You are on page 1of 461

‫معبد الكون‬

‫) الخبرات و التجارب الروحانية عند قدماء المصريين (‬

‫‪Temple of the Cosmos‬‬


‫) ‪( The Ancient Egyptian Experience of the Sacred‬‬

‫تأليف ‪ :‬جيرمى نيدلر (‪)Jeremy Naydler‬‬


‫ترجمة ‪ :‬صفاء محمد‬
‫اخراج فنى ‪ :‬باسم حلمى‬

‫‪-2-‬‬
‫فهرس‬

‫مقدمة ‪………………………………………………………………………………..‬صـ ‪4‬‬

‫الفصل األول ‪ :‬خريطة ميتافيزيقية للكون ‪ .....................................‬ص ‪9‬‬

‫الفصل الثانى ‪ :‬التداخل بين أبعاد الكون ‪ .......................................‬ص ‪25‬‬

‫الفصل الثالث ‪ :‬أساطير نشأة الكون ‪ ............................................‬ص ‪57‬‬

‫الفصل الرابع ‪ :‬عالمات الزمن ‪ .................................................‬ص ‪012‬‬

‫الفصل الخامس ‪ :‬زواج األسطورة و التاريخ ‪ ...................................‬ص ‪054‬‬

‫الفصل السادس ‪ :‬السحر و الدين ‪ . .............................................‬ص ‪212‬‬

‫الفصل السابع ‪ :‬ممارسة السحر ‪ .................................................‬ص ‪245‬‬

‫الفصل الثامن ‪ :‬الروح المتجسدة ‪ .................................................‬ص ‪291‬‬

‫الفصل التاسع ‪ :‬الروح الغير متجسده ‪ ............................................‬ص ‪109‬‬

‫الفصل العاشر ‪ :‬فقدان االتجاه فى العالم السفلى ‪ ................................‬ص ‪151‬‬

‫الفصل الحادى عشر ‪ :‬المصاعب التى يواجهها المرتحل فى العالم السفلى ‪ ....‬ص‪137‬‬

‫الفصل الثانى عشر ‪ :‬نهاية الرحلة الى العالم السفلى ‪ ...........................‬ص ‪425‬‬

‫خاتمة ‪ ..............................................................................‬ص ‪455‬‬

‫‪-3-‬‬
‫مقدمة‬

‫اقتبست عنوان هذا الكتاب "معبد الكون" من متون هرمس ‪ ,‬و هى مجموعة من النصوص تنسب‬

‫الى هرمس مثلث العظمة ‪ ,‬و الذى عرفه قدماء المصريين باسم تحوت ‪ ,‬و هو أحكم ال "نترو"‬

‫(الكيانات االلهية) ‪.‬‬

‫جاء فى تلك المتون على لسان هرمس مخاطبا تلميذا يونانيا يدعى "أسكليبيوس" هذه العبارات‬

‫التى تتحدث عن مصر و أهميتها بالنسبة للوعى الروحى فى تاريخ االنسانية ‪.‬‬

‫يقول هرمس ‪-:‬‬

‫*** ان مصر صورة للسماء ‪ ,‬بمعنى أن القوى الكونية التى تنظم الكون و التى تعمل فى السماء‬

‫قد تنزلت على أرض مصر ‪ .‬و ان أردت كبد الحقيقة ‪ ,‬فان أرض مصر هى معبد الكون ***‬

‫أخبر هرمس مثلث العظمة تلميذه أسكليبيوس بذلك فى سياق نبؤة تنقسم الى جزئين ‪.‬‬

‫فى الجزء األول يتنبأ هرمس بزمن ستصبح فيه مصر – و هى معبد الكون – موحشه ‪ ,‬و ستصبح‬

‫الحياة عبئا ثقيال ‪ ,‬و سيتوقف الناس عن رؤية الكون مثيرا للدهشة و االعجاب ‪ .‬سيتحول الدين الى‬

‫أغالل ‪ ,‬و يفضل الناس الظلمة على النور ‪ .‬فى ذلك الزمن ستهجر الكيانات االلهية البشر و لن يعد‬

‫بمقدور االنسان أن يسمع صوتها ‪ .‬ستصبح حياة البشر على األرض فارغة من الحضور االلهى ‪.‬‬

‫ستصبح األرض مقفرة ‪ ,‬و الهواء ثقيال و خانقا ‪ ,‬و هكذا يصير العالم الى شيخوخة ‪.‬‬

‫يبدو لنا ألول وهلة أن النبؤة تتحدث عن مصير مصر و قدرها ‪ ,‬و لكنها فى الحقيقة ترسم صورة‬

‫أكبر يمتد اطارها ليشمل االنسانية كلها و ليس الحضارة المصرية القديمة فقط ‪.‬‬

‫ان كلمات هرمس تتنبأ بمصير الحضارة الغربية ‪.‬‬

‫من الخطأ أن ننظر الى مصر باعتبارها كيان ينتمى الى عصر يختلف عن العصر الذى نعيش فيه ‪.‬‬

‫فما تنبأت به كلمات هرمس ينطبق على االنسانية جمعاء ‪.‬‬

‫‪-4-‬‬
‫لقد صارت الحياة عبئا ‪ ,‬و أصبحنا جميعا نحيا فى عالم ملوث ‪ ,‬فارغ من الحضور االلهى ‪.‬‬

‫لقد تحققت نبؤة هرمس و أصبحت مصر (معبد الكون) موحشه ‪.‬‬

‫و لكن النبؤة ال تتوقف عند هذا الحد ‪ ,‬فلها بقية ‪.‬‬

‫يقول هرمس أن هذه التجارب المؤلمة سيعقبها – بفضل رحمة االله – ميالد جديد لوعى االنسان‬

‫باالله و بالمقدس ‪ .‬سيعود االحساس بالدهشة و الخشوع للحضور االلهى مرة أخرى و يمأل قلوب‬

‫البشر ‪ .‬ستصير االنسانية الى يقظة روحانية تجعلها تعود مرة أخرى النشاد ابتهاالت الثناء و الحمد‬

‫للسماء ‪ .‬سيكون ذلك بمثابة ميالد جديد للكون ‪ ,‬و انبعاث للطبيعة فى دورة حياة جديدة ‪.‬‬

‫كل ذلك ورد داخل اطار نبؤة تتحدث عن قدر مصر ‪ ,‬اال أن المقصود فى سياق النبؤة ليس مصر‬

‫فقط و انما قدر الحضارة الغربية ( التى بلغ تأثيرها كل مكان تقريبا على كوكب األرض ) ‪ ,‬بل قدر‬

‫االنسانية كلها و الطبيعة التى تحيط بها ‪.‬‬

‫عند تأمل نبؤة هرمس ‪ ,‬نجد أننا بصدد دورة كونية كبرى تلعب فيها مصر دورا رئيسيا باعتبارها‬

‫رمزا للوعى الروحى ‪ ,‬و تشمل النبؤة االنسانية كلها و تمتد لتتنبأ بعصرنا الحاضر على وجه‬

