدهما مادى و اآلخر روحى .
كانت صور القرابين تقوم باستحضار جوهر الشئ الذى يظهر فيها ,حيث يقوم الكهنة بتحويلها من
خالل الطقوس السحرية لتصبح وعاء يسكنه الجوهر الروحى لكل ما يوضع فوق مائدة القرابين .
و فى نفس الوقت يتم اسقاط الصورة المادية داخل الجوهر الروحى الذى تعبر عنه و بذلك تتحول
ان مشاهد تقديم القرابين فى الحضارة المصرية و فى كل الحضارات القديمة ,كانت تعبر عن فكر
االنسان فى ذلك الزمن ,و الذى كان يرى امكانية حدوث اندماج بين الصور المقدسه فى مشاهد
تقديم القرابين و بين الطاقات الكونية أو الكيانات االلهية التى تنتمى الى أبعاد الكون الخفية و التى
فى المشهد التالى يظهر الملك سيتى األول و هو يقوم بتقديم قرابين عبارة عن وعائين من الحليب
ل "سخمت" .
ال يمكننا فهم هذا المشهد الذى يتم فيه تقديم الطعام الى كيان ماورائى غير متجسد اال اذا أدركنا أوال
أن قدماء المصريين فهموا أن الطعام (و كذلك كل شئ فى عالمنا) له طبيعتان :طبيعة مادية
و طبيعة روحانية .فكل شئ فى الطبيعة هو انعكاس صورة مرآه لألصل أو الصورة األولية
عالم الروح هو العالم الحقيقى /األصلى ,و هو العالم الذى كانت كل الممارسات السحرية فى
هناك مثال آخر شهير جدا للصور المقدسه فى مصر القديمة ,أال و هو تماثيل "األوشابتى /
اعتقد قدماء المصريين (أو هكذا يفترض) أن تدب الحياه فى هذه التماثيل فى العالم اآلخر ,لكى
بالتأكيد لم يكن من المفترض أن تحيا هذه التماثيل على المستوى المادى ,و انما المفترض أنها تقوم
بالرد على صاحب المقبرة و اجابته ,لكى تنوب عنه فى أداء مهام معينة يطلب منه أداءها فى العالم
اآلخر .لذلك كان قدماء المصريين يقومون بتزويد تماثيل "الشوابتى /األوشابتى" بأدوات الزراعة
المقبرة -:
*** أيتها التماثيل (األوشابتى) ....اذا نودى على و طلب منى أداء أعمال فى العالم اآلخر ,
فلتتطوعوا باالجابة بالنيابة عنى ...و لتقوموا بزراعة األرض و مأل القنوات بالماء و نقل رمال
البر الشرقى الى البر الغربى ...و اذا نوديتم فلتجيبوا دائما " ...هأنذا" ***
يتضح من المثال السابق أن تماثيل األوشابتى هى الصورة المادية لصورة أخرى روحانية موجودة
فى عالم الجوهر .و هذه الصورة تؤدى عملها كجسر و همزة وصل بين العالم المادى و عالم
الروح من خالل الشكل و أيضا من خالل الكلمات السحرية المدونة فوق التمثال .
تعمل تماثيل "األوشابتى /الشوابتى" على استحضار أشكال من الطاقة موجودة على مستوى الروح
فكل صورة مادية فى عالمنا لديها القدرة على استحضار صورتها األولية أو جوهرها األصلى فى
و من وجهة نظر علم السحر ,كل فعل طقسى يقوم به االنسان فى العالم المادى ,و كل شكل مادى
يقوم بتكوينه ,و كل كلمة سحرية ينطقها كانت تعمل كمغناطيس يجتذب الصورة األولية أو الجوهر
لكى نفهم قدسية الكلمة عند قدماء المصريين علينا أوال أن نناقش بعض األفكار الحديثه عن طبيعة
اللغة .
نشأت تلك األفكار و سيطرت على العقل األوروبى فى العصور الوسطى ,فى وقت احتدم فيه
النقاش حول الطبيعة الميتافيزيقية للغة ,أو البعد الروحى للغة .دار النقاش بين مدرستين احداهما
(. )Nominalists
الشئ ,و هذا الجوهر له طبيعة روحية .و الكلمة فى األصل تعبر عن ذلك الجوهر الروحى ,
و ليس فقط المظهر المادى .ترى المدرسة الواقعية أن لكل شئ مادى جذور فى عالم الروح ,
و أن عقل االنسان عندما يستدعى األسماء انما يستدعى جوهرها فى عالم الروح و ليس فقط
أما المدرسة االسمية فهى على النقيض من ذلك .ترى المدرسة االسمية أن الكلمة مجرد صوت ال
عالقة له بأى جوهر روحى ,و أن األسماء تطلق على األشياء كوسيلة عملية لتنظيم حياة االنسان .
و أن انتقاء الكلمات التى تستخدم لالشارة الى أشياء معينة انما يتوقف بشكل أساسى على فهم
االنسان لألشياء و عالقة االسم بالمسمى و هى عالقة عقالنية و ليس لها أى عالقة بعالم الروح .
و هذه المدرسه االسمية هى المدرسه المهيمنة على الفكر الغربى حتى يومنا هذا .أما المدرسة
الواقعية فهى األقرب الى فهم الحضارات القديمة لقدسية اللغة .
يمكننا أن نلمس نظرة انسان الحضارات القديمة للغة فى احدى محاورات أفالطون و يطلق عليها
"كراتيلوس" ( ,(Cratylusو هى تدور حول العالقة بين الكلمة و الجوهر الروحى .
جاء فى هذه المحاورة أن القيمة الصوتية ألجزاء الكلمة سواء حروف متحركه أو ساكنه أو صامته
تعبر فى األصل عن مبادئ كونية و طاقات روحانية لها انعكاس فى العالم المادى .
و الطبيعة كلها عبارة عن "صوت متجسد" ,فكل كائن مادى له نظيره الروحى الذى يتكون من
ذبذبات صوتيه ,تلك الذبذبات هى التى تحتويها الكلمة التى تستخدم فى االشارة الى ذلك الكائن .
هناك اذن عالقة مباشرة بين األصوات التى ننطقها و بين األشياء التى تعبر عنها تلك األصوات .
فاللغة فى األصل مقدسه ,و القيم الصوتية التى تحتويها الكلمة تعبر عن القوة االلهية الخالقة
الكامنة فى الصوت منذ األزل ,و التى أخرجت الكون للوجود بقوة الكلمة /الصوت .
و أفكار أفالطون عن قدسية الكلمة هى األقرب الى فكر قدماء المصريين .
كان قدماء المصريين يؤمنون ايمانا قويا بقدسية الكلمة و القوة االلهية الخالقة الكامنة فيها منذ األزل
جاء فى نظرية منف لنشأة الكون أن الخلق تجلى بقدرة الصوت األزلى الذى نطقته قوى التاسوع ,
و الذين كانوا بمثابة الشفاه و األسنان فى الفم الذى نادى األشياء بأسمائها ,فأتت للوجود .
رأى قدماء المصريين فى الصوت المادة الخام التى صنع منها الكون .
لم تكن تلك مجرد تأمالت فلسفية ,و انما كانت حقيقة يعيشها قدماء المصريين و يعبرون عنها فى
ان كل اسم أو فعل أو صفة اذا نطق بطريقة طقسية و بالترتيل الصحيح ,فانه يكتسب طاقة
روحانية .و اللغة المصرية القديمة هى لغة مقدسة ألنها تعكس التناغم التام بين التركيبة الصوتية
لكل كلمة و بين الجوهر الروحى الذى تعبر عنه ,بحيث يمكننا القول أن الكلمة كانت تستخدم
و نحن ال نعرف فى العصر الحاضر على وجه اليقين كيف كان قدماء المصريين ينطقون لغتهم
يقول الفيلسوف اليونانى "ايامبليكوس" ( – )Iamblichusوهو ليس الوحيد الذى أثار االنتباه لهذه
الحقيقة -أن اللغة المصرية القديمة كانت تخاطب المستوى الروحى للوجود ,و كانت تستحضر
أى أنها أقرب الى العالم االلهى -أكثر من لغته األم "اليونانية" .
بتأمل آراء "ايمبليكوس" حول اللغة المقدسة يتضح لنا الى أى مدى كانت نظرة انسان الحضارات
اذا كانت اللغة المصرية القديمة تستحضر جوهر األشياء – كما يقول ايمبليكوس – فمن المتوقع أن
تكون هى األساس الذى قامت عليه التعاويذ و الرقى و األكواد السحرية ,و اذا ما قام بترتيلها من
يمتلك "صوت الحق" ترتيال سليما ,فانها تقوم باستحضار القوى الروحانية التى تقع فيما وراء عالم
التجسد .
قد تبدو هذه الحكايات فى نظر الكثيرين مجرد حكايات خيالية .و لكن خلف األحداث الخيالية يكمن
المغزى العميق للقصص و الذى يعبر عن أحد المبادئ الكونية األساسية ,أال و هو القدرة الخالقة
كان تأهيل الساحر (كاتب بيت الحياه) فى مؤسسة بيت الحياه التابعة للمعبد يتضمن تدريبات صوتية
على كيفية ترتيل الكلمات ترتيال سليما ,بحيث يصبح صوت الساحر هو "صوت الحق" ,و هو
لقب ال يعطى اال لمن يمتلك مهارة فائقة فى الترتيل ,و هى مهارة ال تكتسب اال عن طريق
كان على الساحر أن يعرف األسماء الحقيقية لألشياء ,و هى األسماء التى أطلقها ال "نترو"
(الكيانات االلهية ) على الموجودات فى األزل .و كانت معرفة االسم الحقيقى ضرورية من أجل
على الساحر أن يغوص فى جوهر اللغة ,ذلك الجوهر االلهى ,و يحيط علما بالقوة االلهية
لم يكن تحوت عند قدماء المصريين هو فقط مخترع الكلمة المكتوبة ,و لكنه هو أيضا رب الكلمة
المنطوقة .
تحوت هو الذى نطق الصوت األزلى الذى تجسد فأصبح هو العالم المادى ,و هو الذى اخترع
الكتابة .
فى مصر القديمة كانت هناك عالقة وثيقة بين الكلمة المكتوبة و الكلمة المنطوقة .
فالشكل المكتوب يعبر بطريقة أخرى عن نفس القيمة الصوتية التى تحتويها الكلمة المنطوقة .
لذلك فالكتابة المصرية القديمة "الهيروغليفية" ( )Hiero-glyphمعناها النقش "المقدس /االلهى" .
أن تصبح ماهرا فى الكتابة المقدسه "الهيروغليفية" معناه أن تطلع على أسرار العالقة بين
الشكل و الصوت و أن تعرف المغزى الذى يعبر عنه كل رمز هيروغليفى .
األكثر قدرة على التعبير عن األلوهية و عن عالم الروح بما تحويه من أشكال و رموز ,يتوقف
ذلك على كيفية استخدام تلك الرموز و أوضاعها و كذلك ألوانها .
و نجد مثاال على ذلك فى متون األهرام ,اذ نقرأ فى أحد النصوص التى نقشت فوق أحد حوائط
*** أيها التاسوع العظيم الذى يسكن "ايونو" (هليوبوليس) ...آتوم ,و شو ,و تقنوت ,و جب ,
و نوت ,و أوزير ,و أيزيس ,و ست ,و نفتيس .....يا من خلقكم آتوم من ذاته ,بأن أتى للوجود
بذاته ...يا من أتى بكم آتوم للوجود بمشيئه قلبه ...يا من تحملون اسم "التاسوع" ...ال أحد
اذا نظرت الى النص السابق و هو مكتوب بالهيروغليفية ,ثم تأملت الترجمة المقابلة له ,ستشعر أن
الترجمة "بلغتنا الحديثه" ساعدت فى نقل جزء من محتوى النص .و لكننا فى نفس الوقت نشعر أن
هناك معانى أخرى "خفية /باطنية" لم تستطع لغة الحروف األبجدية الحديثه نقلها الى عقولنا .
ان النص المترجم الى لغتنا الحديثة يبدو نصا "ميتا" بالمقارنة بالنص الهيروغليفى األصلى .
الروحى الذى يتضمنه النص الهيروغليفى ,تظل ترجمتنا الحديثة خالية من الحياه .
ان الترجمة الحديثة للنص الهيروغليفى هى نتاج عقلية تختلف تماما عن عقلية القدماء ,و هى
ترجمة تعنى بالظاهر و تخلو من الرمز و ال تحمل فى باطنها أسرارا ,و ال ينبعث منها ذلك
كانت الهيروغليفية تحظى بتبجيل قدماء المصريين ,و كانت فى نظرهم "لغة الهية/مقدسه" ؛ من
و نجد مثاال لذلك فى عبارة جاءت على لسان "أمنحتب ابن حابو" الذى عاش فى عصر الملك
نقشت هذه العبارة على أحد تماثيل "أمنحتب ابن حابو" ,و يقول فيها -:
*** أوتيت علم الكتاب االلهى ,و اطلعت على أسرار لغة تحوت (الهيروغليفية) ...و كشف لى
و الكلمة المكتوبة لها نفس القوة السحرية للكلمة المنطوقة من حيث القدرة على استحضار القوى
الكلمة المكتوبة فى نظر قدماء المصريين هى كائن حي ,بل انها كانت تعامل معاملة الكائن الذى
تتحدث عنه ,فمثال عند قراءة بعض النصوص التى جاء فيها ذكر أسماء أعداء (و التى تصور على
شكل حيوانات خطرة) ,نجد أن اسم العدو قد رسم مبتورا أو وضع فوق صورته سكينا يقوم
بتقطيعه .
فى الشكل التالى نرى مجموعة من الرموز الهيروغليفية التى تصور حيوانات خطرة و قد ظهرت
مبتورة أو مطعونة بخنجر أو مشطورة الى نصفين ,و الهدف من ذلك هو تجريدها من خطورتها .
هذا األسلوب فى التعبير يدل على أن المصرى القديم كان يرى فى الرمز صورة حية .
رأى المصرى القديم فى الكلمة المكتوبة "كائن حى" ,ألنها تقوم باستحضار جوهر الشئ الذى
تتحدث عنه .لذلك كان من المعتقدات الشائعة فى مصر القديمة أن أى شخص يكون بحوزته نص
مقدس فانه يكتسب الطاقة الروحانية لألشياء التى يتحدث عنها النص ,حتى و ان كان غير قادر
ذلك أن الكلمات المنقوشة فى المخطوط تقوم بالفعل باستحضار جوهر الشئ الذى يتحدث عنه النص
المقدس ,و تجعل من بحوزته المخطوط فى حالة اتصال مباشر بالجوهر الذى تحتويه الكلمات
المكتوبه .
باالضافة الى الصور المقدسه ,و الكلمات المقدسه ,يحتاج تفعيل طاقة ال "حكا" (السحر) أيضا
ان ما يجعل أى فعل يقوم به االنسان فعال مقدسا (أى طقسا مقدسا) هو أن يكون محتواه روحانيا .
و كما تقوم الصور المقدسه و الكلمات المقدسه باستحضار الطاقة من عالم الروح ,كذلك يمكن
و الحركات أو االيماءات المقدسه هى الحركات التى يقوم بها االنسان بطريقة طقسية .
و هنا يبرز سؤال مهم :ما الذى يجعل حركة أو ايماءة معينة دون غيرها تتحول الى طقس أو
شعيرة مقدسه ؟
ان ما يجعل الحركة أو االيماءة التى يقوم بها االنسان طقسا أو شعيرة مقدسه هو أن تكون تلك
و عند تأمل حركة أو سلسلة من الحركات و االيماءات الطقسية فى الفن المصرى القديم نجد أن من
يقوم بها ال يعبر عن شخصيته أثناء القيام بتلك الطقوس ,و انما يتحول بجسده الى قناه أو مركبة يتم
الصف األعلى (من اليمين لليسار) :تقدمة/قربان ,ابتهاج القلب ,الخشوع و التسليم
عندما يقوم "الكاهن -الساحر" بطقس ما ,فهو فى الحقيقة يجعل من جسده عالمة هيروغليفية تعمل
و الفن المصرى القديم ملئ بالمشاهد التى تصور العديد من الحركات الطقسية التى كان يقوم بها
الكهنة الستحضار طاقة ال "حكا" ,و عند تأمل تلك المشاهد علينا أن ندرك أن السر يكمن فى أن
تلك الحركات ال تعبر عن شخصية من يقوم بها ,و انما العكس هو الصحيح .ففى تلك الطقوس
فى الطقوس و الشعائر يتحول الكاهن نفسه الى قناه أو صورة مقدسة "أيقونه" مفعمة بالرموز .
و لما كان الملك فى مصر القديمة يقف على قمة هرم المعرفة الروحانية و هو كبير الكهنة
و السحرة لذلك كانت كل تفاصيل حياة الملك اليومية هى عبارة عن سلسلة من الطقوس المقدسه .
يقول "ديودور الصقلى" أن حياة الملك فى مصر القديمة كانت تتبع نظاما صارما ,فال تكاد تخلو
ساعة من ساعات الليل أو النهار من طقس من الطقوس المقدسه التى كان يجب على الملك القيام بها
,و هى من واجبات عمله كملك و ال يمكنه أبدا اهمالها .لم يكن هناك شئ فى حياة الملك ال يخضع
لذلك النظام الصارم للطقوس بما فى ذلك حريته فى أن يتنزه أو أن يغتسل أو حتى يعاشر زوجته .
و برغم أن ما يقوله ديودور الصقلى قد يكون صحيحا فى زمنه ,اال أنه ال يعبر عن موقف قدماء
فأى فعل ال يؤدى طقسيا هو مجرد عمل بشرى دنيوى ,أما عند القيام بالطقوس فاالنسان يتحول
ان الهدف من الطقوس و الشعائر هو استحضار تلك القوى االلهية ,لذلك فان الطقس المقدس يؤدى
فى الحقيقة على المستوى المادى ,و فى نفس الوقت على المستوى الروحى أيضا .
تحدث الطقوس المقدسه فى عالم الروح و هو عالم ال "نترو" (الكيانات االلهية) ,لذلك البد أن
تكون ال "نترو" شاهدة على تلك الطقوس و مشاركة فيها أيضا ألن تلك المشاركة هى ما يجعل
الطقوس "مقدسه".
لذلك كان قدماء المصريين و غيرهم من شعوب العالم القديم يعتقدون أن ما يقومون به من طقوس
مقدسه لم يكن هدفه خير شعبهم أو أمتهم فقط ,و انما هدفه خير االنسانية كلها ,بل و الكون كله .
و ما زال شعب قبائل الكوجى ( )Coggiبشمال كولومبيا الى يومنا هذا يحتفظ بذلك الموروث
الثقافى ,و هو االعتقاد بأنهم يقومون بالطقوس المقدسه من أجل االنسانية كلها ,و ليس لخير شعب
و ليس عن شخصية الملك .و نجد مثاال لذلك فى أنشودة كتبت احتفاال باعتالء الملك مرنبتاح عرش
مصر ,و قد وصفت حال العالم بعد ذلك الحدث بالوصف اآلتى -:
يقول هنرى فرانكفورت أن مثل هذه الطقوس الخاصة بتتويج الملك و غيرها (مثل طقوس اقامة
عامود الجد) ليست مجرد طقوس رمزية ,و انما هى طقوس عملية ترتبط بأحداث كونية يشارك
فيها االنسان مشاركة فعالة .فالطقوس المقدسه هى الدور الذى يقوم به االنسان فى أحداث كونية
هامة .
اعتقد انسان الحضارات القديمة أن لالنسان دور هام فى أحداث الكون ,و هو دور ال يقل عن دور
ال "نترو" .و هو ما يفسر لنا بعض النصوص التى يخاطب فيها الساحر ال "نترو" خطابا يتسم
بالندية أحيانا و بجنون العظمة أحيان أخرى ,بل و قد يصل األمر الى تهديد ال "نترو" اذا لم
كان الساحر فى مصر القديمة على دراية بالعالقة المتشابكة و بالتداخل بين عالم الروح (العالم
االلهى) و بين العالم المادى الذى يعيش فيه االنسان .فلم يكن القدماء يرونهما عالمين منفصلين كما
و دور الساحر هو أن يكون فى حالة "اتصال /صلة /صاله" دائمة بالعالم االلهى /عالم الروح
ان العالم الذى يحيا فيه الساحر هو عالم روحى فى المقام األول , ,ثم يليه فى المرتبة عالم الماده .
و وظيفة الساحر هى أن يخاطب عالم الروح بالطقوس السحرية و يستحضره ليقيم دائما الجسر
هناك العديد من التقنيات و األساليب التى كان قدماء المصريين يتبعونها لتفعيل طاقة ال "حكا"
سنناقش فى هذا الفصل خمسه من أهم تلك الساليب ,و من خاللها سيتضح لنا كيف كان قدماء
المصريين يوظفون العناصر التى تحدثنا عنها فى الفصل السابق لتفعيل طاقة السحر .
يقف استدعاء الزمن األول فى بؤرة الممارسات السحرية فى مصر القديمة .
و الزمن األول فى الفلسفة المصرية هو العالم األزلى الذى تسكنه الكيانات االلهية و التى تشكل
الزمن األول هو عالم األسطورة ,و هو عالم الجوهر الروحى األقوى و األسمى من كل ما هو
مادى .
و عند مزج حدث دنيوى بحدث وقع فى الزمن األول ,يصبح للحدث الدنيوى مغزى أسمى .
يحدث ذلك من خالل طقس استحضار يتم فيه استدعاء عالم الصور األولية األسمى الى عالمنا
أو بعبارة أخرى ,يتم اسقاط العالم الدنيوى داخل عالم الصور األولية ليمتزج الحدث الدنيوى الزائل
و ايا كانت طريقة تعريفنا لذلك الطقس ,فنحن هنا أمام نفس الطقس السحرى ,أال و هو وصل
و الملك فى مصر القديمة هو كيان الهى متجسد ,و بالتالى فهو يحيا فى عالمين فى نفس الوقت ,
فى العالم السماوى و فى العالم األرضى .و لذلك يتوقع منه الشعب أن تاتى أفعاله تعبيرا عن
و كما رأينا فى الفصل الخامس ,كان ظهور الملك فى المراسم و المناسبات الدينية يوصف بأنه
"تجلى" أو "اشراق" ,و هو نفس الفعل الذى يستخدم لوصف تجلى "رع" فوق التل األزلى عند بدء
الخليقة .أى أن تجلى الملك قد اندمج رمزيا مع ميالد "رع" و تجليه فى الزمن األول .
فى المشهد التالى صور الفنان المصرى القديم تجلى الملك توت عنخ آمون فوق عرشه أمام "حوى"
حاكم أثيوبيا الذى وقف أمامه و قد غض طرفه و نظر لألرض و كأنه أمام شمس ساطعة .
و كما تحمى حية الكوبرا قرص الشمس الذى يحمله "رع" فوق رأسه ,كذلك تحمى الكوبرا جبين
و كما تحمل الكيانات االلهية مفتاح الحياة "عنغ" لتنقل به الطاقة من عالم الروح للعالم المادى ,
و أمام الملك ألقابه " :ملك مصر العليا و السفلى" " ,رع ,رب كل شئ" " ,ابن رع" .
و فى بردية "أناستازى" ( )Anastasiالتى تعود لعصر الرعامسه (دولة حديثة) نقرأ عبارات
*** أدر وجهك نحوى أيها الملك ...أيها الشمس المشرقة التى تنير األرضين بجمالها ...يا شمس
و النص السابق ليس مجاملة أو تملق ,و انما هو كود يخدم هدفا معينا و يؤدى وظيفة سحرية .
عند قراءة النصوص المصرية القديمة نالحظ أن هناك دائما مزج بين فكرة الخلق و الشروق
هناك دائما صلة وثيقة بين الملك و بين عالم الكيانات االلهية األزلى و خصوصا رب الشمس/النور
"رع" الذى تنبثق منه طاقة الحياة .و لكى يقوم الملك بدور "رع" على األرض كان عليه القيام
يبدأ الملك يومه بطقس يطلق عليه طقس االغتسال أو التطهر .يستيقظ الملك قبل الفجر و يغتسل
و يطلق حوله البخور ,ثم يضع فى فمه بعض حبات من ملح النطرون لتطهيره .
و كل هذ األفعال هى جزء من الطقوس السحرية ,ألنها تتزامن مع حدث ميثولوجى كونى و هو
ميالد "رع" مجددا .فحين يغمر جسد الملك بالماء داخل البحيرة المقدسة فهو بذلك يحاكى "رع"
قبل خروجه مباشرة من مياه األزل "نون" .و عند اطالق البخور حول الملك يتحول فى تلك
و فى اللحظة التى يطهر فيها فمه بملح النطرون يولد من جديد فى العالم السماوى .
ثم يعقب ذلك صعود الملك لدرجات سلم "بيت الصباح" فى نفس لحظة شروق أبيه "رع" فى السماء
و كما تتطهر الشمس و تولد من جديد كل صباح فى المعبد السماوى (آخت) الذى يقع تحت خط
الطقوس .
كان اغتسال الملك و تطهره كل صباح طقس مقدس ينقله الى الزمن األول ,و بذلك يتصل العالم
الدنيوى بالعالم االلهى الخالد من خالل دور الملك الذى يعتبر انعكاس لصورة "رع" على األرض .
لم يكن طقس االغتسال اليومى هو الطقس الوحيد الذى يقوم به الملك من أجل وصل العالم المادى
بعالم الروح ,فهناك العديد من الطقوس األخرى التى يقوم فيها الملك بمحاكاة أحداث كونية أو
سماوية على األرض لكى يصير العالم األرضى صوة مرآه من العالم السماوى "كما فوق ,كما
تحت" .
كان ذلك النوع من الطقوس السحرية التى يقوم فيها االنسان بأفعال تحاكى أحداثا أسطورية شرطا
يمكننا أن نصف تلك الممارسات السحرية بأنها "سحر الدولة" أى ممارسة السحر كجزء من تدبير
احتل السحر أهمية كبرى فى ادارة شئون الدولة فى مصر القديمة ,و التى لم تكن تقتصر فقط على
االدارة السياسية و االقتصادية و انما تهدف فى المقام األول القامة الماعت (النظام) على األرض .
كان تعريف الملك بأنه رع أو ابن رع أو صورة رع على األرض أحد أهم األمثلة على ممارسة
و أثناء الحروب كان الكهنة فى مصر القديمة ينهمكون فى ممارسة طقوس سحرية .
فى هذه الطقوس يتعامل الكهنة مع العدو باعتباره "عبيب" (أبوفيس) ,ثعبان الظالم و الفوضى ,
و ليس من المستبعد أن الكهنة قاموا بمثل تلك الطقوس أثناء معركة قادش التى خاضها الملك
ان انتصار "رع" على "أبوفيس" هو حدث ميثولوجى (أسطورى) ,أو بعبارة أخرى هو حقيقة
أزلية تنتمى للزمن األول ,الزمن الذى خلقت فيه الصور األولية لكل ما سيتجسد فى العالم المادى .
يقوم الكهنة بربط أعداء مصر بأبوفيس بطريقة سحرية و بذلك تصبح هزيمتهم على يد ملك مصر
حتمية ,ألن أبوفيس ال ينجح أبدا فى مسعاه لتقويض النظام الكونى و انما يهزم على يد "رع" بشكل
دورى .
عند قراءة النصوص العديدة التى تناولت معركة قادش ال نعثر على ذكر صريح لممارسة طقوس
سحرية .و لكن بوجه عام كانت المشاهد و النصوص التى تناولت المعركة تهدف لدمج الحدث
التاريخى و هو معركة قادش فى أحداث الزمن األول أو بعبارة أخرى كانت تهدف ألسطرة التاريخ
(أى تحويل التاريخ الى أسطورة) ,و لكى يحدث ذلك االندماج بين العالم الدنيوى و الزمن األول
كان على الكهنة القيام بسلسلة من الطقوس السحرية ,و منها تشكيل تمثال ألبوفيس أو صنع صورة
تمثله و فى نفس الوقت تمثل أعداء مصر .ثم يقوم الكهنة بضرب التمثال و طعنه بالخناجر
و البصق عليه ثم حرقه أثناء ترتيل نص سحرى يطلق عليه "نص ازاحة ثعبان أبوفيس" ,و فيه
*** الى الخلف أيها العدو ...ان نور "رع" يخترق الظلمة ...لقد بدد "رع" كلماتك (قوتك) ...
و ضربتك الكيانات االلهية فسقطت مكبا على وجهك ...لقد مزق النمر قلبك ...و قيدك العقرب
باألغالل ...ان الماعت غصة فى حلقك و هى سبب آالمك ...اسقط يا أبوفيس يا عدو "رع"
فى كتاب ال "أمدوات" (وصف ما هو كائن فى العالم اآلخر) هناك مشهد يعبر عن فحوى ذلك
الطقس السحرى .و فيه نرى "سلكيت" (الربة العقرب) و هى تقوم بتكبيل أبوفيس باألغالل فى
العالم السفلى و تساعدها ربة أخرى تمسك بذيله لتتحكم فى حركته .
لم يقتصر استدعاء الزمن األول على سحر الدولة فقط ,انما كان جزءا أساسيا من الممارسات
السحرية بوجه عام ,و منها على سبيل المثال الطقوس السحرية الطبية .
جاء فى األسطورة أن حورس جرح جرحا خطيرا أثناء صراعه مع ست و لكنه شفى بفضل سحر
أمه ايزيس .و هذ الحدث األسطورى هو الصورة األولية أو النموذج االلهى الذى يستخدمه الطبيب
يقوم الساحر بتضميد الجراح لفترة ,و أثناء فك الضمادات يخاطب "الطبيب – الساحر" المريض
باعتباره حورس و يرتل نصوصا سحرية تعيد سرد ما وقع لحورس فى الزمن األول ,و منها على
*** ها هو حورس ,و قد فكت ضماداته على يد أمه ايزيس ...لقد شفى حورس من كل ما فعله به
و بعد ذلك يبدأ المريض فى االبتهال اليزيس العظيمة فى السحر (ويريت -حكاو) قائال -:
األشياء الحمراء ( رمز المرض ) ...اشفى جسدى من كل مرض ذكرا كان أو أنثى ...و من
الموت ذكرا كان أو أنثى ...و احرسينى من كل عدو يهاجمنى ذكرا كان أم أنثى ***
و فى هذا االبتهال يتقمص المريض دور حورس و يخاطب ايزيس باعتبارها أمه .
و هناك مثال آخر على استدعاء الزمن األول فى الممارسات السحرية الطبية .
جاء فى األسطورة أيضا أن ايزيس تركت ابنها حورس الطفل وحده فى البيت فى يوم ما و خرجت
و عند عودتها وجدت البيت يحترق و قد تعرض الطفل حورس لحروق شديدة فى جسده .
لم تجد ايزيس ماء لتطفئ به النار فأطفأتها باللبن الذى فى صدرها .لذلك كان الطبيب الساحر فى
مصر القديمة يستدعى ذلك الحدث األسطورى عند قيامه بعالج الحروق .
لم يكن األطباء يكتفون فقط بسرد الحدث األسطورى و انما كانوا يقومون باستخدام لبن أم وضعت
يصور المشهد التالى وعاء فخار على هيئة سيدة تحمل طفال و ترضعه من ثدى بينما تضغط بيدها
على الثدى اآلخر لتجمع منه قدرا من اللبن .صمم هذا الوعاء لحفظ لبن السيدات الستخدامه فى
و مثل هذه األوعية كانت تستخدم لحفظ لبن األمهات الستخدامه فى أغراض طبية
و هناك العديد من األمثلة األخرى التى توضح لنا كيفية استدعاء أحداث الزمن األول و مزجها
يكمن سر فاعلية مثل هذه الطقوس و الممارسات فى استيعاب حقيقة هامة و هى أن عالم األسطورة
هو عالم الجوهر .الزمن األول هو المستودع الذى تكمن فيه أسباب و جذور كل ما يحدث فى
عالمنا الدنيوى الزائل .باقامة جسور الصلة بين العالم المادى و عالم األسطورة (من خالل الطقوس
السحرية) يحدث تحول للعالم األدنى و يرتقى ليصير مفعما بالحضور الروحى .
و هناك تقنية أخرى ترتبط ارتباطا وثيقا باستحضار الزمن األول ,و هى تقمص شخصية أحد
و كما رأينا فى طقس ازاحة ثعبان أبوفيس ,كان نجاح الطقس يعتمد على تقمص األعداء شخصية
أبوفيس و على تقمص الملك شخصية "رع" الذى ينتصر دائما على أبوفيس أثناء ارتحاله فى العالم
السفلى .
و اذا لم يحدث التقمص بالشكل السليم كما تقتضى الطقوس السحرية فان استدعاء حدث انتصار
و باالضافة الى سحر الدولة ,نجد أن تقنية تقمص شخصية الكيانات االلهية كانت ضرورية لكل
تترجم كلمة "نتر" (و جمعها "نترو") عادة بمعنى اله ,و هى فى الحقيقة ترجمة غير دقيقة ألن هذه
الكلمة تحمل معانى أعمق و أعقد من كلمة اله فى ثقافات أخرى مثل آلهة اليونان و الرومان على
و أقرب ترجمة للمعنى الحقيقى لكلمة "نتر" فى مصر القديمة هى كلمة "مبدأ كونى" أو "كيان/تجلى
الهى" .
فى الشكل التالى نرى أنوبيس رب التحنيط و هو ينحنى فوق مومياء أثناء اشرافه على تحنيطها ,
و قد تكرر هذا المشهد فى العديد البرديات و النقوش المصرية القديمة و خصوصا فى عصر الدولة
أصبح المشهد يتكرر دائما مصحوبا بتعليق يقول أن أنوبيس يميل فوق المومياء أثناء تحنيطها .
و لكننا اذا تأملنا المشهد لوهلة سندرك أن من يقوم بعملية التحنيط هو فى الحقيقة كاهن ,و ليس
الكيان االلهى أنوبيس .أو ربما يكون هو الكيان االلهى أنوبيس ؟!
فى مراحل معينة من التحنيط كان كهنة أنوبيس يرتدون قناعا على شكل "ابن آوى" ,و هو الحيوان
الذى اتخذه قدماء المصريين رمزا ألنوبيس .و قد عثر علماء اآلثار على أحد تلك األقنعة ,و هو
و لكن تقاليد ارتداء قناع أنوبيس لم تنشأ فى عصر الدولة الحديثه و انما هى تعود الى أقدم من ذلك
بكثير .
فى المشهد التالى (من العصر المتأخر) يظهر أحد الكهنة و هو يرتدى قناع أنوبيس و يقوم بدور
كان ارتداء قناع ابن آوى يهدف لمساعدة الكاهن على تقمص شخصية أنوبيس بشكل أعمق .
حين ننظر الى مشاهد الطقوس الجنائزية فى مصر القديمة و نرى صورة أنوبيس علينا أن نتذكر
أننا فى الغالب أمام كاهن يتقمص شخصية أنوبيس و يعزز ذلك التقمص بارتداء قناع ابن آوى .
على سبيل المثال ,يصور المشهد التالى أحد أهم الطقوس الجنائزية و هو طقس فتح الفم ,و فيه
تقف المومياء فى وضع رأسى و هى تستند على أذرع رجل برأس ابن آوى .
يمكننا أن ننظر الى ذلك الشخص الذى يقف وراء المومياء باعتباره أنوبيس متجسدا فى هيئة بشرية
بعبارة أخرى ان الكاهن قد مر بتغيرات خيميائية سحرية حولته من انسان الى الكيان االلهى أنوبيس
و فى هذه الحالة ليس هناك فرق كبير بين أن نقول أن ذلك الشخص الواقف خلف المومياء هو
كاهن يرتدى قناع أنوبيس أو أن نقول أنه هو أنوبيس نفسه ,ألن الكاهن عند تقمصه شخصية أحد
و هذا المثال يجعلنا نتساءل اذا كانت الكيانات االلهية التى تظهر فى الفن المصرى القديم فى صورة
بشرية أو نصف بشرية (بجسم انسان و رأس حيوان) هم فى الحقيقة بشر تقمصوا شخصية كيانات
الهية و مروا بتغيرات سحرية حولتهم الى الكيانات االلهية التى نراها فى تلك المشاهد !
و لكنى هنا ال أعنى أن كل مشاهد الكيانات االلهية فى الفن المصرى القديم كانت لبشر يرتدون
أقنعة .
لم يكن هو الوسيلة الوحيدة لالتصال بالقدرة االلهية التى تتجلى فى كيان ما من الكيانات االلهية .
رأينا فى الفصل السادس أن قدماء المصريين كانوا ينظرون للغتهم المقدسه باعتبارها وسيط أو
همزة وصل بالقوى االلهية .تعبر هذه القوى االلهية عن نفسها من خالل الصوت و الصورة
فبمجرد نطق اسم أحد الكيانات االلهية أو اطالقه بطريقة طقسية على شخص ما ,يصبح ذلك
على سبيل المثال ,هناك مشاهد بمعبد آمون رع بطيبة تصور ايزيس و نفتيس أثناء انشاد ابتهاالت
ل "رع" .و من يقوم باالنشاد بالفعل فى طقوس المعبد ليس ايزيس و نفتيس و انما كاهنتان ترتديان
الشعر المستعار و تمسكان بالدفوف ,و قد نقش اسم ايزيس و نفتيس فوق كتفيهما .
يتم اختيار الكاهنتين من الفتيات العذراوات لتقمن بدور ايزس و نفتيس .تتقمص الكاهنتان دور
ايزيس و نفتيس ليس فقط من خالل الدور الذى تلعبانه فى االنشاد و انما أيضا من خالل قوة االسم.
فى كتاب الخروج الى النهار هناك سلسلة من الفصول تعرف باسم فصول التحوالت ,و فيها تقوم
روح المتوفى بقراءة تعاويذ و أكواد سحرية أثناء ارتحالها فى العالم السفلى لتمر بتغيرات سحرية
تحولها الى الحيوانات المقدسة التى ترمز لبعض ال "نترو" ,و منها على سبيل المثال طائر
السنونو (أحد رموز حتحور) ,و الصقر (رمز حورس) ,و التمساح (رمز سوبك) ,و طائر
كل فصل من هذه الفصول يحوى صورة الحيوان المقدس مصحوبا بنصوص تعبر عن تحوالت
و كأن االنسان بمقدوره أن يصير داخل مجال طاقة أحد ال "نترو" و أن يمتزج به و يتقمص
شخصيته من خالل مزيج من تخيل صورة الحيوان المقدس و انهماك الشخص فى حالة تأمل
و قد اقتطفت منه هذا المشهد الذى يصور طائر السنونو يقف فوق تل .
أحد المشاهد المصاحبة للفصل رقم 18من كتاب الخروج الى النهار
يتناول هذا الفصل تحول روح المرتحل فى العالم السفلى الى طائر سنونو (أحد رموز حتحور) .
*** أنا طائر السنونو ...أنا طائر السنونو ...أنا العقربة ,ابنة رع ***
و العقربة (األنثى) هى رمز "سلكيت" ,التى صادفناها من قبل و هى تقوم بتقييد ثعبان الفوضى
يصف النص شوق المرتحل فى العالم السفلى للوصول الى جزيرة اللهيب ,و هى األرض األولى
الروحية .
و لكى يصل المرتحل فى العالم السفلى الى تلك الجزيرة عليه أن يمر من بوابات و أن يجتاز
اختبارات حراس البوابات التى تغلق الطريق الى الجزيرة المنشودة .
و لتحقيق ذلك الهدف يقدم النص العديد من التعاويذ ,و على المرتحل فى العالم السفلى أن يقوم
بترتيلها .
و من أهم شروط العبور من بوابات العالم السفلى الطهارة و نقاء القلب .كما يتطلب النجاح فى
كانت تلك جميعا شروط و مؤهالت تحول االنسان الى طائر سنونو ,أو بعبارة أخرى شروط
و كذلك يمكن للملك أن يستدعى أو أن تستدعيه طاقة كونية مثل طاقة ست على سبيل المثال ,
بحيث يصير مشحونا بتلك الطاقة الهائلة التى يمكنها أن تدمر أى شئ أمامها .
فى نصوص معركة قادش ,يوصف الملك رمسيس الثانى بأنه صار مثل "مونتو" (رب الحرب
و القتال) و أنه ظهر فى أعين األعداء فى صورة "ست القوى" و فى صورة بعل أيضا ,و هو ما
و كذلك الملك تحتمس الثالث – و هو من أعظم القادة العسكريين – وصفته النصوص المصرية
القديمة بأنه يخوض المعارك و قد تقمصته قدرة "ست" و تخللت كل أعضاء جسده .
أن يسعى االنسان لتقمص شخصية أحد ال "نترو" فان ذلك يعنى أن نفسه تلبستها قوة الهية
فى األلفيتين األخيرتين سقطت االنسانية فى حالة فقدان ذاكرة جماعى و انقطعت صالتها بالقوى
الروحانية التى كان قدماء المصريين على دراية عميقة بها .و لكن فى العقود األخيرة بدأ الوعى
حتمية .كان من الضرورى أن تمر االنسانية بتلك التجربة لتختبر نوعا من الوعى يتمركز حول
حين يكون الوعى متمركزا حول األنا يعتقد الشخص أن المشاعر و الميول و األفكار و دوافع النفس
نابعة من الشخص نفسه و ليست مستمدة من أى كيان روحى أو قوة كونية تمتزج بروح االنسان أو
تتلبسها .يعتقد انسان العصر الحديث أن مكونات الوعى هى مكونات ذاتية بمعنى أنها تنبع من
الشخص الذى يمر بتجربة الوعى .و هذا االعتقاد هو نتاج تغيرات مر بها االنسان منذ أفول شمس
و من نتائج ذلك التغير فى الوعى فكرة الحرية التى صارت تنطبق على الحياة الباطنية /الروحانية
ان الشعار الذى يردده انسان العصر الحاضر بكل حماس و الذى يقول أن المرء حر فى اختيار
أفعاله و بالتالى فهو مسئول عن تلك األفعال هو شعار نابع من وعى يختلف عن وعى قدماء
المصريين .فقد بدأت هذه الفكرة فى الظهور على يد أرسطو فى القرن الرابع قبل الميالد .
و ألن وعينا مر بتغيرات و تحوالت كبرى و صار يختلف عن وعى قدماء المصريين ,لذلك ليس
و ألن وعينا غير مدرك لعالم الروح لذلك فنحن نميل بشكل عام لوصم الممارسات السحرية
بالخرافة .