‫الخصوص ‪ .‬فنحن نعيش حاليا فى نهاية النصف األول من هذه الدورة ‪ ,‬حيث ينهدم معبد الكون‬

‫(الذى ترمز له مصر) و لكنه يوشك أن يشيد من جديد ‪ ,‬و هو ما سيحدث فى النصف الثانى من‬

‫الدورة الكونية الكبرى ‪ ,‬دورة الوعى الروحى ‪.‬‬

‫تظهر مصر فى نبؤة هرمس باعتبارها رمزا لالنسانية كلها و للطبيعة ‪.‬‬

‫استطاع قدماء المصريين أن يعبروا برموزهم الروحانية عن لحظة فارقة فى تاريخ تطور االنسانية‬

‫فقد جسدت مصر القديمة قمة النضج و الوعى الروحى و التناغم مع الطبيعة فى مرحلة من مراحل‬

‫التاريخ البشرى ‪ .‬لذلك فان غياب الوعى الروحى فى مصر يعنى سقوط االنسانية ‪.‬‬

‫‪----------‬‬

‫ينشأ االنسان الغربى على االعتقاد بأن العصر الحديث ولد على يد االغريق من جهة ‪,‬‬

‫و االسرائيليين من جهة أخرى ‪ .‬فاالغريق هم من أتى بالعلم و المنطق ‪ ,‬و االسرائيليون هم من‬

‫‪-5-‬‬
‫أتى بالتوحيد ‪ .‬و هكذا تم تزييف وعى االنسان الغربى بأفكار تقوم على معاداة مرحلة سابقة من‬

‫تاريخ االنسانية أصبحت توصم بالخرافة و بالتفكير الغير عقالنى كما توصم بالوثنية ‪.‬‬

‫تلك هى هويتنا الثقافية المعاصرة التى تقوم على وصم الحضارات القديمة و تدينها ‪ ,‬و هى ادانة‬

‫بدأت حدتها تقل بمرور الزمن ‪.‬‬

‫و فى الوقت الذى كان فيه االغريق يبدأون عصرا جديدا من العلم القائم على التفكير العقالنى ‪ ,‬كان‬

‫هناك عصر آخر ينفلت من بين أيديهم ‪ ,‬و هو عصر كان االنسان يكتسب فيه المعرفة بمنهج‬

‫مختلف ‪.‬‬

‫فى ذلك الزمن ‪ ,‬كان قدماء المصريين هم حراس المعرفة الروحانية ‪.‬‬

‫فى العالم القديم ‪ ,‬كان االنسان على اتصال بالقوى الروحانية التى تتخلل الكون و تنظم عمله ‪,‬‬

‫و كان لديه القدرة على التعامل مع هذه القوى و استحضارها و التواصل معها لخير االنسانية ‪.‬‬

‫و بينما كان االغريق يرخون قبضتهم التى تمسك بأطراف ذلك العالم القديم الذى انتهى زمنه ‪ ,‬بدأت‬

‫مرحلة جديدة من الوعى ‪ ,‬حيث أخذ االغريق فى غرس بذور الوعى المادى الضيق القائم على‬

‫المنطق و على جمع المعرفة اعتمادا على الحواس المادية ‪.‬‬

‫و اذا نظرنا الى االسرائيليين ‪ ,‬نجد أنهم لم ينشئوا ديانتهم الجديدة وسط فراغ روحى ‪ .‬فقد ظهرت‬

‫الديانة االسرائيلية فى عصر األديان القديمة التى يصفها علماء اآلثار بأنها أديان تعددية ‪.‬‬

‫و من وجهة نظر األديان القديمة تعتبر الديانة االسرائيلية غير مفهومة ‪ ,‬فاالسرائيليون أنفسهم ال‬

‫يفهمونها اال بصعوبة ‪ ,‬و لم يقبلوا بها اال بعد سلسلة من التعديالت المؤلمة و التى اتسمت فى أغلب‬

‫األحيان بالعنف ‪.‬‬

‫ان النظرة التقليدية للعقل الغربى باعتبار أن جذوره تعود لالغريق و االسرائيليين هى نظرة قاصرة‬

‫ال تستطيع رؤية الصورة كاملة ‪.‬‬

‫و لكى تكتمل الصورة يجب أن تشتمل على العالم القديم ؛ العالم الذى أدار له االغريق‬

‫و االسرائيليون ظهورهم ‪.‬‬

‫‪-6-‬‬
‫ان روح الحضارة الغربية أقدم و أكثر حكمه مما نعتقد ‪ .‬و عند محاولتنا سبر أغوار الحضارة‬

‫الغربية الحديثه علينا أن نوجه وعينا للثقافة التى تقف على الجانب اآلخر و تعتبر نقيضا للثقافة‬

‫اليونانية – االسرائيلية ‪ ,‬و أعنى بذلك الحضارة المصرية القديمة ‪.‬‬

‫و حين نفعل ذلك ‪ ,‬سنتمكن من رؤية الصورة كاملة ‪ ,‬و عندها سنكتشف الجذور الحقيقية لهويتنا‬

‫و ثقافتنا ‪ ,‬و سنرى بوضوح الطريق الذى ما فتئ االنسان الغربى يسير فيه ببطء و لكن باصرار‬

‫منذ ذلك الزمن البعيد و حتى يومنا هذا ‪.‬‬

‫ان مصر القديمة تنادينا ‪ ,‬و كأنها جزء مفقود من كياننا ‪.‬‬

‫و أثناء محاولتنا اعادة االتصال مرة أخرى بالقوى الروحانية التى تتخلل عالمنا و تنظمه ‪ ,‬تبرز‬

‫مصر القديمة بشكل مطرد لتصبح فى بؤرة اهتمامنا ‪ ,‬و عندما نوجه وعينا الى مصر القديمة ‪,‬‬

‫سنكتشف أن هناك حوار مفعم بالحيوية بين الوعى الروحى الجديد اآلخذ فى التشكل و بين الوعى‬

‫الروحى لالنسانية فى العصر السابق على ظهور الثقافة "االغريقية – االسرائيلية" ‪.‬‬

‫بدأت االنسانية مؤخرا تختبر أنواع من التجارب الروحانية كانت تبدو غير مريحة لالغريق‬

‫و االسرائيليين ‪ ,‬فى حين كان قدماء المصريين على دراية عميقة بها ‪.‬‬

‫و برغم أن زمن قدماء المصريين قد ولى اال أن بوسعهم أن يصبحوا رفقاءنا و مرشدينا فى طريقنا‬

‫الى المستقبل ‪.‬‬

‫و لكن هذه ليست دعوة من دعوات العصر الجديد (‪ )New Age‬التى تنادى باحياء الديانة المصرية‬

‫الجديدة ‪ .‬ألن وعى االنسان المعاصر يختلف عن وعى االنسان القديم ‪.‬‬

‫لقد مر وعى االنسان بمراحل تطور عديدة يجب علينا أن نحترمها ‪ .‬فال يجب علينا أن ننكر أو‬

‫نتجاهل التطورات التاريخية التى أدت لظهور الحضارة الغربية ‪.‬‬

‫تكمن أهمية مصر القديمة فى أنها تذكرنا بأن لحضارتنا الغربية جذورا أعمق بكثير مما كنا نتخيل ‪,‬‬

‫ليس فقط من الناحية التاريخية و لكن أيضا على المستوى الروحى ‪.‬‬

‫و اذا كان هرمس قد تنبأ بانبعاث معبد الكون و تشييده من جديد بعد انهدامه ‪ ,‬فان علينا أن نعى‬

‫‪-7-‬‬
‫جيدا أن المعبد حين يشيد من جديد فلن يكون له نفس الشكل الذى انهدم من قبل ‪ .‬فهناك دائما جديد‪.‬‬

‫ان اعادة تشييد معبد الكون ال تعنى العودة مرة أخرى الى مصر القديمة ‪ ,‬بمعنى اقامة حضارة‬

‫نسخة طبق األصل من حضارة مصر القديمة ‪ .‬و انما تعنى أن لدينا اليوم فرصة للدخول فى حوار‬

‫مع التجربة الروحية المصرية ‪ ,‬و بذلك نقيم حوارا مع جذورنا الروحانية ‪.‬‬

‫و بعد ادراك هذه الجذور و استيعابها ‪ ,‬يمكننا أن نواجه التحدى الكبير و هو بناء المستقبل ‪.‬‬

‫أدين بالفضل للعديد من األصدقاء الذين ساهموا فى خروج هذا الكتاب للنور ‪ ,‬و من الصعب أن‬

‫أذكر كل واحد منهم باالسم ‪.‬‬

‫و لكنى أود أن أوجه الشكر بشكل خاص الى األسماء اآلتية ‪ ,‬و التى بدون مساعدتها و تشجيعها لم‬

‫يكن هذا الكتاب ليرى النور ‪.‬‬

‫أود أن أشكر كل من سام بتس (‪ )Sam Betts‬و أليسون روبرتس (‪ )Alison Roberts‬لقراءتهما‬

‫الفصول األولى من الكتاب و تعليقاتهما و نصائحهما بخصوص األفكار المطروحة ‪.‬‬

‫و أود أن أشكر فيكى ياكيبار (‪ )Vicky Yakehpar‬لمراجعتها اللغوية ‪ ,‬و بارى كوتريل‬

‫(‪ )Barry Cottrell‬لتعليقاته الثاقبة على الكتاب بالكامل و للصور التى رسمها خصيصا لكى تنشر‬

‫فى هذا الكتاب ‪.‬‬

‫و أعتبر نفسى محظوظا لمقابلتى ناشرا ذو عقلية ثاقبة و هو كانون البرى (‪ )Cannon Labrie‬من‬

‫دار نشر (‪ )Inner Traditions‬و الذى أدين له بالفضل ‪.‬‬

‫و فى النهاية ‪ ,‬أود أن اشكر أصدقائى لوان ريتشاردز (‪ )Louanne Richards‬و آجيت اللفانى‬

‫(‪ )Ajit Lalvani‬على استعدادهم لقراءة الفصول الصعبة من هذا الكتاب و على تشجيعهم الذى ليس‬

‫له حدود ‪.‬‬

‫بقلم‬

‫جيرمى نيدلر‬

‫‪-8-‬‬
‫‪Jeremy Naydler‬‬

‫الفصل األول‬
‫خريطة ميتافيزيقية للكون‬

‫الشمس المتوهجة ‪-:‬‬

‫أن أول ما يلفت االنتباه فى مصر هو الشمس ‪ .‬فهى تبدو قوية ‪ ,‬عفية ‪ ,‬متوهجة بشكل أقوى بكثير‬

‫من الشمس التى نراها هنا فى أوروبا و التى تبدو فى الغالب ضعيفة و محاطة بالسحب ‪.‬‬

‫تهيمن شمس مصر على الغالف الجوى و تخترقه بأشعتها المتألقة ‪.‬‬

‫للشمس حضور ملكى طاغى فى كل أنحاء مصر ‪.‬‬

‫يبدو نور الشمس المصرية فى منتهى النقاء و التألق لدرجة أن قدماء المصريين رأوا فيه رمزا‬

‫ألحد التجليات االلهية ‪ ,‬أال و هو "شو" و الذى يوصف بأنه "يمأل السماء بالجمال" ‪.‬‬

‫و المنافس الوحيد لجمال ضياء "شو" األخاذ هو الغالف الجوى الذى يعلو فوق السحب و الذى‬

‫نراه من فوق قمم الجبال و الذى نلمحه عند سفرنا بالطائرات ‪.‬‬

‫أطلق االغريق على هذا الغالف الجوى األعلى اسم "األثير" ‪ ,‬و هو عبارة عن هواء السماء الذى‬

‫يعتبر أنقى و أشف من هواء األرض ‪ ,‬و لذلك اعتقد االغريق أن اآللهة تحيا و تتحرك فيه ‪.‬‬

‫يستطيع المرء أن يتصل باألثير فوق قمة جبل األوليمب عندما يصل الى مستوى السحب ‪.‬‬

‫أما فى مصر ‪ ,‬فالبلد كله يبدو و كأنه يحيا فى تلك األجواء االلهية ‪.‬‬

‫فى مصر يشعر المرء أنه أقرب الى السماء ‪ ,‬الى الينبوع االلهى المقدس الذى ينبثق منه وهج‬

‫الشمس فيغمر العالم بنوره ‪ .‬و لذلك أطلق قدماء المصريين على أرضهم اسم "تا ‪ -‬نترو" ‪ ,‬أى‬

‫"األرض االلهية‪/‬المقدسه" ‪.‬‬

‫ان تأثير الشمس فى مصر يمتد حتى الى الليل ‪ .‬فالهواء المفعم بطاقة الشمس يكتسب نقاءا يجعل‬

‫‪-9-‬‬
‫النجوم تبدو أقرب الى األرض ‪.‬‬

‫و اذا راقبنا سماء الليل فى مصر خارج المدن ‪ ,‬سنجدها مرصعة بالنجوم ‪ .‬فجسد السماء ينحنى‬

‫فوق األرض على هيئة قبة مرصعة بالنجوم ‪ .‬و هذا الجسد المقبب هو جسد نوت ‪ ,‬ابنة تفنوت ‪.‬‬

‫فى الليل يصبح حضور "نوت" ( ابنة "شو" و "تفنوت" ) ذات الجسد المرصع بالنجوم فى نفس قوة‬

‫حضور أبيها "شو" فى النهار ‪.‬‬

‫و "نوت" هى التى تلد الشمس من جديد كل صباح ‪ .‬تقول األسطورة أن هناك عالقة متبادلة بين‬

‫"شو" و "نوت" من ناحية ‪ ,‬و بين "رع" و "نوت" من ناحية أخرى ‪ .‬حيث يعتبر التوهج (و هو‬