و األحرى بنا بدال من أن نصم الممارسات السحرية بالخرافة أن نحاول تطوير قدراتنا على
باالضافة الى تقنية تقمص شخصية "نتر" (كيان الهى) من أجل انجاز شئ خارق يفوق قدرات
البشر ,كانت هناك أيضا بعض الممارسات السحرية التى يقوم فيها الساحر بتقمص شخصية العديد
من ال "نترو" بحيث يكون كل نتر على حدة فى مقابل أحد أجزاء جسم الساحر .
على سبيل المثال ,رأس الساحر قد يتلبسه حورس ,و ذراعاه و ساقاه قد يتلبسهم أبناء حورس
فى كتاب الخروج الى النهار (فصل رقم )42نقرأ هذه التعويدة التى دونت بأسلوب رائع فيه مقابلة
بين كل جزء من أجزاء جسم الساحر على حدة و بين أحد ال "نترو" ,بمعنى أن كل عضو من
أعضاء جسم الساحر قد تلبسته تلك الطاقة الروحانية التى يعبر عنها كل "نتر" .يقول النص -:
*** شعرى هو نون (مياه األزل) ...و وجهى هو رع ...و عيناى هما حتحور ...و أذناى هما
"ويبواويت" (فاتح الطرق) ...و شفتاى هما أنوبيس ...و أضراسى هى "سلكيت" (الربة العقرب)
...و أسنانى هى ايزيس ...و أذرعى هى الحمل ,رب منديس ...و صدرى هو "نيت" ,ربة
سايس ...و ظهرى هو ست ...و عضوى الذكرى هو أوزير ...و قفصى الصدرى هو "رب
الجالل" ...و بطنى و عامودى الفقرى هما سخمت ...و أردافى هى عين حورس ...و فخذى
و ساقى هما نوت ...و أقدامى هى بتاح ...و أصابع قدمى هى صقور حية ...ال يوجد عضو فى
جسدى يخلو من الحضور االلهى ...و تحوت هو الذى يحرس كل كيانى ***
يصور الشكل التالى الكيانات االلهية السبعة األولى التى ورد ذكرها فى النص السابق .
و هم بالترتيب من اليمين الى اليسار :ايزيس ,سلكيت ,أنوبيس ,ويبواويت ,حتحور ,رع ,نون
ال "نترو" (الكيانات االلهية) التى تتحول اليها أعضاء جسم االنسان
المرض أو فى الصحة .ان مجرد تخيل حضور كل هؤالء و امتزاجهم بكيان االنسان كفيل بمنحه
كان وعى قدماء المصريين منفتحا على العوالم الباطنية و تأثيراتها التى تتخلل العالم المادى ,و هو
ما يعنى أن االنسان يمكن أن تتلبسه قوة روحانية ماورائية ,و من الممكن للمرء أن يكتسب صفات
و فى نفس الوقت يمكن للمرء أيضا أن تتلبسه قوة ماورائية معادية تنتمى لعوالم الفوضى و الظالم
اعتقد المصرى القديم أن االنسان اذا تلبسته روح شريرة فمن المتوقع أن يسقط فريسه للمرض .
و فى هذه الحالة فان أفضل وسيلة لمعالجة المرض هى مخاطبة الروح أو القوة الماورائية التى
تلك كانت نظرة قدماء المصريين للمرض و هى نظرة تختلف تماما عن نظرة االنسان المعاصر
ان األسباب فى الفكر الدينى المصرى ال يمكنها أن تنبع من العالم المادى ,ألن عالم المادة بكل ما
فيه هو نتيجة أو انعكاس لعالم آخر ماورائى تكمن فيه أسباب كل شئ .
اذا مرض شخص ما فان ذلك اشارة الى وقوع حدث ما فى عالم الباطن .
كان المرض فى نظر قدماء المصريين عبارة عن روح شريرة اخترقت جسم االنسان .
و الطريقة المثلى لعالج المرض من جذوره هى مواجهة تلك الروح الشريرة و طردها خارج
ان مهارة الطبيب فى مصر القديمة ال تعتمد على قدرته على تحضير الجرعات الدوائية بقدر ما
و لكن ذلك ال يعنى أن المستحضرات الطبية لم يكن لها دور فى الطب المصرى القديم ,بالعكس .
فقد كان لألدوية دور هام و مكمل فى شفاء الجسد و الروح .
تكمن فاعلية الدواء فى القوة الروحانية التى بداخله .كتب عالم المصريات األلمانى "ألفريد
*** كانت المستحضرات الطبية فى مصر القديمة تكتسب فعاليتها من التعاويذ أو الرقى أو
النصوص السحرية التى تتلى عليها أثناء اعدادها .و الشفاء ال يأتى من المستحضر الطبى نفسه
و انما يأتى من قوة النصوص و الرموز السحرية التى تخضع بقوتها األرواح الشريرة التى
اخترقت جسم االنسان و تسببت فى مرضه .و بصرف الروح الشريرة من الجسم يذهب المرض
ان الفعل األساسى الذى يقوم به الطبيب يحدث على مستوى الروح و ليس على مستوى المادة .
و أول شئ يفعله الطبيب حين يستدعى لعالج مريض هو أن يقوم بتحديد هوية الروح الشريرة التى
تسببت فى المرض .ثم يقوم بتحضير الدواء المناسب و يكسبه قوة سحرية عن طريق تالوة
و الهدف من ذلك هو هو جعل جسم المريض بيئة صعبة و غير مريحة بالنسبة للروح الشريرة التى
اخترقته و فى نفس الوقت مساعدة الجسم الذى أنهكه المرض على أن يستعيد قوته مرة أخرى .
و لكن قبل تحضير الدواء كان على الطبيب أوال أن يقوم بصرف الروح الشريرة من جسم المريض
اذا تخيلنا على سبيل المثال أن هناك طبيبا يعالج مريضا أصيب بنزلة برد ,فى هذه الحالة كان على
الطبيب أوال أن يتحدث الى نزلة البرد أو بمعنى أصح الى الروح الشريرة التى اخترقت جسم
على الطبيب أن يواجه تلك الروح الشريرة و يتحدث اليها و يخبرها أنه ال مكان لها فى جسم
المريض و يهددها بأنها ستصاب بمكروه اذا استمر وجودها بداخله و لذلك فعليها أن تغادره فورا
يخبر الطبيب الروح الشريرة انها ليس لها هيمنة أو سلطة على جسم المريض ,و أنها فى الحقيقة
يقوم الطبيب بما يشبه التنويم المغناطيسى للروح الشريرة و يخدعها و يجعلها عاجزة عن الحركة
و عن الدفاع عن نفسها .و عندما تفقد الروح الشريرة قدرتها ,يفاجئها الطبيب من حيث ال تتوقع
*** اذهب أيها المرض (نزلة البرد على سبيل المثال) ,يا ابن المرض ...يا من تكسر العظام ...
و تفلق الرأس ...و تخترق الدماغ ...اذهب أيها المرض ,يا من تحتل فتحات الرأس السبعة
(العينين +األذنين +فتحتى األنف +فتحة الفم) ...اذهب عن تلك الفتحات ألنها هى التى تبجل
"رع" ,و هى التى تنشد االبتهاالت لتحوت ...أنظر ,لقد أحضرت الدواء الذى سينتزعك من ذلك
الجسد ***
ثم يعيد الطبيب مخاطبة الروح الشريرة عدة مرات قبل أن يصف الدواء المناسب .
تبدأ مواجهة الروح الشريرة أوال باستدراجها بنعومة ثم تجريدها من الثقة بالنفس ,ثم مخاطبتها
بعنف .
هذا السيل المتواصل من الهجوم على الروح الشريرة يجعلها تشعر بعدم االرتياح و باالضطراب .
و فى تلك اللحظة يبدأ الطبيب باعطاء المريض جرعات الدواء ,و قد يطلب الطبيب من المريض
أحيانا ترتيل كلمات معينة قبل تناول الدواء ,منها على سبيل المثال -:
*** مرحبا أيها الدواء ,مرحبا ...يا من تزيل التعب الذى أصاب قلبى ...و األلم الذى انتاب
أعضاء جسدى ...انه سحر حورس ,الذى ينتصر من خالل الدواء ***
و من خالل الدواء يبدأ حورس فى مصارعة الروح الشريرة التى تسببت فى المرض .
و هو ما يعنى أن المصرى القديم كان يرى المرض كأحد جوانب "ست" ,و بذلك يسقط المرض
فى العصر المتأخر ظهر ما يعرف بلوحات حورس الطفل ,و فيها يظهر حورس فى صورة طفل
يطأ بقدميه التماسيح و يمسك بيديه الحيات السامة و العقارب و الوحوش الضارية .
يسيطر حورس بقوة سحره على تلك الحيوانات الخطرة و يجعلها جميعا فى قبضة يده ال تستطيع
فرارا .
فى الشكل التالى نرى أحد أمثلة ألواح حورس الطفل ,و فيها يظهر حورس فى وضعه المعتاد ,
تحت قدميه تمساح يرقد مستسلما ,و فى قبضة يده حيات و عقارب و غزال و أسد .و فوق رأس
حورس قناع "بس" الذى يقوم بحماية العائلة و خصوصا األمهات و األطفال .
حورس الطفل يهيمن على قوى الفوضى المسببة للمرض فى صورة حيوانات متوحشه و سامة
على يسار حورس الطفل يقف "رع – حور -آختى" فوق ثعبان يتلوى على هيئة زجزاج ,و على
يمينه زهرة لوتس تعلوها ريشتان ترمزان النتصار قوى البناء و الحياة على قوى الهدم و الموت .
عند عالج التسمم الناتج عن عضات الحيات و العقارب ,يقوم الطبيب بطقوس مشابهة لما أوردناه
فى حاالت التسمم يقوم الطبيب باستحضار حورس بأن يصنع له صورة مقدسة على لوح من
الخشب ,و عادة ما يظهر حورس على تلك اللوحات فى هيئة صقر تعلو رأسه ريشتان .
و بعد االنتهاء من صنع الصورة المقدسة يقوم الطبيب بطقس فتح الفم لها و يتلو عليها كلمات
سحرية معينة و بذلك تتحول الصورة المقدسه الى كيان حى ,أى تحل فيها روح حورس .
ثم تجرى للصورة كل الطقوس السحرية اليومية التى تجرى لتماثيل ال "نترو" (الكيانات االلهية) ,
حيث يتم تعطيرها بالبخور و بالزيوت العطرية و تقدم لها القرابين من الخبز و الجعة و غيرها من
و هذه الطقوس السحرية هى التى تضمن الحضور الدائم (الحضرة) لحورس من خالل الصورة
المقدسة .و بعد احياء الصورة المقدسة بالطقوس السحرية توضع فوق وجه المريض المصاب
بلدغة الحية أو العقرب أو فوق الموضع الذى تعرض للدغ .ثم يرتل الطبيب الكلمات السحرية
*** أيها السم ,أخرج من الجسد ...تدفق الى خارج الجسد و انسكب على األرض ...ان حورس
يلعنك و يزيحك ,و يسحقك بقدميه ...أنت ضعيف و ال تملك حيلة ,و ال تستطيع أن تقاتل ...أنت
أعمى ,فاقد الرؤية ...ان رأسك تتدلى فوق كتفك ,و ال يمكنك أن ترفع وجهك ألعلى ...لقد أدير
وجهك للخلف ...و ال يمكنك أن تبصر طريقك ...قلبك ملئ بالحزن و ال تعرف البهجة ...هاأنت
تولى األدبار هربا ...و تختفى تماما عن األنظار ...تلك كلمات حورس ,العظيم السحر ***
ففى كتاب الخروج الى النهار هناك عدة أمثلة على تلك المواجهات السيكولوجية .
عند انتقال روح المتوفى الى العالم السفلى و ارتحالها فيه تصادف قوى ماورائية "معادية" (تنتمى
لعوالم الفوضى و الظالم) ,و على المرتحل أن يقوم بالتعرف على هوية تلك القوى الماورائية
و مخاطبتها بأسمائها و هى مهمة ليست سهلة ,و عليه أن يرتل كلمات سحرية معينة لكى يتغلب
و التقنية المستخدمة فى صرف األرواح أو القوى الشريرة عكس التقنية المستخدمة فى استحضار
و بدال من السعى لتقمص شخصية ال "نترو" و االندماج داخل مجال طاقتها الروحانية ,يسعى
طقس صرف األرواح الشريرة الى تحرير االنسان من تلك األرواح و ابعاده عن تأثير مجال طاقتها
و لذلك على الطبيب أو المعالج أن يقوم أوال بتحديد هوية تلك الروح الشريرة و تحويلها الى كيان
مستقل بذاته و تمييزها عن جسد المريض الذى اتخذته مسكنا لها و تلبسته ,و بعد ذلك يقوم بطردها
من المجال النفسى للمريض ,أو باألحرى طرد المريض من المجال النفسى لتلك القوى الشريرة .
و لكى يتحقق ذلك ,يستحضر الطبيب الساحر األرواح النورانية و ال "نترو" ذات القدرات الخارقة
فقوى الظالم و الفوضى مهما بلغت قوتها ال تستطيع الصمود أمام قوة النور .
لم يكن اتصال السحرة فى مصر القديم بال "نترو" دائما مصحوبا باالبتهال و التضرع .
فمن أهم مؤهالت الساحر البارع امتالك الخبرة فى التعامل مع "حكا" ,و هو الكيان االلهى المهيمن
كان تقمص شخصية "حكا" أحد أهم الوسائل التى يلجأ لها الساحر لكى يستطيع الهيمنة على القوى
يعرف الكاتب الفرنسى كريستيان جاك "حكا" بأنه المسيطر على كل القوى الكونية .
فى متون األهرام يقوم الملك بدور الساحر الخبير فى التعامل مع القوى الكونية و تصفه النصوص
و من تلك النصوص التى صورت القدرة الخارقة لملك مصر النص المعروف لدى علماء اآلثار
باسم "نص التهام لحم األضحية" ( , )Cannibal Hymnو هو أحد نصوص األهرام .
يصور النص الملك و كأنه وحش رهيب .و فيه نقرأ العبارات التالية -:
*** السماء ملبدة بالغيوم ...و قد هوت النجوم ,و تناثرت المجموعات النجمية ...و ارتجفت
عظام رب األرض ,حين تجلى الملك ككيان الهى حى ,يتغذى على آبائه و يقتات على أمهاته
...هو الذى يحيا على التهام سحر البشر و ال "نترو" (الكيانات االلهية) ...هو الذى يلتهم طاقتهم
السحرية ,و يبتلع نورهم ...يتناول أكبرهم فى االفطار ,و أوسطهم فى العشاء ,و أصغرهم فى
الغداء ***
استخدم قدماء المصريين مصطلح ابتالع السحر للتعبير عن اكتساب الساحر لقوة السحر "حكا"
و كأنه قد ابتلعها و هضمها و أصبحت جزءا من طاقته الحيوية التى تمنح جسده القوة .
كان بمقدور الساحر البارع فى مصر القديمة أن يضع نفسه فى قلب عالم ال "نترو" (الكيانات
االلهية) و أن يستحضر طاقتهم و يمتصها .و بذلك تنتقل قدرات ال "نترو" الخارقة اليه .
و اذا عرف القارئ أن الساحر قد يلجأ أحيانا الى استخدام أسلوب التهديد فى مخاطبته للنترو ,قد
و لكنه يصبح مقبوال و مفهوما اذا عرف القارئ أن "حكا" هو ال "نتر" (الكيان االلهى) الذى تعتمد
عليه حياة كل ال "نترو" و أن الساحر المصرى كان بمقدوره أن يعمل من خالل "حكا" و أن
و من أمثلة تقنية تهديد ال "نترو" فى السحر المصرى ما ورد فى نصوص لوحة "مترنيتش" .
حورس للدغة عقرب حين تركته أمه وحده وسط أحراش و مستنقعات البردى فى الدلتا .جزعت
ايزيس الصابة ابنها و أطلقت صرخة ألم شقت السماء ,و أوقفت مالحى قارب رع فى مسارهم .
أوقفت صرخة ايزيس و التى كانت تلقب ب "ويريت -حكاو" (العظيمة فى السحر) الشمس فى
مسارها ,و هددت ايزيس بأنها لن تسمح لموكب "رع" باستكمال رحلته اال بعد أن يشفى حورس .
و هنا يتدخل "رع" و يرسل "تحوت" و معه طاقة الشفاء لحورس .يقول تحوت مخاطبا ايزيس -:
*** أيتها الربة العظيمة ايزيس ...يا من تعرفين كيف تستخدمين فمك (سحر الكلمة) ...لن يستطيع
أى مكروه أن يصيب الطفل حورس ...ألن قارب "رع" هو الذى يحرسه ***
ثم ينطق تحوت بكلمات سحرية تعيد الحياة لحورس و تشفيه من لدغة العقرب .
و من هذا المثال يتبين لنا أن كل ما يحتاجه الساحر هو أن يمتلك شيئا من طاقة ال "حكا" الخارقة
التى تجعله قادرا على احداث خلل فى النظام الكونى ( أو مجرد التهديد به ) لكى تستجيب القوى
فى المثال السابق تستخدم ايزيس معرفتها بكيفية استخدام الكلمات (الصوت) لكى تجبر "رع" على
و هكذا يتضح لنا كيفية استخدام طاقة ال "حكا" فى الهيمنة على ال "نترو" و اجبارها على تنفيذ ما
تصور القصة العالقة بين ايزيس و حورس و رع و تحوت ,و تدور حول حدث وقع فى الزمن
األول و هو ما يعنى أن ذلك الحدث هو الصورة األولية أو األصل الذى ينعكس فى عالمنا فى
تلك الصورة األولية التى تنتمى للزمن األول هى الوسيلة التى يستخدمها الطبيب الساحر و يقوم
و لكى نفهم مغزى تهديد ال "نترو" علينا أن نعى أوال أن مبدأ وحدة الوجود كان مهيمنا على الفكر
فى الطبيعة ال يوجد جماد ,و ال يوجد شئ ال تسكنه قوة الهية .
و وسط هذا الطبيعة االلهية ,يتخذ االنسان موقعا وسطا ,فهو ليس منفصال عنها و انما هو أيضا
لم تكن طقوس المعابد فى مصر القديمة تدور حول "عبادة" ال "نترو" (الكيانات االلهية) ,
و انما هى طقوس تهدف فى المقام األول الى صيانة النظام الكونى و حمايته من قوى الفوضى
و الهدم .
فشروق الشمس كل صباح و تتابع الفصول و المواسم و فيضان النيل و غيرها من مظاهر الطبيعة
تعتمد فى انضباطها و توازنها على الطقوس المقدسة التى تقام فى المعابد فى أوقات و مناسبات
معينة .
*** لم تكن طقوس المعابد فى مصر القديمة تكن طقوسا رمزية ,و انما هى جزء من األحداث
الكونية .من خالل الطقوس المقدسة يشارك االنسان فى األحداث الكونية جنبا الى جنب مع ال
و لذلك كان السحر ركنا أساسيا فى الديانة المصرية القديمة ,و هو علم يرتبط ارتباطا وثيقا بعلم
السحر هو العلم الذى يتيح لالنسان المشاركة فى الصيانة الدورية للنظام الكونى و حمايته من
فى نظر قدماء المصريين ,كان انسحاب االنسان من األحداث الكونية يشكل كارثه كبرى للطبيعة
يوضح لنا المثال التالى أهمية طقوس المعابد بالنسبة لل "نترو" .و النص يتضمن تهديدا لل "نترو"
*** اذا انتشر السم فى جسد المريض ...و اذا وصل الى أى عضو من أعضاء الجسد ,فلن يوضع
أى قربان على موائد القرابين فى المعابد ...و لكن يسكب الماء المقدس فوق المذابح ...و لن يتم
اشعال النار المضيئة فى أى غرفة فى المعبد ...و لن تساق أى أضحية لمائدة األضاحى ...و لن
تقدم أى قطعة لحم كقربان ...أما اذا خرج السم من جسد المريض و سال على األرض ,فستبتهج
المعابد و ستمتلئ بالقرابين ...و ستبتهج ال "نترو" (الكيانات االلهية) فى مقاصيرها ***
قد يتبادر الى ذهننا أن البشر فقط هم من سيتأثر سلبيا بهذه التهديدات و بالقطيعة بين عالم البشر
و عالم ال "نترو" ,و لكن فى علم السحر المصرى نجد أن هناك تشابك و تداخل بين العالمين
فأفعال االنسان لها تأثيرات كونية ,و خصوصا األفعال الطقسية التى يقوم بها الكهنة فى المعابد .
يعتمد عالم ال "نترو" الماورائى الى حد كبير على االنسان و على ما يقوم به من طقوس دينية
سحرية تتضمن استحضار طاقة ال "حكا" و توظيفها فى تجديد الطاقة الحيوية و حفظ النظام
الكونى .
ان تقنية تهديد ال "نترو" أثناء الممارسات السحرية ال يمكن فهمها اال من خالل ذلك المنظور
اذا هدد الطبيب الساحر بأن السماء ستقع على األرض و أن النور سيختفى من العالم اذا لم تساعد
ال "نترو" فى شفاء مريضه ,فان ذلك يعبر عن الفلسفة الدينية للمصرى القديم الذى كان يرى موقع
فى مصر القديمة ,لم يكن االنسان ينظر للكون من الخارج و كأنه ال ينتمى اليه ,كما يفعل االنسان
المعاصر) .فاالنسان جزء ال يتجزأ من الكون ,يتأثر به و أيضا يؤثر فيه تأثيرا خارقا .
فى هذه الفقرة األخيرة سنبحث فى أحد الممارسات السحرية المصرية القديمة التى ينتج عنها ظواهر
و عند البحث فى هذا النوع من السحر علينا أن نتذكر أن فكرة قوانين الطبيعة التى ال تخترق لم
ان فكرة وجود قوانين معينة تتبعها الطبيعة بطريقة آلية هى فكرة حديثه تعبر عن عالقة انسان
العصر الحديث بالكون .فنحن نرى الطبيعة خارج أنفسنا ,كما نرى كل مظهر من مظاهر
الطبيعة التى يتحدث عنها العلم الحديث هى طبيعة ليس لها أى بعد باطنى .هى مجرد جسد مادى
كل ما يحدث فى الطبيعة يفسره الفيزيائيون على أنه طاعة عمياء لمجموعة من القوانين وصفها
علماء القرن السابع عشر بأنها أوامر فرضها االله على كل شئ فى الكون .
و بدال من أن يحرك االله الكون من الداخل و يسكن فيه يعتقد انسان العصر الحديث أن االله خلق
القوانين و فرضها على الطبيعة ثم انفصل عن العالم و تركه يسير وفقا لتلك القوانين .
يرى االنسان المعاصر أن عالم الروح ال يسكن عالمنا المادى المحسوس و انما هو يسكن بعد آخر
منفصل من أبعاد الكون .لذلك لجأ االنسان المعاصر لتفسير حركة الطبيعة بمصطلحات تعبر عن
ذلك االنفصال بين العالم االلهى و بين عالمنا و لذلك صيغت قوانين الطبيعة بلغة موضوعية .
أما فى مصر القديمة فقد كانت العالقة بين الطبيعة و االله عكس ذلك تماما .فالشمس ال ترتحل
فى السماء وفقا لقوانين آلية ,و انما تفعل ذلك لتعبر عن وجود كيان الهى حى .
ان ارتحال الشمس فى السماء و فى العالم السفلى يعبر عن حياة رب الشمس الذى يمر بمراحل
تحول وصيرورة بشكل دورى من خبرى الى رع الى آتوم ,ثم يعيد تكرار دورة الميالد و النضج
االله و قدراته و يعبر عن طبيعته النورانية ,تماما كما يعبر وجه االنسان عما يدور بداخله .
و كما أن عين االنسان هى مرآة روحه ,كذلك عين الشمس هى مرآة الروح األسمى .
فى نظر قدماء المصريين لم يكن هناك شئ فى الطبيعة يخلو من الحياة .
وسط هذه الطبيعة الحية ال مكان لقوانين آلية ,فكل مظهر من مظاهر الطبيعة يحركه كيان الهى أو
قوة روحانية تحل فيه و تسكنه ,كما تسكن الروح جسم االنسان و تحركه من الداخل و ليس من
الخارج .
ان عالقة رب الشمس بالشمس ليست عالقة السيد اآلمر بالخادم أو الرئيس بمرؤسه ,و انما هى
عالقة أشبه بالعالقة بين روح االنسان و جسده ,حيث تعبر الروح عن نفسها من خالل الجسد .
ان الروح ال تلقى باألوامر الى الجسد و ال تفرض عليه قوانين عمياء ,و انما هى تعبر عن
على سبيل المثال ,اعتقد قدماء المصريين أن الرياح التى تهب من الجهات األربعة هى أرواح ,
و الشكل التالى يجمع صور الرياح األربعة كما عبر عنها الفنان المصرى القديم .حيث تظهر رياح
الشمال بأربعة رؤوس كباش ,و رياح الجنوب برأس أسد ,و رياح الغرب برأس حية ,و رياح
الشرق برأس كبش واحد .و كل روح منها تمتلك أربعة أجنحة .
و كما رأينا فى الفقرة السابقة كيف يواجه الساحر األرواح الشريرة المسببة للمرض ,يمكن للساحر
من بين كل مظاهر الطبيعة تعتبر الرياح هى األكثر قربا من عالم الروح ألنها خفية و ال تدرك
اال بتأثيراتها على عالم المادة ,و لذلك كان االتصال بأرواح الرياح مباشرة فى متناول من هو على
و المسيحيون يعرفون جيدا قصة المسيح حين أوقف العاصفة التى هبت على بحر الجليل .
فى انجيل متى نقرأ كيف وقف المسيح و واجه الرياح فهدأت و ساد السكون .
و البحر و كأنه يواجه أرواح أو كيانات حية .و هم بالفعل كذلك .
و لكن انسان العصر الحديث عاجز عن االتصال بأرواح الطبيعة اتصاال مباشرا .
ان حدث بحر الجليل ال يعتبر حدثا فريدا من نوعه ,فهناك أحداث أخرى مماثله وقعت فى العصر
الرومانى .فأثناء حمالت القائد الرومانى "ماركوس أوريليوس" استطاع ساحر مصرى يدعى
"حارنوفيس" أن ينقذ الجيش الرومانى من الموت عطشا بأن خاطب الرياح الممطرة فهبت
و فى عصر االمبراطور قسطنطين تم اعدام احد السحرة بعد اتهامه بأنه قام بحبس الرياح بقوة
سحره فمنع السفن التى تحمل الغالل من مصر و سوريا من الوصول الى القسطنطينية .
كانت الهيمنة على عناصر الطبيعة من خالل االتصال المباشر بأرواح الطبيعة جزءا هاما من
الممارسات السحرية فى الحضارات القديمة بوجه عام ,و فى الحضارة المصرية على وجه
الخصوص .
و تعتبر روح النيل أو رب النيل أحد القوى الماورائية التى يمكن لالنسان أن يتصل بها اتصاال
مباشرا .
فى مصر القديمة كانت مهمة الملك الرئيسية هى أن يتصل بروح النيل أو رب النيل ليضمن أن
يأتى الفيضان فى موعده و أن يصل منسوبه الى المستوى المناسب الذى يوفر الماء الكافى للموسم
هناك على سبيل المثال هناك نص ذكر أن ارتفاع الفيضان تزامن مع اعتالء الملك مرنبتاح (دولة
حديثه) العرش .أما الملك أمنمحات األول من عصر الدولة الوسطى فهناك نص سجل عبارة على
و فى عصر األسرة العشرين كانت هناك طقوس سحرية خاصة تقام لتعزيز احترام النيل
تقام هذه الطقوس فى منطقة جبل السلسلة (و تقع على بعد 05كم شمال أسوان) ,و فيها ينوب أحد
الكهنة عن الملك و يقوم بتقديم أضاحى من الثيران و األوز ,و يعقب ذلك القاء مرسوم ملكى
مختوم موجه من الملك للنيل يأمره أن يفيض فى موعده و بالقدر المناسب .
يحمل ذلك المرسوم الملكى عنوان (الكتاب الذى يجعل النيل ينبعث من منابعه ) .
فى الشكل التالى نرى رب النيل "حابى" فى كهفه الذى ينبع منه النيل و هو كهف تلتف حوله حية
التكنولوجيا الحديثه ,ما زال لهذا المشهد الذى يصور رب النيل راكعا فى كهفه فى العالم السفلى
يتلقى من هناك القرابين و المراسيل الملكية تأثيرا عميقا فى نفس من يراه .
لقد ساهم العقل الغربى بدون وعى فى ازاحة أرواح الطبيعة شيئا فشيئا الى خارج عالمنا ,حتى
صرنا نتساءل بخجل :ما الذى فعلناه ,و ما الذى صرنا اليه ؟
هناك اشارات فى العهد القديم لفكرة الهيمنة على أرواح الرياح و الماء فى قصة خروج بنى
فى سفر الخروج ( )04نقرأ أن موسى استطاع أن يشق البحر عندما رفع عصاه فى اتجاه البحر
األحمر ,و يطلق عليه باللغة العبرية "يام سوف" ( , )yam suphو هى كلمة تعنى حرفيا بحر
*** مد موسى يده بالعصا فى اتجاه البحر ,فأزاح يهوه المياه برياح شرقية قوية هبت فظهر قاع
البحر جافا .انشق الماء و عبر بنو اسرائيل فوق األرض الجافة يحيط بهم حائطان من المياه من
لم تكن الهيمنة على عناصر الطبيعة باستخدام طاقة السحر معجزة حصرية لموسى و اله
القديمة .
و هنا علينا أن نتذكر أن موسى ولد فى مصر و تربى فى القصر الملكى ( حسب ما جاء فى
المصادر التوراتية ) و هو ما يعنى أنه تلقى بعض التدريبات على علم السحر كجزء من منهج
ان القدرة على شق الماء هى جزء من المهارات التى كان السحرة فى مصر القديمة يمارسونها منذ
تروى البردية مجموعة من القصص التى تدور حول القدرات الخارقة للسحرة فى مصر القديمة .
جاء فى احدى هذه القصص أن الملك سنفرو -من عصر األسرة الرابعة (و هو أبو الملك خوفو)
– ذهب فى يوم ما فى نزهة بالقارب فوق احدى البحيرات بصحبة عشرين فتاة جميلة .
و أثناء قيام الفتيات بالتجديف بالقارب الملكى سقطت قالدة احدى الفتيات فى الماء ,فحزنت الفتاة
حاول الملك سنفرو أن يخفف من حزن الفتاة فوعدها بأن يعوضها عن قالدتها بأخرى مثلها و لكن
ذلك لم يغير من الموقف شيئا و ظلت الفتاة حزينة و ظل القارب متوقفا .و هنا أرسل الملك فى
وصل الساحر و طمأن الملك أن كل شئ سيكون على ما يرام ,و وقف فوق مقدمة القارب و بدأ فى
و هنا طوى الساحر نصف ماء البحيرة فوق النصف اآلخر ,و بعد أن كان ارتفاع الماء 02ذراعا
أصبح ارتفاعه 24ذراعا .صار الماء مثل حائط هائل فى جانب واحد من البحيرة بينما انكشف
قاع البحيرة فى الجانب اآلخر حيث يقف القارب فظهرت القالدة و رآها الجميع و هى ترقد فوق
قاع البحيرة .مد الساحر يده و التقط القالدة الفيروزية و أعطاها للفتاة فعادت لها البهجة .
ثم قرأ الساحر كلمات سحرية فوق الماء فعاد كما كان .
ينظر االنسان المعاصر للماء على أنه مادة خالية من الحياة تتبع قوانين فيزيائية صماء ال تتغير أبدا
,و لذلك فانه يبادر بوصف قصة الملك سنفرو بأنها خرافة .
أما بالنسبة لقدماء المصريين فقد كان لهذه القصة مصداقية .فالعقل المصرى القديم يقبل قصص
السحر ألنه يرى أن كل شئ فى الطبيعة تسكنه روح و يمكن لالنسان أن يخاطب هذه الروح
انسان العصر الحديث ,و كان بمقدور الساحر المصرى أن يدخل فى عالقة مباشرة مع أرواح
الطبيعة و من خالل تلك العالقة الروحانية يمكنه أن يحدث تغييرا فى الطبيعة المادية لألشياء .
ان السؤال حول ما اذا كانت أحداث قصة انشقاق الماء التى وردت فى بردية وستكار قد حدثت
بالفعل أم ال ليس هو بيت القصيد هنا .فاألهم بالنسبة لنا هو كيف نفهم أحداث هذه القصة داخل
ان أحداث قصة انشقاق الماء على يد الساحر المصرى ال يمكن فهمها من منظور العلم الحديث ,
أما من وجهة النظر المصرية القديمة التى ترى أن كل شئ فى الكون حى ,فهى مفهومة و مقبولة .
اذا كانت هناك ظواهر معينة يصعب قبولها و تفسيرها من منظور ما ,و لكنها مقبولة من منظور
آخر ,فاألحرى بنا أن نعيد النظر فى جدوى المنظور الغير قادر على ايجاد تفسير لتلك الظواهر
و لنتأمل معا مثاال آخر من قصة الصراع بين المصريين و االسرائيليين كما وردت فى المصادر
التوراتية .جاء فى سفر الخروج ( )7أن يهوه يخاطب موسى قائال -:
*** اذا طلب منك فرعون أن تقوم بمعجزة ,فاأمر هارون أن يأخذ عصاه و يلقيها أمام فرعون
ثم يطلب فرعون من موسى و هارون أن يصنعا معجزة ,فيأخذ هارون عصاه ويلقيها فتتحول
*** و هنا دعا فرعون حكماء و سحرة مصر ,و ألقى كل منهم عصاه فتحولت الى ثعبان ***
و يبدو أن تحويل العصا الى حية كان شيئا عاديا بالنسبة لقدرات السحرة فى مصر القديمة .
و لكن الفكرة األساسية التى تدور حولها القصة التوراتية ليست تحويل العصا الى حية .
ف القصة التوراتية ال تدور فى األساس حول فكرة التحول و الصيرورة من عصا الى حية ,و انما
الرمز للتعبير عن استعالء اله اليهود "يهوه" على اله المصريين .
مشهد تخيلى ألحد فنانى العصر الحديث يصور مشهد تحويل العصا الى حية كما ورد فى المصادر
التوراتية
تشير العديد من األدلة األثرية الى أن تحويل شئ يبدوا جامدا خاليا من الحياة الى شئ تسكنه
كان ذلك جزءا من منهج تدريب الكاهن الساحر و كان يمارس بشكل يومى .
على سبيل المثال ,كانت صور ال "نترو" المحفورة على جدران المعابد تتحول الى صور حية
استعرضا فى الفصل السادس الفكرة الماورائية التى تقوم عليها طقوس احياء الصور المقدسه ,
ان فكرة تحويل العصا الى حية تستند الى نفس المبدأ الذى تستند اليه فكرة احياء الصور المقدسة ,
مع الفارق ,و هو أن احياء الصور المقدسة فى مصر القديمة كان جزءا من علم السحر و هو ركن
أساسى فى الفكر الدينى المصرى و من المعرفة االلهية ,بعكس قصة تحول العصا الى حية فى
المصادر التوراتية و التى تدور حول وصم علم السحر و تصوره على أنه نقيض الدين و نقيض
و هناك قصة رواها الشاعر الرومانى -السورى المولد " -لوسيان" الذى عاش فى القرن الثانى
الميالدى تدور أحداثها حول شاب يونانى يدعى "ايوقراتيس" سافر الى مصر ليتلقى العلم على يد
كهنتها .
وصل "ايوقراتيس" فى رحلته الصوفية الى مدينة طيبة (األقصر) ,و هناك جلس تحت تمثالى
ممنون فى حالة من التأمل و االسترخاء فهبط عليه االلهام و الوحى بأبيات من الشعر .و بعد أن
انتهى من زيارة طيبة ركب قاربا قاصدا مدينة منف ,و هناك تعرف على مسافر آخر قاصدا نفس
الوجهة .
و من حديث ايوقراتيس مع ذلك المسافر عرف أنه ساحر مصرى و أنه أمضى ثالثة و عشرين
عاما فى قبو تحت األرض يتعلم السحر من ايزيس ربة السحر .
كان بمقدور ذلك الساحر أن يروض التماسيح و يمتطيها و كانت لديه قدرات هائلة على التحكم فى
توطدت الصداقة بين ايوقراتيس و بين الساحر المصرى أثناء رحلة القارب من طيبة الى منف ,
و هنا عرض الساحر المصرى على ايوقراتيس أن يستضيفه فى بيته فى منف ,فقبل ايوقراتيس
رأى الساحر يأتى بمكنسه و يلبسها ثوبا من الكتان و يقرأ عليها كلمات سحرية ,فتدب فيها الحياة
و تتحول الى خادم مطيع و تنفذ أوامر الساحر و تقوم بكل أعمال الخدمة فى البيت كالطهى
و الكنس و غسل المالبس .و بعد انتهاء األعمال المنزلية يقرأ الساحر كلمات أخرى فتتوقف
الحظ ايوقراتيس أن الساحر بمقدوره أيضا أن يحول أشياء مادية أخرى الى كائنات حية ,مثل
و كلنا بالطبع نعرف بقية القصة كما اقتبسها "والت ديزنى" و قدمها فى فيلم الرسوم المتحركة
الشهير فانتازيا المقتبس عن قصة الساحر التلميذ للشاعر األلمانى جوته ,و التى اقتبسها بدوره عن
كان ايوقراتيس شغوفا جدا بالسحر ,و قد راودته الرغبة فى أن يجرب بنفسه و يحاول أن يأتى
أسترق ايوقراتيس السمع و أنصت جيدا الى الساحر و هو يلقى بالكلمات السحرية التى تحول
و عند خروج الساحر المصرى من البيت ,أراد ايوقراتيس أن يمارس السحر بنفسه فأتى بمكنسه
و قرأ عليها الكلمات السحرية التى سمعها من الساحر المصرى ,و ياللعجب ,فقد دبت فيها الحياة
و تحولت الى خادم وقف أمامه ينتظر األوامر ليبدأ العمل .
و هنا أصدر ايوقراتيس أوامره للمكنسه الخادم بأن تذهب و تحضر الماء له من النهر لكى يغتسل .
و امتثلت المكنسه لألوامر و بدأت فى تنفيذها و جلبت الماء و سكبته فى الصهريج ,ثم عادت
و جلبت المزيد من الماء ,و عادت و جلبت المزيد ,ثم أعادت الكرة بدون توقف .
و هنا بدأ ايوقراتيس يدرك أنه فى مأزق ,فهو لم يتعلم كيف يوقف المكنسه .
استمرت المكنسه الخادم فى جلب الماء بدون توقف و أوشك الماء أن يتحول الى طوفان يغرق بيت
حاول ايوقراتيس أن يقف فى طريق المكنسه الخادم و يمنعها من جلب الماء فلم يستطع ,و وسط
حالة اليأس و الهلع التى انتابته قام بكسر المكنسه فانشطرت الى نصفين ,و لكن ذلك لم يوقف
الكارثه و انما ضاعف حجمها ,ألن المكنسه الواحدة تحولت اآلن الى مكنستين فأصبح هناك
و لكن عودة الساحر المصرى للبيت منعت الكارثه فى الوقت المناسب .فبمجرد وصول الساحر
بدأ فى قراءة التعويذة السحرية الخاصة بايقاف المكنسه فتوقفت عن جلب الماء ,ثم قرأ تعويذة
كان لوسيان كاتبا ساخرا ,و لكن قصصه لم تكن كلها محض خيال ,فهناك شئ من الحقيقة فى هذه
القصص .
يمكننا أن نصف القصة بأنها خيالية ,و لكننا فى نفس الوقت يجب أن نتذكر أنها تنتمى الى نفس
نوعية القصة التوراتية التى تحولت فيها عصا هارون الى حية .
هل يجدر بنا أن ننظر الى مثل هذه النوعية من القصص على أنها مجرد حكايات تروى للتسلية ؟
اذا قرأنا قصص السحر فى مصر القديمة داخل سياق الفكر الدينى المصرى الذى يرى أن لكل شئ
روح – حتى الجماد – و أن بمقدور االنسان أن يتصل بأرواح األشياء ,فان ذلك سيجعلنا نتمهل
قليال قبل أن نبادر بتصنيف قصص السحر المصرية على أنها خيالية .
و اذا فرضنا جدال أن قصة عصا هارون حقيقية و أن هناك جماعة من الناس رأوا العصا و هى
تتحول الى حية ,فهل يعنى ذلك ان العصا تحولت بالفعل الى حية ؟
و اذا قبلنا جدال أن مثل تلك المواجهة بين هارون و موسى من ناحية و بين فرعون من ناحية
أخرى وقعت ,فلماذا تشكل واقعة تحول العصا الى حية تحديا لعقل انسان العصر الحديث ؟
و السبب هو أن االنسان المعاصر اعتاد على رؤية الطبيعة من منظور يرفض تماما وقوع مثل هذه
األحداث .
ان مصطلح قانون الطبيعة نشأ فى زمن قريب نسبيا ,و هو مصطلح يعبر عن نظرة االنسان
فنحن ننظر للطبيعة على أنها "هناك" خارجنا ,و أنها شئ منفصل تماما عن كياننا الروحى .
و من هنا جاء تفسيرنا للظواهر الطبيعية على أنها تتبع قوانين مجردة موضوعية ,وذلك على
عكس نظرة انسان الحضارات القديمة التى ترى أن الكيانات االلهية هى المحرك لمظاهر الطبيعة .
تلك النظرة الخارجية للطبيعة هى جزء من وعى االنسان المعاصر الذى يدور فى فلك األنا
و الشخصانية ,حيث يحرص االنسان دائما على أن يفصل بين ما ينتمى لشخصه و ذاته و بين ما
و هكذا ننظر الى األشياء التى تحدث خارجنا باعتبارها تقع فى عالم خارج حدود أفكارنا
هذا المستوى من الوعى الذى يفصل بين العالم الباطنى الذاتى و بين العالم الخارجى الموضوعى
هو تجربة جديدة على االنسان نشأت و تطورت منذ حوالى 2111عام و تطورت عبر التاريخ الى
أن انتهت مؤخرا بنظرة للطبيعة تختلف تماما عن نظرة انسان الحضارات القديمة .