‫الصفة المشتركة بين الشمس و النجوم) هو العامل المشترك الذى يربط بين هؤالء جميعا ‪.‬‬

‫و لكن تظل هيمنة الشمس و سطوتها هى األقوى ‪ .‬فالشمس هى ينبوع الحياة ‪ ,‬و رمز الروح‬

‫الخالقة التى تتخلل كل شئ فى هذا العالم ‪.‬‬

‫و من أقدم العصور ‪ ,‬ظهرت األناشيد التى تبتهل ل "رع" (رب النور) ‪ ,‬و منها على سبيل المثال‬

‫هذا االبتهال الذى يخاطب رع قائال ‪-:‬‬

‫*** أبتهل اليك يا من تطل على العالم باشراقتك ‪ ...‬أنت الشمس المفعمة بالحياة ‪ ,‬و أنت رب األبدية‬

‫‪ ...‬يا من يتألق نورا و جماال فى السماء ‪ ...‬و يا من تنبض القلوب بحبه ‪ ...‬ان أشعتك تضئ الوجوه‬

‫جميعا ‪ ...‬و ألوانك المتألقة تحيى القلوب ‪ ,‬حين تمأل األرضين بمحبتك ‪ ...‬أيها االله العظيم الذى‬

‫خلق نفسه بنفسه ‪ ...‬و الذى خلق األرض جميعا ‪ ,‬و كل ما عليها من بشر و قطعان ماشية و أسراب‬

‫طيور ‪ ,‬و كل األشجار التى تخرج من الطين ‪ ...‬يحيا هؤالء جميعا حين تطل عليهم باشراقتك ‪...‬‬

‫أنت أب و أم كل ما صنعته يداك ‪ ...‬حين تشرق ‪ ,‬تتعلق بك عيونهم ‪ ...‬و يدخل نورك كل قلب ‪,‬‬

‫عندما تضئ أشعتك أنحاء األرض ‪ ,‬و عندما ترتفع فى السماء ربا لهم ***‬

‫ان مثل هذه المشاعر ال تنتاب ساكنى المناطق األوروبية الشمالية التى تغطى سماءها السحب‬

‫و الضباب ‪ .‬فنحن (سكان أوروبا) ليس لدينا خبرة عميقة بالعالم الذى يتواجد فيما وراء السحب (أى‬

‫السماء) ‪ ,‬و الهواء الذى نستنشقه أكثر كثافة من الهواء الذى يستنشقه سكان مصر ‪.‬‬

‫‪- 10 -‬‬
‫ربما كان من المستحيل على حضارتنا المادية الحديثه أن تنشأ فى مناخ مصر ‪ ,‬ذلك أن الحضارات‬

‫‪ -‬مثلها فى ذلك مثل النبات – تنتمى الى األرض و تنشأ منها ‪.‬‬

‫تنمو الحضارات من األرض و تزدهر وسط المناخ الذى يالئمها و يلعب النور و الهواء دورا فى‬

‫ذلك النمو ‪.‬‬

‫ان قوة النور على أرض مصر كان لها تأثير فعال على الحياة الروحانية ‪ ,‬فقد عملت على شحذ‬

‫الحس الروحى لقدماء المصريين الذين عبروا دائما عن امتنانهم لينبوع النور و الحياة الذى يمأل‬

‫األرضين بالحب ‪.‬‬

‫النهر و الصحراء ‪-:‬‬

‫لم تكن قوة النور هى العامل الوحيد الذى ترك تأثيرا عظيما على شخصية مصر ‪ .‬فهناك عوامل‬

‫أخرى ‪ ,‬و منها الطبيعة الجغرافية الفريدة لمصر و التى تتكون من مزيج فريد من قطبين متناقضين‬

‫يلتقيان معا بطريقة درامية ‪ ,‬أال و هما النيل و الصحراء ‪.‬‬

‫فلوال النيل لكانت مصر صحراء قاحلة ‪ .‬و بفضل النيل ‪ ,‬تبدو مصر و كأنها واحة خضراء كبيرة‬

‫غزيرة الزروع وسط صحراء مترامية األطراف ‪.‬‬

‫صحيح أن الشمس هى مصدر الحياة ‪ ,‬و لكن نور شمس مصر و دفئها ال تظهر أياديه بشكل خاص‬

‫اال فى منطقة وادى النيل و الدلتا ‪.‬‬

‫ففيما وراء وادى النيل يتحول نور الشمس الدافئ واهب الحياة الى نار تحرق رمال الصحراء بال‬

‫رحمة ‪ .‬لذلك قال هيرودوت أن مصر هى "هبة النيل" ‪.‬‬

‫ان مياه النيل هى التى تحول قسوة الشمس و نارها الى خصب و نماء ‪.‬‬

‫يبدو وادى النيل شيئا عجيبا فى أعين المسافر الغربى القادم من المناطق األوروبية الشمالية ‪.‬‬

‫فالنباتات التى ال تنمو عندنا اال فى صوبات دافئة تنمو على أرض مصر فى الهواء الطلق و بسخاء‬

‫‪ ,‬حيث تصافح أعين المسافر الحدائق المليئة بمختلف األشجار مثل الموز و البلح و المانجو‬

‫‪- 11 -‬‬
‫و الرمان و الجوافة ‪ ,‬و كذلك أشجار الصفصاف ‪.‬‬

‫أينما وليت وجهك فى وادى النيل أو الدلتا رأيت وفرة و غزارة فى المزروعات ‪.‬‬

‫و لكن على المرء أن يتذكر دائما أنه داخل واحة خضراء تحيط بها الصحراء ‪.‬‬

‫الصحراء دائما قريبة ‪ ,‬فهى تقع على بعد بضعة أميال من الوادى ‪ ,‬و فى بعض األحيان تقع على‬

‫بعد بضع ياردات ‪.‬‬

‫للصحراء حضور طاغى يشعر به المرء حتى و ان كان فى قلب الواحة الخضراء ‪.‬‬

‫فى مصر يصبح االنسان واعيا بقوة الحياة و فى نفس الوقت بالتناقض الذى تنطوى عليه ‪ ,‬فهى‬

‫تزدهر نتيجة االختالف و التناقض فى الطبيعة الجغرافية على أرض مصر ‪.‬‬

‫فى مصر تمتزج األضداد و تتعايش ‪ ,‬ففيها الخضرة الوفيرة للواحة ‪ ,‬و فيها قسوة الصحراء‬

‫القاحلة ‪.‬‬

‫فى مصر تتجلى الحياة فى عنفوانها ‪ ,‬و فى نفس الوقت تترامى فيها الصحارى القفار ‪ .‬و هو ما‬

‫يجعل المرء يتساءل عن أقدار هذه األرض التى جمعت بين كونها خصبة و موحشه فى نفس الوقت‬

‫هنا فى هذه البيئة الفريدة – أكثر من أى مكان آخر فى العالم – يصبح االنسان أقرب الى القوى‬