ان وعى االنسان لم يستمر كما هو طوال التاريخ و انما مر بعملية تحول وصيرورة .
فانسان الحضارات القديمة كان يرى الطبيعة حية .كل شئ فى الطبيعة تسكنه روح .
كل مظهر من مظاهر الطبيعة تحركه قوة كونية لها وعى و ذكاء .للطبيعة وجود باطنى ,أو
فالنفس و الروح ليست حكرا على االنسان ,و انما كل شئ فى الطبيعة له نفس و روح و هى
ان فكرة الطبيعة الحية قد ال تقدم لنا تفسيرا شامال للممارسات السحرية فى مصر القديمة ,و لكنها
اذا فهمنا أن النفس االنسانية هى امتداد لنفس الطبيعة و الكون ,و أن بمقدور االنسان أن يتصل
بالنفس الكونية و بأرواح الطبيعة و يتفاعل معها و أن مظاهر الطبيعة ليست مجرد أشياء مادية
تتحرك كاآللة و أنما هى كائنات حية لها نفس و روح ,عندها سنكون قد وصلنا الى األصل الذى
قامت عليه نظرية المعرفة فى الحضارات القديمة و عندها يمكننا استيعاب المعجزات و الخوارق
ان فكرة وجود نفس للطبيعة باالضافة الى الجسم أو المظهر المادى يعنى ضمنيا أن هناك عالقة
تداخل و تشابك بين النفس و الجسم أو المظهر المادى .و هنا بيت القصيد .
فا النسان يمكنه أن يشعر بالتغيرات النفسية فى الطبيعة بنفس القوة التى يالحظ بها التغيرات
الفيزيائية .
و كما رأينا فى الفقرات السابقة ,كان قدماء المصريين يخاطبون األرواح الشريرة و يخاطبون
كانت أرواح الطبيعة بالنسبة لقدماء المصريين حقيقة ,و هى حقيقة لم تفرض عليهم عن طريق
االعتقاد العقلى و انما هى حقيقة اكتشفها المصرى القديم من خالل المعايشة اليومية و االتصال
تكمن مهارة الساحر و براعته فى قدرته على أن يصل ما هو مادى بما هو روحى و يدمجهما معا
و السحر ال يعمل فقط على المستوى المادى وحده ,أو المستوى النفسى وحده أو المستوى الروحى
وحده و انما هو يعمل على المستويات الثالثة معا فى نفس الوقت .
للممارسات السحرية بعد نفسى و روحى (يشمل العالقة بالكيانات االلهية ) باالضافة الى البعد
المادى .فمثل هذه الممارسات السحرية تحدث من خالل عالقة التداخل و التشابك بين مستويات
الوجود الثالثة (المادى و النفسى و الروحى) فى سلسلة من األحداث يصعب فيها تمييز هذه
قد يميل البعض لتفسير الممارسات السحرية باعتبارها ظواهر نفسية أو نوع من الهلوسه الجماعية
و لكن هل من الحكمة تفسير مثل تلك الظواهر انطالقا من وعينا الذى يرى الكون من منظور
ان هذه الظواهر تعتبر حقيقة بالنسبة لمن عاصروها فى األزمنة القديمة .و اذا افترضنا جدال أن
أحد البشر المعاصرين ركب آلة الزمن و عاد لزمن قدماء المصريين و شهد احدى الممارسات
السحرية ,فقد تكون تجربته و رؤيته للموقف مختلفة تماما عن رؤية غيره من الحاضرين .
قدم عالم األنثروبولوجى "تيودور روزاك" ( )Theodore Roszakأحد األمثلة على االشكالية التى
يواجهها عقل االنسان المعاصر فى فهم األصل الذى تستند اليه الظواهر السحرية و الشامانية .
يحكى "تيودور روزاك" عن تجربة عالم أنثروبولوجى ذهب فى بعثه كندية لدراسة احدى قبائل
االسكيمو (ما بين عامى 0901و )0903عرفت باسم "اسكيمو النحاس" (, )Copper Eskimo
و هناك شهد عالم األنثروبولوجى تجربة شامانية فريدة ,اذ قام أحد الشامانز (السحرة) فى القبيلة
بطقس سحرى تحول فيها الى دب قطبى أمام أعين كل أفراد القبيلة و أمام أعين عالم
األنثروبولوجى الكندى .أكد أفراد القبيلة الذين حضروا الواقعة أنها حقيقة ال تقبل الجدال و أن
الشامان تحول بالفعل الى دب قطبى ,فى حين فسر عالم األنثروبولوجى الظاهرة التى رآها بعينيه
*** ألن سكان االسكيمو أدرى بالدببة القطبية منا ,لذلك فأنا أستنتج أن تفسيره خاطئ ***
فحكمنا على األشياء و تصنيفها الى حقيقى أو غير حقيقى هو نتاج وعينا الذى يرى فى الحواس
تتميز بالفصل بين ما هو داخل االنسان و بين الطبيعة التى تحيط به .
يقوم انسان العصر الحديث بتعريف نفسه عن طريق الفصل بين ما هو داخله و بين ما هو خارجه ,
و هكذا يبدو لنا أننا نعرف من أين نبدأ و أين ننتهى ,و يصبح لدينا احساس باألنا فى مواجهة
اآلخر .
لم يعرف قدماء المصريين مثل ذلك الوعى ,ألنه لم يكن قد تطور بعد .
فى مصر القديمة كان المعيار الذى يستند اليه االنسان فى الحكم على ما هو حقيقى و ما هو
كانت الحدود بين العوالم الباطنية و العوالم الخارجية أشبه بستار خفيف ,لم يكن قد تحول بعد الى
و لذلك كانت نظرة االنسان القديم للعالم المادى أعمق بكثير من نظرتنا .فالعالم المادى فى نظره
و فى نفس الوقت كان عالم الروح أقرب للعالم المادى ,و أقرب للموضوعية ,بمعنى أن خبرة
االنسان بعالم الروح لم تكن تجربة ذاتية لكل انسان على حادة و انما هى تجربة مشتركة بين كل
اعتاد انسان العصر الحديث أن ينظر للتجارب الروحانية باعتبارها خبرة ذاتية و ليست موضوعية
كان هناك ما يمكن أن نطلق عليه "الخيال الجمعى" ,و هو حياة باطنية جماعية تبدو فيها أحداث
معينة و كانها خبرة مشتركة بين العديد من األفراد و ليس شخصا واحدا فقط .
ان عالم األنثروبولوجى الذى حضر واقعة تحول الشامان الى دب قطبى لم يستطع أن يرى ما رآه
باقى أفراد القبيلة التى كانت معه فى نفس الموقف و بالتالى رفض الظاهرة السحرية و قام بتفسيرها
و اذا فرضنا أننا ركبنا معا آلة زمن و انتقلنا للماضى و شهدنا واقعة تحول عصا هارون الى حية
و اذا افترضنا أننا وقفنا أمام البحر عندما قام موسى بشقه بعصاه ,فهل كنا سنرى أى شئ غريب
يطرأ على مظهر ماء البحر أم أننا كنا سنرى البحر كما هو بدون تغير ,و ستقتصر رؤية المعجزة
ان بناء الواقع و رؤية الحقيقة ال تنفصل عن وعى من ينظر اليها ,أو بعبارة أخرى ان وعى
يقودنا ذلك الى البحث فى رؤية قدماء المصريين للنفس االنسانية ,و هو ما سنناقشه فى الفصل
التالى .
لكى نفهم وعى المصرى القديم ,علينا أن نتحرر أوال من األحكام المسبقة و من نظرتنا الحديثه
للوعى و للعالقة بين وعى الفرد و بين العالم المتجسد من حوله .
فاألحداث التى ينظر لها انسان العصر الحديث باعتبارها تجارب باطنية ذاتية لفرد واحد أو عدة
أفراد ,كانت تكتسب فى نظر االنسان القديم واقعية و مصداقية ال تقل عن مصداقية األحداث التى
ان العالقة بين الظاهر و الباطن هى عالقة متبادلة ,فكما أن لألحداث المادية بعدا باطنيا ,كذلك
األحداث الباطنية التى ينظر لها على أنها تقع داخل النفس يمكن أن تصبح واقعية و يختبرها االنسان
فى مصر القديمة لم يكن الفرق بين الظاهر و الباطن قد بلغ حد التناقض كما فى العصر الحديث .
تلك المخيلة الجماعية هى الرحم الذى خرجت منه التجارب الباطنية التى لم يعد لها وجود فى نفس
فى المخيلة الجماعية يمكن للشعب أن يمر بتجارب باطنية جماعية ال تنتمى لنفس انسانية واحدة أو
لفرد واحد و انما تعتبر جزء من التجارب النفسية لألمة كلها ,مع أنها تجارب ال تدخل فى نطاق
الحواس المادية .فالحواس المادية ليست هى الشئ الوحيد المشترك بين البشر جميعا ,فهناك
أيضا خيط آخر يربط بينهم جميعا على المستوى النفسى .
أما فى نظر انسان الحضارات القديمة فالتجارب الباطنية يمكن أن تتحول الى شئ موضوعى عام
فى بعض الممارسات السحرية قد تتلبس االنسان قوة كونية أو كيان الهى بحيث تختفى شخصيته
و تذوب فى ذلك الكيان االلهى ,و يتحول الشخص فى تلك الحالة الى ذلك الكيان االلهى .
هذا الشعور بالتحول الى كيان الهى ال يقتصر على الساحر فقط بل يمكن لمن حوله أن يالحظوا
من خالل تقمص شخصية الكيانات االلهية يمكن للساحر أن يأتى بأفعال فوق قدرات البشر العاديين
كانت القدرة على تقمص شخصية الكيانات االلهية من أهم مؤهالت الساحر و هى الدليل على
و بعيدا عن الممارسات السحرية ,نالحظ أن عالقة االنسان بالكيانات االلهية بوجه عام كانت تشكل
تأمل المصرى القديم الطبيعة حوله فأدرك حضور كيانات الهية تسكن كل شئ فيها .
لم تكن الكيانات االلهية فى نظر قدماء المصريين تسكن عالما منفصال عنا ,و انما هى تحيط بنا من
كل اتجاه و هى المحرك وراء كل مظاهر الطبيعة التى يتفاعل معها االنسان فى حياته اليومية .
و هنا علينا أن ننتبه الى أن الكيانات االلهية ال تنعكس فقط فى مظاهر الطبيعة و انما تنعكس أيضا
داخل النفس االنسانية و التى تعتبر امتدادا لنفس واحدة هى "النفس الكونية" .
على سبيل المثال ينعكس "ست" فى العديد من مظاهر الطبيعة مثل الصحراء و العواصف
و األعاصير ,كما ينعكس أيضا فى النفس االنسانية .فكل مظاهر العنف و القسوة و الوحشية
و هنا علينا أن ننتبه الى أن المصرى القديم لم يكن ينظر الى هذه الصفات على أنها شر مطلق .
و اذا أخذنا مثال آخر ,و ليكن تحوت ,نجد أنه يتجلى فى الطبيعة فى دورة حياة القمر ,كما يتجلى
فى النفس االنسانية (و هى امتداد للنفس الكونية) فى القدرة على التعلم و التفكير و التصرف بحكمة
و نفس المبدأ الذى ينطبق على ست و تحوت ينطبق على كل ال "نترو" (الكيانات االلهية) ,فكل
و حتى اذا لم يتم استحضار الكيانات االلهية بطقوس سحرية و اذا لم يحدث تقمص طقسى لشخصية
أحد الكيانات االلهية ,كان لدى عامة الشعب المصرى شعور عام بأن الكيانات االلهية حاضرة
تختلف درجة معرفة قدماء المصريين بالكيانات االلهية من الكهنة الى عامة الشعب ,اال أن الوعى
بوجود هذه الكيانات كان شيئا متاحا للجميع حيث المجتمع المصرى كله يدرك وجودها بشكل أو
بآخر .
من بين كل أفراد المجتمع كان على الساحر أن يقوم بتعزيز صلته بالكيانات االلهية و معرفتها
بشكل أكثر عمقا و تعقيدا من العامة و ذلك داخل اطار العلوم الباطنية و التدريبات الروحانية التى
يتم تدريسها فى بيت الحياة .هذا الحرص على تعزيز الصلة بالكيانات االلهية يبين لنا عالقة
أثناء التجارب النفسية يشعر معظم الناس بأن هناك قوة الهية قد تلبسته و لمست روحه و أنه انصهر
فيها .
و يعتبر تحوت و ست من أبرز األمثلة على ذلك ,اال أن الجمع االلهى فى مصر القديمة يحوى
ان ما يصفه االنسان المعاصر بأنه قدرات نفسية نابعة من ذات االنسان و شخصيته كانت فى نظر
من الخطأ أن نفسر ذلك االنعكاس بشكل سطحى فنقول على سبيل المثال أن االنسان يكتسب العنف
من الممكن أن يدخل االنسان فى عالقة خاصة جدا مع أحد الكيانات االلهية بحيث يتلقى من ذلك
و فى المقابل يمكن لالنسان أيضا تستبد به مشاعر معينة تبلغ من القوة و العنفوان قدرا هائال بحيث
لذلك علينا أن نكون حذرين عندما نحاول تصنيف الصفات السيكولوجية التى ترتبط بكل كيان الهى
فاألحرى بنا أن ننظر لكل كيان الهى على أنه مجال من الطاقة تتحرك النفس االنسانية داخله أو
خارجه .
و يمكننا تبين مالمح مجال الطاقة الخاص بكل كيان الهى عن طريق تأمل الصور و النصوص
و الطقوس الدينية التى ترتبط بذلك الكيان ,و هى مهمة صعبة تحتاج الى بحث مستقل .
و اذا أردنا أن نفهم وعى قدماء المصريين علينا أن ندرك أوال أن الكيانات االلهية فى نظرهم كانت
تدخل فى تشكيل بنية النفس االنسانية ,و علينا بعد ذلك أن نحاول تدريب أنفسنا على الشعور بوجود
و اليك عزيزى القارئ هذا المثال الذى يساعد على تقريب الصورة .
عرفت حتحور فى مصر القديمة بأنها ربة الحب و الموسقى و الغناء و الرقص ,و كان قدماء
المصريين يقومون باستحضارها فى أعيادها بعزف الموسيقى و انشاد األغانى و الرقص و شرب
فى المشهد التالى نرى موكبا من مريدى حتحور ,على اليسار نرى رجال يعزف على ناى مزدوج
من البوص ,و أمامه سيدة ترفع ثوبها و تضرب على فخذها مع ايقاع الموسيقى ,و أمامها سيدة
ترتدى ثوبا طويال و تمسك بزوج من الصفاقات و ترقص بحماس ,و أمامها رجل يعزف على
قيثاره .
( المشهد مسجل فوق اناء من الحجر الصابونى من مدينة قفط ,يعود الى 822عام قبل الميالد )
و كل أفراد الموكب يضعون فوق رؤوسهم زهرة لوتس ,رمز الميالد من جديد والدة روحانية .
يتحرك الموكب فى اتجاه مقصورة لحتحور (المقصورة ال تظهر فى هذا المشهد) و هم جميعا فى
ارتبطت تلك الحالة من البهجة بشكل خاص بمواكب و أعياد حتحور حيث يتم استحضارها من
و لكن ذلك ال يعنى أن حتحور تحضر بشكل آلى بمجرد ممارسة أى من تلك األنشطة .
فشرب النبيذ على سبيل المثال اذا زاد عن حده و ارتبط باالسراف تحول من شئ جميل الى شئ
حين يشعر االنسان بالشراهة و الشهوة فهو أقرب الى "ست" ,أما حين يشعر بخفة الروح
و فى تلك ال "حضرة" تمتزج أرواح المريدين بروح حتحور ,أو بعبارة أخرى ان روح
كان لكل كيان الهى فى مصر القديمة طريقة معينة الستحضاره ,و هى طرق تختلف من كيان الهى
الى آخر و ليس بالضرورة أن تكون بنفس الطريقة المتبعة الستحضار حتحور .
تقوم فكرة استحضار الكيانات االلهية أو ال "حضرة االلهية" على الخروج من وعى األنا السفلية .
فالكيانات االلهية هى قوى كونية أبعد من مستوى الشخصانية و األنا ,و لذلك على من يرغب فى
االتصال بهذه الكيانات أو استحضارها أن يلجأ الى تقزيم شعوره باألنا و الشخصانية .
و يبدو أن الحياة الروحية لقدماء المصريين كانت أعمق بكثير من حياتنا .
فالوعى الجمعى لقدماء المصريين كان لديه القدرة على االتصال بسهولة بنوازع النفس و ما فيها
من صور أولية و التى يصفها علم النفس الحديث بأنها الالوعى الجمعى .
كان وعى المصرى القديم باألنا و الشخصانية أقل حدة من وعى االنسان المعاصر بها ,و كان أكثر
و بمرور الزمن بدأ هذا التفتح فى الوعى فى الضمور ,و كلما قل الوعى الجمعى بالقوى الكونية
و اذا تأملنا النصوص و المشاهد التى تصور الكيانات االلهية فى مصر القديمة ,سنخرج من ذلك
بخريطة سيكولوجية للنفس االنسانية ,و هى خريطة تختلف تماما عن الخرائط السيكولوجية
الفرويدية (نسبة الى عالم النفس سيجموند فرويد) و اليونجية (نسبة الى عالم النفس كارل يونج) .
من أهم سمات األدب المصرى (بما فى ذلك النصوص الدينية) أن صفات االنسان تنعكس فى
فاألطراف األربعة و أعضاء الحس و األحشاء و حتى األسنان و العظام كانت فى نظر المصرى
على سبيل المثال اذا أراد المصرى القديم أن يعبر عن رغبة أو فكرة أو نية فانه يعبر عن ذلك
ارتبطت االرادة دائما فى األدب المصرى باألطراف األربعة ,حيث األرجل القوية و األذرع القوية
دائما ما تستخدم كتعبير مجازى عن قوة االرادة و عن قدرة المرء على تحقيق أمنياته و رغباته .
و هناك فصل فى كتاب الخروج الى النهار يحمل عنوان "اكتساب القوة فى األقدام" و من السياق
نستنتج أن نصوصه تدور حول اكتساب الروح قوة االرادة و التى رأى قدماء المصريين أن محلها
األقدام .
جاء فى أحد نصوص فصل "اكتساب القوة فى األقدام" من كتاب الخروج الى النهار العبارات التالية
*** صارت خطواتى عريضة ...و ارتفعت سيقانى ...لقد عبرت الصراط العظيم ,ألن أقدامى
قوية ***
ان ورود النص السابق فى سياق رحلة الروح فى العالم السفلى بعد الموت يؤكد أن العبارة ال يجب
أن تؤخذ بالمعنى الحرفى .و حتى المشاهد المصاحبة للنص تصور روح المتوفى على هيئة طائر
ال "با" (طائر اللقلق) و هى تخرج من المقبرة مستخدمة جناحيها كوسيلة للتنقل و ليس األقدام .
يصور المشهد التالى من بردية "خا -رع" خروج الروح من المقبرة على هيئة طائر ال "با" و هو
مشهد تكرر فى أكثر من بردية من البرديات التى تسجل رحلة الروح فى العالم السفلى .
و كما تشير عبارة "اكتساب القوة فى األقدام" الى صفة سيكولوجية ,هناك عبارات أخرى تعبر عن
*** البراعة و الحرص من صفات صاحب الهمة ...كل األعمال ينجزها من هو مدرب ,و الفعال
ان امتالك ساعدين يعنى أن يكرس االنسان جهده النجاز مهمة ما .
أما األقدام فهى التى تحمل االرادة ,و أما األيدى فهى تعبر عن عالقة المرء بغيره .
أن تمد يدك لشخص ما كان ذلك فى مصر القديمة تعبيرا عن ثقتك فى ذلك الشخص .
و فى كتاب الخروج الى النهار هناك مصطلحات استخدمت اليد كوسيلة للتعبير مثل عبارة "أن
يمكننا أن ننظر الى هذه الوسائل من التعبير على أنها عرف أو عادة أدبية مستوحاة من طريقة
الكتابة الهيروغليفية .بل يمكننا أن نقول أن قدماء المصريين كانوا منحصرين داخل النظام
فاللغة ليست فقط المركبة التى يستخدمها العقل للتعبير عن نفسه و انما هى العقل نفسه أثناء تعبيره
علينا أن ننتبه الى أن المصرى القديم لم يكن يفكر بنفس الطريقة التى نفكر بها فى عصرنا الحديث
,و انما كان يفكر بطريقة أقرب الى روح الكتابة الهيروغليفية .
و برغم استخدام الهيروغليفية لرموز مادية اال اننا ال نستطيع أن نصفها بالبدائية أو السطحية ,فهى
تعبر بطريقة رمزية راقية عن رؤية المصرى القديم للعقل و عالقته بالمستوى المادى و النفسى
للوجود ,و هما فى الحقيقة ال ينفصالن عن بعضهما البعض كما نعتقد نحن .
و قد طرحنا هذه الفكرة فى الفقرة السابقة و بقى أن ننتقل اآلن الى فكرة أخرى مكملة لما سبق
ان الطبيعة التصويرية للهيروغليفية جعلت من السهل علينا أن نترجم المعانى المرتبطة بالصفات
و ألن الهيروغليفية تستخدم الصور كرموز فهى ليست كأنظمة الكتابة الحديثه التى تفصل بين ما
هو مادى و ما هو معنوى ,أو بعبارة أخرى ان الهيروغليفية ال تفصل بين الباطن و الظاهر .
و هى ال تفعل ذلك ألن عقلية قدماء المصريين لم تكن تفصل بين االثنين .
عند قراءة النصوص المصرية القديمة تقابلنا العديد من التعبيرات التى تشير الى أن شعور المصرى
فأعضاء الحس و األطراف األربعة و األحشاء ,الخ كانت تبدو فى النصوص المصرية القديمة
و كأن كل منها كائن حى قائم بذاته له شخصية و صفات تميزه عن غيره .
على سبيل المثال ,األنف هى التى تتنفس و الفم هو الذى يتكلم و األذن هى التى تسمع .
فى أحد نصوص الحكمة فى مصر القديمة و المعروف باسم حكمة "مرى كا رع" نقرأ أن االله خلق
الهواء لكى تحيا به أنوف البشر .
ال "نترو" (الكيانات االلهية) تمنح أنفاس الحياة ألنف الملك تحتمس الرابع باستخدام مفتاح
جاء فى لوحة "سحتب" ( )Sehetepأحد التعبيرات التى استخدمت األنف ,اذ يقول أحد نصوص
اللوحة أن "األنوف تتجمد من البرد" حين يكون الملك فى حالة غضب .و هو تعبير مفعم بالحيوية
تحتل األنف موقعا هاما فى التركيب السيكولوجى لالنسان باعتبارها الوسيط الذى ينقل له الهواء
أن ينحنى شخص ما أمام أحد الكيانات االلهية أو أمام انسان ذو مكانة رفيعة بحيث تلمس أنفه
األرض كان ذلك تعبيرا عن أن حياة ذلك الشخص تعتمد على من ينحنى أمامه .
و كان وصف شخص ما بأن "شفاهه مستقيمة" يعنى أن ذلك الشخص صادق ,و هو من التعبيرات
كان الفم بالنسبة لقدماء المصريين هو الموضع الذى تدخل منه طاقة الحياة لجسم االنسان و هو
أيضا الموضع الذى تخرج منه .فالطقس السحرى الذى يهدف الحياء التماثيل و الصور المقدسه
(أى شحنها بالطاقة الروحانية) يطلق عليه طقس فتح الفم .و كذلك الطقس الذى يهدف لتحرير ال
"با" (الروح) من الجسد بعد الموت يطلق عليه طقس فتح الفم .
فى بردية "نب سنى" صور الفنان المصرى القديم طقس فتح الفم على يد حارس التوازن الذى يشير
االنتهاء من تحنيطها ,و أثناء الطقس يرتل الكاهن عبارات ,منها على سبيل المثال -:
*** لقد فتحت فمك بقادوم أنوبيس ...لقد فتحت فمك بالقادوم الحديدى الذى فتحت به أفواه ال
فى المشهد التالى صور الفنان المصرى القديم أحد الكهنة و هو يقوم برفع القادوم الحديدى الى فم
و هذا الطقس يشمل أجزاء أخرى من الجسد (مثل فتح العين) ,و لكن يظل الفم هو الجزء األهم .
و هناك عدة فصول من كتاب الخروج الى النهار مخصصة لطقس فتح الفم أو بتعبير آخر ( منح
كان للفم اذن صفات خاصة فى نظر قدماء المصريين .فهو يعتبر الوسيط بين البعد المادى و البعد
النفسى ,و هو همزة الوصل بين الحياة و الموت ,و بين الموت و البعث أو الميالد من جديد .
*** ان الملجأ و المالذ للملك ونيس هو عينه ...ففيها تكمن القوة التى ال تقهر ...فى عين الملك
العين هى مصدر الرؤية ,و هى مصدر القوة الداخلية ,ففيها تسكن الشجاعة أو عكسها (أى
لذلك نقرأ فى متون األهرام تعبيرات تصف الملك بأنه يضع الخوف فى أعين األرواح التى تنظر
و فى قصة سنوحى (و هى من عصر الدولة الوسطى) جاء هذا الوصف للملك على لسان سنوحى
فى مصر القديمة كان للعين صفات نفسية و سحرية ,و كان ذكرها فى بعض التعبيرات و الصيغ
هو اشارة للصفات التى ترمز لها العين .فامتالك البشر للعين يعنى امتالكهم لقدرات العين مثل
و العين فى نظر المصرى القديم هى كيان قائم بذاته له وعى و ذكاء يتواجد فى عالم الصور األولية
أو عالم الجوهر /الروح .و فى تلك الحالة يطلق عليها "وادجت" ,و هى رمز القدرة االلهية على
خلق حياة جديدة و فى نفس الوقت على هدمها .و قد اتخذها المصرى القديم رمزا للحماية .
صور الفنان المصرى القديم عين ال "وادجت" بأجنحة فى بعض األحيان ,و فى أحيان أخرى
فى المشهد التالى و هو من احدى مقابر الدولة الحديثه صور الفنان المصرى العين و هى تمد
ذراعها و تقدم البخور قربانا ألوزير ,و تحت العين يجلس صاحب المقبرة "باشدو" رافعا ذراعيه
قد يبدو المشهد غريبا أمام أعين القارئ ,و لكنه يؤكد لنا أن العين فى نظر المصرى القديم كان
لها شخصية مستقلة و اال ما كان لرمز ال "وادجت" مثل هذه الحيوية التى تنعكس فى الفن .
و من الجدير بالتأمل أن األذن لم تحظى فى مصر القديمة بنفس استقاللية العين .
فالصورة األولية للعين هى فى األصل صورة كونية ,أى أن العين وجدت أوال كمبدأ كونى أو كيان
الهى ثم تجلت العين الكونية بعد ذلك فى أكثر من هيئة .فالشمس و القمر هما أعين حورس ,رب
أما األذن فلم يكن لها مثل هذه الشخصية الكونية .
و لكنها على أية حال كانت ترمز لصفات نفسية مثلها مثل العين .
فى مصر القديمة ,كان لفعل اصغاء السمع معنى أعمق من المعنى الذى ندركه فى عصرنا الحديث
لذلك قال الحكيم "بتاح حتب" ,الذى عاش فى عصر الدولة القديمة -:
*** من يحسن السمع يحبه االله ....و من ال يحسن السمع يمقته االله ***
فى مصر القديمة كانت موهبة اصغاء السمع شرطا أساسيا الدراك عالم الروح .
و ألن الكون أتى للوجود من خالل كلمة الخلق التى نطقها االله فى األزل ,لذلك فان السمع هو
الحاسه التى تفتح وعى االنسان الدراك أعمق مستويات الوجود .
و ألن بتاح هو االله الذى نطق كلمة الخلق األزلية ,لذلك كان هو االله السميع .
و لكن صفة السميع لم تكن حصرية لبتاح فقط ,و انما هناك العديد من الكيانات االلهية التى وصفت
بأن "كلها آذان صاغية" مثل تحوت و ايزيس و حورس ,و هى عبارة تدل على أن هذه الكيانات
االلهية حكيمة و رحيمة ,ألنها تستمع الى رجاء االنسان و ابتهاله و تستمع فى نفس الوقت الى
و مفهوم االله السميع هو األصل تستند اليه فكرة ألواح األذن و هى ألواح كان قدماء المصريين
ينقشون فوقها صورا آلذان مصحوبة بعبارات ابتهال و دعاء للكيانات االلهية ,ألن من صفات
و الى جانب األطراف األربعة و أعضاء الحس كانت األحشاء أيضا فى نظر قدماء المصريين
جاء فى تعاليم الحكيم "بتاح حتب" الذى عاش فى عصر الدولة القديمة أن البطن هى الموضع
توصف البطن أحيانا بأنها باردة أو ساخنه .على سبيل المثال توصف الغيبة و النميمة بأنها قئ
شخص ذو بطن ساخنة ,أما الشخص الودود فيوصف بأنه ذو بطن باردة .
و فى تعاليم الحكيم "كاجمنى" من عصر الدولة القديمة وصفت البطن و كأن لها شخصية
سيكولوجية مستقلة .و فى تلك التعاليم نقرأ على سبيل المثال -:
*** الوضيع هو من تشتهى بطنه الطعام بعد أن يفرغ من تناول وجبته ***
فى مصر القديمة كانت البطن هى موطن الشهوات و فى نفس الوقت هى أيضا الموضع الذى تكمن
فى الفصل السابق رأينا كيف يقوم السحرة باستحضار طاقة ال "حكا" (السحر) و ابتالعها
*** سأعرج الى السماء ,بقوة ال "حكا" (السحر) المختزن فى بطنى ***
فى مصر القديمة يوصف الرجال األقوياء بأنهم أصحاب بطون كبيرة .
و الطريقة التقليدية التى عبر بها قدماء المصريين عن المكانة الرفيعة و الهيبة التى يتمتع بها رجال
المجتمع هى تصويرهم فى وضع الوقوف مع مد الساق اليسرى خطوة واحدة لألمام ,و االمساك
بعصا طويلة فى اليد اليسرى ,و وضع صولجان فى اليد اليمنى .
و المشهد التالى لواحد من أهم و أشهر تماثيل عصر الدولة القديمة و يعرف باسم تمثال شيخ البلد
و هو للكاهن المرتل "كا عبر" الذى يقف فى هذا الوضع التقليدى ,فى يده اليسرى عصا طويلة
و فى يده اليمنى صولجان (ربما كان مفتح الحياة) -و لكن الصولجان لم يعد موجودا .
كان الكاهن "كا عبر" من أهم شخصيات المجتمع المصرى فى عصر األسرة الرابعة ,دولة قديمة ,
و كان يتمتع بالهيبة و االحترام ,و قد حرص الفنان المصرى القديم على ابراز البطن الكبير للكاهن
ان ما يختزنه االنسان فى بطنه من صفات و قدرات يصبح جزءا من تكوينه السيكولوجى و يشكل
عاداته و غرائزه و دوافع عقله الباطن .و ما يختزن فى البطن يبقى لألبد .
عندما أراد الحكيم "بتاح حتب" التعبير عن فكرة دوام الحب الى األبد ,وصف الحب بأنه يبقى فى
كانت البطن فى نظر قدماء المصريين هى البوتقة التى تنصهر فيها صفات االنسان و قدراته
فى عصر الدولة الحديثه وصف الحكيم "أمنموبى" البطن بأنها التابوت الذى يدفن فيه االنسان .
فالجانب السلبى للبطن يعتبر هو المقابل للقلب .يقول الحكيم أمنموبى -:
*** ال تدع قلبك يتبع معدتك ...فمن يفعل ذلك يستبدل الحب بالغرائز ,و يصير قلبه فارغا ,
و جسده مدنسا ,غير ممسوح بالزيت العطرى ...ان اتساع القلب من أعظم عطايا االله ...
هناك دائما ازدواجية فيما يخص البطن .فهى موضع القدرات الروحانية لالنسان ,و فى نفس
و عند ذكر البطن فى مقابل القلب يكون المعنى المقصود فى الغالب هو المعنى السلبى .
القلب هو المركز الروحى لالنسان ,و هو الموضع الذى يقترب فيه االنسان من كائه (نسخته
*** اتبع قلبك ما دمت حيا ...ال تهمل قلبك ,ألن ذلك يضعف ال "كا" ***
فى المشهد التالى من كتاب الخروج الى النهار للكاتب "آنى" من عصر الدولة الحديثه يظهر "آنى"
و هو يرفع كفيه بالتحية و التبجيل و أمامه صورة ترمز لقلبه الذى وضع فوق عامود مرتفع أمام
أربعة من ال "نترو" فى وضع الجلوس فوق منصة ترمز للماعت (النظام الكونى /االتزان) .
*** أنت ال "كا" التى تسكن جسدى ,و التى تشكل أعضاءه و تمنحه طاقة الحياة ***
و ال "كا" فى نظر قدماء المصريين هى مصدر الطاقة الحيوية و العنفوان .لذلك فان تعبير غسل
القلب فى اللغة المصرية القديمة يحمل دالالت تتعلق بالعنفوان و أحيانا بالنشوة .
على سبيل المثال يقال عن الشخص الذى يبتهج قلبه أثناء ممارسة رياضة الصيد أنه يغسل قلبه .
كما يقال أحيانا عن الشخص الذى ينفجر فى نوبة غضب أنه يغسل قلبه .
و القلب فى الفكر الدينى المصرى هو ذلك العضو الذى به يتأمل االنسان .يقول الحكيم "بتاح
فى القلب و من خالله يمكن لالنسان أن يفهم الحياة بشكل أعمق و يحيا فى تناغم معها .
جاء فى أحد النصوص المصرية القديمة و يطلق عليه لوحة "آنتف" (من عصر الدولة الوسطى) -:
*** أنا من ينصت السمع الى الماعت ,و يتأملها بقلبه ***
القلب هو أيضا مركز الذاكرة الروحية و هو محل النية و القصد و العزم .
و الفرق بين رغبات القلب و رغبات البطن ,أن رغبات البطن تنبع من الذات الدنيا (األنا السفلية)
و تعبر عن الشهوة و لذلك فهى مخالفة للماعت ,بعكس رغبات القلب التى تنبع من الروح (األنا
العليا) و تعبر عن الماعت و تتوافق معها ,أو هكذا يجب أن تكون .
القلب هو أكثر أعضاء الجسد قربا للروح و هو فى األصل نقى /طاهر /سليم ,الى أن تلوثه
لذلك كان من الضرورى تطهير القلب أوال بأول من الرغبات الدنيا .
لذلك نقرأ فى النصوص المصرية القديمة أحيانا تحذيرات من أن يختم االله على قلب المرء ,أو أن
الطهارة و النقاء هما فطرة القلب ,و لذلك قيل أن القلب هو األصل و السبب فى وجود االنسان .
فى الفصل رقم 11من كتاب الخروج الى النهار نقرأ العبارة التالية ألحد المرتحلين فى العالم
و العبارة السابقة يتبعها دعاء أو ابتهال روح المتوفى لقلبه راجيا اياه أن ال يكون شاهدا ضده يوم
الحساب ,و كأن القلب شخص آخر أو كيان مستقل بذاته عن صاحبه .
و فى عصر الدولة الحديثه تصادفنا نصوص أخرى تصف القلب بأنه محراب االله الذى يدخله
القلب اذن هو ذلك الجزء من كيان االنسان الذى ينتمى للعالم االلهى الذى تحكمه الماعت ,و لذلك
القلب هو البذرة النقية الطاهرة الغير قابلة للفساد ,لذلك كان القلب هو الشاهد الذى تسمع كلمته
*** يا قلبى ,كان فى صفى و ال تشهد ضدى ...كن فى سالم و تناغم معى ***
و النص السابق ورد فى بردية "نب -سنى" و قد سجله قدماء المصريين مصحوبا بمشهد تصويرى
يقوم أنوبيس بمنح "نب -سنى" القلب و كأنه يمنحه كنزا عظيما ,و يتسلم "نب -سنى" القلب
و كان للرأس أيضا مغزى عميق فى الفكر الدينى المصرى .فمن بين كل أعضاء الجسد كانت
فى الكتابة الهيروغليفية كانت رأس االنسان وحدها تكفى للداللة على االنسان بوجه عام ,و كذلك
تقول أسطورة ايزيس و أوزيريس أن رأس أوزير دفنت فى أبيدوس و هو ما يعنى ضمنيا أن
شخص و تبرز تفرده عن غيره ,لذلك كانت هى أكثر األعضاء قدرة على التعبير عن الكيان
االنسانى ككل و هى ليست كأعضاء الجسد األخرى التى يمكن لكل منها أن يبدو كشخصية
و من األشياء الجديرة بالتأمل أن الفنان المصرى القديم كان يصور ال "با" (الروح) بعد تحررها
من الجسد (أى بعد الموت) على هيئة طائر برأس انسان يحمل مالمح وجه الشخص المتوفى .
الشكل التالى هو جزء من كتاب الخروج الى النهار من بردية "نب -سنى" و قد صوره الفنان
المصرى فى صورة طائر برأس آدمى يحمل مالمح وجه "نب سنى" ليعبر بذلك عن ال "با"
ال "با" (الروح) على هيئة طائر برأس آدمى يحمل مالمح وجه "نب -سنى"
كان من الضرورى للمرتحل فى العالم السفلى (دوات) فى هيئة ال "با" أن يستعيد رأسه (كينونته) .
لذلك نقرأ فى كتاب الخروج الى النهار العبارات التالية على لسان الكاتب "آنى" أثناء ارتحاله فى
*** ان رأس أوزير لم تنفصل عنه ...ان رأس "أوزير – آنى" لن تنفصل عنه ...لقد أعدت جمع
أوصالى ,و استجمعت كيانى كامال ...و عدت شابا ...أنا أوزير ,رب ال "جد" (األبدية) ***
من كل ما سبق يمكننا أن نستخلص أن ال "كا" أقرب الى القلب بينما ال "با" أقرب الى الرأس .
حين نتأمل النصوص المصرية القديمة التى تشير الى الجسد ككيان كامل بدال من تقسيمه الى
أعضاء يبدو لنا أن الجسد كان فى نظر قدماء المصريين شيئا خامال هامدا .
فى الفلسفة المصرية القديمة كانت أعضاء الجسد هى المسكونة بالروح ,و هى التى تحمل صفات
حيوية و نفسية مميزة .أما الجسد ككل فهو يفتقد تلك الحيوية .
و من أكثر الكلمات المستخدمة فى مصر القديمة للتعبير عن الجسد المادى كلمة "خات" .
يقول عالم المصريات االنجليزى "والس بدج" فى تفسير كلمة "خات" -:
*** عبر المصرى القديم عن الجسد المادى ككل بكلمة "خات" ,و هى تعبر عن شئ قابل للعطب
و التفكك .تستخدم هذه الكلمة للداللة على الجسد الحى و أيضا على الجسد المحنط و المدفون فى
المقبرة .و لذلك نصادف فى كتاب الخروج الى النهار تعبيرات على لسان المتوفى يقول فيها ان
و هناك كلمة أخرى تعبر عن الجسد ,و هى كلمة "شا" أو "شات" و تكتب بالهيروغليفية باستخدام
مخصص على شكل قطعة لحم .و نالحظ أن هذا المخصص يعبر عن فكرة العطب و التحلل (أى
و مثل هذا التعبير ينطبق على الجسد ككل ,و ال ينطبق على كل عضو من أعضائه على حده ,
فى مصر القديمة كان الجسد بوجه عام هو الذى يعود لألرض بينما تذهب أعضاء الجسد (أو بمعنى
أدق تذهب صفاتها النفسية على هيئة نسخة أثيرية) الى العالم السفلى ألن كل عضو على حدة يحمل
هذه الصفات تبقى حية فى العالم السفلى حتى بعد انفصالها عن الجسد المادى الذى تتركه على
رأى المصرى القديم أن هذه الصفات النفسية/الروحية ال تنتمى للجسد المادى ككل ,و انما تنتمى
لكل عضو من األعضاء التى تشكل الجسد و تهبه طاقة الحياة .
و عند النظر للجسد ككل نالحظ أنه مستقبل لطاقة الحياة و ليس واهبا لها .
لذلك فان أقرب ترجمة لكلمة "خات" أو "شات" هى جثه أو جثمان .
كل ما سبق يشير الى أن العالقة بين الجسد و النفس و الروح فى مصر القديمة كانت مختلفة عما
يعرفه انسان العصر الحديث .حيث وجود األعضاء المختلفة التى يتكون منها الجسد سابق على
فى النصوص المصرية القديمة تصادفنا عبارات تصف أعضاء الجسد ككيانات حية مستقلة بذاتها .
هناك أيادى و أذرع و أرجل و بطون و قلوب حية ,و لكن حين يصادفنا الجسد الكامل نجد اللغة
المصرية القديمة تتحدث عنه و كأنه جثه هامدة تخلو من الحياة .
و هنا نالحظ وجود تشابه بين نظرة قدماء المصريين للجسد الحى باعتباره مجموع أعضاء أو
فالشاعر االغريقى هوميروس استخدم كلمة "سوما" بمعنى جثه أو جثمان ,و هى الكلمة التى
نفس الفكرة تنطبق أيضا على حضارة ما بين النهرين التى رأت فى كل عضو من أعضاء الجسد
على حدة (كالكبد و القلب و الرأس) مركزا لصفات نفسية و روحية .
لذلك نقرأ فى أدب حضارة ما بين النهرين تعبيرات تصف الكبد على سبيل المثال بأنه يبتهج أو يهدأ
,و تصف القلب بأنه يلين أو يقوى و تصف األحالم بأنه تحدث فى الرأس .
و لكن ذلك ال يعنى أن سكان الحضارات القديمة كانوا مصابين بالشيزوفرينيا .
ان وعى االنسان القديم لم يكن منفصما ,و انما هو صحيح ,و لكننا غير قادرين على فهمه ألن
رؤية االنسان القديم للحياة و الروح كانت تختلف عن رؤيتنا لها .
فى الحضارات القديمة كان االنسان يختبر حياة الروح من خالل الوجود المادى ,و كان الباطن
يتجلى من خالل الظاهر .فى ذلك الزمن لم يكن وعى االنسان يفصل بين الروح و الجسد ,أو بين
كل عضو من أعضاء الجسد هو وعاء يحمل صفات و قدرات نفسية معينه .
ال يوجد عضو من أعضاء جسم االنسان ليس له وجود باطنى الى جانب وجوده المادى الظاهر .
و كذلك ال يوجد شئ فى الطبيعة ليس له وجود باطنى الى جانب وجوده المادى الظاهر .
كانت الروح فى نظر قدماء المصريين عبارة عن وحدة تجمع بين قدرات و وظائف نفسية متعددة
ذات شخصية مستقلة موزعة على مختلف أعضاء الجسم المادى .
لذلك يشار الى الجسد فى كثير من األحيان بكلمات فى صيغة الجمع مثل كلمة "هاو" (و تعنى
أعضاء) ,بينما تعبر الكلمة التى تشير للجسد ككل عن الموت و تترجم الى جثه أو جسد هامد .
كل عضو من أعضاء الجسد هو وعاء يحوى صفة من صفات الروح .
فقط عند الموت أو أثناء تجارب خارج الجسد يكتسب االنسان وعيا بالذات ككيان متوحد ,و هو
شعور يرتبط برؤية الجسد من الخارج ,لذلك نجد فى الفن المصرى صورا للروح (با) و هى تنظر
كان المصرى القديم يكتسب ذلك الوعى الباطنى بالذات ككيان متوحد (حى) فى مقابل الجسد
على المصرى القديم أن يمر بتجربة االنفصال العنيف و الصادم عن الوعى المادى -النفسى لكى
و كان الخروج من وعى الجسد هو الهدف الذى تقام من أجله طقوس الوالدة الروحانية فى مصر
القديمة و هى السياق الذى يمكننا من خالله فهم المصطلحات النفسية و الروحية فى مصر القديمة
على سبيل المثال كلمة "با" تترجم عادة بلغاتنا الحديثه الى روح ,و لكنها تعنى على وجه الدقة
و بعد أن أدركنا أن النفس فى نظر المصرى القديم كانت موزعة على مراكز نفسية متفرقة مستقلة
بذاتها تتخذ من أعضاء الجسد وعاءا لها علينا أن ننتبه أيضا الى أن المصرى القديم فى حياته
اليومية العادية لم يكن يعى ذاته بنفس الطريقة التى يعى بها انسان العصر الحديث ذاته و كيانه .
فالمصرى القديم كان يفتقد الشعور بمركزية النفس ,أو بعبارة أخرى ان وعيه لم يكن يتمركز حول
األنا .
اذا كانت األنا فى نظرنا هى المركز الذى يحتضن قدرات و وظائف متعددة مثل التفكير و الشعور
و الرغبة و النية ,فان المصرى القديم لم يكن لديه مفهوم مساوى لهذه األنا المركزية .
كان المصرى القديم يعزى هذه القدرات و الوظائف النفسة و الروحية مثل التفكير و الشعور
و الرغبة الى أعضاء الجسد المتفرقة التى يتخذ كل منها شخصية مستقلة ,بل انه فى كثير من
األحيان كان يرى أن هذه القدرات النفسية ال تنبع من النفس االنسانية و انما تنبع من ال "نترو"
من ذلك المنظور يمكننا أن نفهم النصوص المصرية القديمة التى تبتهل ألعضاء جسد االنسان
مختلف أعضاء الجسد .و من تلك النصوص ما ذكرناه فى السابق ( شعرى هو نون ,و جهى هو
رع ,و عينى هى حتحور ,و أذنى هى ويبواويت ....و هكذا الى أن نصل للقدمين ) ,و ينتهى
النص بالتأكيد على أنه ال يوجد عضو من أعضاء الجسد ال يسكنه كيان الهى .
كان على كل عضو من أعضاء الجسد على حدة أن يكون داخل مجال القدرات النفسية و الروحية
ان حضور الكيانات االلهية ال ينعكس فقط فى مظاهر الطبيعة كاألنهار و الصحارى و النباتات
و الحيوانات و انما ينعكس أيضا فى النفس االنسانية من خالل أعضاء الجسد كالشعر و الوجه
و العين و األيدى .بادخال الكيانات االلهية الى داخل النفس استطاع المصرى القديم اكتساب شعور
فى مصر القديمة لم تكن التجربة النفسية تنبع من ذات كل انسان على حدة و هو ما يعنى أن شعور
قدماء المصريين باألنا (الذات المنفصلة عن اآلخر) كان أضعف من شعور انسان العصر الحديث .
فى طقوس الوالدة الروحانية التى كانت تجرى فى مصر القديمة (من خالل تجارب خارج الجسد)
كان على االنسان أن يمر بتجربة التمزق الكامل للنفس لكى يعيد بناءها من جديد بشكل أقوى .
ان فكرة تمزق الجسد المادى التى ذكرت فى أسطورة موت أوزير يتضح معناها حين ننظر لها فى
هذا السياق .حيث يرمز تمزق جسد أوزير و أيضا تمزق جسد من يقوم بتجربة الموت الطقسى
لتمزق النفس التى تموت ثم تبعث من جديد و هو ما يعرف بالوالدة الروحانية أو الوالدة الثانية .
فى مصر القديمة كان تمزق جسد أوزير هو الصورة األولية للتمزق النفسى الذى يختبره من يقوم
هذا التمزق النفسى هو البوابة التى يعبر من خاللها االنسان الى حالة من الوحدة النفسية تتجاوز
تعبر فكرة تجميع أجزاء جسد أوزير الممزق عن وعى جديد يقوم على عالقة جديدة بين االنسان
*** يا أوزير ,كما تمتلك قلبك و كما تمتلك قدميك ,و كما تمتلك ذراعيك ...كذلك صار قلبى
ملكى ,و صارت قدماى ملكى ,و صار ذراعاى ملكى ...لقد وضع لى معراجا كى أصعد فوقه
للسماء ..هأنذا أصعد للسماء وسط عطر البخور المتصاعد من المبخرة ***
تعبر فكرة امتالك االنسان ألعضاء جسده عن مستوى جديد من الوعى تندمج فيه مختلف الصفات
و القدرات النفسية التى تسكن أعضاء الجسد فى مركز واحد للوعى .هذا المركز ال يقع فى الجسم
*** لقد صارت أعضاء جسدى متوحدة بعد أن كانت خفية ...لقد انبعثت اليوم من جديد فى صورة
و صورة الروح الحية هى الصورة الجديدة التى اكتسبها الملك ونيس بعد اعادة جمع أعضاء جسده
ان النص السابق يعنى ضمنيا أن تجربة تمزق جسد الملك ونيس جعلته يصل الى شعور بوحدة
الذات و اكتمالها و الى شعور قوى بأنه صار روح حية ذات شخصية مكتملة مستقلة .
و بعبارة أخرى ان تجربة تمزق الجسد هى العقبة التى يجب على االنسان اجتيازها لكى يصل الى
الوعى المكتمل بالذات و الذى يظل بعيد المنال للنفس الممزقة .
هناك درجات متفاوته من الوعى المكتمل بالذات الذى سعى المصرى القديم الكتسابه عن طريق
تجارب خارج الجسد ,و هو الموضوع الذى سنناقشه فى الفصل التالى .
بحثنا فى الفصل السابق فى مفهوم الروح المتجسده ,و أصبح بمقدورنا اآلن أن نبحث فى علم
النفس و الروح عند قدماء المصريين ,و هو العلم الذى استمد منه قدماء المصريين كل ما جاء
يصف األدب الدينى فى مصر القديمة حاالت من الوعى لم يكن االنسان يصل اليها فى حاالت
فى ذلك الزمن كان االنسان يصل الى تلك الحاالت من الوعى أثناء سعيه لتطوير قدراته الروحانية
و بلوغ االشراق و ذلك من خالل تدريبات نفسية و روحانية تعرف باسم تجارب خارج الجسد .
فى عصر الدولة القديمة كانت تلك التدريبات الروحانية تقتصر على الملك و على عدد محدود من
و بقدوم عصر الدولة الحديثه أصبح طريق التطور الروحى مفتوحا أمام عدد أكبر من أفراد الشعب
و لكن ظل ذلك العدد قليل بالنسبة لعدد السكان بوجه عام .
يمكننا أن نصف ما سنطرحه فى هذا الفصل بأنه الطريق الباطنى (السرى) للوصول الى التطور
الروحى و بلوغ االشراق ,و هو طريق يختلف عن طريق العامة الذى تتكفل به الطبيعة .
ال "كا" هى المصدر الذى يمد االنسان بالطاقة الحيوية ,و فى سياق العديد من كتب العالم اآلخر
أو األسالف الذين انتقلوا لعالم الروح و صاروا بمثابة ينبوع تتدفق منه هذه الطاقة التى يطلق عليها
و أرواح األجداد و األسالف هى التى توجه تلك الطاقة نحو العالم المادى فتهب الحياة ليس لالنسان
*** كان األجداد و األسالف فى نظر قدماء المصريين هم حراس ينبوع الحياة ,و هم مستودع
الطاقة التى تعتمد عليها حياتنا و نمونا .األجداد ليسوا مجرد أرواح رحلت عن عالمنا ,فانتقال
األجداد و األسالف لعالم الروح ال يعنى انفصالهم عنا ,و انما يستمر دورهم مؤثرا على حياتنا .
فهم حراس طاقة الحياة و النماء .األجداد هم ينبوع الحياة و مصدر كل ما نحن فيه سواء خير أو
شر .ان تفتح براعم النبات و نمو قطعان الماشية و خصوبة البشر و قدرتهم على التناسل و نجاح
رحالت الصيد أو االنتصار فى الحرب ,كل ذلك هو تجسيد و تجلى للطاقة و البركة التى توهب لنا
هذا هو السبب الرئيسى أن المقبرة أو الجبانة بوجه عام كانت تحتل أهمية كبرى فى حياة قدماء
المصريين ,و لذلك كانت زيارة المقابر – وال تزال – من الواجبات الدينية التى يحرص عليها
ففى المقبرة (أو من خاللها) يحدث تبادل الطاقة بين عالم الموتى و عالم األحياء .
ان الطقوس التى تمارس أثناء زيارة المقابر مثل تقديم القرابين و االبتهاالت و الدعاء ألرواح
الراحلين ليست مجرد وفاء لذكرى األجداد و اعتراف بما قدموه فى حياتهم الدنيا ,و انما هو
باألحرى اعتراف بدورهم الحالى (أى بعد الموت) كحراس و قنوات لنقل طاقة ال "كا" .
أطلق قدماء المصريين على المقبرة اسم "بر كا" ,أى بيت ال "كا" .
و عند وفاة شخص ما يقال عنه أنه "ذهب الى كائه" ,و أحيانا توضع كلمة "كا" فى صيغة الجمع
تتقبل أرواح األجداد القرابين و االبتهاالت و الدعاء و تقوم برده مرة أخرى الى عالم األحياء على
بالنسبة لعامة الشعب فى مصر القديمة كان تعبير "العودة الى ال كا" (أى الموت) يعنى أن ينتقل
االنسان لعالم األجداد و تنصهر شخصيته فى ذلك العالم و يتم امتصاصها هناك بطريقة أقرب الى
ان االتصال المباشر بالينبوع الذى تنبثق منه طاقة ال "كا" ال يعزز الشعور بالتفرد و الشخصانية
و لكن هذا المبدأ ال ينطبق على الملك و النخبة من الحكماء و المستنيرين .
فالملك يعود الى كائه أو الى كاواته و هو فى حالة من الوعى تمكنه من أن يمتص هذه الطاقة
و يهضمها بدال من أن تمتصه هى و تهضمه و تعيد تدويره من جديد ليصير طاقة حيوية .
عند مقابلة ال "كا" أو العودة اليها يحتفظ الملك بوعيه بذاته الى جانب وعيه بال "كا" كمفهوم
مطلق .هذا الوعى بالذات هو السبب فى الشعور بال "كا" و كأنها قرين روحى أو نسخة أثيرية من
*** أيها الملك ونيس ...ان ذراع كاءك أمامك ,و خلفك ...أيها الملك ونيس ,ان أقدام كاءك
يتضمن هذا االستحضار تعزيز الشعور بالطاقة الحيوية أو األثيرية التى تتخلل كل عضو من
وصفت بعض النصوص المصرية القديم ال "كا" بأن لها لحم (ايوف) كالجسم المادى .
كان الفنان المصرى القديم يصور "كا" الملك و كأنها نسخة طبق األصل من الجسم المادى .
"خنوم" (المصور) يشكل جسم الملك و كاءه فى نفس اللحظة على عجلة الفخرانى
فى بعض األحيان نجد مشاهد تصور الملك و هو يقوم بتقديم قرابين بصحبة كائه التى تقف الى
فى المشهد التالى نرى الملكة حتشبسوت فى هيئة رجل (حيث تضع الدقن الملكية) و هى تقدم
قرابين من الزيوت العطرية و خلفها كاءها على هيئة نسخة مصغرة منها تحمل فوق رأسها ذراعين
عند تأمل المشهدين السابقين ندرك السبب الذى جعل بعض علماء المصريات يترجم كلمة "كا"
تظهر ال "كا" فى المشهد السابق للملكة حتشبسوت على هيئة نسخة طبق األصل من الجسم المادى
اعتاد المشاهد للفن المصرى القديم أن يرى ال "نترو" (الكيانات االلهية) فى صور مادية ,و لكن
الروحانية للكيان االنسانى فى صورة مادية تدركها الحواس تماما كما تدرك الجسم المادى .
فهل كان المصرى القديم بالفعل يرى ال "كا" و كأنها تتواجد خارجه ؟!
يؤيد النص السابق الذى اقتبسناه من متون األهرام و الذى يتحدث فيه الملك ونيس عن كائه هذا
الطرح .
و برغم أن هذه الطاقة هى فى األصل طاقة الحياة لالنسان ,اال ان ال "كا" نفسها كانت تعتبر كيان
قائم بذاته مميز عن شخص الملك .ال "كا" ال تنبع من ذات االنسان و انما هو فقط يستخدمها .
يحث النص السابق الملك ونيس على أن يبحث عن أعضاء ال "كا" أمامه و خلفه ,و كأنها أعضاء
عند تأمل مشاهد مثل مشهد الملكة حتشبسوت و كاءها علينا أن نتذكر أن هذا المشهد يعبر عن
و حتى اذا كان دور ال "كا" فى مشهد تقديم الملكة حتشبسوت و كاءها للقرابين يسند لصبى ,فان
ذلك ال ينفى أن ال "كا" فى نظر قدماء المصريين هى كيان مستقل ,أو شخص ثانى يوجد خارج
من دراسة النصوص و المشاهد التى تصور ال "كا" فى مصر القدمة يتضح لنا أن اتصال الملك
بال "كا" ال يحدث فقط بعد الموت – مثل عامة الناس – و انما يبدأ هذا االتصال أثناء حياة الملك .
لذلك نقرأ فى متون األهرام أن الملك لم يكن يرتحل الى ال "كا" بعد موته ,و انما هو يرتحل معها.
كان الملك يحيا على األرض فى حالة من الوعى ال يصل اليها عامة الناس اال بعد الموت .
فالملك طوال حياته على األرض على اتصال دائم بطاقة ال "كا" ,و الفرق الوحيد بينه و بين
العامة أن الملك يحتفظ دائما بوعيه بذاته ,فى حين أن المتوفى من عامة الشعب يفقد الشعور
بفرديته بعد الموت و تمتصه طاقة ال "كا" ليصبح جزءا منها .
و بقدر وعى الملك بال "كا" أثناء حياته تظل ال "كا" مستقلة بذاتها .
ان الهيمنة على طاقة ال "كا" هى السبب وراء قدرة ملوك مصر على االتصال بقوى الطبيعة
يكتسب الملك هذه القوة الخارقة من ارتحاله فى عالم الموتى (دوات) ,حيث يواجه عقبات
و يتخطاها الى أن يصل الى الينبوع الذى تنبثق منه طاقة ال "كا" .
كان لملك مصر – باعتباره تجسيدا لحورس – عالقة ميثولوجية (أسطورية) بعالم الموتى الذى
يحكمه أوزير .و كما يعتمد أوزير على ابنه حورس حيث يستمد منه طاقة الحركة فى العالم السفلى
,كذلك تعتمد أرواح األجداد/األسالف بوجه عام و أرواح أجداد ملوك مصر بوجه خاص
فى مصر القديمة ,كان لمنصب الملكية دورا أساسيا فى العالقة المتشابكة بين عالم األحياء و عالم
الموتى ,حيث يقوم الملك بدور الوسيط أو همزة الوصل بين العالمين .
و ألن تدفق طاقة ال "كا" يقع فى المنطقة الوسطى بين العالمين (عالم األحياء و عالم الموتى) ,
لذلك فان الشخص الذى يصل الى ذلك البرزخ يمكنه أن يستحضر قدرا هائال من تلك الطاقة .
كان الملك فى نظر الشعب المصرى هو مستودع طاقة ال "كا" ,تماما مثل أرواح األجداد الراحلين
لذلك انتشرت فى مصر القديمة منذ عصر الدولة القديمة أسماء تبرز تبجيل الشعب للملك بسبب
عالقته الوثيقه بطاقة ال "كا" مثل (كائى تنتمى للملك) و (الملك هو كائى) .
اعتقد قدماء المصريين أن "كا" الملوك (كل الملوك) تتخلل كل شئ على أرض مصر و تؤثر على
كل أفراد الشعب بشكل ودى ,و لذلك كان للملك حضور دائم فى قلب كل أفراد الشعب .
كانت طاقة ال "كا" الخاصة بحورس تسكن فى قلب كل مصرى ,لذلك كان من ألقاب حورس
و لما كان الملك هو تجسيد حورس على األرض ,لذلك فان طاقة ال "كا" الخاصة بالملك تسكن
الملك هو "كا" مصر كلها ,و هو ال "كا" التى تسكن كل فرد من أفراد الشعب .
*** كان المصرى القديم يشعر بتأثير الملك على كيانه ,فى صورة طاقة حيوية ,تلك الطاقة هى ما
و عند قيامه باستحضار طاقة ال "كا" و توجيهها نحو عالم األحياء ال يفقد الملك وعيه بذاته ,بعكس
أرواح الموتى من عامة الشعب الذين يتصلون بطاقة ال "كا" من خالل الوعى الجمعى الذى يمتص
لذلك كان الملك فى مصر القديمة هو مركز الوعى الجمعى للشعب المصرى كله .
و لكن الملك ليس هو الشخص الوحيد الذى يمكنه أن يصل لتلك الحالة من الوعى .
فهناك أشخاص آخرين فى مصر القديمة – منذ عصر الدولة القديمة – استطاعوا اقامة عالقة فردية
مع ال "كا" أثناء حياتهم و بذلك صاروا هم أيضا تجسيد لحورس .
فى تلك العالقة مع ال "كا" يكتسب المرء شعورا أعمق و أقوى بالذات .و لذلك كانت ال "كا"
تشكل تلك العالقة الفردية مع ال "كا" األساس لما يعرف بوعى حورس و هو الهدف الذى يسعى له
و ما ينطبق على الملك ينطبق أيضا على النخبة من الحكماء و الكهنة و النبالء الذين اطلعوا على
ان تأمل تعاليم الكاهن و القاضى و القطب (أى المعلم الروحى /الولى) "بتاح حتب" الذى عاش فى
عصر الدولة القديمة يكشف لنا أن األشخاص الذين بلغوا تلك المكانة الرفيعة فى المجتمع المصرى
كانوا فى عالقة تناغم واعى مع كائهم ,و أن عالقة هؤالء األقطاب أو األولياء بمريديهم كانت أشبه
*** يا بنى ...ستأتيك البركة من "كا" القطب /الولى ...سيمتلئ جوفك و يكتسى ظهرك بتلك
الطاقة التى يبثها لآلخرين من قلبه ...ستكون معونة الولى دائما بالقرب منك لتساعدك و تدعمك
ان أغلب نبالء الدولة القديمة هم فى الحقيقة معلمين روحيين أو "أقطاب/أولياء" ,و كان لكل منهم
مريدين و تالميذ .بالنسبة للمريد كانت "كا" الولى أو القطب (تماما مثل طاقة ال "كا" التى تبثها
أما بالنسبة للملك و الحكماء و األولياء كانت ال "كا" أقرب الى المالك الحارس أو الروح الملهمة .
على سبيل المثال نقرأ فى متون األهرام هذه العبارة على لسان الملك بيبى الثانى -:
*** أنا فى خير أنا و اسمى ...أنا أحيا فى رعاية كائى ...فهى تزيح الشر من أمامى و من
خلفى ***
فى المشهد التالى تظهر ال "كا" و كأنها حارس يحتضن الملك الطفل ليحميه كما تحمى األم ابنها .
و من األمثلة التى توضح لنا مغزى ال "كا" ما جاء فى أسطورة التاسوع التى تروى كيف احتضن
آتوم أبناءه "شو" و "تفنوت" بعد أن خلقهم من ذاته بأن وضع ذراعيه حولهما على هيئة عالمة ال
"كا" ,لكى تسرى فيهما كاءه و تحميهما من السقوط مرة أخرى فى مياه األزل "نون" .
*** لقد وضعت ذراعيك حول "شو" و "تفنوت" ,لتكون كاءك معهما ***
من النص السابق يتبين لنا أن "كا" كل انسان على حدة هى امتداد للكا الكونية /االلهية التى
ان ال "كا" ال تنبع من ذات االنسان ,و انما وهبت له من االله ,فهى فى األصل الهية .
و هو ما يفسر لنا السبب فى تقديم القرابين ل "كا" الموتى و تبجيلها و االبتهال لها و كأنها كيان
الهى ,ألنها فى األصل "كا" آتوم التى انتقلت الى "شو" و "تفنوت" ,ثم انتقلت بعد ذلك الى كل
الخالئق .
لكتاب الخروج الى النهار ,و من أمثلة ذلك النص التالى (و هو مقتطف من الفصل رقم -: )015
*** التحيات لك يا كائى التى رافقتنى طوال حياتى ...أنظرى لقد أتيت ألقف أمامك ...لقد بعثت
من جديد قويا عفيا مفعما بالحيوية ...لقد أتيتك بقربان البخور ,و تطهرت به ...و سأطهر به كل
المشهد التالى من بردية السيدة "نسيتا نب تاشيرو" و فيه قام الفنان المصرى بتصوير ال "كا"
بشكل مجرد على هيئة ذراعين مرفوعين نحو السماء فوق منصة أمام السيدة "نسيتا نب تاشيرو" .
فى هذا المشهد ال تظهر ال كا فى صورة انسان مثل ال "كا" الملكية .
و بين ذراعى ال "كا" وضع الطعام الذى يقدم قربانا لها .
مشهد تقديم القرابين لل "كا" فوق مائدة قرابين على شكل عالمة ال "كا"
الطبيعة الكونية للكا ,فالكا فى األصل طاقة كونية قبل أن توهب لالنسان و تكتسب طبيعة فردية .
و بالنسبة للنخبة من الذين استطاعوا اقتناء كتاب الخروج الى النهار تظل طبيعة ال "كا" أقل تفردا
ال "كا" هى الطاقة الكونية الحيوية التى تنتقل لالنسان و لكنها ال تصبح ملكه بمعنى أنها ال تشكل
جزءا من شخصيته المكتسبه فى العالم المادى ,حيث تظل ال "كا" تنتمى للعالم االلهى .
و عند تأمل النصوص الدينية المصرية القديمة نجد أن قدماء المصريين (بما فى ذلك الملك
و النبالء و األولياء و عامة الشعب) لم ينظروا للكا على أنها جزء من هويتهم ,بعكس ال "با" ,
فى مصر القديمة ,كان الشعور الذى يقترن باستخدام كلمة "با" يختلف عن الشعور الذى يقترن
من النادر أن تترجم كلمة "با" بمعنى طاقة حيوية ,ألن لها مغزى أكثر باطنية و أكثر شفافية من
تعبر ال "با" عن مفهوم أعمق و أبعد من الطاقة الحيوية .فهى تعبر عن طاقة أكثر شفافية ,
و القدرات النفسية التى تنبع منها تتسم بأنها أكثر روحانية .
بعبارة أخرى ,اذا كانت ال "كا" تنتمى للعالم السفلى /النجمى/األثيرى (دوات) و ترتبط بالعقل
الباطن الجمعى و بالطاقة الحيوية الكونية ,فان ال "با" تنتمى لعالم أبعد هو العالم الروحى /
كتب عالم المصريات االنجليزى "والس بادج" واصفا العالقة بين ال "كا" و ال "با" ( :أن ال "با"
تترجم كلمة "با" عادة بمعنى روح ,و لكنها فى الحقيقة ترجمة غير دقيقة ,ألن ال "با" تظهر فى
حاالت الوعى المتغير حين يتوقف وعى اليقظة الذى يستند الى الحواس المادية ليحل محله أنواع
يصل االنسان لحاالت الوعى المتغير أثناء النوم و عند الموت و أيضا أثناء طقوس الوالدة
الروحانية التى يقوم فيها االنسان بتجارب خارج الجسد الجسد (كاالسقاط النجمى و الطرح الروحى
ال "با" هى الهيئة التى يتجسد فيها االنسان عند اختباره لحاالت الوعى المتغير .
و المعنى الحرفى لكلمة "با" فى اللغة المصرية القديمة هو "تجسد/تجلى" ,و عادة ما تستخدم هذه
على سبيل المثال كان طائر ال "بنو" (الفينيكس) فى نظر قدماء المصريين هو "با رع" أى الصورة
التى يتجلى فيها رع (و هى ليست الصورة الوحيدة ,ألن ل "رع" تجليات عديدة منها الشمس ) .
و كانت مجموعة نجوم أوريون و كذلك العجل "أبيس" (و هو عجل له مواصفات خاصة) هم باوات
و كان طائر األيبيس (أبو منجل) هو "با تحوت" ,أى تجسد/تجلى تحوت ,الخ .
و لكن هناك فرق بين با ال "نترو" (الكيانات االلهية) و بين "با" االنسان ,حيث باوات ال "نترو"
– و هم أرواح نقية – توجد فى العالم المادى ,بينما "با" االنسان توجد فى عالم الروح .
ان استخدام كلمة "با" بالنسبة للبشر يدعونا لفهم أعمق لطبيعة ال "با" .
ارتبطت ال "با" فى النصوص المصرية القديمة منذ ظهور متون األهرام -فى عصر الدولة القديمة
-فى الغالب بحرية الحركة و االنتقال ,و على وجه الخصوص االنتقال بين األرض و السماء .
و كما رأينا فى األمثلة التى سقناها فى السابق من متون األهرام ,كانت السماء هى وجهة ال "با"
تسعى ال "با" دائما للوصول الى السماء ,الى عالم الروح الذى تسكنه الكيانات االلهية ,و تطير
و النص التالى من متون األهرام (نص رقم )251يشير الى أن ال "با" هى السبب فى اكتساب
الروح أجنحة تحملها و تطير بها الى السماء ,يقول النص -:
*** لقد نمت لى أجنحة كأجنحة الصقر ...و أصبح لى ريش كريش صقر مقدس ...لقد أتت بى
"بائى" الى السماء ,و أمدنى سحرها (حا) بمدد من القوة ***
و ألن ال "با" تنتمى للعالم السماوى األبدى/الخالد ,لذلك يمكن لالنسان أن يدعم باءه أثناء حياته
يقول الحكيم "بتاح حتب" :ان الحكيم هو من يغذى باءه بما هو خالد و أبدى .
من طبيعة ال "با" أنها تنجذب الى كل ما هو خالد/أبدى ,ألن عالم الروح الخالد هو منشأها الذى
فى أحد نصوص عصر االنتقال األول و المعروف باسم تعاليم "مرى كا رع" نقرأ هذه العبارات -:
*** تذهب ال "با" الى المكان الذى تعرفه ...و ال تضل طريقها ألنها ال تنسى طريقا قطعته من
قبل ...و ال يستطيع أى سحر أن يعوق طريقها ...تأتى ال "با" ألولئك الذين يقدمون لها الماء ***
من دراسة و تأمل العديد من النصوص من عصر الدولة القديمة يتبين لنا أن السمة التى تميز ال
"با" هى سعيها الدائم لالرتحال و السفر الى وجهتها و بيتها فى عالم الروح ,و لكن نفس النصوص
ال تعطينا اجابة قاطعة اذا كانت ال "با" قد بلغت غايتها أم ال .
و من التعبيرات الشائعة فى كتب العالم اآلخر المصرية و خصوصا فى عصر الدولة الحديثه
ان ال "با" دائما فى حالة سعى أو فى الطريق الى هدف أو غاية .
ال "با" ليست غاية فى حد ذاتها ,و انما هى الطاقة التى تنقل االنسان بين عالمى الظاهر و الباطن
فى العديد من التجسدات لكى يصل فى النهاية الى الوجود األسمى/األقدس .
و لما كانت ال "با" هى الوسيلة أو المركبة التى يعرج بها االنسان الى السماء ,لذلك رمز لها
المصرى القديم فى الكتابة الهيروغليفية بالطائر المهاجر .كما صورها أحيانا فى هيئة صقر برأس
انسان .
و من األشياء التى تلفت االنتباه فى ال "با" أنها تصور برأس آدمى يحمل مالمح وجه الشخص
المتوفى .
تحمل ال "با" مالمح صاحبها و تعبر عن ذاته ,و هو ما يشير الى طبيعتها الفردية ,بعكس طبيعة
ال "كا" هى الطاقة الكونية الحيوية التى ال تتقمص صفات شخصية عند انتقالها لالنسان ,بينما
يصور المشهد التالى شخصا متوفيا و هو يضم باءه (على هيئة طائر بوجه آدمى يحمل مالمحه)
الى صدره و يحتضنها ,بعكس ال "كا" التى تظهر على هيئة ذراعين مرفوعين الى السماء و كأنها
ال "كا" هى التى تحتضن االنسان ,أما ال "با" فيحتضنها االنسان .
و من أكثر األشياء التى تلفت االنتباه فى الشكل السابق هو التشابه الشديد بين مالمح الشخص
المتوفى و مالمح الوجه التى يحمله طائر ال "با" .و هو ما يعنى أن ال "با" هى االنسان نفسه
و لكن فى صورة أخرى يكتسبها حين ينتقل الى عالم آخر ماورائى .
يمكننا تعريف ال "با" بأنها الفرد عندما يتحرر من وعى الجسد .
بالنسبة للغالبية العظمى من الناس ,من الصعب التحرر من وعى الجسد و الوصول الى حاالت
فالكا تتخلل كل أجزاء الجسد و تمنحه طاقة الحياة و الصحة ,و يمكن لالنسان أن يتصل بالكا حين
يكون وعيه مركزا على كل جزء من أجزاء الجسد على حدة و على الصفات و القدرات النفسية
ال "كا" دائما قائمة بذاتها و منفصلة عن ذات االنسان .ال "كا" هى الذات األخرى (الكونية) ,
التى ال تنتمى لالنسان و مع ذلك تبقى قرينا له فى العالم المادى و العالم السفلى .
أما ال "با" فهى وعى االنسان بذاته حين ينفصل عن جسده المادى ككل ,و عن كل عضو من
عند الخروج من وعى الجسد و ادراك ال "با" فنحن هنا بصدد قوة نفسية/روحانية ال ترتبط
من خالل ال "با" يتحرر االنسان من االلتصاق بالجسد و يتخلى عن الوعى بذاته كجسد مادى
فالكيان االنسانى ال يشتمل فقط على الجسد المادى و العقل و العاطفة (=النفس) و انما هناك
مستوى أعمق من مستويات الوجود االنسان ,هذا المستوى هو ال "با" ,و هى الذات العليا التى
عند االتصال بال "كا" يكون وعى االنسان موجها نحو النفس ,حيث صفات النفس ممزقة بين
أما عند االتصال بال "با" فان وعى االنسان يكون موجها نحو الروح ,نحو الذات العليا التى
عند الحديث عن النفس فى مصر القديمة علينا أن ننتبه الى أننا هنا بصدد نفس تسعى دائما لتطوير
فاذا كان االتصال بال "كا" يجعل االنسان واعيا بمصدر الطاقة الحيوية التى تتخلل الجسم المادى
و تمده بالحياة ,فان االتصال بال "با" يجعل االنسان يرى الجسم المادى فى صورة جثه هامدة .
ان الوعى بالذات فى حالة ال "با" على النقيض تماما من وعى الجسد ,و لذلك يبدو الجسد فى
المشهد التالى هو واحد من مشاهد عديدة تصور العالقة بين ال "با" و بين الجسم المادى فى مصر
القديمة .
بعد الموت مباشرة تنفصل ال "با" عن الجسد المادى و تحلق فوقه على هيئة طائر .
تنجذب ال "با" من وقت آلخر الى الجسد المادى و تعود لتنظر اليه و هو يرقد أمامها جثه هامدة
فى كتاب الخروج الى النهار (فصل رقم )054نقرأ هذه العبارة -:
*** عندما تغادر ال "با" الجسد ,يرى المرء جسده و هو يتحلل ,و يرى عظامه تتحول الى رميم
...و يرى لحمه و هو يتعفن و أعضاء جسده و هى تتحول الى تراب ***
ان مغادرة ال "با" للجسد المادى و انطالقها خارجه تتضمن شعورا بتفكك الجسم المادى يتبعه تفكك
فى المشهد التالى نرى طائر ال "با" و هو يجثم فوق المقبرة .
أما المشهد التالى فهو يصور ال "با" و هى تنزل من فتحة أو بئر الى غرفة الدفن لتلقى نظرة
على المومياء .تنجذب ال "با" دائما الى جسدها المادى كما تنجذب الفراشة للنور .
يحتوى الفصل رقم 39من كتاب الخروج الى النهار على ابتهال لل "با" و هى تنظر الى جسدها
*** انظرى يا بائى الى جسدى المادى ...و حلقى فوق موميائى ...ان بائى ستبقى خالدة ال
يصور المشهد التالى ال "با" على هيئة طائر يحلق فوق المومياء ,و كأن هناك قوة تجذبه ليعود
اليها مجددا و ينظر الي الجسد المادى من الخارج ,من منظور يتوقف فيه وعى الجسد تماما ,
ال "با" تحلق فوق المومياء و هى تحمل عالمة ال "شن" ,رمز خلود الروح
و برغم أن السماء هى غاية ال "با" و منتهاها اال أن وعى ال "با" بذاتها يظهر فقط بالمقارنة
بعالم األرض .من وقت الى آخر تحتاج ال "با" لتعزيز وعيها بذاتها و ذلك بأن تعود مجددا
و تزور جسدها المادى الراقد فى المقبرة لكى تعى ذاتها ككيان روحى منفصل عن الجسم المادى
يبدو وعى ال "با" بذاتها هشا و ضعيفا لدرجة تجعله غير قادر على الوجود بذاته بدون أن يقارن
تحتاج ال "با" الى الجسد المادى لتعرف ذاتها ,كما يعرف النهار بمقارنته بالليل ,و كما يعرف
النور بمقارنته بالظالم ,و كما يعرف األبيض بمقارنته باألسود .فبضدها تعرف األشياء .
فى يقظتنا و أثناء حياتنا اليومية يكون وعينا موزعا على مختلف أجزاء الجسد المادى ,و فى
يمكننا أن نفهم ال "با" على أنها تقابل األنا فى ثقافتنا الحديثه .
و لذلك يميل معظم الباحثين الى ترجمة كلمة "با" بمعنى روح ,و هى ترجمة تحتاج الى تعديل
ألن ال "با" تظهر للوجود فى حاالت الوعى المتغير (تجارب خارج الجسد) و بعد الموت .
فى تجارب خارج الجسد تخرج ال "با" من الجسد و تنظر اليه من الخارج و هو راقد بال حراك ,
و لكنها تظل مرتبطة به بحبل سرى من الطاقة الى أن تعود اليه مرة أخرى بعد انتهاء التجربة .
أما فى حالة الموت ,فان الحبل السرى ينقطع و ال تعود ال "با" لجسدها مرة أخرى .
تعود ال "با" للجسد بعد انتهاء تجارب خارج الجسد كما تعود لتزور جسدها من وقت آلخر بعد
الموت ,اال أن وجهتها النهائية هى العالم السماوى حيث تحملها أجنحتها اليه .
و قبل أن ننتقل الى مستوى الوعى األسمى من ال "با" سنتوقف قليال عند عالقتها بعالم األرض .
فبرغم أن وجهة ال "با" هى السماء ,اال انها تنجذب مجددا الى األرض ,ألنها تعى ذاتها بأن تنظر
و لكى نفهم سر هذا االنجذاب و العودة مجددا الى الجسد المادى علينا أن نبحث مفهوم الظل
"خيبيت" .قد يكون مصطلح الظل مألوفا لبعض القراء من خالل كتابات عالم النفس السويسرى
كارل يونج ,و لكن علينا أن نحترس من اسقاط مصطلحات علم النفس الحديث على المفاهيم
و برغم وجود بعض التشابه بين مفهوم الظل عند قدماء المصريين و بين تعريف كارل يونج له ,
فى علم الفيزياء ,تتكون الظالل عادة عند سقوط الضوء على جسم مادى .
و فى الفلسفة الروحانية المصرية ,يظهر الظل النفسى (خيبيت) عندما تحاصر ال "با" أثناء
و من موقعها بين العالمين ,تنظر ال "با" نحو السماء فترى عالم النور ,و تعود فتنظر الى
األرض فترى الظل الذى نشأ من عالقتها بجسدها المادى و اعتمادها عليه فى تعريف ذاتها .
المشهد التالى من مقبرة "ايرى -نفر" ,و فيه تظهر ال "با" فى عالقة مزدوجة مع الظل .
فى الجزء األسفل من الصورة نرى طائر ال "با" و قد التصقت به كتلة مظلمة كثيفه تثقل كاهله
أما فى الجزء األعلى من الصورة فتظهر ال "با" و قد تحررت من ذلك الثقل و انطلقت نحو السماء
و تبدو و كأنها تنادى على الظل (فى هيئة انسان) لكى يخرج من المقبرة و يلحق بها الى عالم النور
لل "با" وجهان ,فمن ناحية يمكن للبا أن تقترب جدا من الظل و تلتصق به و بالتالى تلتصق بالعالم
األرضى .و من ناحية أخرى يمكنها أن تتحرر و تحرر الظل من المقبرة .
االنسان تحقيقها فى حياته و كذلك لم يستطع أن يسمو بها و يحولها الى أهداف روحانية .
تلك الرغبات هى التى تجعل ال "با" ملتصقة باألرض و تعوقها عن التحرك نحو غايتها فى السماء
.
الظل هو كل شئ أرضى/مادى ال ينفذ منه الضوء ,و حين يلتصق ذلك الشئ بالبا يثقل كاهلها .
و ألن الهدف النهائى للبا هو أن تتحول الى كيان نورانى شفاف ,لذلك يجب استدعاء الظل
فى الفصل رقم 92من كتاب الخروج الى النهار يبتهل "نب سنى" الى عين حورس ,و هى العين
الشافية التى تهب أوزير الحياة من جديد ,و يسألها أن تحرر "باءه" ,ثم يعقب ذلك باالبتهال لها كى
*** يا حراس أوزير ,حين ترون الغسق ...أطلقوا بائى ,و ال تعيقوا ظلى ...افتحوا الطريق أمام
بائى لكى ترى االله العظيم فوق عرشه يوم تحاسب األرواح ***
اذا كان موقع ال "با" بين األرض و السماء أو فى الطريق الى السماء ,فان موقع ال "آخ" -و هى
تترجم كلمة "آخ" فى بعض األحيان بمعنى ذكاء ,و هى عنصر كامن من عناصر الروح ال يتم
تكتب كلمة "آخ" باستخدام رمز هيروغليفى على شكل نوع من أنواع طيور األيبيس يتميز بمنقاره
المقوس و ريشه ذو اللون األخضر الداكن المرصع ببقع ذهبية تتألأل فى ضوء الشمس .
لذلك تحمل كلمة "آخ" دالالت تدور حول "النور /االشراق /الضياء /التوهج" .
قام عالم المصريات االنجليزى "والس بدج" بترجمة كلمة "آخ" الى "الذى يشع نورا" أو "الروح
تسكن ال "با" العالم البرزخى الذى يطلق عليه "دوات" (العالم السفلى/النجمى/األثيرى) و الذى
يحكمه أوزير ,بينما تسكن ال "آخ" الى العالم السماوى /الشمسى /المشرق الذى يحكمه "رع" .
فى متون األهرام التى دونت فى عصر الدولة القديمة كان االتحاد ب "رع" هو الهدف من رحلة
هذا االتحاد ب "رع" يتحقق عندما يتحول الملك بعد موته الى "آخ" ,أى الى روح تشع نورا
كالنجوم التى تضئ فى سماء الكون ,و فى تلك الحالة يصبح الملك هو "سا -رع" ,أى ابن رع .
جاء فى متون األهرام (نص رقم )052على لسان الملك ونيس -:
*** يا "أتوم -رع" ...ها قد أتاك ابنك ونيس ,بعد أن صار فى هيئة "آخ" ال يعتريها الموت ...
بعد أن صار كيان الهى فوق حدود الكون ...ها قد أتاك ابنك ونيس ***
عند قراءة النصوص المصرية القديمة نالحظ أن ذكر ال "آخ" كان فى الغالب يقترن بشعور بالعودة
الى البيت ,الى األصل و المنبع الذى انبثقت منه الروح .
ان السبب فى اقتران ال "آخ" بالنور و االشراق هو اتصالها و اتحادها باألصل و الينبوع الذى
جاء فى كتاب الخروج الى النهار (فصل رقم )05على لسان الكاتب "آنى" -:
*** التحيات لك يا "رع" حين تشرق فى هيئة "حور آختى" ...يخشع القلب حين يرى جمالك ,
و حين تسقط أشعتك المتوهجة على صدرى ...يا من ليس قبله شئ ,يا من انبثقت منه كل الصور
و األشكال ...يا من نطقت كلمة الخلق حين كانت األرض غارقة فى محيط الصمت ...أيها الواحد
الذى أتى للوجود فى السماء ...قبل أن يكون هناك أرض أو جبال ...أبتهل اليك يا "آتوم رع" أن
تجعل "آخى" (روحى النورانية) تشع بنورك ...أبتهل اليك يا أوزير أن تجعل "بائى" الهية ...يا
"آتوم رع" أشرق بنورك فوقى ...أشرق بنورك فوق ابنك "أوزير -آنى" الذى يحبك ***
يبتهل الكاتب "آنى" فى النص السابق الى أوزير أن يجعل "باءه" الهية ,و يبتهل الى "آتوم رع" أن
يمكننا اذن أن نقول أن ال "آخ" هى الحالة التى تصير اليه ال "با" بعد أن تصير الهية و ترتفع الى
و الفرق بين أوزير و رع هو أن أوزير ال يمتلك مفتاح تجديد طاقته (بعثه من جديد) ,و هو يعتمد
فى ذلك على ايزيس و حورس ,أما رع فيجدد طاقته بنفسه .