‫الكونية التى تنظم الحياة و الموت و التى تلعب فى حياتنا أدوارا تبدو متناقضة ‪ ,‬و لكنها متكاملة ‪.‬‬

‫تتصارع هذه القوى ‪ ,‬و تتصالح ‪ ,‬و لكن هناك دائما نوع من التناغم و االتزان يحكم هذا التوتر‬

‫و الصراع ‪.‬‬

‫تتصارع القوى و لكن ال يفنى أحدها اآلخر ‪ .‬و لذلك فهى تبقى دائما فى حالة اتزان ديناميكى ‪.‬‬

‫أطلق قدماء المصريين على أرضهم اسم "األرضين" ‪ .‬يترجم هذا االسم فى األوساط األكاديمية‬

‫عادة بشكل حرفى ‪ ,‬فيقال أنه يشير الى منطقتين رئيسيتين هما الدلتا (مصر السفلى) و الصعيد‬

‫(مصر العليا) ‪ .‬و لكن مصر السفلى و مصر العليا هما فى الحقيقة اعادة صياغة لمفهوم آخر أعمق‬

‫يعبر عن االزدواجية و القطبية على مستوى آخر من مستويات الوجود ‪.‬‬

‫فمنذ فجر الحضارة المصرية كانت الدلتا (مصر السفلى) هى مملكة حورس ‪ ,‬بينما كان الصعيد‬

‫‪- 12 -‬‬
‫(مصر العليا) هو مملكة "ست" ‪ ,‬غريم حورس و أوزير ‪.‬‬

‫و بعد أن توج حورس ملكا على األرضين (مصر العليا و مصر السفلى) أصبح "ست" هو حاكم‬

‫الصحراء ‪ ,‬و صارت هى مملكته ‪.‬‬

‫"ست" هو غريم حورس األزلى ‪ ,‬الذى يجب على حورس أن يصارعه و يهزمه ‪.‬‬

‫ان ازدواجية مصر العليا و مصر السفلى ال يقتصر معناها فقط على الدلتا و الصعيد ‪ ,‬و انما هى‬

‫تشير أيضا الى ازدواجية حورس و ست ‪ ,‬أى ازدواجية األرض الخصبة (السوداء) و األرض‬

‫القاحلة (الحمراء) التى تحيط بها ‪.‬‬

‫و عند الغوص فى معنى ازدواجية األرضين بشكل أعمق ‪ ,‬يتضح لنا أن هذا المفهوم يرمز لما هو‬

‫أبعد من المناطق الجغرافية ‪.‬‬

‫للطبيعة فى مصر سحر خاص ‪ ,‬ألن كل جزء فيها يجسد أحد المفاهيم الماورائية و يحاكيه ‪ .‬و قد‬

‫كان قدماء المصريين على دراية بذلك السحر ‪ ,‬بل كانوا خبراء فيه ‪.‬‬

‫ترمز ازدواجية األرضين الزدواجية الحياة و الموت التى تتكون من قطبين يناقض أحدهما اآلخر‬

‫و لكنه يكمله ‪ ,‬كما ترمز الزدواجية عالم السماء‪/‬الروح ‪ ,‬و عالم المادة الخالية من الحياة ‪.‬‬

‫ليس من العجيب اذن أن نكتشف أن اسم حورس (و ينطق "حيرو" باللغة المصرية القديمة) يعنى‬

‫"العالى" أو "الذى فى السماء" ‪ .‬حورس اذن يرمز للسماء ‪ ,‬و هى مملكته ‪.‬‬

‫أما "ست" فمملكته هى المادة و الفوضى و الموت ‪.‬‬

‫تنطوى الطبيعة الجغرافية لمصر على الجنة و الجحيم معا ‪ ,‬و هما فى حالة صراع دائم ‪ ,‬و لكنه‬

‫صراع ديناميكى قائم على االتزان ‪.‬‬

‫اذا تأملت شمس مصر بنورها الشفاف واهب الحياة و بنارها الحارقة ستجد أنها تحوى بداخلها نفس‬

‫مبدأ االزدواجية و التناقض ‪.‬‬

‫ان الشمس التى تسطع فوق وادى النيل فتخلق الحياة هى نفس الشمس التى تحرق رمال الصحراء‬

‫بلهيبها ‪ .‬و هكذا يحوى الكيان االلهى الذى يتجلى فى الشمس (رع) بداخله هذا التناقض ‪.‬‬

‫‪- 13 -‬‬
‫"رع" هو الينبوع و المصدر لكل ما هو فوق و كل ما هو تحت ‪ ,‬للسماء و األرض ‪ ,‬لحورس و‬
‫ست ‪.‬‬

‫فى كل ليلة يبرهن "رع" على ذلك بأن يرتحل فى العالم السفلى الذى تهيمن عليه قوى الموت‬

‫و الفوضى ‪ ,‬و ينتصر على هذه القوى و يولد من جديد ‪.‬‬

‫و برغم أن قوى الموت تبدو و كأنها تعارض الحياة و تنكر الروح ‪ ,‬اال أن وجود هذه القوى‬

‫ضرورى من أجل تجديد طاقة الحياة و من أجل البعث ‪.‬‬

‫و هنا علينا أن ننتبه أن "ست" برغم كونه الصورة األولية لكل ما هو سلبى ‪ ,‬اال انه يحمل فى‬

‫داخله أيضا نوع من االزدواجية ‪ .‬لم يكن "ست" فى نظر قدماء المصريين رمزا للشر المطلق ‪,‬‬

‫و انما هو قوة رئيسية من القوى التى يقوم عليها النظام الكونى و على االنسان أن ينظر اليه داخل‬

‫منظومة الخلق و ليس بمعزل عنها ‪.‬‬

‫تتجلى ازدواجية ست بشكل خاص فى الصحراء ‪ .‬فحرارتها فى منتهى القسوة و ال يوجد فيها أى‬

‫ظالل يمكن لالنسان أن يحتمى فيها من الشمس ‪ ,‬اال أن تكويناتها الصخرية و الصمت الذى يخيم‬

‫عليها يعتبر شيئا فريدا يفتقده سكان الوادى ‪ .‬فهناك ال يسمع المرء صوت طائر و ال حيوان ‪ ,‬سوى‬

‫هسيس ثعابين الصحراء ‪.‬‬

‫يتميز وادى النيل بالغنى و التنوع فى مظاهر الطبيعة و أيضا فى سكانه ‪ .‬ففى العصور القديمة ‪,‬‬

‫و كذلك فى العصر الحديث ‪ ,‬من الصعب أن يختبر االنسان الشعور بالوحدة تماما فى تلك البيئة ‪,‬‬

‫حيث ال توجد أماكن موحشه و ال غابات و ال أحراش (باستثناء مستنقعات الدلتا) أو تالل يمكن‬

‫لالنسان أن يلجا اليها ليحيا حياة العزلة ‪ .‬فمنطقة وادى النيل كلها عبارة عن أرض زراعية ‪.‬‬