ال "آخ" هى الروح التى تمتلك القدرة على تجديد نفسها بشكل دائم .تلك القدرة على خلق الذات
و اعادة تجديد طاقتها بشكل دائم هى أهم سمات الوجود األسمى/األقدس الذى يطلق عليه "آخ" .
يركز الفصل رقم 074من كتاب الخروج الى النهار على فكرة البعث من جديد .
يحمل هذا الفصل عنوان ( مساعدة ال "آخ" على أن تعبر البوابة العظيمة فى السماء ) .
*** لقد ولد كيان الهى ,حين ولدت من جديد فى عالم الروح ...صرت مبصرا ...صرت موجودا
...لقد ارتفعت فوق المكان الذى أنا فيه ...لقد أنجزت كل ما قدر لى القيام به فى حياتى الدنيا ...
أنا زهرة اللوتس التى تشع نورا فى أرض النقاء التى استقبلتنى و صارت موطنى ...أنا زهرة
فى مصر القديمة كانت زهرة اللوتس رمزا للتحول الباطنى و الميالد من جديد والدة روحانية .
جاء فى ثامون األشمونيين أن "رع" ولد من زهرة لوتس خرجت من مياه األزل "نون" فى بدء
الخليقة .
أن يصف كتاب الخروج الى النهار روح المتوفى بأنها زهرة لوتس فان ذلك يعنى أن تلك الروح
صارت تمتلك القدرة على أن تجدد طاقتها بنفسها مثل "رع" .
رأينا فى الفقرة السابقة أن وعى ال "با" بذاتها يتطلب تمييز نفسها عن الجسد المادى .
فى حالة ال "با" يرى االنسان جسده من الخارج .و هى حالة يمر بها االنسان أثناء تجربة الموت
أما فى حالة ال "آخ" فان عالقة االنسان بجسده تنقطع تماما .
يتزامن هذا االنفصال عن الجسد المادى مع اكتساب جسد روحى بديل عنه ,يطلق عليه اسم "ساح"
ينبت ذلك الجسد الروحى من الجسد المادى ,و يعتبر ذلك من أكثر األحداث غموضا فى رحلة
الروح .
جاء ذكر الجسد الروحى فى الفصل رقم 054من كتاب الخروج الى النهار ,و فيه تتحدث روح
المتوفى فى العالم اآلخر على لسان خبرى (الذى يولد من تلقاء ذاته) -:
*** أنا خبرى ...ستبقى أعضائى الى األبد ...لن يتحلل جثمانى و لن تصير عظامى رميما ...
و لن يأكلنى الدود ...لن أتعفن أمام أعين "شو" ...سأولد من جديد ,و سأحيا ,و لسوف أحيا ...
نستشف من النص السابق أن نمو الجسم الروحى الجديد "ساحو" يضمن احتفاظ االنسان بذاكرته
الروحية و قدراته و صفاته النفسية التى كانت موزعة من قبل على أعضاء الجسم المادى ,حيث
تنتقل هذه الصفات و القدرات من الوجود المادى الى وجود آخر أسمى هو الوجود الروحى /
و هو ما يفسر لنا لماذا يأتى ذكر األيدى و السواعد و األقدام بشكل متكرر فى كتب العالم اآلخر
المصرية .فأعضاء االنسان تتواجد فى العالم اآلخر و لكن فى هيئة روحانية شفافه .
يمكننا أن نفهم الجسم الروحى الذى يصاحب الوصول الى وعى ال "آخ" على أنه قرين (نسخة طبق
األصل) من الجسد المادى و لكن فى صورة أكثر شفافية و أقرب الى عالم الروح .
ال أحد يستطيع القول على وجه اليقين كيف كان قدماء المصريين يرون العالقة بين ال "كا" و بين
ال "ساحو" ,علما بأن كل اسم من هذه األسماء كان له العديد من الدالالت و يتوقف معناه دائما
و يكفى هنا أن نشير الى أنه من المحتمل أن نمو الجسم الروحى من الجسم المادى يتزامن مع عملية
أى أن ال "آخ" و ال "ساحو" يأتيان للوجود معا فى نفس اللحظة ,و هذا الحدث هو بداية تحرر
"رع" يستدعى الجسم الروحى "ساحو" للوجود لكى يستنشق األنفاس االلهية
( المقصورة الثانية من مقاصير الملك توت عنخ آمون ,أسرة , 11دولة حديثه )
يقول النص المصاحب للمشهد أن ال "ساحو" يولد حين يدعوه "رع" أن يأتى للوجود لكى
جاء ذكر ميالد ال "آخ" و ال "ساحو" معا فى الفصل التاسع من كتاب الخروج الى النهار و يطلق
عليه اسم ( فصل الخروج الى النهار ,و اجتياز المقبرة ) .و فيه نقرأ العبارات التالية -:
*** لقد اجتزت ال "دوات" (العالم السفلى) ...و رأيت أبى أوزير ...لقد بددت ظلمة الليل ...لقد
صرت الى "ساح" ...لقد صرت الى "آخ" ...لقد صرت أمتلك القدرة ...أيتها ال "نترو"
(الكيانات االلهية) ,أيها ال "آخو" (األرواح النورانية) ,فلتفسحوا لى مكانا بينكم ***
أن يصبح االنسان ذو قدرة يعنى أن يحتفظ االنسان بقدراته و صفاته النفسية و بحواسه (البصر /
فى الفصل رقم 99من كتاب الخروج الى النهار هناك حوار شيق بين روح مرتحلة فى ال "دوات"
(العالم السفلى) و بين المعداوى الذى ينقل األرواح عبر النهر السماوى .
يطرح المعداوى األسئلة على الروح المرتحلة لكى يعرف اذا كانت تمتلك قدرات (حواس) ,فتجيبه
كان شفاء أعضاء الجسد و اعادتها سليمة ,كاملة العدد من أهم الموضوعات التى جاء ذكرها فى
هذا التجميع للجسد الممزق هو ذروة الطقوس األوزيرية و هى طقوس يتجرع فيها االنسان كأس
الموت و يقابله وجها لوجه و يختبر الشعور بتمزق الجسد أو بعبارة أخرى تمزق النفس .
ان اعادة تجميع أجزاء الجسد هى خطوة هامة من أجل نمو الجسد الروحى "ساحو" و من أجل
و حين يتحقق ذلك ينتقل االنسان من عالم "أوزير" الى عالم "رع" ,و تلك هى المحطة األخيرة فى
رحلة الروح ,حين تعبر عتبة السماء التى يرمز لها بالنهر السماوى أو تمر من خالل بوابة السماء
فى النص التالى من متون األهرام من عصر الدولة القديمة ,يرتبط التحول الى "آخ" باعادة جمع
أجزاء جسد الملك و نمو الجسد الروحى "ساحو" مكان الجسد المادى .كما يرتبط فى نفس الوقت
التراب عن لحمك ...تناول خبزك الذى لم يتعفن ...و جعتك التى لم تفسد ...و قف أمام األبواب
التى ال تفتح لمن ليس جديرا ...ها هو حارس البوابة يأتيك ,و يمسك بيدك ,ليأخذك الى السماء
...الى أبيك جب ,الذى يبتهج لمجيئك ...و يمد يده اليك ,و يقبلك ,و يربت على كتفك ...
و يضعك فى مقدمة ال "آخو" (األرواح النورانية) ...فى مقدمة النجوم التى ال تموت ***
فى الفصل التالى سنتناول رحلة الروح فى العالم السفلى و سنتعرف عليها من خالل المشاهد
ان حاالت الوعى الثالثة التى يطلق عليها "كا" " ,با" " ,آخ" هى جزء من تجربة التطور الروحى
و المحطة األولى فى هذه الرحلة هى تجميع طاقة ال "كا" و استحضارها ,و تلك هى وسيلة
االنسان للتحرر من الوعى الجمعى و تعزيز وعيه بنفسه ككيان قائم بذاته .
تحدث هذه الخطوة األولى برعاية و اشراف الكيان االلهى حورس .
يصير االنسان تجسيدا لحورس بقدر ما يعى طاقة ال "كا" كجزء ينتمى لهويته الفردية .
و المحطة الثانية – و هى ال "با" – يبلغها االنسان أثناء تجربة مختلفة يرى فيها نفسه كذات
يعبر مصطلح ال "با" عن حالة من حاالت الوعى يتحرر فيها االنسان من قيود المادة و لكن فى
نفس الوقت تحده روابط نفسية ينبع معظمها من التعلق بالعالم المادى .
لذلك تتواجد ال "با" فى موقع وسط بين عالم الماده و عالم الروح ,و تسكن فى العالم البرزخى
يختبر االنسان ال "با" حين يصير تجسيدا ألوزير ,سواء أثناء تجارب خارج الجسد أو عند
الموت .
أما المحطة الثالثه و هى ال "آخ" ,فان الوصول اليها يتطلب التحرر تماما من التعلق بالجسد .
لكى يصير االنسان "آخ" (روح موصولة بالنور االلهى) عليه أوال أن يصير نقيا نقاءا سيكولوجيا ,
الشديد على مفهوم الطهارة و النقاء السيكولوجى أو النفسى و الذى عبر عنه قدماء المصريين
كان نقاء القلب و طهارته شرطا أساسيا لكى يولد االنسان من جديد فى هيئة "آخ" .
يعبر مصطلح ال "آخ" عن حالة من االشراق الداخلى أو الوميض أو االستنارة الباطنية ,من يصل
حين يصل االنسان الى وعى ال "آخ" يدرك ذاته الحقيقة و التى هى فى طبيعتها الهية و هى من
يمكننا اذن أن نفهم علم النفس و الروح فى مصر القديمة على أنه طريق للتطور الروحى أو رحلة
للروح يدخل فيها االنسان فى عالقة مباشرة مع كل من "حورس" و "أوزير" و "رع" ,الواحد تلو
اآلخر الى أن يحوز االشراق و الوميض و يصير قطبا للنور االلهى "رع" .
فى الفصل الثانى من هذا الكتاب أشرت الى أن علم الفيزياء الكونية فى مصر القديمة هو صورة
علم الكونيات المصرى هو خريطة ميتافيزيقية تكشف عن ثالثة مستويات رئيسية للوجود -:
يمكننا اذن أن ندرس علم النفس و الروح فى مصر القديمة من خالل هذه الخريطة الوجودية .
فالعالم المادى يقابل الجسم المادى لالنسان (خات) و هو عرضة للموت و التحلل و الزوال .
و ما يمنع الجسم من التحلل و الزوال هو الطاقة الحيوية "كا" التى تجدده باستمرار و تساعده على
أما ال "آخ" فهى الروح الخالدة ذات الطبيعة النورانية و التى تنتمى للعالم السماوى .
و الجدول التالى يوضح العالقة بين مكونات الكيان االنسانى و مستويات الوجود -:
ان عالقة حورس بالعالم المادى أو عالم األشكال المتجسده هى أنه يغذى ذلك العالم بطاقة الحياة
بالطبع يرمز حورس ألشياء أخرى و لكننا نركز فى هذا السياق على الرموز التى تتعلق بعلم النفس
أما عالم ال "دوات" الذى يحكمه أوزير فهو العالم تحيا فيه األرواح التى لم تتخذ بعد جسدا ماديا ,
ذلك هو العالم الذى تنتمى له ال "با" ( و أيضا ال "كا" ) ,و الذى ترتحل فيه لكى تصل الى
تنتمى ال "آخ" لعوالم النور التى تقع فيما وراء عالم ال "دوات" البرزخى .ذلك النور هو نور
الروح األسمى النقية التى أتت للوجود بذاتها من محيط الالوجود .
هنا فى العالم السماوى الذى يحكمه "رع" يوجد الينبوع الذى يبدأ منه الخلق و يعاد مرارا ,و الذى
تجدد به الروح نفسها بأن تعود اليه مجددا ثم تولد من جديد ,و تعيد تكرار ذلك الى ما ال نهاية .
و هكذا يتبين لنا أن رحلة الروح فى ال "دوات" هى رحلة يمر فيها وعى االنسان بتغيرات مرحلية
يطلق عليها "كا" " ,با" ,و فيها تلعب ال "با" دورا أساسيا .
و نالحظ أن قدماء المصريين كانوا يقومون فى كثير من األحيان بتبديل الكلمتين "با" و "كا" فى
و هنا علينا أن نتذكر أن قدماء المصريين كانوا يتبعون طريقة تفكير مرنة و فضفاضة ال تلتزم
تترجم كلمة "دوات" المصرية القديمة عادة الى العالم السفلى ,اال انها فى الحقيقة ترجمة غير دقيقة
ألنها ال تعبر بشكل كامل عن دالالت هذه الكلمة كما عرفها قدماء المصريين .
فى اللغة المصرية القديمة تحمل كلمة "دوات" دالالت تدور حول ضوء الفجر ,االشراق ,الشفق
لذلك فان أقرب ترجمة لكلمة "دوات" هى "مكان ميالد نور الصباح" .
و فى هذه الترجمة نالحظ أن المعنى يدور حول منطقة وسطى بين الليل و النهار ,بين الظالم
و النور .
و ألن الكلمة تحمل ضمنيا معنى الشفق ,فهى ليست مجرد حالة وسط بين الظالم و النور ,و انما
هى تحمل أيضا معنى آخر و هو ميالد النور من رحم الظلمة ,أى أن ال "دوات" هو العالم الذى
ترتحل فيه الروح من الظلمة الى النور و تجتاز الليل لكى تخرج الى النهار .
و كلمة "دوات" ليست هى الكلمة المصرية الوحيدة التى تترجم الى "العالم السفلى" ,فهناك كلمات
أخرى تترجم الى نفس المعنى ,أولها كلمة "أمنتت" (. )Amentet
صور الفنان المصرى القديم عالم ال "أمنتت" على شكل ربة رائعة الحسن و الجمال ,يطلق عليها
"ربة الغرب" تستقبل الشمس عند دخولها الى المناطق الخفية /الباطنية التى تقع فيما وراء عالم
التجسد .
تعتبر "أمنتت" أحد أوجه األم الكونية "حتحور" أو "نوت" التى تبتلع الشمس كل مساء و تعود
فتلدها من جديد كل صباح .و ما ينطبق على الشمس ينطبق على العالم المتجسد كله .
"أمنتت" هى العالم الذى تختفى فيه األشكال و الصور عند الموت ,و تعود فتخرج منه الى النهار
يقول الفيلسوف االغريقى "ايامبليكوس" أن ال "أمنتت" فى مصر القديمة هو "الفضاء الذى يأخذ
و يمنح" .
ال "أمنتت" هو العالم الخفى ,الغير متجسد داخل جسد األم الكونية و برغم كونه غير متجسد اال
فى عالم ال "أمنتت" ال تتواجد المخلوقات وجودا روحانيا و ال وجودا ماديا (فى جسد مادى) ,
و انما تتواجد وجودا باطنيا ديناميكيا يعتبر مرحلة من مراحل التحول و الصيرورة التى تمر بها
و هناك كلمة أخرى تترجم أيضا بمعنى عالم سفلى ,و هى كلمة "نتر خرت" .أما المعنى الحرفى
و العالمات الهيروغليفية المستخدمة فى كتابة هذه الكلمة ال توضح أين يقع هذا العالم االلهى .
و لكن من الواضح أن قدماء المصريين اعتقدوا أن هذا العالم يوجد تحت النجوم (بين السماء
و بينما كانت النجوم فى نظر قدماء المصريين هى الرداء الذى يغطى جسد األم الكونية نوت ,كان
ال "دوات" أو ال "أمنتت" هو جوف نوت .أى أن ال "دوات" يقع فيما وراء النجوم و ليس فى
ارتبط العالم السفلى من الناحية الجغرافية بجهة الغرب حيث تغرب الشمس ,و أيضا بالشرق حيث
و اعتقد قدماء المصريين أيضا أن النيل ينبع من العالم السفلى ,و لذلك ارتبط هذا العالم أيضا من
كما اعتقدوا أيضا أن أرواح البشر التى ترتحل فى العالم السفلى بعد الموت تسعى للوصول الى
و عند تأمل معنى كلمة "نتر خرت" تبدو و كأنها تشير الى منطقة مميزة تقع فوق العالم السفلى أو
و سواء تصورنا أن العالم السفلى يوجد فوق األرض أو تحت األرض ,فى هذا الجانب من السماء
أو ذاك ,فى الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب ,فالعالم السفلى هو دائما الطريق الى عالم آخر
أسمى .
من الصعب أن نحدد مكانا معينا فى العالم المادى و نشير اليه باصبعنا و نقول هنا يقع العالم السفلى
,ألن العالم السفلى فى نظر قدماء المصريين هو عالم كلى الحضور .
لم ينظر قدماء المصريين أبدا للعالم السفلى على أنه مكان مادى ,و لذلك لم يحددوا له موقعا معينا
يقع العالم السفلى داخل النفس االنسانية ( العقل الباطن و الالوعى ) ,فهو عالم سيكولوجى
ميثولوجى يدخله االنسان عندما يخرج من حدود الوعى األدنى الذى يستند الى الحواس المادية .
و لذلك فعند استخدام كلمة "العالم السفلى" علينا أن نكون واعين تماما أن هذه الكلمة برغم دالالتها
العديدة ال تعبر عن المفاهيم النفسية و الروحانية التى تعبر عنها كلمة "دوات" المصرية القديمة .
اعتقد قدماء المصريين أن االنسان بمجرد موته يذهب الى العالم السفلى فى هيئة "كا" و "با" .
و مع ذلك كان بمقدور بعض الناس أن يدخلوا العالم السفلى فى حياتهم الدنيا ,و ذلك أثناء تجارب
كانت معرفة العالم السفلى و اكتشاف طبيعته و االرتحال فى مختلف مناطقه جزءا أساسيا من
المعرفة الباطنية التى يطلع عليها الكهنة و السحرة فى مصر القديمة ,ألن كل منطقة من مناطق
العالم السفلى ترتبط بطاقة معينة نفسية و روحانية على الساحر أن يطلع على أسرارها و يعرف
و اذا قارننا بين مفهوم العالم السفلى فى مصر القديمة و فى غيره من الحضارات القديمة سنالحظ
أطلق سكان حضارة ما بين النهرين على العالم السفلى اسم "مكان الالعودة" ,و أطلق عليه
االغريق اسم "هادس" ,بينما أطلق عليه االسرائيليون اسم "شيول" و كان العالم السفلى فى هذه
الثقافات الثالثة هو المكان الذى يتحول من يذهب اليه الى مجرد ظل أو شبح و يظل كذلك بدون أى
و على النقيض من ذلك ,كان العالم السفلى فى نظر قدماء المصريين مكان يرتحل فيه االنسان
حيث تجتاز روحه عقبات و فخاخ و محاكمات و اختبارات ,و كان النجاح فى تلك االختبارات
يثمر اشراقا باطنيا و صيرورة تعترى النفس و الروح و تجعلها جديرة باالنتقال الى مستوى أسمى
و كلما أثبت االنسان جدارته فى اختبارات العالم السفلى كلما صار أكثر وعيا بوجود بذرة النور
االلهى الكامنة بداخله و كلما رأى فى تلك البذرة ذاته الحقيقية .
و هنا نالحظ وجود تشابه بين مفهوم العالم السفلى فى مصر القديمة و بين مفهوم "المطهر" فى
الثقافة المسيحية .يعتبر "المطهر" المسيحى أقرب لمفهوم العالم السفلى المصرى ,بعكس مفهوم
العالم السفلى فى حضارة ما بين النهرين و فى الحضارة االغريقية و الثقافة االسرائيلية ,و بعكس
و يعتبر كتاب الموتى الذى دون فى عصر الدولة الحديثه من أهم المصادر التى سجل فيها قدماء
المصريين معرفتهم بالعالم السفلى ,و لكنه ليس المصدر الوحيد ,فهناك العديد من كتب العالم
اآلخر فى مصر القديمة ,و لكن يتميز كتاب الموتى عن غيره من كتب العالم اآلخر بأحتوائه على
الكثير من المشاهد المصورة و أيضا لسهولة تداوله ألنه مسجل فى برديات .
و الطرح الذى أقدمه فى هذا الكتاب عن رحلة الروح فى العالم السفلى يقوم بشكل أساسى على
دراسة كتاب الموتى ,و لذلك كان من الضرورى أن أقدم للقارئ أوال بعض المالحظات عن ذلك
الكتاب و انما هو االسم الذى أطلقه علماء اآلثار فى العصر الحديث على مجموعة النصوص التى
عثروا عليها مدونة فى برديات كانت توضع بين لفائف المومياوات .
أما قدماء المصريين أنفسهم فقد أطلقوا على هذه المجموعة من النصوص اسم كتاب الخروج الى
النهار "برت ام هرو" ,و هو اسم يعكس رؤيتهم للعالم السفلى باعتباره عالما يقع بين الليل
و النهار ,بين الظلمة و النور ,و لذلك فهو عالم ال تبقى فيه الروح الى األبد و انما تخرج منه
ينقسم كتاب الخروج الى النهار الى مائتى فصل كل فصل منها يحمل رقما معينا ,و هذه األرقام
هى من وضع علماء اآلثار فى القرن التاسع عشر و خصوصا العالم األلمانى ليبسيوس الذى وضع
لكل فصل رقم بناء على دراسته لبرديات من العصر المتأخر تحوى نسخة أكمل من هذا الكتاب .
هناك عدد هائل من البرديات التى تتناول كتاب الخروج الى النهار ,و لكن كل بردية منها ال
تحوى الكتاب كامال و انما تحوى مقتطفات مختلفة من فصول الكتاب التى يصل عددها الى 211
فصل .
فى الحقيقة ال يوجد بردية واحدة تحوى كتاب الخروج الى النهار كامال .
كما أنه لم يكن هناك ترتيبا واحدا لفصول كتاب الخروج الى النهار عند قدماء المصريين .فترتيب
الفصول يختلف من بردية ألخرى .كل بردية تحوى خليط غير مرتب من فصول الكتاب .
على سبيل المثال ,تبدأ بردية "آنى" بالفصل رقم , 05يعقبه الفصل رقم , 11ثم الفصل رقم , 0
ان ترقيم الفصول هو وسيلة لجأ اليها علماء المصريات فى العصر الحديث لتيسير دراسة الكتاب
و تمييز كل جزء من أجزائه عن اآلخر ,و الترتيب الذى اقترحه علماء المصريات ليس هو
الترتيب الذى كان قدماء المصريين يتبعونه عند قراءتهم لكتاب الخروج الى النهار .
هناك صعوبة فى معرفة ترتيب أحداث رحلة الروح فى العالم اآلخر .فالبرديات التى عثر عليها
مستقم يبدأ من نقطة معينة و ينتهى فى نقطة معينة .و انما الهدف منها تزويد المرتحل فى العالم
اآلخر باألكواد السحرية و الرقى و االبتهاالت و الصلوات التى يحتاجها أثناء اجتيازه ذلك العالم
الهدف من هذه البرديات هو مساعدة المرتحل فى العالم السفلى على معرفة أى منطقة من مناطق
ان فكرة ايجاد ترتيب يتبع خطا مستقيما من بداية الى نهاية هى فكرة غريبة على عقلية قدماء
المصريين .فرحلة كل انسان فى العالم السفلى تختلف عن رحلة غيره من البشر ,حيث يعتمد
ترتيب الرحلة على مدى النضج و االتزان النفسى الذى بلغه االنسان فى حياته الدنيا .
بعد أن استعرضنا أهم المالحظات حول كتاب الخروج الى النهار يمكننا أن ننتقل اآلن الى المالمح
الرئيسية لرحلة الروح فى العالم السفلى ,و الترتيب الذى أطرحه هنا هو مجرد طرح ال ينفى وجود
أول خطوة فى رحلة الروح فى العالم السفلى هى فتح باب المقبرة لكى تتحرر ال "با" من تجسدها
السابق .
يمكننا أن ننظر الى المقبرة باعتبارها رمزا للجسد المادى و بذلك يكون الخروج من المقبرة هو
رمز الخروج من وعى الجسد ,أى الوعى الذى يستند الى الحواس المادية .
فى وعى الجسد تكون ال "با" خاملة ,كامنة ,غير مدركه لذاتها ,حيث يبدأ ادراكها لذاتها فقط فى
اللحظة التى يتوقف فيها وعى الجسد لتنطلق و تخرج منه و تنظر اليه من الخارج لتكتشف أنها
تنشط ال "با" و تشعر بذاتها أثناء النوم ,حين يتوقف وعى الجسد ,و أيضا فى حاالت الوعى
كما تنطلق ال "با" بشكل تلقائى و تترك الجسد بمجرد حدوث الوفاة و توقف عمل الحواس المادية .
يتوقف التحرر التام من المقبرة (وعى الجسد) على اكتساب المتوفى قوة فى أقدامه .
ان فتح باب المقبرة ما هو اال خطوة أولى من رحلة طويلة تهدف لتحرير ال "با" نهائيا من وعى
يصور المشهد التالى الكاتب "آنى" و هو يفتح باب المقبرة لكى تنطلق ال "با" الى الخارج .
و بمجرد خروج ال "با" من مقبرتها/جسدها يبدأ "آنى" رحلته الطويلة فى العالم السفلى .
و الفصل الذى ورد فيه هذا المشهد هو الفصل رقم 92من كتاب الخروج الى النهار و يحمل عنوان
( فصل فتح باب المقبرة لكى ينطلق منها ال "با" و ال "خيبيت" ,و الخروج الى النهار و اكتساب
القوة فى األقدام ) .و ال "خيبيت" كما عرفنا فى الفصل السابق هو الظل .
*** لقد فتحت أبواب المكان الذى يقيد الروح باألغالل ...لقد انفتح ما كان من قبل مغلقا ...لقد
أرتحل فى الدرب العظيم ...و قد صارت أطرافى قوية ...أنا حورس ...قد انفتح الطريق أمام
بائى ***
باكتساب القوة فى األقدام يصبح بمقدور المرتحل فى العالم السفلى أن يدير ظهره للعالم المادى
و يولى وجهه شطر األفق الذى يشكل الحد الفاصل بين ما هو مألوف /معلوم و ما هو مجهول /
خفى .
فى المشهد التالى يظهر أحد المرتحلين فى العالم السفلى و يدعى نو" و هو يمسك بعصاه و يخطو
و الخطوة األولى فى رحلة الروح هى العثور على الدرب الصحيح الذى ينقل المرتحل من المقبرة
الى العالم السفلى .و البحث عن الطريق يحدث فى منطقة باطنية يطلق عليها اسم "روسيتاو" .
و "روسيتاو" فى األصل هى بوابة بين العوالم تمر منها الزحافة التى تحمل "سوكر" (رب العالم
واحد) .و لكن بمرور الزمن تطور مفهوم "روسيتاو" و أصبحت الكلمة تستخدم لالشارة الى مكان
ذو طرق متشعبة ,و لكنها ليست كلها مفتوحة أمام المرتحل .
و بذلك تكون روسيتاو أشبه بمتاهة قد تفقد ال "با" فيها طريقها بسهولة .
و أفضل مرشد فى هذه المتاهة هو أنوبيس ,أو "ويبواويت" (فاتح الطرق) ,و كالهما يظهر
فى الطبيعة ,يعيش حيوان ابن آوى على حافة الصحراء فى حفر تحت األرض .
تأمل المصرى القديم حيوان ابن آوى فوجده يتخذ بيته على الحدود بين العالم المتحضر و بين عالم
البداوة ,بين عالم ما فوق األرض و العالم السفلى فى حفر تقع تحت سطح األرض مباشرة ,
و يمارس الصيد فى وقت الغسق (أى بين النهار و الليل) ,لذلك كان فى نظرهم رمزا هاما ارتبط
بشكل خاص بالمنطقة الوسطى بين عالم األرض و العالم السفلى .
كانت تماثيل أنوبيس تغطى باللون األسود و الذهبى معا لتعبر عن الطبيعة المزدوجة ألنوبيس .
لذلك كان أنوبيس (و أيضا حورس) من أهم المساعدين و المرشدين للروح أثناء رحلتها فى العالم
السفلى .
فى المشهد التالى يظهر أنوبيس و هو يمسك بيد المرتحل فى العالم اآلخر "ناخت" ليريه الطريق
الى العالم السفلى ,و أمامه شجرة ,ربما كانت شجرة الجميز المقدسة فى مصر القديمة و التى
و قد صور الفنان المصرى القديم نوت فى العديد من المشاهد فى هيئة شجرة جميز ,أو شجرة
جميز برأس امرأة تقدم الطعام و ماء الحياة لألرواح فى طريقها من المقبرة الى العالم السفلى .
و يعتبر حضور األم الكونية سواء فى هيئة نوت أو حتحور أو ماعت من أهم معالم رحلة الروح
و تعتبر ماعت بشكل خاص هى األكثر تكرارا فى معظم المشاهد ,ألنها ترمز للضمير و النظام
الكونى الذى تهدف الرحلة الى ضبط النفس و الروح لتصير فى تناغم معه .
اذا فقد المرتحل التناغم مع الماعت ,فلن يستطيع االستمرار فى الرحلة .
و من أهم محطات رحلة الروح الدخول الى قاعة الماعت حيث يتم وزن قلب المرتحل أمام ريشة
تعتبر قاعة المحاكمة أو قاعة الماعت أحد أهم محطات الرحلة ,بل يمكننا أن نقول أن الرحلة كلها
تقع داخل قاعة الماعت ,ألن ماعت هى الحاكم الذى يهيمن و يراقب كل قرار يتخذه االنسان فى
بمجرد عبور الروح من بوابة العالم السفلى تجد نفسها وسط محيط من الظلمة .
و تعتبر الظلمة اول عالمة يدرك بها المرتحل أنه وصل الى العالم السفلى .
تحاط الروح بالظالم التام ,و يختفى كل ما له عالقة بالحياة و السعادة .
تبدأ الرحلة فى العالم السفلى بالظلمة ,و يختفى من أمام الروح كل ما كان يمنحها الراحة و األمان
جاء فى كتاب الخروج الى النهار على لسان أحد األرواح المرتحلة فى العالم السفلى -:
*** ما هذا المكان الذى أتيت اليه ؟! ...انه مكان غريب ,ليس فيه ماء وال هواء ...و هو عميق ,
ال يسبر غوره ...و مظلم ,تفوق ظلمته أحلك الليالى ظلمة ...يسير فيه الناس على غير هدى
و يهيمون على وجوههم ...كيف لى أن أجد الرضا هنا ,و القلب يتوق للبهجة و العشق ***
الذى خرج فى األزل من رحم "نون" المظلم الذى ال يسبر غوره .يقول آتوم مخاطبا الروح التى
*** سأهبك االشراق الروحى ,فى المكان الذى تقدم فيه قرابين الخبز و الجعة ...سأهبك السكينة ,
فى المكان الذى يتحقق فيه المنى ...و سترى جالل وجهى ,و عندها ستصير كامال ,و لن يعوزك
شئ ***
و عند سماع هذه الكلمات المطمئنة يكتسب المرتحل القوة و الشجاعة الكافية الستكمال الرحلة .
و لكن ,هناك مشكلة أخرى تواجه المرتحل .فكل شئ فى ال "دوات" مقلوب رأسا على عقب .
ان العالم السفلى هو صورة مرآه معكوسه من عالمنا .و ما يبدو للعين ألول وهلة شيئا مألوفا ,ال
و المشهد التالى من مقبرة الملك رمسيس التاسع و هو يصور أشخاصا يرتحلون فى العالم السفلى
فى العالم السفلى ,يجد الكثير من المرتحلين صعوبة فى معرفة كيف يقفون و فى أى اتجاه يسيرون
ألن القوانين التى تحكم العالم السفلى ليست كالقوانين التى تحكم العالم المادى ,و انما هى أقرب الى
هذا الشعور بفقدان االتجاه و تشتت الذهن هو السبب فى أن بعض األشخاص يسيرون فى العالم
السفلى رأسا على عقب .و لذلك كان من الضرورى أن يتزود المسافر الى ذلك العالم بالتعاويذ
و الرقى و االبتهاالت التى تساعده فى التغلب على مشكلة فقدان االتجاه .
يحتوى كتاب الخروج الى النهار على العديد من النصوص التى تعالج تلك المشكلة .
كما أن هناك أيضا ابتهاالت تحمى المرتحل من أن يتناول فضالته ,فكل شئ فى العالم السفلى
المشهد التالى أيضا من مقبرة الملك رمسيس التاسع .الجزء السفلى منه يصور المصير التعس
لبعض المرتحلين فى العالم السفلى الذين اضطروا للسير فيه رأسا على عقب نتيجة الجهل بالذات .
اما الجزء العلوى من المشهد فيصور األرواح التى اكتشفت السر و عرفت كيف تبقى معتدلة
منذ فجر الحضارة المصرية ,كان ال "دوات" (العالم السفلى/النجمى) فى نظر قدماء المصريين
و من أهم المناطق التى تجتازها الروح أثناء رحلتها فى العالم السفلى منطقة تعرف باسم "سيخيت
كان لحقول االيارو أهمية خاصة فى رحلة الروح فى العالم السفلى منذ عصر الدولة الوسطى و كان
من الضرورى للمرتحل أن يتزود بخريطة تساعده فى اجتياز تلك المنطقة التى تشبه المستنقعات .
و لذلك كان قدماء المصريين يرسمون خرائط للعالم السفلى فى قاع التوابيت الخشبية فى عصر
و المشهد التالى هو مثال ألحد التوابيت من عصر الدولة الوسطى و قد سجل فيه الفنان المصرى
و مستنقعات .
و منذ عصر الدولة القديمة ,كانت حقور االيارو فى نظر قدماء المصريين هى مكان تتطهر فيه
النفس ,و هى منطقة تقع تحت حكم و هيمنة أوزير (رب العالم السفلى) ,و لكن منذ عصر
عرفت حقول االيارو أيضا باسم "سيخيت – حتب" أى حقول الرضا أو السالم .
و عند تأمل الخريطة السابقة نجد أنها تحوى فى القسم العلوى ثالثة جزر تعرف باسم (مكان
*** أن تصير الروح تجليا للكيان االلهى "حتب" ,رب الحقول/الجنات ,و تعطر أنفه بأنفاس الحياة
و أسفل الجزر الثالثه هناك نص يصف مقاييس و أبعاد حقول االيارو بأن عرضها ألف فرسخ
,و كذلك طولها .و يصفها بأنها هى "قرنى ربة النقاء و الطهارة" .
و ربما كانت الربة ذات القرنين هى نفسها حتحور التى تظهر فى أغلب األحيان فى الفن المصرى
ارتبطت البقرة حتحور بشكل خاص بالمستنقعات و األحراش ,حيث يعيش البقر الوحشى فى هذه
و حتحور هى أحد أشكال األم الكونية -مثلها مثل نوت – و لذلك كانت تظهر فى الفن المصرى
و ارتباط حقول االيارو بحتحور يعنى أن لتلك الحقول دالالت كونية .
أما الجزر األربعة فى المستوى الثانى من المشهد فهى تحمل األسماء التالية (الجزيرة الهادئة) ,
و النص المنقوش تحت أسماء الجزر يذكر اسم المكان و أبعاده ,و هو (بحيرة أنثى فرس النهر
األبيض ,التى يبلغ طولها ألف فرسخ ,و التى ال يوجد بها أى أسماك أو ثعابين) .
كانت أنثى فرس النهر األبيض رمزا للربة "ايبى" و هى احدى صور و تجليات األم الكونية .
جاء ذكر "ايبى" فى أقدم النصوص الدينية المصرية و هى متون األهرام ,و فيها نقرأ أن "ايبى"
و فى توابيت نبالء الدولة الوسطى وصفت "ايبى" أيضا بأنها ترضع أرواح الموتى لتمنحهم الطاقة
و فى المستوى الثالث من الخريطة سجل المصرى القديم العبارات التالية ( حرث األرض ,
و حصاد شعير مصر السفلى ,و قمح أرض االله ,حيث ال يوجد ثعابين ) .
و على يسار النقش نجد قاربا بمجاديف يرسو على شاطئ بحيرة تحوى جزيرتين .
و نالحظ أن كل الخرائط التى تصور منطقة حقول االيارو تحتوى على قارب يرسو على شاطئ
بحيرة فى نفس الموضع تقريبا ,حيث يتم حرث األرض و حصاد الشعير و القمح .
يبدو القارب و كأنه بانتظار المرتحل الى أن ينتهى من الحرث و الحصاد لكى يستخدمه فى االبحار
و القارب هو وسيلة النقل الرئيسية فى العالم السفلى و أيضا العالم السماوى .
و المنطقة التى تقع على يمين القارب مباشرة فيطلق عليها اسم (مهيج العواصف) .
أما المستوى الرابع و األخير من المشهد فالنقش المسجل فيه يقول أن بحارة القارب الذى ينتظر
المرتحل فى العالم السفلى هم أبناء حورس األربعة ( :ايمستى ,حابى ,دواموتيف ,كبح سنوف) .
و دور أبناء حورس األربعة فى هذا المشهد يعتبر امتدادا لدورهم الذى عرف عنهم منذ عصر
الدولة القديمة ,حيث ذكرت متون األهرام أن أبناء حورس األربعة يأتون للملك بقارب ليستخدمه
كما يقوم أبناء حورس األربعة أيضا بربط حبال المعراج الذى تصعد فوقه روح الملك الى النجوم ,
و يلعبون دورا أساسيا فى تحول الملك الى نجم من النجوم التى ال تأفل .
و باالضافة الى المعراج المصنوع من الحبال كانت درجات السلم أحد الوسائل التى تستخدمها
الروح فى صعودها الى السماء ,و نالحظ أن المشهد السابق يحوى أيضا درجات سلم (فى
و يعتبر القارب و درجات السلم من أهم المعالم التى تميز خرائط حقول االيارو فى عصر الدولة
الوسطى و الدولة الحديثه ,و هو ما يعنى أن هذه المنطقة لم تكن هى الوجهة النهائية للروح ,و أنه
ما زالت هناك محطات أخرى على الروح أن تمر بها أو تصعد اليها .
و النص المدون فى المستوى الرابع و األخير من المشهد السابق يطلق على ذلك المكان أو المستوى
اسم "بحر الكيانات االلهية" و هو بحر يوصف بأنه بارد و هادئ لكل الكيانات االلهية ,كما يوصف
بأنها غامض لدرجة أن أبعاده و مقاييسه تظل خفية عن كل الكيانات االلهية ,حتى أوزير (رب
بوجه عام ,لم تكن الخريطة التى تحدثنا عنها فى المثل السابق فريدة من نوعها و انما هى واحدة
من العديد من الخرائط التى ظهرت فى عصر الدولة الوسطى و الحديثه و التى تشترك جميعا فى
المالمح الرئيسية لحقول االيارو كمكان ملئ بالحقول الخضراء و المياه ,مع مالحظة أن
توصف حقول االيارو بأنها تخلو من وجود الثعابين ,و تحمل الجزر الواقعة فى مياهها فى الغالب
و الوسائل التى يستخدمها المرتحل فى االنتقال من حقول االيارو الى منطقة أخرى من مناطق العالم
و لكن وجود جزيرة تحمل اسم (مكان الضرب/األلم) و منطقة يطلق عليها اسم (مهيج العواصف)
يشير ضمنيا الى احتمال وجود نوع من المعاناة أو األلم فى تلك المناطق .
فى الشكل التالى نرى مثاال آخر لخرائط العالم السفلى التى ظهرت على توابيت الدولة الوسطى .
و الصورة ال تبين سوى جزء واحد فقط من المشهد الكامل ,و هو جزء من كتاب الطريقين
يصور المشهد طريقين ,األعلى بلون أزرق و هو طريق الماء ,أما األسفل فهو طريق األرض
و لونه أسود .و يفصل بينهما بحيرة مستطيلة تعرف باسم بحيرة النار .
و فى أقصى يمين المشهد تقع بوابتان ,بوابة النار فى األعلى و بوابة الظلمة فى األسفل (على شكل
قبة داكنه) و هما الوجهة التى ينتهى اليها الطريقان .و فوق بوابة الظلمة يرقد الحارس ,و هو
كائن غريب الشكل بجسد محنط و رأس كبش ,يحمل فى يده سكينا .
يطلق على ذلك الحارس لقب "الذى يعاقب المجرمين" و هو واحد من الكائنات المعادية و الخطيرة
و العديد من هذه الكائنات ال يتم تصويره و لكن يتم ذكره فى سياق النص المصاحب للمشهد .
و لكى يستطيع المرتحل فى العالم السفلى االفالت من هذه الكائنات الخطيرة عليه أوال أن يكون
على علم بأسمائها ,و عليه أيضا أن يبرهن على صلته القوية بالكيانات االلهية األسمى .
على سبيل المثال ,فى الجزء العلوى من المشهد السابق ,و عند المنحنى الثانى من الطريق
األزرق المائى يصادف المرتحل فى العالم السفلى خمسه من تلك الكائنات المخيفة يطلق عليها
الفرائص" ,و "الذى يكوى بالنار" ) ,و هنا يواجه المرتحل هذه الكائنات قائال -:
*** أنا روح ....أنا رب األرواح ...و الروح التى أخلقها تحيا لألبد كروح حية ...و ما أمقته ال
يحظى بالخلود ...أنا الذى يدور حول بحيرته ,وسط نار/نور رع ,رب النور ...أنا الذى أخلق
الشهر ...أنا الذى أحدد منتصف الشهر ...تدور عين حورس فى مدارها بالقرب منى ...و تحوت
و تلك المواجهات و التحديات من أهم معالم رحلة الروح فى العالم السفلى .
تعود جذور تلك المواجهات الى متون األهرام (من عصر الدولة القديمة) حيث ذكرت نصوصها أن
المسافر فى النجوم عليه أن يواجه فى رحلته الثور السماوى الذى يحرس الطريق الى السماء .