‫هنا فى وادى النيل تتداخل حياة الناس مع الطبيعة و تمتزج بها فى تناغم يشكل نسيج اجتماعى‬

‫واحد ‪ .‬فالرجال و النساء و األطفال يخرجون للحقول يقودون حيواناتهم من أبقار و ثيران و حمير ‪,‬‬

‫و يجلسون مع قطعانهم من بقر أو خراف أو ماعز تحت األشجار ‪.‬‬

‫حتى طيور أبو قردان التى تتجمع فى الحقول تختلط بالفالحين و كأنها من الطيور الداجنة التى‬

‫يربيها الفالح ‪.‬‬

‫‪- 14 -‬‬
‫ان أرباب مصر القديمة هم فى المقام األول أرباب األرض الزراعية ‪ .‬و هم جزء من النسيج‬

‫االجتماعى لوادى النيل ‪ .‬ينطبق ذلك على كل ال "نترو" (الكيانات االلهية) فى مصر القديمة‬

‫باستثناء "ست" ‪ ,‬ألن "ست" دائما خارج حدود وادى النيل ‪ ,‬و يمكن للمرء أن يصادفه عندما يخرج‬

‫من حدود األرض الخصبة الى الصحراء ‪.‬‬

‫فى متاهات الصحراء المخيفة ‪ ,‬قد يصادف المرء (أو قد ال يصادف) ثعبانا ساما ‪ ,‬و لكن من‬

‫المؤكد أنه سيلقى العزلة و الصمت ‪ .‬هنا فى مملكة ست (و هى الصحراء ) بعيدا عن حضور‬

‫الجمع االلهى ‪ ,‬يشعر المرء أنه قد أصبح فارغا من الروح ‪ ,‬و هى الشرط األساسى للبعث من‬

‫جديد ‪.‬‬

‫فى مصر ‪ ,‬يتجلى التوازن و التناغم بين األضداد بشكل يدعو للدهشه و االعجاب ‪.‬‬

‫فى مصر تتعايش الحياة و الموت ‪ ,‬الوفرة و الندرة ‪ ,‬النور و الظالم ‪ ,‬الليل و النهار ‪ ,‬الصحبة‬

‫و العزلة ‪.‬‬

‫و كل قطب من هذه األقطاب يبرز بشكل واضح ‪ ,‬و هو ما يفسر لنا لماذا كان المصرى القديم يرى‬

‫أن مبدأ االزدواجية من أهم المبادئ التى بنى عليها الكون ‪.‬‬

‫ان الطبيعة التى تحيط بالمصرى القديم هى التى علمته القانون الميتافيزيقى الذى يقضى بالتوازن‬

‫بين األقطاب المتناقضة ‪.‬‬

‫لذلك كان مبدأ التوازن بين األرضين ‪ ,‬بين حورس و ست (بين األعلى و األسفل) من أهم المبادئ‬

‫الروحانية فى الفكر الدينى المصرى ‪ ,‬و هو مبدأ انعكس بشكل خاص فى شخص الملك ‪.‬‬

‫لذلك كان ملوك مصر يحملون لقب "سيد األرضين" ‪.‬‬

‫كان "حورس" و "ست" دائما رمزا للتوازن و التصالح بين األضداد ‪ ,‬سواء فى منصب الملكية أو‬

‫فى الحياة اليومية لألمة المصرية ‪.‬‬

‫الفيضان و الجفاف ‪-:‬‬

‫‪- 15 -‬‬
‫و كما كانت البيئة فى مصر القديمة ‪ -‬و ال زالت ‪ -‬تجسد مفاهيم ماورائية ‪ /‬روحانية ‪ ,‬كذلك‬

‫دورات الزمن و الفصول و المواسم التى تتعاقب و تساهم فى تشكيل تلك البيئة كل عام ‪.‬‬

‫فى الزمن الحاضر انتقلت الهيمنة على تدفق النيل من أيدى ال "نترو" (الكيانات االلهية) الى أيدى‬

‫البشر – بعد بناء السد العالى – و لذلك سنحاول معا اعادة رسم صورة اليقاع الطبيعة عند قدماء‬

‫المصريين عن طريق التخيل ‪.‬‬

‫فى مصر القديمة كان ايقاع النيل ما بين تدفق و انحسار هو الذى ينظم حركة الزمن و يشكل أهم‬

‫وحداته و هى السنة ‪.‬‬

‫كان النهر العظيم (النيل) – مثله مثل كل مظاهر الطبيعة – تجسيدا ألحد الكيانات االلهية ‪.‬‬

‫و الكيان االلهى الذى يجسده نهر النيل هو "حابى" ‪ .‬و قد ظهر فى الفن المصرى القديم دائما على‬

‫هيئة خنثى يجمع بين صفات المذكر و المؤنث ‪ ,‬ألنه هو األب و أيضا األم التى تهب الحياة لوادى‬

‫النيل ‪ .‬ان صورة حابى ليست تشخيص لنهر النيل ‪ ,‬و انما هى تعبير عن قدرة االنسان فى ذلك‬

‫الزمن (زمن الحضارة المصرية القديمة) على رؤية القوى الروحانية التى تتخلل كل مظاهر‬

‫الطبيعة ‪ ,‬و التى تعبر عن نفسها و عن وجودها و قدراتها بأن تتجسد فى هذه المظاهر ‪.‬‬

‫كانت الحياة على ضفاف نهر النيل تقوم بشكل كامل على ايقاع الفيضان السنوى للنهر العظيم ‪.‬‬

‫فقد أقيمت على امتداد النهر العديد من األهوسه التى تقسم األراضى الزراعية الى شبكة من‬

‫األحواض تمتد من الصعيد الى الدلتا ‪.‬‬

‫و كل حوض كبير يشكل نواة لمنطقة زراعية تمتد حوله و تعتمد فى رى أراضيها على مياه ذلك‬

‫الحوض التى تتفرع منه مجموعة من الترع و القنوات الصغيرة ‪.‬‬

‫لعبت دورة فيضان النيل و انحساره دورا رئيسيا فى تنظيم الدولة المصرية و تقسيمها االدارى‬

‫و السياسى الى أقاليم و مراكز حسب ما تقتضيه أعمال الزراعة ‪.‬‬

‫تبدأ السنة المصرية فى فترة االنقالب الصيفى (منتصف الصيف) بالشروق االحتراقى لنجم الشعرى‬

‫قبل شروق الشمس مباشرة ‪ ,‬و ذلك بعد اختفائه لمدة ‪ 71‬يوما ‪ .‬و بعد الظهور االحتراقى لنجم‬

‫‪- 16 -‬‬
‫الشعرى يبدأ النيل فى االرتفاع التدريجى و تشق مياه الفيضان طريقها من أقصى جنوب مصر الى‬
‫الدلتا ‪.‬‬

‫و أثناء تدفق مياه الفيضان فى النهر يتحول لونه شيئا فشيئا الى اللون األخضر و ذلك بسبب‬

‫الحشائش و النباتات التى تحملها المياه من المستنقعات المدارية أثناء ارتحالها من الجنوب الى أن‬

‫تصل الى مصبها فى البحر المتوسط ‪.‬‬

‫و لعدة أيام تفوح رائحة هذه النباتات التى ماتت و أزاحها تيار الماء المتدفق لكى تفسح الطريق‬

‫لخلق حياة جديدة ‪.‬‬

‫و قد رأى قدماء المصريين فى النيل األخضر فى بداية الفيضان صورة من أوزير الذى يأتى لكى‬

‫يطهر مجرى النهر من قوى الموت التى تجسدها تلك النباتات الميته ‪.‬‬

‫و بعد بضعة أيام تأتى موجة أخرى من موجات الفيضان يتحول فيها لون مياه النيل الى اللون‬

‫األحمر و هو لون الطين الذى تحمله المياه من تربة أثيوبيا ‪.‬‬

‫و فى تلك المرحلة يتدفق النهر بقوة و اندفاع ‪ ,‬و يصل ارتفاع الماء فى الصعيد ما بين ‪ 41‬الى ‪45‬‬

‫قدم ‪ ,‬و بعد بضعة أسابيع يصل فى الدلتا الى حوالى ‪ 25‬قدم ‪.‬‬

‫و من العجيب أن هذه المياه الحمراء المحملة بالطين كانت فى نفس الوقت عذبة و حلوة ‪.‬‬

‫و عند احتفال قدماء المصريين بالفيضان ‪ ,‬كانوا يغتسلون و يتطهرون بتلك المياه تطهرا طقسيا ‪,‬‬

‫و يشربون منها أيضا ‪.‬‬

‫و بعد أسابيع من بدء الفيضان تغمر المياه أرض مصر و تحولها الى بحيرة كبيرة تخفى مالمح‬

‫األرض التى تغطيها ‪.‬‬

‫فى القرن األول الميالدى ‪ ,‬و صف "ديودور الصقلى" فيضان النيل قائال ‪-:‬‬

‫*** يأتى الفيضان فيغمر أرض مصر ‪ ,‬فتبدو كلها مغطاه بالمياه ‪ ,‬حيث األرض الزراعية مسطحة‬

‫و القرى و المدن مشيدة فوق أماكن مرتفعة قليال ‪ ,‬فيبدو المشهد كله أشبه بجزر سيكالدس اليونانية‬

‫فى بحر ايجه ***‬

‫يتشابه وصف ديودور الصقلى مع وصف هيرودوت (الذى زار مصر فى القرن الخامس قبل‬

‫‪- 17 -‬‬
‫الميالد) لفيضان النيل ‪ .‬يقول هيرودوت ‪-:‬‬

‫*** حين يفيض النيل ‪ ,‬تتحول أرض مصر الى بحيرة كبيرة ‪ ,‬و تبقى المدن فقط بارزة وسط المياه‬

‫فتشبه الى حد كبير جزر بحر ايجه ‪ .‬فى ذلك الوقت من السنة يكون االنتقال فى كل أنحاء مصر‬

‫بالقوارب و كل شخص يرتحل من مدينة "نوكراتيس" (مكانها الحالى بمحافظة البحيرة) الى مدينة‬

‫"منف" عليه أن يمر باألهرامات بدال من اتباع الطريق المعتاد ***‬

‫كانت هذه الظاهرة التى تتكرر كل عام تثير فى نفوس قدماء المصريين مشاعر البهجة و فى نفس‬

‫الوقت الخشوع و الرهبة ‪.‬‬

‫جاء فى أحد نصوص األهرام ‪-:‬‬

‫*** ترتجف القلوب من الرهبة و الخشوع حين ترى النهر العظيم و هو يندفع و يفيض بالماء ‪,‬‬

‫و حينئذ تبتسم المروج و تزهر الحقول على ضفتيه ***‬

‫يأتى الفيضان كل عام فيتدفق ماء النيل بقوة و عنفوان يحطم كل الحواجز أمامه و يزيل الحدود‬

‫و يطمس المعالم على وجه ااألرض و يعيد كل شئ الى حالته األزلية حين كان غارقا فى المياه‬

‫األزلية ‪ ,‬حيث ال تتميز األشياء عن بعضها البعض ‪.‬‬

‫و اذا زادت قوة الفيضان عن حدودها الطبيعية ‪ ,‬يمكنها أن تزيح قرى بأكملها و تزيلها من على‬

‫وجه األرض و تغرق البشر و قطعان الماشية ‪.‬‬

‫أما اذا جاء الفيضان بكميات قليلة من الماء ‪ ,‬أقل من احتياجات الناس (و هو األحتمال األكثر‬

‫تكرارا) فذلك يعنى أن شبح المجاعة يخيم على الدولة ‪.‬‬

‫و لكن قدماء المصريين كانوا يتخذون لذلك تدابيرهم ‪ ,‬حيث يتغلبون على مشكلة نقص مياه الفيضان‬

‫بتخزين كميات كبيرة من الغالل و الحبوب التى تم انتاجها فى المواسم الزراعية السابقة تحسبا ألى‬

‫نقص فى المواسم القادمة ‪.‬‬

‫و مع ذلك فقد كان استمرار نقص كميات مياه الفيضان لعدة مواسم متتابعة يشكل تهديدا حقيقيا‬

‫للدولة ‪ ,‬حيث تستنفذ كل كميات الغالل المخزونة و يواجه الشعب خطر المجاعة ‪.‬‬

‫‪- 18 -‬‬
‫و بخالف أنهار العراق ‪ ,‬كان فيضان النيل دائما ما يأتى بالخيرات ‪ ,‬و هو فيضان يمكن التنبؤ به‬

‫و له ايقاع شبه منتظم ‪ .‬يأتى فيضان النيل فى أكثر أيام السنة حرا ‪ ,‬و كان فى نظر قدماء‬

‫المصريين واحدا من العديد من األدلة على أن كل شئ فى الكون الذى نحيا فيه يسير وفق نظام‬

‫محكم يضمن وجود توازن تام بين األقطاب و األضداد ‪.‬‬

‫فى الشهور السابقة على موسم الفيضان تتعاظم قوة "ست" و تصبح مهيمنة بشكل ملحوظ ‪ ,‬حيث‬

‫تجف األرض و يذبل النبات ‪ ,‬و تلفح حرارة الصيف كل من البشر و قطعان الحيوانات و ينحسر‬

‫نهر النيل و يتبخر ما بقى من مائه من حرارة الشمس ‪.‬‬

‫و يبدو وادى النيل و كأن الصحراء التى تيحط به على وشك أن تبتلعه ‪.‬‬

‫و فى الوقت الذى توشك فيه قوة ست المدمرة للحياة على أن تنتصر ‪ ,‬تحدث المعجزة و تبدأ‬

‫مياه النيل فى االرتفاع تدريجيا لتحيى األرض بعد أن أوشكت على الموت ‪.‬‬

‫جاء فى أحد االبتهاالت المصرية القديمة ل "حابى" ‪-:‬‬

‫*** أنت الموجة التى تأتى بصحبة "رع" ‪ ,‬فتغطى الحقول و البساتين ‪ ,‬و تسقى العطشى ‪ ,‬أنت‬