و لكى يجتاز المرتحل النجمى ذلك الثور و يمر من أمامه عليه أن يبرهن على أنه يعرف ذاته
و يعرف الى أين هو ذاهب و أن يبرهن على قدرته على الوصول الى غايته .
فى هذا الجزء الذى اقتطفناه من كتاب الطريقين (و هو جزء من متون التوابيت) تم استبدال الثور
السماوى بعدد من الكائنات المخيفة التى تحرس منحنيات الطريق المائى األزرق ,و التى تحمل
"الواثب/المندفع" " ,المشتعل" " ,التى تحمل سكينا" " ,الذى يلقى اللعنات" ,الذى يبتلع "ضحاياه" ,
أما فى الطريق األرضى األسود (و يقع أسفل الطريق المائى) فعدد الكئنات المخيفة و الحراس
أقل ,و لكنهم ليسوا أقل خطرا من حراس الطريق المائى .و من هؤالء على سبيل المثال "الذى
يحمل سكينا" " ,ذو وجه فرس النهر البرى القوى" " ,ذو الوجه المرعب ,الذى يقتات على
يمكن للمرتحل أن يتغلب على حراس الطريق المائى فقط بأن يبرهن على عزيمته و نقاء قلبه .
و الفرق بين الطريقين ال يكمن فى عدد الحراس الذين يواجهون المرتحل فى كل طريق منهما ,
فالمرور من الطريق األرضى األسود يتطلب من المرتحل قدرا معينا من المعرفة و القرب من
"رع" ,أما الطريق المائى األزرق فيقطعه مريدو "أوزير" الذين اطلعوا على أسراره .
و مع ذلك فالفرق بين الطريقين غير مذكور بشكل واضح و مباشر فى النصوص المصاحبة لمشاهد
و لكن بقدوم عصر الدولة الحديثه تم استبدال مشاهد الطريقين بمشاهد أخرى متنوعة من رحلة
و مع ذلك ظلت الفكرة الرئيسية المهيمنة على كل كتب العالم اآلخر ثابته ,و هى أن العالم السفلى
يتكون من العديد من المناطق و أن على الروح أن ترتحل فى مناطق مختلفة تبدأ من ظلمة المقبرة
و فى عصر الدولة الحديثه كانت خرائط العالم السفلى تبرز طبيعة كل منطقه من مناطقه ,بل
و من أمثلة ذلك ما جاء فى بردية "أوسر حات" (من عصر األسرة , 03دولة حديثه) ,حيث تم
تقسيم منطقة حقول االيارو الى 05تل ,و هنا يبدو أن الطبيعة المرنة الفضفاضة لهذه المنطقة
و النص المصاحب للمشهد يبدأ فى الجزء العلوى من أقصى اليمين ,و ينتقل من أعلى الى أسفل
عبر النتؤات أو التالل العديدة التى يبدو بعضها كأماكن يصعب اجتيازها .
على سبيل المثال التل الذى يتخذ شكل حرف Uباالنجليزية ,و هو فى منتصف الصف األيمن ,
هو عبارة عن منطقة نارية يطلق عليها "قرون النار" ,و أسفلها مباشرة جبل مرتفع .
و المنطقة الثالثة فى الصف األيمن (بالترتيب من أسفل الى أعلى) يحكمها كيان ماورائى يطلق
عليه "الذى يقذف باألسماك" .و هو اسم ينذر بالخطر ,ألن ارتحال الروح فى العالم السفلى فى
هيئة سمكة يعنى تعرضها لخطر رهيب ,ألن السمك يرمز لفقدان الذاكرة الروحية و بالتالى
و فى الصف األيسر من الشكل السابق ,نجد فى المنتصف تال على شكل بيت و قد دون داخله
و تحته مباشرة تل على شكل حرف Sباالنجليزية و هو منطقة تتسم بالمياه التى تندفع بشده .
و بالنظر الى الخريطه بوجه عام نالحظ وجود العديد من الثعابين تتخذ موقعها بين التالل ,و هى
تضفى مزيدا من االحساس بالخطر الذى يهيمن على المشهد العام .
و المعنى الذى تنطوى عليه هذه الخريطة و غيرها من خرائط العالم السفلى هو أن ال "با" عليها أن
تمر بتحوالت و تختبر العديد من حاالت الوعى و تكتشف المناطق المظلمة فى العقل الباطن و التى
صورها الفنان المصرى القديم كمناطق جغرافية ترتحل فيها الروح .
فى العالم السفلى ال يوجد طبيعة جغرافية ألنه ببساطه عالم باطنى و ليس عالم مادى .
العالم السفلى هو عالم سيكولوجى (نفسى) يتبدى أمام أعين االنسان وفقا لما هو موجود فى عقله
الباطن .
و كما تعكس أحالمنا ما يدور فى عقلنا الباطن من أفكار و رغبات ,كذلك فى العالم السفلى تكون
المناطق التى يرتحل فيها االنسان انعكاس للقوى النفسية و الروحانية التى تشكل عقله الباطن .
تعبر هذه الخرائط الباطنية عن امتالك من قاموا بتصميمها للحكمة و المعرفة العميقة لطبيعة النفس
االنسانية ,حيث رمز مصممو الخرائط لحاالت الوعى بمناطق جغرافية .
أن يعرف االنسان موقعه فى العالم اآلخر و يعرف أين يوجد ,كان ذلك يعنى أنه قد عرف جزءا
من نفسه (عقله الباطن) كان خفيا عنه ,و هذه المعرفة هى التى تؤهله للتحرك و االنتقال الى منطقة
أخرى .
ان السير قدما فى رحلة العالم السفلى هو عبارة عن عملية تطهر تدريجى للبا من كل ما علق بها
و هكذا تتبدل الطبيعة الجغرافية التى تحيط بالبا أثناء رحلتها فى العالم السفلى و تتغير تدريجيا من
و التالل التى جاء ذكرها فى العالم السفلى ال تحمل كلها أسماء ذات معانى سلبية .
فهناك تل لألرواح (فى الصف األيمن ,تحت الجبل المرتفع) يوصف بأنه يقع فى الغرب الجميل ,
يتضح من خرائط العالم السفلى أن هناك عوالم أسمى تتخلل منطقة حقول االيارو ,فهناك دائما
حضور لكيانات الهية من عالم الروح ,اذا كان المرتحل منفتحا على ذلك العالم و على دراية به .
و لذلك ظهر فى عصر الدولة الحديثه العديد من خرائط حقول االيارو التى تصورها فى صورة
المشهد التالى من بردية "آنى" (من عصر الدولة الحديثه) لحقول االيارو ,و نالحظ أن المشهد
يحتفظ بالكثير من المعالم التى ميزت حقول االيارو التى تعود لعصر الدولة الوسطى ,و منها
الطبيعة المائية حيث تجرى فيها األنهار و تملؤها البحيرات ,و منها أيضا وجود القوارب الراسية
حقول االيارو
أما الجديد هنا ,فهو أن البردية تصور "آنى" و هو يتحدث الى الكيانات االلهية التى تسكن هذه
فى الجزء العلوى من المشهد ,فى أقصى اليسار يظهر "آنى" و هو يقدم القرابين لثالثة من الكيانات
االلهية بأجساد آدمية و رؤوس حيوانات ,ثم يجدف و يبحر بقاربه ,ثم يقف ليخاطب حورس فى
هيئة صقر .و فى أقصى اليمين هناك ثالثة جزر يصاحبها نص يقول ( بلوغ الرضا فى حقول
فى المستوى الثانى من المشهد ,يحصد "آنى" (الذى تحول الى أوزير) الغالل التى تبلغ ارتفاعا
هائال يضاهى قامة "آنى" ,ثم يدرس "آنى" هذه الغالل باستخدام ثور يطأ األعواد بأقدامه ,ثم يرفع
"آنى" يده بالتحية و التبجيل لطائر ال "بنو" (الفينيكس) و هو أحد رموز "رع" .
ثم يجلس ممسكا بعصا ال "سخم" (القوة) ,و فى أقصى اليمين نرى ثالثة عالمات لل "كا" فوق
كومتين من الغالل احداهما حمراء و األخرى بيضاء ,ثم ثالثة طيور "آخ" (رمز الروح التى
حازت االشراق) فوق ثالثة جزر ربما كانت مسكنا لطيور ال "آخ" .
و فى المستوى الثالث يظهر "آنى" و هو يحرث األرض .و يقول النص المصاحب للمشهد أن هذه
المنطقة هى منطقة فرس النهر الذى يعيش فى نهر يبلغ طوله ألف فرسخ ,أما عرضه فلم يطلع
عليه أحد .و من أهم سمات هذه المنطقة أنها تخلو من وجود األسماك و الثعابين .
و فى المستوى الرابع و األخير من المشهد ,نجد قاربين راسيين ,يحتوى كل منهما على درجات
يخبرنا النص المصاحب للمشهد أن رب هذه المنطقة هو أوزير ,و أنها موطن ال "آخو" ,أى
فى هذه المنطقة ,يقال أن أرواح هؤالء المبجلين تحصد أعواد قمح يبلغ ارتفاعها ثالثة أذرع .
و لكن علينا أن نضع فى أذهاننا أن تجربة الروح فى العالم السفلى بوصفها شئ ممتع ( = جنة /
فردوس) أو شئ مؤلم ( = جحيم ) هى رهن اجتياز الروح الختبارات و تعرضها لعمليات تحول
ان حقول االيارو بخضرتها و جمالها و طبيعتها الخالبة هى تجربة تختبرها فقط الروح التى
اجتازت األماكن األكثر ظلمة ,و تغلبت على الكائنات المخيفة و األشباح التى تعترض طريق
بعد أن ألقينا نظرة سريعة على الطبيعة الجغرافية للعالم السفلى من خالل الخرائط التى سجلها قدماء
المصريين فى كتب العالم اآلخر ,يمكننا اآلن أن نبحث بتفصيل أكثر فى التجارب التى تمر بها
لما كان العالم السفلى عالما مائيا ,مليئا باألنهار و البحيرات ,لذلك فان وسيلة االنتقال الرئيسية فيه
فى مصر القديمة لم يكن القارب هو وسيلة لالنتقال فى مناطق المستنقعات فقط ,و انما فى طول
كانت القنوات المائية هى شرايين االتصال الرئيسية لألمة المصرية ,و االبحار فيها بالقوارب هو
أسرع وسيلة نقل ,و هو بالتأكيد أسرع من السير على األقدام أو ركوب الدواب .
و لكن االبحار فى أنهار العالم السفلى و قنواته يختلف عن االبحار فى نهر النيل و قنواته ,ألن
المرتحل يبحر فى العالم السفلى و هو يعى وجود خطر كامن تحت سطح الماء يوشك أن ينقض
و المشهد التالى (و هو جزء من كتاب الخروج الى النهار) ال يظهر فيه ثعبان أبوفيس ,و لكن
النص المصاحب للمشهد يذكر بوضوح الشعور بالقلق الذى ينتاب المرتحل فى العالم السفلى و الذى
يضطر لالبحار فوق ظهر أبوفيس لكى يستطيع الوصول الى أبيه أوزير .
و النص يخاطب "ذلك الذى أحضر القارب" ,و الذى تنكشف لنا هويته فى السطر األخير من
و ال "آخ" هى ذلك الجزء من كيان االنسان الذى يمكن االعتماد عليه فى الصعاب .
و القارب المقصود هنا ليس قاربا ماديا ,و انما هو صفات االنسان النفسية و الروحية التى تساعده
على مواجهة ثعبان الفوضى و الظالم أبو فيس و االنتصار عليه .
*** يا من تحضر القارب ,فوق ظهر ثعبان الشر "عبيب" (أبو فيس) ...أحضر لى قارب ...
و اسحب حباله بسرعة ,و لكن بسالم ...هيا ,أقبل ,أسرع ...ألنى أتيت ألرى أبى أوزير ...
رب الرداء األحمر ...الذى صار ربا للعالم السفلى ...يا رب العاصفة ,يا من تجيد االبحار ...يا
من تبحر فوق ظهر "عبيب" ...يا من تشرف على القارب الغامض ...يا من تقيد أبوفيس باألغالل
...أحضر لى القارب ...اسحب الحبال بسرعة من أجلى ...لكى أبحر ...هذه األرض نذير شؤم
...لقد خرجت النجوم عن توازنها ,و سقطت على وجوهها ...و ال تستطيع الظهور مجددا ...لقد
أتيت الى هذا المكان و كأنى بحار تحطمت سفينته ...عسى أن تأتينى ال "آخ" (الروح التى حازت
فى بعض النصوص قد يصادف المرتحل فى العالم السفلى صعوبة فى االتصال بال "آخ" التى
فهناك من يحضر القارب ,و هو فى نفس الوقت المعداوى الذى يبحر به و يعبر به من شاطئ
و ربما كان حارس القارب جانبا آخر أعمق من جوانب ال "آخ" (الروح التى حازت االشراق) ,
يوصف حارس القارب بأن فى نعاس دائم ,و على المعداوى أن يوقظه .
فى النص التالى يطلق على حارس القارب اسم "آقن" و على المعداوى اسم "مآ حر" ,أى "الذى
فى المشهد التالى يظهر المعداوى و هو يدير رأسه للخلف و ينظر فى اتجاه عكس اتجاه جسده
يذكرنا مشهد المعداوى السابق بمشهد أوزير فى تجليه السماوى فى مجموعة نجوم أوريون و هى
يظهر "أوزير – أوريون" فى صورة رجل يخطو خطوة واسعة الى األمام ,و يقف فوق قارب
يبحر به فى السماء و يدير وجهه الى الخلف كما فى المشهد التالى .
و بتأمل المشهد كامال نالحظ أن أوزير ينظر الى رفيقته الوفية ايزيس (فى هيئة بقرة) التى تتبعه ,
و بين ايزيس و أوزيريس يقف االبن حورس فى هيئة صقر يجثم فوق عود بردى .
و من هذه المقابلة بين هيئة المعداوى و هيئة "أوزير -أوريون" ,يتضح لنا أن هناك عالقة بين
االثنين ,فربما كانت مجموعة نجوم أوريون هى الموضع السماوى الذى تبدأ منه رحلة القارب
فى أحد النصوص التى استعرضناها معا فى الفصل التاسع رأينا أهمية امتالك المرتحل فى العالم
السفلى ألعضائه و جوارحه كاملة و ضرورة أن يعاد تجميع أجزاء جسده الممزق مثل أوزير .
عندما يلتقى المرتحل فى العالم السفلى بالمعداوى يبدأ بينهما الحوار ,كما فى النص التالى -:
المرتحل :أيها المعداوى "مآ -حر" ,يا من وهبت الحياة األبدية ,أيقظ حارس القارب "آقن" ,
المعداوى :انتبه ! هل قلت أنك تريد أن تعبر الى الجانب الشرقى من السماء ؟ اذا عبرت الى هناك
,فماذا ستفعل ؟
المرتحل :سأحكم المدن ,و القرى ,سأعرف الغنى ,و أعطى الفقير ,و سأعد قرابين الكعك من
أجلك عندما أبحر مع التيار ,و سأعد قرابين الخبز من أجلك و أنا أبحر ضد التيار .أيها المعداوى
"مآ -حر" ,يا من وهبت الحياة األبدية ,أيقظ حارس القارب "آقن" من أجلى ,ألنى أتيت .
و لكن المعداوى "مآ -حر" ال يرضيه ذلك ,و يستمر فى طرح أسئلة غامضة على المرتحل ,
و أخيرا يذهب المعداوى لكى يوقظ الحارس "آقن" ثم يعود موجها حديثه للمرتحل قائال :انه ال
و أخيرا يتنازل المرتحل عن مساعدة المعداوى و يذهب بنفسه اليقاظ الحارس النعسان ,و يدور
المرتحل :يا "آقن" ,يا من وهبت الحياة األبدية ,أحضر لى القارب ,ألنى أتيت .
المرتحل :هى الذراعين و الساقين .يا "آقن" ,يا من وهبت الحياة األبدية ,أحضر لى القارب ,
و يستمر الحوار بين المرتحل و حارس القارب على نفس منوال الحوار السابق بين المرتحل
و المعداوى .و لكن يفاجئ "آقن" المرتحل بقوله ان القارب غير جاهز لالبحار .
فليس له شراع و ال صوارى و ال حبال و ال دعائم .و على المرتحل أن يبرهن على قدرته على أن
يقوم باعداد هذه األشياء بنفسه .بعبارة أخرى ,على المرتحل أن يعيد بناء قاربه بنفسه .
و هنا تجدر االشارة الى أن القوارب الجنائزية التى عثر عليها علماء اآلثار فى حفر بجانب
و ربما كان الهدف من هذه القوارب الجنائزية أن تكون هى وسيلة االنتقال التى ستسخدمها روح
الملك فى العالم اآلخر ,و وجودها مفككة يعنى أن على الملك أن يعيد بناءها فى العالم اآلخر .
و بعد انتهاء المرتحل فى العالم السفلى من بناء القارب ,يبدأ بينهما هذا الحوال المثير -:
الحارس (آقن) :أيها الساحر ,هل اكتسبت القدرة على الهيمنة على ما لم أحضره لك (أى القارب) ؟
أود التأكد من أنى بعد أن أساعدك و أبحر بك الى االله العظيم لن يقول لى االله (هل جلبت لى جال
المرتحل :أعرف كيف أعد أصابعى .خذ واحدا ,ثم الثانى ,اقطعه ,اطفئه ,قم بازالته ,أعطنى
اياه ,كن لطيفا معى ,اجعل العين تتألق ,و امنحنى اياها .
تشير هذه االجابة الغامضة ضمنيا الى أسطورة عين حورس التى اقتلعها ست ,و لكنها بعد ذلك
شفيت و عادت سليمة و مكتملة العدد ,بل أكمل مما كانت فى السابق و أكثر قدرة على الرؤية .
هناك عدد من النصوص فى متون األهرام تدور حول ذلك الحدث األسطورى ,منها النص التالى
***أيها الملك ,خذ اليك اصبع ست ...الذى يهب عين حورس الرؤية الواضحة الجلية ...أيها
الملك ,خذ اليك عين حورس السليمة /المبصرة ...التى ينيرها طرف اصبع ست ***
ان األسئلة الغريبة التى يطرحها حارس القارب "آقن" على المرتحل هى اختبار لمدى نجاحه
فى تحويل الصفات السلبية ل "ست" و التى تشكل جزءا من نوازع النفس االنسانية الى صفات
يتضح معنى النص السابق أيضا حين نعرف أن قدماء المصريين كانوا يطلقون على مغاليق
باب الناووس الذى يحوى الصورة المقدسه لالله داخل قدس أقداس المعبد اسم "اصبع ست" .
و من الجدير بالذكر أيضا أن "اصبع ست" كان يوصف فى مصر القديمة أحيانا بأنه العضو
الذكرى ل "ست" الذى تخرج منه النار ,و ذلك ما يفسر لنا لماذا يتحدث المرتحل عن اطفاء
اصبعه .
على المرتحل أن يقوم بترويض طاقة "ست" التى تتسم بالعنف و االندفاع و الشهوة و الشراهة
بداخله و يحولها الى طاقة ايجابية روحانية ,و هذا هو الشرط األساسى للعبور الى االله العظيم .
و المياه التى يبحر فيها المرتحل و يعبرها من شاطئ الى آخر هى مياه النهر السماوى ,أى مجرة
الطريق اللبنى ,و التى جاء ذكرها فى سياق رحلة الروح فى العالم السفلى .
و هنا نالحظ أن فكرة المياه السماوية التى تعبرها أرواح الموتى من شاطئ آلخر لم تكن فكرة
تمثل المياه عقبة هائلة على الروح أن تتخطاها لكى تصل الى مستوى أسمى من الوعى ,و بذلك
و سواء كانت هذه المياه فى السماء أو فى أى مكان آخر ,فاألهم هو المغزى وراء عبور هذه المياه
و األهم أيضا أن صورة عبور المياه تتضمن أيضا وعى المرتحل و ادراكه أن تحت المياه يعيش
يصف كتاب الخروج الى النهار كيف يقطع المرتحل عالم القوى السيكولوجية بأن يصعد الى متن
و هى رحلة ليست يسيرة ,و قد صور الفنان المصرى القديم الصعوبات التى يواجهها المرتحل فى
هيئة وحوش مخيفة و أرواح شريرة و أشباح ,و هى جميعا تحديات تواجه االنسان عند مروره فى
فى الفصل التالى سنتناول الصعوبات التى تواجه المرتحل فى العالم السفلى .
هناك مغزى معقد وراء فكرة اجتياز العالم السفلى الذى تجرى فيه األنهار باستخدام قارب .
و قد رأينا فى الفصل السابق أن فكرة االبحار بالقارب تتضمن أيضا رموزا أخرى مثل المعداوى
و حارس القارب ,كما تتضمن أيضا ثعبان أبوفيس و ان كان يخفى نفسه تحت سطح الماء .
تحمل رمزية القارب العديد من الدالالت ,منها قدرة الروح على االستمرار فى الترحال و تخطى
العقبات و الصعاب و الفخاخ التى تشبه األمواج و العواصف التى يواجهها القارب أثناء المالحة .
و شرط امتالك الروح القدرة على بناء قاربها بنفسها هو فى الحقيقة رمز لشرط امتالك الروح
قدرا معينا من المعرفة الباطنية لكى تستطيع أن تكمل رحلتها فى العالم السفلى .
فالمرتحل فى العالم السفلى ال يحصل على القارب جاهزا و معدا لالبحار ,و انما عليه أن يعرف
كل أجزاء القارب و يعرف كيف يقوم بتجميع هذه األجزاء ليصنع منها قاربه .
و كل جزء من أجزاء القارب له مغزى و معنى يتعلق بصفات و قدرات روحانية معينة .
و الشراع فى حد ذاته يستخدم كرمز هيروغليفى يعطى دالالت تدو حول الهواء /الرياح /األنفاس.
يوصف العالم السفلى فى أغلب النصوص بأنه مكان يخلو من الهواء ,ألن الهواء الوحيد المتاح
بالماعت تحيا األرواح .لذلك يقال أن ال "نترو" (الكيانات االلهية) تتنفس الماعت ,ألنها هى
اذا لم تكن حياة االنسان الدنيا فى تناغم مع الماعت ,فسيعانى فى العالم السفلى من االختناق ألنه لم
فى كتاب الخروج الى النهار (فصل رقم )54نقرأ العبارات التالية و هى ابتهال على لسان المرتحل
*** أبتهل اليك يا آتوم أن تهبنى من األنفاس الذكية التى تعطر أنفك ***
و يستمر المبتهل فى صالته ,فيقول أنه هو البيضة التى وضعها "الصياح العظيم" ( و هو أحد
أشكال رب األرض جب ) .و حسب ما جاء فى أسطورة التاسوع ,كان الصياح العظيم هو األوزة
التى وضعت البيضة األزلية التى خرج منها الخلق فى الزمن األول .يقول النص -:
*** أنا البيضة التى وضعها الصياح العظيم ...أنا أراقب و أحرس السر العظيم الذى كان كامنا
أن يستنشق االنسان الهواء االلهى/المقدس (الماعت) كان ذلك يعنى أنه قد ولد من جديد فى عالم
الروح .
و لكى يولد االنسان من جديد فى عالم الروح عليه أن يعود للبدايات األولى للخلق ,عليه أن يعود
الى البيضة الكونية األزلية ,لكى يولد منها مجددا كروح حية ,و من ثم يمكنه أن يتنفس الهواء
*** كما تنمو البيضة الكونية ,كذلك أنمو ...كما تحيا البيضة الكونية ,كذلك أحيا ...و كما تتنفس
هناك العديد من فصول كتاب الخروج الى النهار تدور حول التنفس فى العالم السفلى ,و تهدف
الشكل التالى من كتاب الخروج الى النهار ,و فيه يظهر الكاتب "آنى" و هو يمسك بشراع قارب
أن يتنفس االنسان الهواء الذى تتنفسه الكيانات االلهية ,كان ذلك يعنى أنه اكتسب القدرة على تفادى
خطر الوقوع فى الشبكة التى يضعها ثالثة من قرود البابون و يصنعون منها فخا الصطياد األرواح
تأمل قدماء المصريين قرود البابون فوجدوها تتجمع و تحتشد قبل شروق الشمس مباشرة و قبل
لذلك كانت قرود البابون فى نظر المصرى القديم هى حراس بوابات الجبال الشرقية و الغربية التى
كانت قرود البابون أيضا من الحيوانات المقدسة التى اتخذت رمزا لتحوت ,رب الحكمة و المعرفة
الباطنية .
أما األسماك (و التى ترتبط بعنصر الماء) فكانت رمزا للروح الجاهلة ,أى التى فقدت ذاكرتها
يقول المؤرخ االغريقى هيرودوت أن تناول السمك كان شيئا محظورا بالنسبة للكهنة أثناء قيامهم
و من الجدير بالذكر هنا أن الهيروغليفية بها ست عالمات على شكل أسماك ,و من المالحظ أن
أربعة من تلك العالمات الستة تحمل دالالت سلبية مثل الكراهية ,التعفن ,االستياء ,الجثمان .
اذا كان العالم السفلى مكانا مليئا بالمياه ,فان آخر شئ يمكن أن يلجأ اليه االنسان عند ارتحاله فيه
ارتبط عنصر الماء فى نظر قدماء المصريين ب "ست" ,فالماء هو البيئة التى تسكنها الكائنات التى
و حتى األسماك (أو أنواع منها) كانت تعتبر فى نظر قدماء المصريين من الكائنات التى يتجسد فيها
"ست" .جاء فى أسطورة موت أوزير أن هناك سمكة التهمت عضوه الذكرى عندما غرق فى الماء
و ما الذى أوقع أوزير فى الماء ؟ أليست حيل "ست" الشريرة هى التى ألقت بأوزير فى قاع النهر
المظلم ,حيث ال يصل أى ضوء من شعاع الشمس .هناك فى الظلمة ,رقد أوزير ,الذى أطلق
عليه لقب "الغريق" ,الذى غمرته المياه ,حيث ال هواء يتنفسه .
يعبر مشهد قرود البابون التى تمسك بشبكة الصيد عن أحد األخطار التى يمكن أن يتعرض لها
و السبب فى وقوع االنسان فى ذلك الخطر هو أن وعى النفس يكون موجها الى عنصر الماء بدال
و هناك أقوال تنسب الى الفيلسوف اليونانى "هيراكليتوس" (هرقليطس) الذى ولد فى مدينة
"ايفيسوس" اليونانية عام 515قبل الميالد تعكس نفس المفاهيم التى عبر عنها قدماء المصريين فى
( أن تتحول الروح الى ماء أو تغرق فى الماء فان ذلك هو موت الروح )
فى المشهد السابق تظهر "با" (روح) "نفر وبن اف" فى هيئة بشرية فى موضع منفصل عن قرود
البابون التى تمسك بشبكة الصيد ,حيث تجلس فى الركن العلوى األيسر من المشهد و أمامها اسمها
"نفر وبن اف" و يعنى "الشروق الجميل" .ان ظهور المرتحل فى العالم السفلى خارج شبكة الصيد
و خارج الماء يعنى أن لديه القدرة على الهيمنة على عناصر الطبيعة و خصوصا الماء .
يبدو "ناخت" فى هذا المشهد و كأن لديه مناعة من السقوط فى الشبكة و التأثر بالطاقات السلبية .
فى الفصل رقم 051من كتاب الخروج الى النهار وصفت الشبكة التى تصيد األرواح بأن عرضها
*** أيها الصيادون الذين يجوبون الهاوية المائية السحيقة ...لن تتمكنوا من ايقاعى فى شباككم التى
توقعون فيها األرواح الخاملة ...لن تتمكنوا من صيدى فى شباككم ,التى توقعون فيها األرواح
الشاردة الهائمة على وجهها ...لقد نجوت من قبضتكم ...لقد ولدت من جديد فى هيئة "سوبك" ...
هاأنذا أحلق فى هيئة طائر بعيدا عنك أيتها األسماك ذات األصابع الخفية ***
لقد اطلع "ناخت" على أسرار التحوالت الخيميائية/الباطنية/الروحانية و عرف كيف يحول نفسه الى
طائر "با" .و يعتبر ذلك أحد أسباب عدم سقوطه فى شبكة صائدى األرواح .
و هناك سبب آخر ,و هو أنه يعرف اسم كل جزء من أجزاء الشبكة و أنه يبرهن على تلك المعرفة
فكل جزء من أجزاء الشبكة هو عضو من أعضاء جسد أحد ال "نترو" ,على سبيل المثال البكرة
التى تلتف حولها الحبال هى االصبع الوسطى ل "سوكر" (صقر العالم السفلى) ,و الصمام أو
و فى بعض األحيان يوصف كل جزء من أجزاء الشبكة بأنه سالح أحد ال "نترو" أو شئ ينتمى
له .و فى الفصل رقم 051من كتاب الخروج الى النهار يكمل "ناخت" حديثه السابق و يصف
*** أيها الصيادون ...لن تتمكنوا من ايقاعى فى شباككم ...لن تتمكنوا من ايقاعى فى الشبكة التى
تصيدون بها األرواح الخاملة ,المقيدة الى األرض ...ألنى أعرف هذه الشبكة جيدا ...من األجزاء
التى تطفو فوق سطح المياه الى الثقل الذى يثبت أسفلها ...أنا هنا ..لقت أتيت و فى يدى البكرة
التى تلتف حولها الحبال ,و الصمام ..لقد أتيت و دخلت اليها و خرجت منها بكل سهولة ...فأنا
يؤكد "ناخت" فى النص السابق أن لديه دراية و خبرة بشبكة الصيد و أن بمقدوره أن يبرهن على
ذلك .
فى فخ فقدان الذاكرة الروحية) ,بل يؤكد أيضا على معرفته العميقة بشبكة الصيد لدرجة أنه هو
نفسه قد تحول الى صياد ( أو كما يقول المثل الشعبى :تيجى تصيده يصيدك ) .
لم يكن الماء فى مصر القديمة يرمز فقط لحالة الوعى السلبى (فقدان الوعى الروحى) الذى يعوق
قدرة الروح على تنفس الهواء االلهى/المقدس (الماعت) ,و انما هو يرمز أيضا للتطهر .
فكل معبد من معابد مصر القديمة كان يحوى بحيرة مقدسه يغتسل فيها الكهنة قبل بدء الطقوس
المقدسه .
ارتبطت قدرة الماء على التطهير فى مصر القديمة بعنصر آخر هو النار .
فى كتاب الطريقين الذى يعود لعصر الدولة الوسطى هناك نهر من النار يفصل بين الطريق المائى
ان أنهار العالم السفلى لم تكن فقط أنهارا من الماء و انما هناك أيضا أنهار من النار .
و باالضافة الى أنهار النار ,هناك أيضا بحيرات من النار فى العالم السفلى .
فى المشهد التالى من كتب الخروج الى النهار (من بردية آنى) نرى أحد أمثلة بحيرة النار التى
تمتلئ البحيرة بنار مشتعلة ,و قد عبر الفنان المصرى القديم عن ذلك بتلوين موجات الماء باللون
األحمر ,و لم يكتفى بذلك بل وضع الرمز الهيروغليفى للنار فى جوانب البحيرة التى تواجه
الجهات األصلية األربعة .و فى كل جانب منها يقف أحد قرود البابون .
و السبب فى ظهور قرود البابون حول بحيرة النار يعود الى مشهد تجلى "رع" للوجود أول مرة .
فبحيرة النار ظهرت للوجود لحظة ميالد "رع" ,الذى أشعل تجليه الماء و صيره نارا .
و تقول أساطير هليوبوليس أيضا أن الموضع الذى ولد فيه "رع" فى األزل هو أول أرض ارتفعت
تظهر هذه األرض األزلية فى الفن المصرى أحيانا فى صورة زهرة لوتس تخرج من مياه األزل أو
بيضة تطفو فوقها .و يطلق عليها أحيانا جزيرة اللهيب أو جزيرة النار ألنها أشرقت بنور "رع"
الساطع الذى حول الماء الى نار ,و حول الظلمة الى نور .
كان تجلى "رع" للوجود فى بدء الخليقة مهيبا لدرجة أشعلت ماء الرحم الكونى الذى ولد منه .
لم يكن ميالد "رع" من المحيط األزلى "نون" فى نظر قدماء المصريين حدثا وقع فى زمن ماضى
الشرقى باللون األحمر ,فيشبه الدماء التى تنسكب مع ماء المشيمة لحظة ميالد الطفل .
و ما تقوم به قرود البابون صباح كل يوم حين تحيى الشمس لحظة الشروق هو اعادة تكرار لما قام
تحيى قرود البابون ميالد "رع" صباح كل يوم كما حياه تحوت فى الزمن األول حين تجلى للوجود
ان مرور الروح على بحيرة النار أثناء ارتحالها فى العالم السفلى يعنى أنها عادت الى تلك اللحظة
األزلية الهامة فى تاريخ الكون و هى أهم لحظة فى رحلة الروح منذ أن انبثقت من مصدرها الواحد
فى الفصل رقم 07من كتاب الخروج الى النهار نقرأ التحذير التالى -:
*** ان من يقدم على عبور بحيرة النار و هو غير طاهر ,فسيسقط فيها على وجهه و تطعنه
اذا كان المرتحل الذى يعبر بحيرة النار يحمل بداخله نوازع نفسية غير نقية لم يتمكن من التخلص
منها أو تحويلها الى نوازع أسمى فان هذه النوازع تلتصق به مثل بقع داكنه معتمة ال ينفذ منها نور
"رع" ,و وجود هذه البقع المظلمة داخل النفس عند عبور بحيرة النار يجعل عبور البحيرة تجربة
جاء وصف هذه التجربة فى الساعة الحادية عشر من كتاب األمدوات (وصف ما هو كائن فى العالم
اآلخر) حيث تقطع رقاب أعداء أوزير و أوصالهم و يحرقون بالنار .
و هنا نذكر ما قالتا القديسه كاترين بمدينة جنوه حين وصفت تجربة الروح فى الجحيم بهذه
العبارات -:
*** ان نار الجحيم هى فى الحقيقة نور االله حين يراه من ينكره ***
حين يوجه االنسان وعيه عند عبوره بحيرة النار نحو نور االله و يستسلم له و يدعه يحرقه من
الى وسيلة تساعد الروح على التطهر و االقتراب من الغاية و المنتهى .
لذلك نقرأ فى الفصل رقم 020من كتاب الخروج الى النهار االبتهال التالى -:
*** التحيات لكم أيها البابون األربعة ,التى تقف فى مقدمة قارب "رع" ...التى تعرف حقيقة االله
...التى أستمد منها ضعفى و قوتى ...و التى ترضى ال "نترو" باللهيب الذى يخرج من أنوفها
...و التى تقدم القرابين المقدسه لكل من ال "نترو" و ال "آخو" (األرواح النورانية) ...و التى
تحيا على الماعت و تقتات بها ...و التى ال يحمل قلبها الكذب ..و التى تعرف كيف تميز الحقيقة
من الخداع ...أبتهل اليكم أن تطهروا قلبى مما علق به من شر ...و أن تذهبوا ما فيه من خداع ...
شر ***
تعتبر مقابلة قرود البابون التى تحرس بحيرة النار مجرد خطوة أولى فى سلسلة من المواجهات مع
العديد من الحيوانات ,أو القوى السيكولوجية التى تظهر فى شكل حيوانات و التى تسكن العالم
السفلى .
فى بعض األحيان ال يمكن تمييز شكل الحيوانات التى تعترض طريق المرتحل فى العالم السفلى
فهى مخيفة لدرجة أن الطبيعة ال تستطيع أن تمنحها صورة محددة تتجسد فيها ,و مع ذلك فهذه
الحيوانات المخيفة توجد داخل العقل الباطن لالنسان ,ألن نوازع النفس االنسانية فى بعض األحيان
قد تكون أشد قبحا و توحشا من الوحوش التى تعيش فى الطبيعة .
أن يواجه االنسان هذه األشكال المخيفة أثناء ترحاله فى العالم السفلى -سواء فى صور حيوانات
معروفة أو حيوانات مجهولة لالنسان – كان ذلك يعنى أن االنسان يواجه النوازع السلبية التى
و عند الموت تتحرر النفس و الروح من الجسد و من سيطرة العقل اليقظ و تنطلق هذه النوازع
من أعماق العقل الباطن كما تنطلق الوحوش الضارية ,و بعد أن كانت كامنة و بعيدة عن ادراك
االنسان ,تظهر على مسرح األحداث لتعبر عن وجودها بقوة و تتجسد أمام االنسان فى صورة
ان رحلة الروح فى العالم السفلى هى رحلة تطهر من أى أفكار أو مشاعر سلبية أو مخاوف
مرضية كامنة فى العقل الباطن استعدادا لالنتقال الى العالم السماوى .فاالنسان ال يمكنه أن يدخل
من بوابات العالم األسمى اذا لم يكن قلبه نقيا طاهرا .
أثناء االرتحال فى العالم السفلى على ال "با" أن تحرر نفسها و تتخلص تماما من أى عناصر نفسية
جاء وصف عملية تحرير ال "با" و تطهيرها فى كتب العالم اآلخر المصرية ,و هى عملية تنقسم
فى المرحلة األولى :تكشف القوى النفسية السلبية عن نفسها و تتجسد أمام ال "با" فى الغالب على
هيئة وحش مخيف .و المرتحل الذى اكتسب معرفة روحانية فى حياته الدنيا يجتاز هذه المرحلة
بسالم ,حيث يمكنه بسهولة التعرف على أى نوازع سلبية ما زالت عالقه بنفسه .
فى المرحلة الثانية :يدخل المرتحل فى صراع مع تلك القوى النفسية السلبية التى تتجسد فى صور
وحوش و تعترض طريقه الى العالم السماوى .يحاول الوحش المخيف أن يسرق قلب المرتحل
و يسلبه قدراته السحرية أو يقتل روحه (باءه) أى يقطع الخيط الذى يصلها بمنبعها و أصلها فى
عالم الروح .و فى المقابل ال يسعى المرتحل فى العالم السفلى لقتل الحيوان المخيف الذى يعترض
طريقه ,و انما يركز كل جهده على أن يخضع ذلك الحيوان و يهيمن عليه .
و قد عبر الفنان المصرى القديم عن ذلك فى كتب العالم اآلخر بمشاهد لوى عنق األعداء ,حيث
و تلك هى المرحلة الثالثه و األخيرة من عملية تحرير ال "با" و تطهيرها من النوازع السلبية .
و باجتياز هذه المرحلة بنجاح يكون المرتحل قد نجح فى تحويل ما علق بنفسه من دوافع و غرائز
دنيا الى طاقة نفسية تخدم ال "با" و تساعدها فى تحقيق هدفها األساسى و هو العودة الى أصلها فى
ان عملية تحويل نوازع النفس و رغباتها من سلبية الى ايجابية يقدم لنا دليال على أن العالم السفلى
ليس هو الوجهة النهائية للروح بعد الموت و انما هو عالم ترتحل فيه الروح لتخرج من ظلمة
فى المشهد التالى من كتاب الخروج الى النهار تظهر ثالثة تماسيح تعترض طريق المرتحل فى
العالم السفلى ,و تهدده بأنها ستسلبه قدراته السحرية ,و تهلك روحه (تقطع الخيط الذى يصلها
بأصلها) .
نوازع النفس السفلية على هيئة ثالثة تماسيح تعترض طريق المرتحل فى العالم السفلى
من أهم صفات التماسيح قدرتها على أن تظل كامنه فى أعماق النهر لفترات طويلة قبل أن تنقض
على فريستها بسرعة خاطفة ,بحيث ال تعى الضحية وجودها و ال تتوقع الهجوم .
قد يعتقد االنسان أنه بمأمن من أى خطر و ال يعى وجود تلك النوازع السلبية ألنها كامنة فى أعماق
للتمساح القدرة على أن يخفى نفسه عن مرأى ضحاياه ,كما لنوازع النفس القدرة على أن تخفى
نفسها فى أعماق العقل الباطن بحيث ال يعى االنسان وجودها فى حالة اليقظة ,و هنا مكمن الخطر.
تكمن خطورة التمساح و قوته فى قدرته على اخفاء نفسه عن األعين و االنقضاض على ضحيته فى
لذلك كان التمساح من أكثر الحيوانات التى استخدمها الفنان المصرى القديم فى رحلة العالم السفلى
عند االرتحال فى العالم السفلى يواجه االنسان تماسيح عقله الباطن التى تتربص به و تتحين
و على الروح أن تواجه تلك النوازع النفسية و تنزل الى أعماق العقل الباطن و تواجه كل تلك
تسعى تماسيح العالم السفلى لتجريد ال "با" من طاقة السحر (حكا) ,و التى تعتبر أهم مؤهالت
الروح التى تمكنها من بلوغ غايتها و هى العودة الى عالم الروح .
و لذلك على المرتحل أن يتزود بسكين ,و يمسك بها و يصرخ فى هذه التماسيح بقوة كما صرخ
*** تراجع أيها التمساح ,و ابتعد من طريقى ...أبتعد أيها العدو ...لن تستطيع أن تهزمنى ...
ألن سحرى حى بداخلى ...ابتعد من طريقى و اال ذكرت اسمك أمام االله العظيم الذى سمح لك
و على المرتحل بعد ذلك أن يبرهن على معرفته بأسماء التماسيح الثالثه ,و بذلك يجلب نور الوعى
ان رؤية الدوافع و الغرائز و المخاوف الكامنة فى أعماق العقل الباطن رؤية واعية يعنى امتالك
المرتحل لوعى الهى/كونى (وعى رع) ,و ذلك ما يعنيه "ناخت" حين يهدد التماسيح بأن يذكر
اسمها أمام االله العظيم .فرؤية هذه النوازع بوعى االله يجعلها تفقد قوتها .
ال يستطيع التمساح و هو كائن يحيا فى الظالم تحت الماء (فى أعماق العقل الباطن) أن يتحمل نور
أما السكين التى يمسك بها "ناخت" فى يده ,فربما كانت رمزا لقدرته على تمييز طبيعة العدو الذى
السكين هى رمز القدرة على التمييز و على الرؤية الواضحة (البصيرة) التى ال يحجبها خوف أو
تقول التماسيح عند رؤيتها ل "ناخت" ( لقد وليت وجهك شطر الماعت ) .
و يجيبها "ناخت" بنص سحرى أو رقية تمكنه من ترويضها و تجريدها من قوتها ,بعد أن كانت
و أثناء ترتيله للرقية يتضاءل أعداؤه أمامه ,بينما يكبر حجمه بالنسبة لهم بشكل كبير .
يقول المرتحل "ناخت" فى كتاب الخروج الى النهار (فصل رقم -: )10
*** كما تمتلئ السماء بالنجوم ...و كما يحيط "حكا" (السحر الكونى/األزلى) بكل شئ ...كذلك
يمتلئ فمى بالسحر (حكا) ...ان أسنانى حادة كسكاكين من حجر الصوان ...و أنيابى مليئة بالسم
كأنياب الحية ...أيتها التماسيح التى تريد أن تبتلع سحرى ...لن تستطيعوا ذلك ...لن يستطيع أى
فى الشكل التالى يظهر المرتحل فى العالم السفلى و هو يواجه تماسيحه (نوازع النفس) و يجبرها
أما فى البرديات المصرية التى تتناول رحلة الروح فى العالم السفلى فان ذلك ممكن على المستوى
النفسى .
لوى عنق أربعة تماسيح أتت من أركان الكون األربعة لتعترض طريق المرتحل فى العالم السفلى
فى المشهد السابق تخرج التماسيح من الجهات األربعة و لكى يتغلب عليها المرتحل فى العالم
السفلى عليه أن يتقمص شخصية أحد ال "نترو" (الكيانات االلهية) عند مواجهة كل تمساح من
فعند مواجهة التمساح اآلتى من جهة الغرب يتقمص المرتحل شخصية "ست" و هو الكيان االلهى
الذى يهيمن على التماسيح و لذلك كان التمساح من رموز "ست" .
و فى جهة الشرق يتقمص المرتحل شخصية أوزير ,و هو الكيان االلهى الذى انتصر على الموت .
و فى جهة الجنوب يتقمص المرتحل شخصية النجمة "سوبدت" (زيريوس/الشعرى) التى تلقب ب
و فى جهة الشمال يتقمص المرتحل شخصية آتوم و هو ينبوع الخلق الذى ال ينضب .
و من أجمل النصوص التى تناولت مواجهة التماسيح فى العالم السفلى النص التالى الذى يختتم به
*** لقد أمسكت بالسحر فى قبضة يدى ...و استقر فى بطنى ...لقد ارتديت سحرك يا "رع"
و تزودت به ...لقد أشرق وجهى بنورك ...و تربع جاللك على عرش قلبى ...و صارت حية ال
"وادجت" التى تحميك معى يوما بيوم ...أنا "رع" الذى يحمى نفسه بنفسه ,ال شئ يمكنه أن
باالضافة الى التماسيح ,قد يعترض طريق المرتحل النجمى خنازير برية .
المشهد التالى يصور "ناخت" فى مواجهة أخرى أثناء رحلته النجمية ,و هو يظهر هنا ممسكا
برمح طويل يصوبه نحو الخنزير البرى و يجبره على النظر فى االتجاه اآلخر .
فى المشهد السابق كان المرتحل يمسك بحربة ,و هى السالح الذى يستخدمه حورس فى صراعه
مع ست .
جاء فى الفصل رقم 02من كتاب الخروج الى النهار أن ست قام بمهاجمة حورس و هو فى هيئة
خنزير أسود ,و أصاب حورس فى عينه ,أى سلبه قدرته على الرؤية .
فى المشهد التالى ال يقوم "ناخت" بقتل الخنزير و انما يفقده قدرته على الهجوم من خالل مهارته
و من األشياء التى تلفت االنتباه فى المشهد أيضا أن "ناخت" قام بتقييد الثعبان الذى اعترض طريقه
اذا لم يستطيع المرتحل أن يلوى عنق األعداء و يجعلها تنظر فى االتجاه اآلخر ,فان تقييدها
بالحبال يؤدى الى نفس النتيجة ,و هى السيطرة على هذه القوى المعادية التى تعترض طريق ال
"با ".
و عند التعامل مع الثعابين ,هناك طريقة أخرى لتجريدها من قوتها ثم تقييدها .
فى المشهد التالى يقوم "آنى" بمهاجمة الثعبان بعصا مشقوقة ,حيث يضع "آنى" الجزء المشقوق
حول رأس الثعبان و بذلك يفقده القدرة على الحركة ,بينما يطأ ذيل الثعبان بقدمه .
و المشهد هو جزء من الفصل العاشر من كتاب الخروج الى النهار .أما النص الذى يتوافق مع
فحوى المشهد ,فقد ذكر فى الفصل رقم 19و الذى يحمل عنوان ( فصل درأ خطر الثعبان
"ريريك" ) ,و هو صورة من ثعبان أبوفيس ,غريم "رع" و عدوه اللدود .
أما المرحلة التالية من عملية لوى عنق الثعبان و توجيه رأسه الى الناحية األخرى فنجدها فى
فى المشهد التالى من بردية "نفر وبن اف" يظهر المرتحل و قد نجح فى تحويل رأس الثعبان الى
بعبارة أخرى ,لقد نجح "نفر وبن اف" فى أن يحول تلك القوى النفسية من قوى معادية تقف فى
مواجهته الى قوى تسير فى نفس االتجاه الذى تسير فيه ال "با" و بذلك تخدم أهداف الروح بدال من
أما النص المصاحب للمشهد فيقول على لسان المرتحل فى العالم السفلى "نفر وبن اف" -:
*** تراجع أيها الثعبان ,و ازحف بعيدا ...ابتعد عن طريقى أيها الثعبان ...اذهب و اغرق فى
مياه األزل "نون" ,فى المكان الذى قدر أبوك (آتوم -رع) أن تذبح فيه ...ارحل عن المكان
المقدس الذى ولد فيه "رع" ...و ارتجف من الخوف ...ألنى أنا "رع" الذى تخشاه قوى الفوضى
و الظالم ...تراجع أيها العدو ,قبل أن تصيبك سهام نور "رع" ...لقد بدد "رع" كلماتك (قوتك)
...و قامت ال "نترو" بلوى عنقك للجهة األخرى ...و الربة "مافدت" مزقت صدرك /قلبك ...
و قيدتك الربة العقرب "سلكيت" باألغالل ...و أجهزت عليك ماعت ***
و يستمر النص الذى يتقمص فيه المرتحل شخصية "رع" ,و يتقمص فيه الثعبان شخصية أبوفيس ,
و بذلك يتحول المشهد من تجربة فردية لشخص يدعى "نفر وبن اف" الى نسخة مكررة من حدث
أزلى يقع فى الزمن األول ,و هو الصراع بين "رع" و "أبوفيس" كما ذكر فى كتاب ال "أمدوات"
يخبرنا كتاب ال "أمدوات" أن ثعبان أبوفيس يحاول منع "رع" من استكمال رحلته فى العالم السفلى
و الخروج الى النهار بأن يهاجم قاربه بشكل دورى يتكرر كل ليلة ,و لكن قوى النظام التى تحمى
قارب "رع" تتصدى له .حيث يتم تقييده أوال بالحبال ,ثم يطعن بالخناجر فى مواضع معينة من
جسده تفقده قدراته ,ثم يلوى عنقه و يدار وجهه فى االتجاه اآلخر ,أى فى االتجاه الذى يرتحل
و فى الساعة الثانية عشر و األخيرة من كتاب ال "أمدوات" ينتصر "رع" و يخترق موكبه جسد
أبوفيس ,حيث يتم سحب قاربه بالحبال الى أن يصل الى ذيل ثعبان أبوفيس حيث يولد من جديد
من فم الثعبان ,و بذلك يتم وصل ذيل الثعبان بفمه ,أى وصل النهاية بالبداية ,حيث يولد الجديد
ان المشاهد الذى وردت فى كتاب الخروج الى النهار و التى تصف كيفية الهيمنة على طاقة الثعبان
و لوى عنقه و تحويل اتجاهه الى اتجاه آخر يجب أن تفهم فى سياق رحلة "رع" فى العالم اآلخر
و ميالده من جديد .و قد أشار لها كتاب الخروج الى النهار فى أحد نصوص الفصل رقم . 19
فميالد "رع" من جديد هو الصورة األولية أو النموذج االلهى الذى تحاكيه رحلة الروح فى العالم
السفلى و التى بانتقالها الى مستوى أسمى من الوعى تتحول من "با" أى مجرد روح متجسده الى
"آخ" أى روح نورانية حازت االشراق وصارت موصولة بالنور االلهى ,أو بعبارة أخرى صارت
ينتهى الفصل رقم 19من كتاب الخروج الى النهار بال "نترو" و هم يتدخلون جميعا لمساعدة
المرتحل فى العالم السفلى و تقديم المدد له بكلمات تشع طاقة ايجابية تبث فى نفسه الشجاعة
و العزيمة .
المشهد التالى يقدم لنا صورة أخرى من صور مواجهة األعداء فى العالم السفلى ,حيث يظهر
العدو هنا فى صورة شبح مخيف ,نصف حيوان ,نصف انسان ,يقف ملوحا بسكين فى يده أمام
أحد الكائنات المخيفة التى تعترض طريق الروح فى العالم السفلى و يطلق عليه "الذى يذبح
فى مصر القديمة كان القلب هو العضو الذى يعبر عن هوية االنسان الروحية .
يتناقض نقاء قلب الشخص الجالس ممسكا بقلبه ,مع الشكل القبيح المرعب للحيوان الذى يقف أمامه
ترمز مثل هذه الوحوش المخيفة فى سياق رحلة الروح فى العالم السفلى للغرائز و الدوافع الحيوانية
و حورس هو الكيان االلهى الذى يمكنه أن يحمى المرتحل فى العالم السفلى من ذلك النوع من
الهجوم النفسى .و مواجهة العدو هنا ال تكون بقتله ,و انما بتجريده من قوته ,و االستيالء عليها .
فى الفصل رقم 29من كتاب الخروج الى النهار يقول المرتحل أنه "هو الذى يذبح القلوب" ,أى أن
يصيدك ) .
*** ان قلبى معى ,و لن تستطيع أى قوة أن تسلبنى اياه ...انا رب القلوب ...بل أنا الذى يذبح
القلوب ...أنا أقتات بالماعت ,و أحيا بالحقيقة/الحق ...أنا حورس الذى يسكن القلب ...أنا حورس
الذى يسكن فى مركز الجسد ...أنا أحيا دائما بقول ما يجيش فى قلبى (كما يقول المثل الشعبى :
اللى فى قلبى ,على لسانى ) ...و لن تستطيع أى قوة أن تسلبنى قلبى ...ان قلبى ملكى ,و لن
ينجرح ,و لن يخضعه الخوف ...أنا لم أرتكب أى خطأ فى حق ال "نترو" (الكيانات االلهية)
هناك العديد من النصوص السحرية و الرقى فى كتاب الخروح الى النهار لحماية القلب .
ان حماية القلب من القوى النفسية المعادية التى تأتى من مستوى الغرائز الدنيا ليس شيئا بسيطا كما
و ألن طبيعة القلب األصلية هى النقاء و الطهارة ,لذلك من الممكن أن يقف قلب االنسان ضده عند
ان مصير الروح فى العالم اآلخر يتوقف على عالقة االنسان بقلبه و مدى احتفاظه بنقائه األصلى
يتوقف مصير الروح على نجاح االنسان فى تحويل وعيه بذاته ليصبح مركزه القلب .
و اذا لم ينجح فى ذلك فقد يتعرض لموقف عصيب ,اذ يقوم القلب بانكار صاحبه فى قاعة الماعت
و لذلك فان رحلة الروح فى العالم السفلى هى فى الحقيقة رحلة الى القلب .
فى المشهد التالى يظهر أنوبيس و هو يقدم قلب المرتحل النجمى "نب -سنى" الى بائه .
و هنا تجدر االشارة الى أن أنوبيس هو مرشد األرواح فى العالم السفلى ,و دوره األساسى فى
فى النص المصاحب لهذا المشهد ,يبتهل "نب -سنى" عسى أن يتحد بقلبه فى "بيت القلوب" ,أى
و يعقب ذلك ذكر "بحيرة األزهار" و ربما كانت هى بحيرة اللوتس التى ولد منها "رع" فى األزل .
*** كن معى يا قلبى فى بيت القلوب ...كن معى يا قلبى ,و ابقى معى ,و اال سأحرم من تناول
قرابين الكعك المقدم ألوزير على الجانب الشرقى لبحيرة األزهار ...ان قلبى هو ذاتى ...قلبى
مفعم بالقوة ...و سواعدى مفعمة بالقوة ...و أقدامى مفعمة بالقوة ...لدى القدرة على أن أقوم
بتفعيل ارادتى ...ان بائى (روحى) ليست مقيدة بأغالل الجسد أمام بوابات "أمنتت" (العالم السفلى)
...سأدخل العالم السفلى فى سالم ,و سأخرج منه فى سالم الى النهار ***
تعكس مشاهد رحلة الروح فى العالم السفلى التى تناولناها فى الفقرات السابقة طبيعة ذلك العالم
و التى تشبه الطبيعة على األرض ,كما فى حقول االيارو على سبيل المثال .
و تبدو األحداث التى تصاحب مواجهة العقبات سواء فى صورة عناصر الطبيعة (كالماء و النار)
أو فى صورة وحوش و كائنات مخيفة و كأنها تقع فى بيئة جغرافية شبيهة بأرض مصر .
و لكن هناك نوع آخر من الصور ارتبط بالعالم السفلى و هو نوع ال ينتمى لعالم الطبيعة و انما لعالم
الفضاء الداخلى الذى عبر عنه قدماء المصريين بالهندسة المعمارية للمعابد فى صورة صروح
و كما يقع محراب االنسان و قدس أقداسه (حيث عرش االله) فى قلبه ,كذلك كان قدس األقداس
لكى يصل االنسان الى قلب المعبد و هو أقدس بقعة فيه ,عليه أن يمر أوال بسلسلة من الحواجز
أولها األسوار الخارجية ,ثم الصروح ,و هم فى الحقيقة عبارة عن صرحين بينهما باب ضيق .
و طوال تاريخ مصر القديمة كان عامة الشعب يدخلون الى الفناء المفتوح/الخارجى من المعبد
و لكنهم ال يتخطون ذلك الى صالة األعمدة المغطاة التى تقع فيما وراء الصرحين .
و عند االقتراب من أى معبد مصرى و ليكن معبد األقصر على سبيل المثال ,ينتاب المرء شعور
بالتواضع و الضآلة لحظة مروره من بين الصروح التى ترتفع كاألبراج العالية .
عند االقتراب من المعبد ,فاننا نقترب من بيت االله على األرض و الصرحين هما رمز الحواجز
التى تفصل بين الوعى المادى الذى ينجذب تجاه الحياة الدنيا و بين الوعى األسمى الذى ينجذب
يقول الكاتب "جوتفريد ريشتر" ( )Gottfried Richterفى كتابه "الفن و الوعى االنسانى"
المعبد عليه أوال أن يعبر أسوارا هائلة ,ثم يمر من بين الصرحين من فناء واسع مهيب الى فناء
بعد المرور من الصرح الخارجى نجد أنفسنا فى فناء واسع مفتوح ,وراءه مزيد من الصروح
الداخلية األصغر حجما و كل منها له بوابة من خشب األرز تغلق فى أوقات معينة و ال يجتازها اال
و بعد الصروح و األفنية هناك المزيد من األفنية و صاالت العمدة و الردهات و المقاصير ,كل
منها يغلق بباب من خشب األرز المطعم بالمعادن و منها البرونز .
معبد األقصر
ان عتبات المعابد فى مصر القديمة ال يمكن اجتيازها بدون وعى .
فالرحلة من األسوار الخارجية للمعبد الى قدس األقداس هى رحلة الروح التى يرتقى فيها الوعى
ال يدخل المرء قدس األقداس (حيث عرش االله) بجسده و انما بذلك الجزء االلهى من كيانه ,
و هو الروح .
ال يمكن ألحد أن يتخطى العتبة األخيرة فى المعبد و هى عتبة قدس األقداس سوى الكاهن األكبر
فقط من حازت روحه االشراق و ولد من جديد والدة روحانية هو من يستطيع أن يدخل قلب المعبد
فى مصر القديمة كان الدخول الى المعبد مسموح فقط للكهنة الذين يدخلون عادة فى مواكب مقسمة
الى مجموعات منها من يحمل الشعارت المقدسه و الرايات ,و منها من يحمل المباخر ,و منها من
و كان اجتياز كل عتبة من عتبات المعبد حدثا طقسيا يتضمن فتح مغاليق األبواب (بواسطة الكاهن
األكبر) و كسر أختامها قبل أن تفتح على مصراعيها أمام الكوكبة المتجه الى "القلب /قدس
األقداس" .
و الفرق بين رحلة الكهنة من أسوار المعبد الى قدس األقداس و بين رحلة الروح فى العالم السفلى ,
أن الرحلة داخل المعبد تكون دائما فى مواكب و تجمعات ,أما رحلة الروح فى العالم السفلى فيقوم
بها االنسان وحده ,حيث ال رفيق و ال صحبه تقدم يد العون و المساندة ,و حيث ال بخور و ال
فى العالم السفلى يجد االنسان نفسه وحيدا داخل عالمه النفسى ,و عليه أن يرتحل فى ذلك العالم الى
فى العالم السفلى يجد االنسان نفسه وحيدا وسط معبد أوزير ,و ياله من موقف رهيب !
ان وجود بوابات فى الطريق الى قدس األقداس حيث عرش القلب يعنى ضمنيا أن هناك عقبة ما
تمنع الروح من االنتقال من فناء (عالم) الى فناء آخر أسمى (عالم أسمى) و أكثر قداسه يقع على
الجانب اآلخر من البوابة ,و السبب فى قداسة ذلك الفناء اآلخر هو أنه األقرب الى قدس األقداس ,
تقف وسطه البوابة .فى الحقيقة ان البوابة ليست هى العقبة ,و انما هى طريق يخترق العقبة .
و السؤال الذى يشغل بال االنسان عند وصوله الى البوابة هو ( كيف يمكن فتح البوابة لكى أعبر
منها ؟ ) .
ان أبواب األماكن المقدسه (سواء بوابات المعابد أو بوابات العوالم الماورائية) ال تفتح بمجرد
تحريك مقبض الباب كما نفعل عند فتح األبواب الدنيوية .
فلكل بوابة من بوابات العوالم الباطنية روح تحرسها و فى بعض األحيان يكون الباب هو نفسه
و على من يرغب فى التقدم فى رحلته الباطنية نحو عرش القلب أن يخاطب حراس البوابات
يعتبر الباب المغلق عقبة ال تقل صعوبتها عن الوحوش المخيفة التى تعترض طريق الروح .
عند قيام وحش مخيف باعتراض الطريق ال تستطيع الروح التقدم و استكمال رحلتها اال بعد أن
تتمكن من السيطرة على ذلك الوحش و لوى عنقه الى االتجاه الذى تسير فيه الروح ,أى تحويل
و فى كال الحالتين يعتبر الحاجز أو الوحش المخيف رمزا لنوازع النفس الدنيا (األنا السفلية) التى
تخرج االنسان من الماعت ( االتزان /التناغم /النظام الكونى) و بالتالى تبعده عن العالم "االلهى /
السماوى" .
حين يواجه االنسان تمساح أو خنزير برى فان ذلك يعنى أنه ال يتواجد فى موضع مقدس بعينه ,
و انما هو يتواجد فى مكان ما بال "دوات" ,فى طريقه لعبور حقول االيارو .
أما حين يواجه االنسان بابا مغلقا فهو داخل بيت االله ,و عند ذلك يكون التركيز على الحدث
و هنا نالحظ أن البوابة تسكنها روح تحميها و تحرسها ,و هى عبارة عن ربة .
يصف لنا الفصل رقم 040من كتاب الخروج الى النهار كيف يقترب "آنى" من البواب و يصيح
قائال -:
*** افتح لى البوابة أيها البواب ,ألنى أعرفك ,و أعرف اسمك ...و أعرف اسم الربة التى
كلماتها قوى الهدم و الدمار ,و التى تنقذ المسافر البعيد ...أما أنت أيها البواب فاسمك هو
"المروع" ***
و بعد أن قدم البرهان على اطالعه على اسم الروح أو الربة التى تسكن البوابة و اسم البواب ,
يبرهن "آنى" على معرفته بما سيحدث بعد اجتياز البوابة .
و يبدو أنه حدث مفزع .ألنه سيقف وجها لوجه أمام ربة الرعب أو ربة الهالك التى جاء ذكرها
و هنا يجدر بنا أن نتوقف قليال لنتأمل مغزى وصف الروح التى تسكنها البوابة بأنها ربة (مؤنثه) .
و على الفور يتبادر الى الذهن أن صرحى المعبد (أى معبد) كانا فى نظر قدماء المصريين رمزا
اليزيس و نفتيس .و شكل الصرحين معا و هما يرتفعان الى أعلى يحاكى الرمز الهيروغليفى
فعند ميالد الشمس فى األفق الشرقى تقوم ايزيس و نفتيس باستقبالها و ترفعانها فوق األفق .
بعبارة أخرى ان ايزيس و نفتيس تساعدان فى والدة الشمس من جديد كل صباح ,كما ساعدتا فى
فهنا فى العالم السفلى يشهد االنسان موت ذاته الدنيا (األنا السفلية) .و لذلك كان اسم الربة التى
تسكن الصرح األول الذى يعترض طريق "آنى" فى العالم السفلى هو "ربة الرعب ,سيدة الهالك /
الدمار" .
يعتبر األفق "آخت" من أعمق المفاهيم الباطنية فى الفكر الدينى المصرى و بفهم مغزاه يمكننا أن
نفهم المشاهد و النصوص التى تتناول العبور من بوابات الصروح بشكل أفضل .
يكتب الرمز الهيروغليفى لكلمة أفق "آخت" على شكل جبلين يشرق من بينهما قرص الشمس ,
و الجبال هنا هى رمز التل األزلى الذى انشق الى نصفين حين أشرق "آتوم -رع" بنوره على
التل األزلى الذى انشق الى نصفين حين أشرق "آتوم -رع" بنوره على العالم أول مرة
يطلق على جبال األفق الشرقى اسم "باخو" ,أما جبال األفق الغربى فيطلق عليها اسم "مانو" .
استمد المصرى القديم صورة جبال األفق الشرقى و الغربى من سلسلة الجبال التى تحيط بوادى
فى الحقيقة ان الشمس ال تشرق فعليا من بين هذه الجبال ,و لكنها تشرق من وراء جبال ال "باخو"
ان صورة شروق الشمس بين جبلين و التى اتخذها قدماء المصريين رمزا هيروغليفيا لكلمة أفق
"آخت" ليست محاكاة لشروق الشمس فى العالم المادى ,و انما هى محاكاة لحدث أزلى وقع فى
تشير صورة شروق الشمس بين جبلين أيضا لحدث يقع داخل المعبد كل يوم ,و هو حدث تجلى
االله على األرض .
لكى يتجلى االله فى مملكة البشر على االنسان أوال أن يتجرع كأس الموت ,ثم يولد من جديد .
عليه أن يموت الى كل ما هو "مادى /زائل /فانى" ,و أن يولد من جديد ككيان روحى يعى
و هذا هو المغزى المقصود من وراء عبور بوابات الصروح فى كتاب الخروج الى النهار .
فكلما اجتاز االنسان عتبة أحد الصروح ,كان ذلك يعنى موته الى العالم المادى و الى كل ما هو
دنيوى و ميالده من جديد فى العالم األقدس الذى يخطو نحوه و يقترب منه خطوة بخطوة .
ان العبور من الصروح يعنى ضمنيا االقتراب من عرش أوزير الذى ترتحل الروح فى معبده فى
و ألن معبد أوزير هو معبد روحى و ليس مادى ,فان االقتراب من أوزير هو عملية تحول
خيميائية تمر فيها الروح بتجربة باطنية مشابهة لتجربة موت أوزير و تقطيع اجزاء جسده و اعادة
عند المرور من بوابة الصرح األول يجتاز االنسان العتبة التى تتضمن مواجهة "ربة الرعب
و البوابة الثانية ليست أقل خطرا .فهنا يواجه االنسان ربة تدعى ( سيدة العالم ,التى تلتهم نارها
أما البواب الذى يحرس هذه البوابة فيدعى (الذى يصنع النهاية ) .
و العديد من أسماء البوابات التالية تحمل اشارات الى النار أو الحرق أو التمزق الى أشالء ,و هى
رموز تشكل جزءا هاما من كتاب البوابات ,و هو أحد كتب العلوم الباطنية التى دونت فى عصر
و البواب الذى يحرس الصرح السادس يدعى ( الذى جمعت أشالؤه ) .
أما الصرح السابع ,فالربة التى تسكنه تدعى ( التى تكسو الضعفاء ,و التى تبكى من أجل من
و الصرح الثامن ينطوى عبوره على تجربة مؤلمه .فالربة التى تسكنه تدعى ( النار المشتعله ,
اللهيب الذى ال ينطفئ ,التى تصل ألسنة لهيبها الى بعيد ,التى تذبح بدون سابق انذار ,التى ال
أما فى الصرح التاسع ,فتظهر الهيئة االلهية ,و يكتسى جسد أوزير الضعيف برداء .
و ربما كان ذلك اشارة الى ميالد ال "با" من جديد فى جسد مقدس/روحى .
اذا استطاع االنسان تحمل آالم اجتياز عتبات العالم السفلى ,عندها سيولد من جديد و يبعث فى جسد
الهى/روحى/خالد .
و هناك وصف تفصيلى للطبيعة األوزيرية لرحلة الروح عبر بوابات العالم السفلى و قاعاته فى
الفصل رقم ( 044بردية نو) و الفصل رقم ( 047بردية آنى) من كتاب الخروج الى النهار .
المشهد التالى من بردية آنى ,و فيه نرى ثالثة حراس للبوابة األولى من البوابات السبعة التى
البوابة األولى من البوابات السبعة التى تفضى الى قاعات العالم السفلى
و الحارس الثانى (فى المنتصف) برأس حية و وظيفته هى مراقبة البوابة .
أما الحارس الثالث (فى أقصى اليمين) فهو برأس تمساح و وظيفته هى اعالن اسم من يعبر من
البوابة .
يحمل الحارس ذو رأس األرنب سنبلة قمح ,أما الحارسان اآلخران فيمسكان بسكين .
و فوق البوابة رموز القوة ,و هى عصا ال "واس" ,و مفتاح الحياة "عنخ" ,و عامود ال "دجد" .
و لكى يستطيع "آنى" تخطى الحراس الثالثة عليه أن يبرهن على أنه يعرف أسماءهم .
الحارس األول -برأس أرنب – يدعى (الذى أدير وجهه الى الخلف ,صاحب الصور و األشكال
العديدة ) ,يذكرنا هذا االسم على الفور بشخصية المعداوى الذى ينقل أرواح الموتى من ضفة الى
أما الحارس الثالث – برأس تمساح – فيدعى (صاحب الصوت العالى ) .
اذا لم يبرهن المرتحل فى العالم السفلى على أنه يعرف أسماء الحراس الثالثة فلن يسمح له بالعبور
و باالضافة الى معرفة أسماء الحراس الثالثة ,على المرتحل أيضا أن يجيب على مجموعة من
األسئلة .
فى الفصل رقم 047من كتاب الخروج الى النهار يقول "آنى" -:
*** أنا القوى الذى يخلق نوره ...لقد أتيت اليك يا أوزير ,انى أقدسك ,أيها الطاهر من كل دنس
و المنزه عن كل عيب ...لقد أتيتك يا أوزير و قد صرت كيانا الهيا بحق ...ال تطردنى من
حضرتك ...ال تدع الحراس يطردونى الى حوائط النار ...لقد فتحت الطريق الى "روسيتاو" ,
و خففت من آالم أوزير ...و فتحت له الطريق فى الوادى العظيم و صار له طريقا ...يالروعة
ان الرحلة التى يقوم بها "آنى" فى قاعات العالم السفلى تقع فى مملكة أوزير .
و المرتحل نفسه يكتسب لقب أوزير بمجرد بدء الرحلة ,و لذلك يطلق على آنى لقب "أوزير –
آنى" .
ان القاعات التى يعبرها آنى فى العالم السفلى ليست أماكن جغرافية و انما هى حاالت مختلفة من
الوعى كل حالة منها تعكس مرحلة من مراحل موت أوزير و تمزق جسده ثم بعثه من جديد .
و قبل دخول القاعة األولى ,يصف "آنى" كيف يرتحل أوزير الى السماء فى حضرة "رع" .
ثم يعيد تكرار نفس العبارة قبل دخوله الى القاعة السابعة و األخيرة .
و ما بين القاعة األولى و السابعة على "أوزير -آنى" أن يتحمل تجربة التمزق الى أشالء ثم اعادة
جمع األشالء مرة أخرى و ما تنطوى عليه هذه التجربة من آالم .
و قبل دخول القاعة الثانية يستدعى "آنى" قوة تحوت الذى صالح بين المتخاصمين "حورس"
و "ست" بعد صراع طويل بينهما بدأ بعد موت أوزير مباشرة .
و عند دخول القاعة الثالثه يتقمص "آنى" شخصية "جب" ,رب األرض ,و رئيس محكمة التاسوع
التى قضت بين المتخاصمين "حورس" و "ست" ,و الذى لعب دورا هاما فى بعث أوزير من
جديد .ففى هذا الجزء من رحلة الروح يكون المرتحل فى قبضة قوى الهدم و التحلل و الموت .
و قبل دخول القاعة الرابعة ,يعرف "آنى" نفسه بأنه الثور القوى ,و قد عرف الثور فى مصر
القديمة بفحولته و طاقته الحيوية الهائلة ,و هى الطاقة التى تبدأ منذ هذه المرحلة فى اعادة احياء
أوزير .
و فى القاعة الخامسه ,يقوم "آنى" بجمع أشالء أوزير ,و يزيح ثعبان أبوفيس ,و يقيم عامود ال
و فى القاعة السادسه يكتسب "آنى" لقب "المنتقم ألبيه أوزير" و هو أحد ألقاب حورس .
أما فى القاعة السابعة فيتطهر أوزير بالكامل و يبعث من جديد ,و يبحر فى السماء فى حضرة
ان المرور عبر صروح و بوابات و قاعات العالم السفلى هو فى الحقيقة مرور ال "با" بتجربة
أوزيرية لكى تمتزج بذلك الكيان االلهى و تنصهر فيه و تتحد به .
و ألن هذه الصروح و البوابات و القاعات تنتمى لمعبد أوزير ,فكلما قطع االنسان شوطا خاللها
بعد اجتياز عدد من قاعات العالم السفلى يصل المرتحل الى بوابة يحرسها أنوبيس ,و هو الذى
صادفناه من قبل فى صورة فاتح الطرق "ويبواويت" عند مداخل العالم السفلى .
و هذه البوابة التى فى حراسة أنوبيس هى بوابة قاعة الماعت ,و تعتبر المحطة الرئيسية فى رحلة
الروح فى العالم السفلى ,بحيث يمكننا القول أن كل ما مرت به الروح فى السابق ما هو اال تمهيد
فكل بوابة عبرتها الروح من قبل ما هى اال صورة مصغرة من البوابة العظيمة ,بوابة قاعة
الماعت .و كل حارس بوابة ما هو اال صورة ألنوبيس ,حارس قاعة الماعت .
فى بردية "آنى" ,نقرأ العبارات التالية على لسان "آنى" عند لقائه بأنوبيس على باب قاعة
الماعت -:
*** لقد أتيت للتو من المكان الذى ال تنمو فيه أشجار السنط ,و ال توجد فيه أى أشجار كثيفة
األوراق ...و الذى ال تنبت أرضه عشبا و ال نجيال ...و دخلت الى مكان األشياء الخفية /الباطنية
ثم يتحدث "آنى" أمام أنوبيس عن ما لديه من معرفة روحانية ,و يخبره عن سلسلة من التجارب
*** لقد ارتحلت الى حدود الروح "با" ...و منحنى رب ال "دجدو" (أوزير) االذن بأن أبعث على
هيئة طائر ال "بنو" ,لكى امتلك قوة/سحر الكلمة ...لقد عبرت فيضان النهر ...و قدمت قرابين
الفيضان السماوى) ...لقد أغرقت قارب أعدائى ...لقد كنت فى مدينة "دجدو" ( بوزيريس )
و التى أرغم على الصمت حيالها ...لقد أقمت الصورة االلهية "سخم" على قدميها ....و كنت
الساكن فى البقعة المقدسة ...لقد دخلت الى "روسيتاو" (مدخل العالم السفلى) ...و رأيت األشياء
مدينة بوزيريس هى "أبو صير بنا" (مركز سمنود ,محافظة الغربية) .
و ينهى حديثه ألنوبيس قائال ( :ليكن الميزان الذى ستضعه يا أنوبيس فى القلب ) .
ان وضع الميزان و ضبطه هو الحدث الرئيسى الذى يقع فى قاعة الماعت التى يوشك "آنى" على
دخولها .
و العبارات التى اقتطفناها فى السابق من بردية "آنى" تشير الى أن ما سيوضع فى الميزان هو
طاقة ست فى كفة و طاقة حورس فى الكفة األخرى ,ليتبين ان كان "آنى" قد تمكن من احداث
و لكى يسمح للمرتحل فى العالم السفلى بالدخول الى قاعة الماعت عليه أوال أن يبرهن على معرفته
و قد وصفت بعض البرديات عملية التعرف على البوابة بشكل مطول ,حيث يطلب من المرتحل أن
يذكر اسم كل جزء من أجزاء البوابة :القائم ,و المغاليق و الدعامة األفقية و العتبة ,الخ .
على سبيل المثال ,جاء فى بردية "نب -سنى" أن االسم الذى يحمله قائم البوابة هو ( ريشة
الحقيقة ) ,و أن مغاليق البوابة هى ( لسان الميزان فى قاعة الماعت ) ,و كال االسمين يشيران الى
و لكن ذكر أسماء أجزاء البوابة ال يكفى لدخول قاعة الماعت مباشرة ,فبينما يخطو المرتحل
أرض قاعة الماعت :لن أدعك تدخل ,ألنى ال أعرف اسم أقدامك التى ستخطو بها فوقى .
فقط عند ذكر المرتحل االسم الخفى/االلهى ألقدامه ,يسمح له بدخول قاعة الماعت .
تنتمى قاعة الماعت لمعبد أوزير ,و تعتبر هى الردهة أو الدهليز الذى يفضى الى محراب أوزير
و قدس أقداسه حيث عرشه هناك فوق ماء األزل "نون" .
و الطبيعة الجغرافية لقاعة الماعت تعتبر صورة مرآه للطبيعة الجغرافية ألرض مصر .
يبلغ عدد قضاة قاعة الماعت 42قاضيا ,كل قاضى منهم يقابل أحد أقاليم مصر ال . 42
تبدو القاعة نفسها و كأنها أرض مصر التى تحول كل جزء منها الى كيان الهى .
فى العالم السفلى ال يشعر االنسان أنه فى عالم آخر منفصل عن العالم المادى .
فالطبيعة فى العالم السفلى هى الجسم النجمى و الروحى لمظاهر الطبيعة التى نراها فى العالم
المادى .
ان القوى الروحانية التى تجتمع فى قاعة الماعت لكى تختبر و تحكم على ال "با" هى نفس القوى
الروحانية التى تنظم الطبيعة و تحكمها ,و قد عبر عنها قدماء المصريين بقضاة الماعت ال . 42
المشهد التالى من بردية "نب -سنى" و هو يصور قضاة الماعت الى 42و هم يقفون منتصبين فى
وسط القاعة أمام تمثالين للربة ماعت و هى تجلس على العرش و تمسك فى يدها اليمنى صولجان
الحق /الحقيقة ,و فى يدها اليسرى مفتاح الحياة "عنغ" و فوق رأسها شعارها المميز "ريشة
تؤكد العديد من البرديات على أن قضاء الماعت فى حالة توافق تام مع الماعت و ذلك بتصويرهم
فى المشهد التالى من بردية "حور" يظهر قضاة الماعت و هم يحملون ريشة الماعت فى أيديهم .
و هنا أود أن أذكر القارئ مرة أخرى أن الماعت فى نظر قدماء المصريين هى الغذاء أو الخبز
ماعت هى الخبز االلهى الذى يقتات به من يحيا فى الماعت ,أى يحيا فى تناغم مع النظام الكونى .
أما من لم تكن حياته الدنيا فى تناغم مع النظام الكونى ,فان تجربته فى قاعة الماعت تكون أشبه
قاعة المحاكمة هى العالم الباطنى الذى اذا دخله االنسان صار موصوال بالذات العليا /االلهية .
و بقدر ما ينجح االنسان فى االرتقاء بذاته الدنيا (األنا السفلية) و جعلها فى اتساق و تناغم مع الذات
العليا/االلهية ,تكون تجربة الدخول الى حضرة الماعت (قاعة الماعت) أشبهة بالعودة الى البيت .
و بقدر ما يكون االنسان غير متسق مع ذاته العليا/االلهية ,تتحول تجربته فى حضرة الماعت الى
عذاب أليم ,ألن نظرة الماعت الثاقبة لمن ينطق الكذب فى حضرتها تصير غصة فى حلقه
على المرتحل الى العالم السفلى أن يخاطب كل "نتر" كيان الهى باسمه ,و أن يصدر اعالنا من
شقين .
الشق األول يطلق عليه االعترافات المنفية ,و فيه يقوم المرتحل بنفى ارتكابه أى عمل يخالف
الماعت .على سبيل المثال يقول "آنى" فى كتاب الخروج الى النهار (فصل رقم )025موجها
*** التحيات لك يا صاحب الخطى الواسعة (أبو خطوة) ,يا من أتيت للوجود فى هليوبوليس ...أنا
ثم يوجه "آنى" حديثه للنتر الذى يحكم مدينة "ميت رهينة" (منف) -:
*** التحيات لك يا من تحتضن النار ...يا من أتيت للوجود فى "منف" ...أنا لم أسلب اآلخرين
ممتلكاتهم ***
و هكذا ينتقل آنى من "نتر" الى آخر ,حيث كل "نتر" يقابله جزء من طبيعة مصر الجغرافية
فى الحقيقة ,ان رحلة الروح فى العالم السفلى تقع فى مصر ,أى فى االمتداد النفسى و الروحى
لمصر ,و هى األرض المقدسة التى تسكنها ال "نترو" (الكيانات االلهية) .
ثم يتوجه "آنى" بالحديث الى ال "نتر" الذى يحكم مدينة "هرموبوليس" (األشمونيين/محافظة المنيا)
قائال -:
*** التحيات لك أيها "األنف المقدس/االلهى" ...يا من أتيت للوجود فى هرموبوليس ...أنا لم
ثم يتوجه بالحديث الى ال "نتر" الذى يحكم منطقة "القرنة" بطيبة الغربية (البر الغربى باألقصر)
قائال -:
*** التحيات لك يا من تلتهم الظل ...يا من أتيت للوجود فى القرنة ...أنا لم أقتل ,و لم أسبب أذى
النسان ***
و هكذا يستمر آنى فى مخاطبة كل "نتر" من ال "نترو" التى تحكم كل منطقة باطنية /سيكولوجية
تتضمن القائمة الطويلة لألفعال التى ينفى المرتحل ارتكابها العديد من الجرائم كالسرقة و الغش
و االنفالت الجنسى و الكذب و التزييف ,كما يحرص المرتحل أيضا على أن ينفى "التهامه لقلبه"
و تتضمن قائمة االعترافات المنفية أيضا العديد من األخطاء التى يرتكبها االنسان ضد الطبيعة ,
مثل القاء القمامة فى األرض الزراعية الخصبة و تلويث مصادر المياه .
كما تتضمن أيضا أفعال تنطوى على تدنيس المعابد أو ارتكاب المخالفات فى حرم المعبد ,مثل قتل
الحيوانات المقدسة بالخطأ ,و التجديف فى حق ال "نترو" ,أى ذكرهم بسوء ,و أيضا تدنيس
و بردية "نب -سنى" ,و بردية آنى) اثنين و أربعين اعترافا منفيا ,و هو نفس عدد قضاة الماعت
أما الشق الثانى من التصريح الذى يدلى به المرتحل فى العالم السفلى ,فهو االعترافات المؤكده .
و فيها يقوم المرتحل بسرد األعمال الصالحة التى قام بها فى حياته الدنيا و التى يعتقد أنها تتوافق
تبدأ هذه االعترافات بتأكيد المرتحل على أنه يحيا فى الماعت أو يحيا على الماعت ,و يقتات بها ,
فى مصر القديمة ,أن يحيا االنسان على الماعت و يقتات بها ,كان ذلك يعنى أن ال "با" (الروح
المتقمصه) صارت فى اتساق تام و تناغم مع ال "آخ" (الروح النورانية/االلهية) بحيث تأتى كل
دوافع ال "با" من نور ال "آخ" ,أى من نور الروح األسمى ,و تأتى مشيئة االنسان متوافقة مع
جاء فى كتاب الخروج الى النهار من بردية "نو" (فصل رقم -: )025
*** لقد منحت الخبز للجائع ,و الماء للعطشان ,و الثوب للعريان ...و منحت القارب لمن ال
قارب له ...و قدمت القرابين لل "نترو" (الكيانات االلهية) ...و األضاحى لل "آخو" ( المبجلين /
/األرواح النورانية) ...أنا طاهر الفم و اليد ...و أينما أذهب ألقى الترحاب المضاعف من كل من
يرانى ...لقد أتيت الى حضرة الماعت ألكون شاهدا على الحقيقة (شاهد حق) ...و لكى تتزن كفتى
تلخص الجملة األخيرة من النص السابق (و لكى تتزن كفتى الميزان فى المكان المقدس) مغزى
فبردية "نو" على سبيل المثال لم تذكر عملية وزن القلب (و هى تخلو أيضا من وجود مشهد يصور
هذه العملية) و انما ذكرت فقط وضع الميزان .و لم تذكر نصوصها ما الذى يوضع فى كفتى
الميزان .
و يبدو أن اتزان كفتى الميزان هو الحدث األهم الذى يلخص مغزى رحلة الروح فى العالم السفلى .
فهو يحمل معنى باطنى فى غاية األهمية بالنسبة لرحلة الروح ,و هو ما تؤكده العديد من النصوص
دونت بردية "نو" فى بداية عصر األسرة , 03دولة حديثه و تعتبر من أقدم البرديات التى سجلت
و فى نهاية عصر األسرة , 03ظهر كتاب البوابات الذى يحتوى الفصل الخامس (أو الساعة
الخامسه) منه على مشهد للمحاكمة و وضع الميزان فى قاعة أوزير فى العالم السفلى .
فى المشهد التالى يجلس أوزير على العرش ,و أمامه مومياء لشخص يحمل فوق كتفيه الميزان .
يقف ذلك الشخص فى موضع قوائم الميزن ,و نالحظ أن الكفتان ال تحمالن شيئا ,و انما هناك
اشارة لوجود شئ مجرد فوق الكفتين عبر عنه الفنان بشئ أشبه بمنصة مرتفعة قليال .
و خلف ذلك الشخص الذى يحمل الميزان ,تسع درجات معراج ,تقف فوقها أرواح الموتى
المبجلين النورانيين الذين تحولوا الى "آخو" (األرواح التى حازت االشراق) .
و فوق أرواح المبجلين نرى "ست" فى هيئة خنزير برى يغادر بعيدا عن أوزير فى قارب يسوقه
و فى أقصى اليمين من أعلى يقف أنوبيس يشهد ما يحدث دون تدخل .
و دور أنوبيس هنا يبدو سلبيا بالمقارنة بمشاهد وزن القلب فى كتاب الخروج الى النهار و التى
لكن هذا المشهد من كتاب البوابات يختلف عن مشاهد وزن القلب فى كتاب الخروج الى النهار فى
أنه يصور العالقة بين كل من "أوزير" و "ست" و أرواح البشر التى تحولت الى "آخو" (أقطاب
( ان أعداء أوزير تحت قدميه ,أما ال "نترو" و أرواح البشر المبجلين ,فهم أمامه ) .
و برغم أن أعداء أوزير لم يتم تصويرهم فى المشهد اال ان وصفهم بأنهم تحت أقدام أوزير يعنى
ضمنيا أنهم فى احدى كفتى الميزان ,بينما أرواح البشر المبجلين "آخو" فى الكفة األخرى .
بعبارة أخرى ان كفتى الميزان فوق كتفى المومياء يعنى أنها هى التى تحفظ التوازن بين أعداء
فى المشهد التالى من بردية "خونسو ام حب" من عصر األسرة واحد و عشرين (دولة حديثه) يقوم
حورس بضبط الميزان بدال من أنوبيس ,و نالحظ أن كفتى الميزان فارغتان .
و هناك العديد من مشاهد وزن القلب من عصر األسرة 20و ما بعده تخلو فيها كفتى الميزان
تماما .
ان فكرة تحقيق التوازن هى المغزى المقصود من مشهد وزن القلب ,و لذلك ترك الفنان المصرى
القديم كفتى الميزان فارغتين فى العديد من المشاهد ,ألن حالة االتزان هى المقصودة ,و ليس ما
رأينا فى الفصل األول أن نظرة قدماء المصريين لمصر باعتبارها أرضين هى فكرة مستمدة من
مفاهيم روحانية تتخطى حدود التقسيم الجيولوجى و السياسى لمصر الى مملكة الصعيد (مصر
*** كان مبدأ االزدواجية مهيمنا على العقل المصرى القديم الذى رأى أن العالم ما هو اال سلسلة من
األقطاب المتناقضة فى حالة اتزان تام .بل ان الكون كله فى نظر قدماء المصريين كان تعبيرا عن
ازدواجية األرض و السماء .أما األرض نفسها ,فتنطوى على مستوى آخر من االزدواجية حيث
تنقسم الى شمال و جنوب ,أو مملكة حورس و مملكة ست ,كما تنقسم أيضا الى ازدواجية أخرى
و من األشياء الجديرة بالذكر هنا أن "ميزان األرضين" كان أحد ألقاب مدينة "منف" ,و هى
العاصمة التى أنشأها الملك مينا ,أول ملوك عصر األسرات .
يجلس الملك على عرشه فى "ميزان األرضين" (منف) ليحفظ االتزان لمصر كلها ,و لذلك كان
*** "السيدان" هما المتخاصمان أو الغريمان ,حورس و ست .و ينظر للملك فى مصر القديمة
باعتباره تجسيدا لهما على األرض و لكن هذا التجسيد للغريمين ال يعبر عن وجود صراع بينها
داخل نفس الملك و روحه ,و انما يعبر عن نجاح الملك فى احداث التوازن و التناغم التام بين
و ست" ***
يظهر حورس و ست فى العديد من مشاهد الفن المصرى و هما يقومان معا بربط ساقى نبات
اللوتس و البردى (رمز مصر العليا و مصر السفلى) حول عالمة هيروغليفية يطلق عليها "سما"
و تعنى "وصل /مزج /دمج" ,تحاكى صورة الرئتين و القصبة الهوائية ,رمز األقطاب المزدوجة
حورس و ست يقومان معا بربط أعواد اللوتس و البردى كرمز لتوحيد األرضين "سما -تاوى"
يظهر حورس و ست أيضا فى المشهد التالى الذى يصور المرحلة األخيرة من شعائر ال "حب -
سد" ,و هى مجموعة من الطقوس يقوم بها الملك بهدف تجديد طاقة األرض .
فى النصف األيمن من المشهد يجلس الملك سنوسرت الثالث على العرش متوجا بالتاج األبيض (تاج
مصر العليا) ,و أمامه "ست" (فى صورة حيوان أشبه بآكل النمل) فوق منصة عالية يقدم له سعفة
و فى النصف األيسر من المشهد يجلس الملك سنوسرت الثالث أيضا على عرشه متوجا بالتاج
األحمر (تاج مصر السفلى) ,و أمامه حورس (فى صورة صقر) فوق منصة عالية يقدم له سعفة
النخل .
و من األشياء الملفتة لالنتباه هنا العناية الشديدة بالتفاصيل التى تبرز السيمترية و التوازن التام
بين المشهد الذى ينقسم الى نصفين يبدو كل منهما صورة مرآه معكوسه من النصف اآلخر ,بما فى
احتلت فكرة االتزان أهمية كبرى فى الفكر الدينى المصرى ,و بوجه خاص فكرة االتزان بين
لذلك ليس من الغريب أن تحتل فكرة االتزان أهمية كبرى فى رحلة الروح فى العالم السفلى .
يقول عالم المصريات االنجليزى "جون جوين جريفيث" ( - )John Gwyn Griffithsو الذى
فى العالم السفلى ,هو الصراع بين حورس و ست و الذى حوله تحوت الى تناغم و اتزان حين
صالح بين الغريمين ,و لذلك كان من ألقاب تحوت "المصالح بين المتخاصمين" .
ان وقوع المحاكمة فى قاعة الماعت المزدوجة التى تعتبر بمثابة الردهة أو الدهليز الذى يفضى الى
قاعة العرش االلهى (األوزيرى) يعنى أن الهدف من رحلة الروح فى العالم السفلى هو أن يصل
االنسان الى حالة من التوازن الداخلى بأن يقبل األقطاب و المتناقضات التى بداخله ,أو بعبارة
أخرى يقبل التناقض بين الذات الدنيا (األنا السفلية) و الذات العليا (األنا العليا) و التى يجسدها
يعبر المشهد التالى بأسلوب فنى رائع عن التصالح و التناغم بين األضداد .
عبر الفنان عن ذلك بصورة ميزان بدون قائم و قد تم استبدالها بحورس و أنوبيس و هما يرفعان
و فيها صورة مصغرة للشخص الذى وضع له الميزان ,و بين االثنين نجد صورة انسان رسمها
ألنوبيس طبيعة مزدوجة .و قد رأيناه فى الفصل العاشر و هو يقوم بدور المرشد الذى يستقبل
أرواح الموتى عند مداخل العالم السفلى .و قد أهلته طبيعته المزدوجة للقيام بهذه المهمة فى المنطقة
يحل أنوبيس فى كثير من األحيان محل ست كقطب أو قوة كونية مناقضة لحورس .
تعود جذور ازدواجية أنوبيس و حورس الى العصر العتيق حين كانت مدينة "بى" أو "بوتو" (تل
الفراعين /دسوق /محافظة كفر الشيخ) فى الدلتا هى معقل أنوبيس (ابن آوى) ,و مدينة "نخن"
و يعتبر ذلك دليال على الصلة الوثيقه بين "ست" و بين أنوبيس فى هيئة حيوان ابن آوى و التى
عرف أنوبيس فى مصر القديمة بأنه رب الصحراء و هى صفة يشاركه فيها "ست" .
ذكرت احدى األساطير أن أنوبيس هو ابن "نفتيس" زوجة "ست" ,و نفتيس هى الجانب "المظلم /
و من األشياء الجديرة باالنتباه أن بقدوم العصر البطلمى تالشت الفروق بين "ست" و "أنوبيس" ,
على سبيل المثال نقرأ فى بردية "جوميلياك" ( )Papyrus Jumilhacالتى تعود للعصر البطلمى
يتميز أنوبيس بطبيعته الفضفاضة التى تمكنه من أن ينساب بين عالم الظالم و عالم النور ؛ بين
فى أنوبيس يمكن للغريمين أو القطبين المتناقضين "حورس" و "ست" أن يجدا أرضية مشتركة .
الذى وضع من أجله الميزان بأن أنوبيس هو المرشد الذى ساعده فى الوصول الى تلك األرضية
و بقدر نجاح االنسان فى احداث توازن بين هذه القوى داخله ,بقدر ما ينجح فى اقامة الماعت التى
عبرت برديات أخرى من كتاب الخروج الى النهار عن عالقة التكامل بين أنوبيس و حورس
بطريقة أخرى ,حيث يقود أنوبيس روح المتوفى الى داخل قاعة الماعت ,ثم يسلمه بعد ذلك الى
و بتأمل دور حورس فى االتزان ,نجد أن حورس أقرب الى العقل األسمى ,الى نقطة السكون التى
بدأ منها كل شئ ,و هى المطلق (الحقيقة المطلقة) ,بينما أنوبيس فى حالة حركة دائمة و تنقل بين
فى العديد من مشاهد وزن القلب بكتاب الخروج الى النهار يظهر الشخص الذى وضع من أجله
الميزان فى كفة ,بينما قلبه (و ليس الماعت) فى الكفة األخرى ,كما فى المشهد التالى .
ارتبط القلب فى الفكر الدينى المصرى دائما بالنقاء و الطهارة .فطر القلب على النقاء و تلك هى
الطبيعة الغالبة عليه .و القلب هو ذلك الموضع من الجسد الذى يسكنه حورس ,و هو بفطرته
و لكن ما الذى يعنيه وقوف الشخص الذى وضع من أجله الميزان فوق احدى كفتى الميزان ؟
ان فكرة وزن االنسان فى كفة مقابل قلبه فى الكفة األخرى ليست غريبة على علم النفس المصرى
الذى يرى فى كل جزء من أجزاء الجسد (كالطراف و األحشاء و الرئتين و القلب ,الخ) ثقال نفسيا
,بمعنى أن كل عضو على حدة هو وعاء الحدى القدرات و الصفات التى تشكل النفس االنسانية .
و الهدف األسمى من رحلة الروح فى العالم المادى و من بعده العالم السفلى هو أن تصبح كل هذه
األعضاء و ما يتصل بها من أفكار و مشاعر و رغبات فى تناغم تام و اتساق كامل مع القلب الذى
و السؤال الذى يشغل بال المرتحل فى العالم السفلى هو :هل نجحت فى أن أجعل كل أعضائى
اذا كانت االجابة "نعم" ,فسيتعرف القلب على هذه الصفات النفسية كجزء منه و سيحدث االتزان
بشكل تلقائى .تحدد اجابة السؤال السابق مصير الروح فى العالم اآلخر .
المشهد السابق من بردية "نب -سنى" (فصل رقم 11من كتاب الخروج الى النهار ,و النص
المصاحب للمشهد هو عبارة عن صالة أو دعاء يتوجه به االنسان الى قلبه و يخاطبه قائال -:
*** يا قلبى ,يا أمى ...يا من كنت معى طوال حياتى الدنيا ...ال تقف أمامى و ال تكن خصمى
حين يوضع الميزان ,فى حضرة رب الميزان ...ال تدع أحدا يقول عنى أنى فعلت شيئا يتنافى مع
السفلى) ***
و رب الميزان فى المشهد السابق هو تحوت ,حيث تقول احدى األساطير أنه هو الذى صالح
بين الغريمين حورس و ست ,بينما تقول أسطورة أخرى أنه ولد من اتحادهما معا .
و هنا يتضح لنا أن االتزان المنشود بين االنسان و قلبه هو صورة أو انعكاس لالتزان بين طاقة
حين نرى مشاهد تصور عملية وزن القلب مقابل ريشة الماعت ,علينا أن نضع فى ذهننا دائما
فى بعض األحيان تكون كفتى الميزان فارغتين ,و فى أحيان أخرى يكون هناك رموز مجردة .
و يمكن أيضا أن يوضع االنسان فى كفة ,و فى الكفة األخرى قلبه أو تمثال الماعت أو ريشتها ,
و هى جميعا تنويعات مختلفة على فكرة واحدة أساسية هى فكرة اتزان األقطاب .
فى المشاهد التى يوزن فيها القلب فى مقابل الماعت يقف القلب كرمز للكيان االنسانى كله .
و السؤال الذى يتبادر للذهن عند رؤية ذلك المشهد هو :هل وصل القلب الى حالة االتزان
و التناغم ؟
فى بردية "آنى" نقرأ هذا التضرع الموجه الى أنوبيس -:
*** يا أنوبيس ,يا من تضع الميزان فتجعله متزنا ...عسى أن يكون ذلك االتزان فى قلوبنا ***
القلب المتزن هو القلب الذى صارت الدوافع النفسية بداخله فى تناغم تام مع الهدف األسمى للروح ,
أو بعبارة أخرى ,أن القلب نجح فى االرتقاء بنوازع النفس و تحويلها لتخدم أهداف الروح
و يعتبر ذلك الحدث عالمة انتهاء رحلة الروح فى العالم السفلى .
فالروح قد وجدت سكينتها فى القلب الذى تسكنه الماعت و بالتالى تحيا الروح فى الماعت الى
و المشهد التالى يعتبر أحد النماذج التقليدية لوزن القلب ,و هو من بردية "حو نفر" ,و فيه نرى
أنوبيس و هو يقود "حو نفر" الى حيث وضع الميزان الذى يتولى أنوبيس ضبطه بنفسه ,ثم يوزن
القلب فى مقابل ريشة الماعت .و أمام أنوبيس يقف الوحش المخيف "عاممت" و هو حيوان
ينظر "عاممت" فى اتجاه تحوت الذى يمسك بالقلم ليدون النتيجة التى سيسفر عنها وزن القلب .
فالقلب الغير متزن/متسق مع ريشة الماعت يصبح فريسة لذلك الوحش المخيف .
فى هذا المشهد – و غيره من مشاهد وزن القلب – نالحظ أن أنوبيس هو الذى يقود المرتحل فى
العالم السفلى الى الميزان و هو الذى يقوم بضبط الميزان بنفسه .
و بعد انتهاء وزن القلب يتولى حورس المسئولية و يقود المرتحل فى العالم السفلى الى حيث عرش
أوزير .
يبدو أن هناك نقطة معينة فى هذه المنطقة من العالم السفلى ال يستطيع أنوبيس تجاوزها ,و لذلك
و أخيرا تصل الروح المرتحلة فى العالم السفلى الى محطتها األخيرة ,الى عرش أوزير .
فى كتاب الخروج الى النهار (فصل رقم )11نقرأ العبارت التالية على لسان مرتحل فى العالم
السفلى بلغ نهاية رحلته ,و وقف فى الحضرة األوزيرية يبتهل الى االله العظيم قائال -:
*** لقد أتيتك يا رب الغرب (العالم السفلى) ,و هاأنذا أقف فى حضرتك ...جسدى طاهر من اآلثام
...أنا لم أكذب ,و لم أكرر أخطائى ...أبتهل اليك يا أوزير أن تجعلنى من المقربين من عرشك ,
و من أتباعك ...أبتهل اليك أن تجعلنى أقرب المقربين اليك ,أيها االله الطيب ...أبتهل اليك يا رب
األرضين أن تجعلنى من أحبائك ...أبتهل اليك يا أوزير أن تجعلنى من المبرئين أمامك ***
فى المشهد التالى يجلس أوزير على عرشه ,و يحمل فوق رأسه تاج ال "آتف" ,و هو أحد أشكال
التاج األبيض (تاج مصر العليا) تزينه ريشة نعام من كل ناحية ,و هو ما يشير الى العالقة الوثيقه
كما يحمل التاج أيضا فى أغلب األحيان قرص الشمس ,و هو ما يشير الى العالقة الوثيقه بين
"أوزير" و "رع" .
فى الفصل رقم 031من كتاب الخروج الى النهار جاء ذكر تاج ال "آتف" باعتباره تاج "رع" .
و بعد أن انتصر أوزير على الموت و بعث من جديد ارتدى ذلك التاج ,و جعل عرشه على ماء
األزل فى العالم السفلى ,حيث تقف ال "نترو" (الكيانات االلهية) فى حضرته و تنحنى لجالله .
يظهر وجه أوزير و جسده فى هذا المشهد باللون األخضر و هو ما يشير الى أن جسد أوزير يفيض
بالحيوية .
فى ذلك الموضع لم يعد أوزير الضحية القليلة الحيلة التى قتلها "ست" ,فقد بعث و ولد من جديد .
جاء فى احدى األساطير أن حورس هو الذى تولى مهمة ايقاظ أوزير من موته .
نزل حورس الى العالم السفلى حيث يرقد جثمان أوزير بال حراك ,و قدم له عينه قربانا ,
و احتضنه فانتقلت طاقة الحياة من جسده الى جسد أوزيرالهامد ,فأيقظته من حالة الخمول و فقدان
عند ارتحال الروح فى العالم السفلى تتقمص شخصية حورس الذى يصارع قوى الهدم و التحلل
المرتحل فى العالم السفلى من البشر و تحاول منعه من أن يبعث كما بعث أوزير .
عند تامل المشهد السابق نكتشف ان العالقة بين حورس و أوزير متبادلة ,حيث يعتمد كل منهما
فمن ناحية ,يعتبر أوزير هو غاية رحلة الروح فى العالم السفلى ,و هو وحده الوسيلة التى يمكن
و من ناحية أخرى ال يستطيع أوزير أن يساعد الروح (با) كى تبعث من جديد فى العالم السماوى ,
اال اذا قامت الروح بالدور الذى قام به حورس فى الزمن األول حين قدم ألبيه أوزير عينه الشافية
بعبارة أخرى ان كل من حورس و أوزير يعتمد على اآلخر و يحتاج الى اآلخر .
و هنا علينا أن نتذكر أن "ست" يلعب دور هاما فى بعث الروح ,و هو دور أشبه بدور المعلم
فلوال قتل "ست" ألوزير لم تكن هناك امكانية لبعث ال "با" و ميالدها من جديد فى العالم السماوى .
فى الميثولوجيا المصرية ,مهما بلغت قسوة الشر و عنفه ,فان ذلك ال ينفى أن له دور هام فى
من األشياء التى تلفت االنتباه فى المشهد السابق أن حورس هو الذى يرشد الروح أثناء رحلتها فى
العالم السفلى و هى تجتاز األخطار و العقبات و الفخاخ وسط عالم يهدد بايقاعها فى شراك قوى
باالنتصار على هذه القوى المعادية ,و باالتساق و التناغم مع الذات العليا/االلهية ,يصل "حو نفر"
فى نهاية الرحلة الشاقة الى حضرة أوزير ,رب البعث .
و ألن "حو نفر" تغلب على كل العقبات التى اعترضت طريقه ,لذلك فهو يرى أوزير منتصرا ,
أو بعبارة أخرى يرى أوزير مرآه لذاته ,أو لتلك القوة االلهية الكامنة بداخله و التى تعتبر هى
تتضمن رحلة "حو نفر" فى العالم السفلى انقاذ أوزير و تحريره من قبضة "ست" ,أو بعبارة أخرى
من قوى الهدم و التحلل و الموت التى تبقيه عاجزا ,راقدا بال حراك .
و تنتهى الرحلة بايقاظ أوزير و بعثه من جديد و هو ذروة األحداث و الهدف من الرحلة .
و من األشياء التى تلفت االنتباه فى المشهد السابق أيضا أن عرش أوزير على الماء .
و الماء فى هذا السياق هو ماء األزل "نون" الذى خرج منه آتوم للوجود و خلق نفسه بنفسه .
و من الماء الذى يعلوه عرش أوزير نبتت زهرة لوتس (رمز االنبعاث) تحمل أبناء حورس
األربعة .
ان أوزير بعد قيامته و بعثه من جديد هو أوزير الذى أدرك أنه موصول بالينبوع الذى انبثق منه كل
فى هذا المشهد يقف "حو نفر" أمام أوزير الموصول بآتوم لحظة قيامه بفعل الخلق األزلى و تجليه
حين يصل المرتحل فى العالم السفلى الى تلك النقطة و يطلع على صورة أوزير الجالس فوق عرشه
على مياه األزل ,عندها يدرك القدرة االلهية الكامنة بداخله و هى القدرة المسئولة عن بعثه من
كان على حورس أن يوقظ أوزير أوال لكى يصبح أوزير قادرا على انجاب ابن .
و فى نفس اللحظة التى يعود فيها أوزير الى الحياة تظهر ايزيس فى هيئة حدأة و تحوم فوق جسد
و يعتبر اتحاد ايزيس بأوزير شرطا أساسيا لميالد حورس الطفل .
المشهد التالى من مقبرة رمسيس السادس و فيه نرى حورس و هو يولد من جسد أوزير الراقد
(تحديدا من فخذه) ,و هو اشارة الى امتزاج ايزيس بجسد أوزير العاجز الراقد ,و هذا االمتزاج هو
و على اليسار يقف آتوم شاهدا على ميالد حورس ,و الذى يعتبر محاكاة أو نسخة مصغرة من
تفسر مثل هذه المشاهد عادة فى سياق الحياة األخرى للروح بعد الموت ,و لكنها تشير أيضا الى
نوع من التجارب الصوفية الروحانية التى كان يمارسها حكماء مصر القديمة أثناء حياتهم الدنيا
يكمن أحد أسباب عدم قدرة االنسان المعاصر على فهم الديانة المصرية القديمة فى استبعاد ال
حين ندرك أن هناك عالقة تشابك بين ال "نترو" و بين مختلف حاالت الوعى االنسانى ,عندها
ان كتاب الخروج الى النهار و غيره من كتب العالم اآلخر المصرية ليس من نسج خيال يسقط
أمانيه و رغباته على الحياة فى العالم اآلخر و انما هى كتب ارشادية لمستويات الوعى التى يجب
و من أهم الطقوس التى تعبر عن بعث أوزير طقس اقامة عامود ال "جد" ,و هو طقس قام به
يرمز عامود ال "جد" الى العامود الفقرى ألوزير ,و اقامة عامود ال "جد" ترمز اليقاظ أوزير
من حالة العجز و فقدان الوعى التى انتابته نتيجة سقوطه ضحية لقوى الهدم و الفوضى المتمثله فى
"ست" .
فى طقوس اقامة عامود ال "جد" التى تقام كل عام فى شهر كيهك كان الملك يقوم بدور حورس
يبقى عامود ال "جد" راقدا ,فاقدا للحياة الى أن يأتى حورس -بمساعدة ايزيس -و يتدخل .
جديد .
و لذلك كان طقس اقامة عامود ال "جد" ضروريا لتجديد طاقة الملك و ميالده من جديد .
فى المشهد التالى يظهر عامود ال "جد" و قد أقيم فى وضع رأسى و دبت فيه الحياة فأصبح فى
هيئة انسان يحمل فوق رأسه التاج الملكى و فى يده صولجانات الملك تحيط به من الجانبين ايزيس
العالقة بين عامود ال "جد" المنتصب (رمز أوزير بعد ان بعث) و بين الشمس
فى القسم العلوى من المشهد نرى قارب "رع" و هو يبحر فى المحيط السماوى ,و فى منتصفه
يستدعى مشهد عامود ال "جد" الذى أقيم -أى بعث من جديد -أحداث والدة الكون التى انتقل فيها
الخلق جميعا الى مستوى آخر من مستويات الوجود حين خرج "آتوم -رع" من مياه األزل .
ان ميالد حورس من جسد أوزير يتضمن أيضا تفعيل طاقة "آتوم" و "رع" و "خبرى" ,و هى
و المشهد السابق ليس فريدا من نوعه ,فهناك العديد من المشاهد المشابهة فى كتاب الخروج الى
النهار و فى العديد من البرديات التى تعود لعصر الدولة الحديثه و التى تعبر عن نظرة تأملية
للعالقة بين بعث أوزير و بين منظومة الشموس (أو منظومة النور بوجه عام) ,و التى رأى فيها
و هنا نعثر على األرضية المشتركة التى تجمع بين كل من "أوزير" و "رع" .
حين تصل ال "با" الى ينبوع وجودها ,و هو مصدر الطاقة الروحانية القادرة على تجديد الحياة
( و التى يرمز لها ب "رع" ,و لكنها تتضمن أيضا خبرى و آتوم ) ,عندها تكون ال "با" قد بلغت
مرحلة النضج التى تؤهلها الى االنتقال الى مستوى أسمى من مستويات الوجود ,حيث تحوز
و المشهد التالى يصور ذلك الحدث ,حيث يولد حورس من جسد أوزير الراقد ,تحيط به كل من
يولد حورس برأس صقر و جسم رجل مفعم بالحيوية ,و فوق رأسه قرص الشمس ,أى أن الطفل
و لذلك كان "رع" و "حورس" يشتركان معا فى نفس الصورة ,حيث يظهر االثنان فى صورة
صقر ,و يصعب التمييز بينهما بدون وجود نص مصاحب للصورة يحدد هوية الصقر .
فى حورس الوليد تنعكس صورة األفق ,حيث تلتقى األرض بالسماء ,و حيث يتصل االنسان باالله
و يتحد به .
حين يولد االنسان من جديد فى عالم الروح يصبح صورة من حورس و يعى ذاته العليا/االلهية
يلخص المشهد التالى المغزى المعقد لمفهوم البعث فى مصر القديمة .
فوق األرض – و تحت األفق – يرقد جثمان أوزيرالمحنط ,الذى تبعث فيه الحياة مجددا من خالل
أشعة النور التى تخرج من رأس حورس و هى مقلوبة رأسا على عقب .
و فوق رأس حورس يقف قارب "رع" الذى يوشك على التحرك و يحمل بداخله الطفل الوليد
حورس جالسا داخل قرص الشمس الذى يقف فوق العالمة الهيروغليفية لكلمة "آخت" ,أى أفق .
و الطفل حورس هنا هو نفسه "رع" الذى يولد فى األفق الشرقى و الذى يطلق ليه "رع – حور
فى مشاهد أخرى مشابهة قد يتم استبدال صورة حورس الطفل بصورة أوزير المنبعث أو صورة
يعبر المشهد من ناحية عن مغزى كوزمولوجى يتعلق بميالد الكون ,و من ناحية أخرى يعبر أيضا
عن ميالد الروح من جديد فى هيئة "آخ" ,و هى الروح القادرة على تجديد طاقتها بنفسها كما يفعل
"رع" بأن تعود لألصل و الينبوع الذى خرج منه كل شئ و تولد منه مجددا و بذلك تجدد طاقتها
أن يصل االنسان الى تلك اللحظة من تاريخ والدة الكون يعنى أنه قد تحول الى قطب من أقطاب
فى تلك التجربة الباطنية الصوفية تعود ال "با" (الروح) الى منبع وجودها فتصير روحا الهية ,
و هنا يكون المرتحل فى العالم السفلى قد اجتاز مملكة أوزير و انتقل منها الى عالم آخر أسمى ,
فى متون األهرام هناك ابتهال يصف تلك التجربة الصوفية ,قائال -:
*** عسى أن أشرق بالنور مثل "رع" ...بعد أن تطهرت من كل ما هو زائف ...عسى أن تقف
ماعت خلف "رع" من خاللى ...عسى أن أشرق كل يوم ,كما يفعل حورس الذى فى أفق
السماء ***
حين تتحقق األمنية و يستجاب الدعاء ,يكون المرتحل فى العالم السفلى قد "خرج الى النهار" ,أى
و بالوصول الى عالم النور ,تكون الرحلة فى العالم السفلى قد انتهت ,ألن الهدف منها قد تحقق .
ظهرت الحضارة المصرية القديمة بوعيها المنفتح على عالم الروح فى زمن بعيد عن زمننا ,
و برغم ذلك فهى ال تنفصل عن رحلة تطور وعى االنسان الغربى .
تشكل الحضارة المصرية جذور الوعى الجمعى لالنسان الحديث و المعاصر ,و لذلك فان ادراكنا
أننا ننتمى لتلك الحضارة العتيقة و أنها تشكل جزءا من هويتنا الثقافية بمعناها األوسع هو فى
مر الوعى االنسانى برحلة تطور انتقل فيها من مستوى الى مستوى آخر ,و علينا أن نفهم طبيعة
هذه الرحلة و نقبلها لكى نصل الى العالقة الصحيحة التى تربطنا بالحضارة المصرية القديمة ,
و لكن علينا تجنب السقوط فى فخ ال "نوستالجى" و الحنين للعودة الى زمن انتهى و الى رؤية
و برغم أننا بحاجة الى استعادة الوعى بالقوى الروحانية التى أطلق عليها قدماء المصريين مصطلح
"نترو" ,اال أننا ال يجب أن نفقد الحرية الفردية و االستقاللية التى تميز شعور االنسان المعاصر
بذاته و هى أعظم المكتسبات التى حققها االنسان الغربى فى مسيرة تطوره .
و الفخ الثانى الذى يجب علينا الحذر من الوقوع فيه هو مبالغتنا فى تقدير قيم حضارتنا الحديثه
لدرجة تجعلنا نسقط قيمنا و أحكامنا المسبقة على انسان الحضارات القديمة مفترضين أنه كان يفكر
و يشعر مثلنا ,أو ننظر نظرة شك وازدراء لتراث الحضارات القديمة و نصفه بأنه نتاج عقائد
و من المؤسف أن علم المصريات الحديث سقط فى كثير من األحيان فى هذا الفخ بسبب تركيزه
على دراسة األثر المادى الملموس على حساب استكشاف وعى االنسان القديم و بنيته السيكولوجية .
و برغم قيام علماء المصريات بترجمة عدد هائل من النصوص الدينية المصرية القديمة ,اال ان
ان اهمال علماء المصريات لدراسة وعى انسان الحضارات القديمة يعنى أننا غير قادرين على فهم
على سبيل المثال ,قد يظن بعض الباحثين أن علم نشأة الكون فى مصر القديمة هو نتاج عقل مشابه
لعقل علماء الفيزياء الكونية المعاصرين ,و هكذا يهمل الباحث أهم سؤال و هو كيف وصل
المصرى القديم لذلك العلم و كيف كان ذلك العلم صحيحا بالنسبة لهم ؟
يقوم علم المصريات الحديث بدراسة التاريخ المصرى القديم و كأنه من الممكن أن نقوم باسقاط
نظرتنا للواقع على ذلك الزمن بدون أن نضع فى اعتبارنا أن نفس الحدث الذى ننظر اليه كان
يهمل علم المصريات الحديث البحث فى البنية النفسية لالنسان القديم و يتجاهل العلوم الماورائية
و الباطنية ,و التى بدونها تظل الحضارة المصرية القديمة كتابا مغلقا .
بدراسة التجارب الباطنية لقدماء المصريين يمكننا أن ندرك أهمية مصر القديمة بالنسبة لنا فى
عصرنا الحاضر ,و لكن علينا أن نحذر الوقوع فى فخ الرغبة فى العودة الى ذلك العالم القديم
و أيضا فخ اسقاط قيم حضارتنا المعاصرة و أحكامنا المسبقة على الحضارات القديمة .
بدراسة تلك التجارب الباطنية لالنسان القديم فاننا بذلك نقيم حوارا مع ثقافة و عقلية ازدهرت فى
و لكن بمرور الزمن صارت تلك الثقافة و العقلية غريبة عنا و صرنا نعيش نوعا مختلفا من الحياة
الروحية يحتاج فيها االنسان أن يميز نفسه عن اآلخر بأن ينفصل عنه ,و يحتاج أن يفصل الظاهر
و لكن مؤخرا بدأ االنسان يبحث مرة أخرى عن جذوره الروحانية و يهتم بدراسة العالم الباطنى
الذى تسكنه قوى نفسية و روحانية ,و لذلك كان هناك اهتمام زائد بدراسة الحضارة المصرية
و بدراسة ذلك البعد الباطنى يدرك االنسان أن التاريخ تحركة موجات من الوعى الجمعى أشبه بالمد
و الجزر ينتقل فيها الوعى الجمعى لالنسانية من الجانب الروحى للجانب المادى و العكس .
منذ دخول جيش الحملة الفرنسية الى مصر فى عام 0793ميالدية بدأت الحضارة المصرية القديمة
اصطحب نابليون معه مجموعة من العلماء و الرسامين و الفنانين الذين استكملوا عملهم فى البحث
و التوثيق آلثار مصر حتى بعد هزيمة الجيش الفرنسى الى أن انتهوا من كتاب "وصف مصر" بين
الهيروغليفية مقرؤة و مفهومة ,و أصبح من المتاح لنا االطالع على طبيعة الحياة فى مصر القديمة
و قد ال يكون األمر محض صدفة أن نعرف أنه فى الوقت الذى كان نابليون يقوم فيه بكشف النقاب
عن الحضارة المصرية (من خالل علماء الحملة الفرنسية) كانت أوروبا تنفتح على آفاق جديدة .
على سيبل المثال ,شهدت فرنسا تغيرات اجتماعية و سياسية هائلة .
كانت العقود األخيرة من القرن الثامن عشر فترة غير عادية فى تاريخ أوروبا ,سقطت خاللها
فى ذلك الوقت أنشئت الجمهورية الفرنسية (و أيضا الواليات المتحدة األمريكية) .
تزامن ذلك مع حدوث تغيرات سيكولوجية هائلة عبرت عن نفسها من خالل الفن .
فى انجلترا و ألمانيا تزامن اعادة اكتشاف الحضارة المصرية القديمة مع ظهور الحركة الرومانسية
التى نظرت للطبيعة نظرة جديدة تعكس الوعى بوجود القوى الروحانية التى تحركها .
أصبح االنسان قادرا على رؤية تلك القوى الروحانية من جديد و لكن بقوة الخيال الذى صار شعارا
للحركة الرومانسية .تميزت الحركة الرومانسية بالحداثه و الشغف الذى كان عالمة بداية عصر
كان الشعراء الرومانسيون يفرقون بين الخيال بمعنى التخيالت الذاتية و بين أحالم اليقظة و هى
أسمى درجات االدراك فى نظرهم ,ألن من خاللها يمكن لالنسان أن يعى وجود قوى الطبيعة التى
عن طريق الخيال يمكن لالنسان أن يرى العالم الباطنى و هو العالم الذى كان قدماء المصريين
على دراية عميقة به ,و الذى تتحرك فيه القوى الروحانية التى يطلق عليها فى مصر القديمة اسم
"نترو" .
و لكن هذا ال يعنى أن وعى الشعراء الرومانسيين هو نفس الوعى الذى كان لدى قدماء المصريين.
بنهاية القرن الثامن عشر ساد فى أوروبا شعور عام بالهوية الفردية و االعتداد بالنفس بشكل يختلف
فى القرن الثامن عشر صار المثل األعلى لالنسان األوروبى هو ذلك الشخص الذى يمتلك درجة
من االستقاللية و التفرد تعتبر غريبة على عقل انسان الحضارات القديمة .
ان تزامن الغزو العسكرى و العلمى الفرنسى لمصر مع ميالد الحركة الرومانسية فى أوروبا قد
يعتبر فى نظر البعض مجرد صدفة عشوائية ليس لها أى معنى .
و لكن األحرى بعالم التاريخ أن يتجنب استخدام مصطلح الصدفة العشوائية لتفسير األحداث
لعبت مدارس العلوم الباطنية الهرمسية و الخيميائية دورا هاما فى نشأة الحركة الرومانسية فى
أوروبا ,و هى مدارس قامت فى األصل على العلوم الروحانية المصرية .
و من تلك المدارس الباطنية أيضا الماسونية ,و التى كان لها تأثير كبير على الحياة الثقافية
قوية فى اكتشاف األصل الذى اقتبست منه المدرسة الماسونية علومها ,و لعل ذلك هو الدافع وراء
غزوه لمصر ,و هو الدافع األقوى من مجرد توسيع حدود امبراطوريته .
و نابليون لم يكن هو الوحيد الذى اعتقد أن مصر القديمة هى أصل العلوم الروحانية ,و أنها
هى التى ستروى ظمأ انسان العصر الحديث لتلك المعرفة .
عرف عن جورج واشنطن و غيره من القادة المؤسسين للواليات المتحدة األمريكية انتماءهم
و من أكثر الرموز التى تعبر عن دور مصر القديمة فى تحول وعى االنسان الغربى فى تلك الحقبة
الزمنية الهرم الذى وضعه مؤسسو الواليات المتحدة األمريكية فوق عملة الدوالر الواحد .
و هنا تجدر االشارة الى أن تصميم عملة الدوالر الواحد سبق الحملة الفرنسية على مصر باثنين
و الرمز عبارة عن هرم بدون قمة ,و من موضع القمة المفقودة يخرج شعاع نور ,بينما تتوسطه
عين واحدة .و تحت الهرم دون مؤسسو الواليات المتحدة األمريكية الشعار التالى باللغة الالتينية
هناك قصة غريبة وراء ذلك التصميم الغريب ,و هى قصة ترويها بعض مدارس العلوم الباطنية
تروى القصة أن هرم خوفو كانت له قمة مغطاه بطبقة من الذهب ,و فوق كل جانب من جوانبها
عين حورس زرقاء .عندما تشرق الشمس ينعكس نورها فوق جوانب قمة الهرم الذهبية و يخرج
شعاع نور من عين حورس الزرقاء التى يتوهج نورها من على بعد أميال .
و عندما اقترب أفول شمس الحضارة المصرية ,قام الكهنة المصريون بنزع قمة الهرم و أخفوها
و لكن طبقا للقصة ,سيعاد اكتشاف القمة المفقودة فى يوم ما ,و ستوضع مرة أخرى فوق الهرم .
ال يوجد أى دليل أثرى يثبت صحة هذه القصة ,و مع ذلك فهى تحمل مغزى عميق ,و هو
أن تاريخ الحضارة الغربية يرتبط ارتباطا روحانيا بمصر القديمة .
نشأ االنسان الغربى على النظر للتاريخ باعتباره سلسلة من األحداث تسير فى خط مستقيم و فى
اتجاه واحد ,و هى نظرة تنبع من شعورنا بالزمن كحركة تعاقب لألعوام و القرون تسير هى أيضا
و لذلك يميل االنسان الغربى الى انكار وجود أى خيط يربط بين حقبة تاريخية و أخرى .
و جميعنا يدرك أهمية اعادة اكتشاف الحضارة اليونانية القديمة فى نهاية العصور الوسطى .
كان للعلوم و الفلسفة و الميثولوجيا اليونانية أثر كبير على الفكر األوروبى أدى لظهور عصر
النهضة .
ليس من المنطقى أن نرجع السبب فى ظهور عصر النهضة ببساطة الى تأثير الحضارة اليونانية
بدون أن نضع فى اعتبارنا أن االنسان األوروبى فى ذلك الوقت كان مستعدا الستقبال تلك العلوم
تزامن اعادة اكتشاف الحضارة اليونانية القديمة مع تغيرات نفسية و روحانية طرأت على االنسان
هناك تغيرات فى الوعى سبقت ظهور عصر النهضة و مهدت له ,و جعلت الشعوب األوروبية
قادرة على استلهام روح الحضارة اليونانية القديمة ,كل ذلك حدث فى خالل قرن واحد .
و اآلن تمر الحضارة الغربية بتحول مشابه لما حدث قبل عصر النهضة .
و لكننا صرنا اآلن على استعداد ألن نتواصل مع مصدر أقدم بكثير من الثقافة اليونانية
و االسرائيلية .ألن التوحيد (المستمد من الثقافة االسرائيلية) ,و العقالنية (المستمدة من الثقافة
اليونانية) لم يعد لهما دور فى التطور الروحى لالنسان ,و لم يعد لهما الهيمنة على وعى االنسان
األوروبى .
و ما بدأ مع الحركة الرومانسية التى تزامنت مع الحملة الفرنسية على مصر أخذ -بعد قرنين من
آن األوان أن نعى أننا انتقلنا الى حقبة تاريخية و ثقافية جديدة صرنا فيها على اتصال بروح
الحضارة المصرية القديمة بشكل أعمق بكثير من اتصالنا بروح الثقافة اليونانية و االسرائيلية .
توشك حضارتنا الغربية أن تشهد بعثا روحانيا يستلهم روح الحضارة المصرية القديمة ,تتحول فيه
وجهة روح الغرب الى مناطق من الوعى كان قدماء المصريين على دراية عميقة بها .
األرض ممهدة لعصر نهضة جديد أشبه بعصر النهضة القديم الذى نشأ على استلهام روح الحضارة
اليونانية .
و االنبعاث الروحى للحضارة الغربية ال يعنى العودة الى وعى الحضارات القديمة و انما يعنى
اكتشافنا (بطريقتنا الخاصة) للنصف اآلخر للواقع ( )realityالذى كان الوعى المصرى مشغوال به
بعبارة أخرى ,ان ذلك االنبعاث الروحى يعنى ذلك الجزء الذى فقد من كياننا طوال تلك القرون
يقول الشاعر "ويليام بليك" ( )William Blakeفى قصيدته "أمريكا" ,و التى تدور حول انبعاث
الحرية و الخيال فى العصر الجديد ,موجها حديثه الى روح العصر الجديد قائال -:
*** لقد عرفتك ...لقد وجدتك ...و لن أدعك ترحلين ...أنت صورة االله ,التى تسكن سواد
أفريقيا ....ان سقوطك هو الذى منحنى الحياة فى المناطق المظلمة من عالم الموت ***