‫"حابى" الذى يسقى المناطق الجافة فى الصحراء ***‬

‫كان فيضان النيل من الظواهر التى طالما أثارت اعجاب و دهشة الرحالة االغريق ‪ ,‬و منهم يودور‬

‫الصقلى الذى كتب يقول عن فيضان النيل ‪-:‬‬

‫*** يبدو فيضان النيل ظاهرة مدهشه لمن يراها بعينه ‪ ,‬و غير معقولة لمن يسمع عنها بأذنه ‪ .‬فبينما‬

‫تنحسر المياه فى كل األنهار األخرى على األرض فى منتصف الصيف ‪ ,‬نجد أن نهر النيل وحده‬

‫من بين كل األنهار هو الذى ترتفع مياهه يوما بعد يوم الى أن تفيض و تغطى وادى النيل كله ***‬

‫تنقسم السنة فى مصر القديمة الى ثالثة فصول ‪ ,‬كل فصل منها مكون من أربعة أشهر ‪ ,‬و هذه‬

‫الفصول هى ‪-:‬‬

‫(‪ )1‬فصل الحصاد ‪ /‬الجفاق (شمو) ‪ :‬من ابريل الى يولية‬

‫(‪ )2‬فصل الفيضان (آخت) ‪ :‬من أغسطس الى نوفمبر‬

‫‪- 19 -‬‬
‫(‪ )3‬فصل االنبات ‪ /‬البعث (بيريت) ‪ :‬من ديسمبر الى مارس‬

‫و قد ارتبطت دورة تتابع الفصول فى وعى قدماء المصريين دائما بأسطورة موت و بعث أوزير ‪.‬‬

‫ففى موسم الجفاف ‪ ,‬يفتقد أوزير (األخضر) و يموت ‪ .‬و فى ذلك الموسم يتصارع حورس ابن‬

‫أوزير مع غريمه "ست" ‪ ,‬و ينتهى الصراع بانتصار حورس الذى تجسده عودة الفيضان ‪.‬‬

‫كان أوزير فى نظر قدماء المصريين هو الينبوع أو المصدر الذى تخرج منه القوى الروحانية التى‬

‫تهب الكائنات الحياة و الخصوبة ‪ ,‬و من العجيب أن هذه القوى تنبعث منه و هو فى حالة خمول‬

‫و فقدان للوعى ‪.‬‬

‫كانت عودة الخضرة مرة أخرى للمزروعات بعد موسم الجفاف فى نظر المصرى القديم هى تجسيد‬

‫لقصة موت أوزير و انبعاثه من جديد ‪.‬‬

‫ال تتوقف رمزية تتابع فصول السنة على اعادة تكرار قصة موت و بعث أوزير ‪ ,‬و انما هى أيضا‬

‫بمثابة اعادة تكرار لمراحل نشأة الكون ‪ .‬فعندما تغمر مياه الفيضان أرض مصر ‪ ,‬كانت األرض‬

‫بذلك تعود الى الحالة األزلية السديمية التى كان عليها الكون قبل أن يبدأ الخلق ‪ ,‬و التى اطلق عليها‬

‫قدماء المصريين اسم "نون" ‪.‬‬

‫و كان انحسار المياه و ارتفاع األرض من تحتها هو اعادة تكرار لحدث وقع عند نشأة الكون ‪,‬‬

‫و هو ارتفاع التل األزلى (رمز بداية الخلق) من مياه األزل ‪.‬‬

‫أى أن الحدث الكونى األزلى يعيد تكرار نفسه بشكل دورى فى عالم الزمان و المكان ‪.‬‬

‫ان التحوالت التى تعترى الطبيعة عبر الفصول المختلفة على أرض مصر ما هى اال انعكاس‬

‫و تجسيد لمفاهيم ميتافيزيقية تتعلق بالنظام الكونى و قصة الخلق ‪.‬‬

‫االتجاهات ‪-:‬‬

‫فى مصر ‪ ,‬ال يمكنك أبدا أن تفقد االتجاه ‪ .‬فعلى امتداد وادى النيل الذى يبلغ طوله ‪ 011‬ميل يشق‬

‫النيل طريقه من الجنوب الى الشمال ‪ ,‬فيقسم األرض الى قسمين متساويين ‪ ,‬أحدهما شرقى و اآلخر‬

‫‪- 20 -‬‬
‫غربى ‪.‬‬

‫رأى المصرى القديم فى هذا التقسيم الفيزيائى للطبيعة الجغرافية لألرض انعكاسا و تجسيدا لمفاهيم‬

‫ميتافيزيقية ‪ ,‬حيث ترمز الضفة الشرقية للنيل لمملكة األحياء التى يطل عليها "رع" بنوره حين يولد‬

‫فى األفق الشرقى كل صباح ‪ ,‬بينما ترمز الضفة الغربية للنيل – و خصوصا فى أطراف المناطق‬

‫الصحراوية و الجبلية – لمملكة الموتى أو العالم السفلى الذى يذهب اليه "رع" بعد غروب الشمس‬

‫و يرتحل فى النهر السماوى (و الذى ينعكس على األرض فى صورة نهر النيل) ‪ ,‬لكى يعود‬

‫و يولد من جديد فى صباح اليوم التالى ‪.‬‬

‫لم يكن الشرق و الغرب فى نظر قدماء المصريين مجرد اتجاهات فيزيائية ‪ ,‬و انما هى فى نفس‬

‫الوقت رموز التجاهات ميتافيزيقية و مفاهيم ميثولوجية تتعلق بأسطورة الخلق ‪.‬‬

‫تنعكس رموز رحلة "رع" النهارية و الليلية بشكل واضح فى الخريطة الجغرافية ألرض مصر ‪.‬‬

‫فالضفة الغربية لنهر النيل هى الجانب الذى تشيد فيه المقابر و المعابد الجنائزية ‪ ,‬ألن هنا – فيما‬

‫وراء األفق الغربى – ينزل "رع" الى العالم السفلى ليبدأ رحلته الليلية الى مملكة الموتى ‪.‬‬

‫أما الضفة الشرقية للنيل ‪ ,‬فهى المكان الذى يبعث فيه "رع" ‪ ,‬و يولد من جديد كل صباح فى األفق‬

‫الشرقى ‪ ,‬حيث تتحول العيون و الوجوه اليه و هو يوقظ النائمين و يجدد الحياة ‪.‬‬

‫و كما تنقسم أرض مصر (من الناحية الجغرافية و كذلك الميثولوجية) الى نصفين أحدهما شرقى‬

‫و اآلخر غربى ‪ ,‬تنقسم كذلك الى نصفين أحدهما شمالى ‪ ,‬و هو الدلتا حيث األرض الزراعية‬

‫المنبسطة ‪ ,‬و اآلخر جنوبى و هو الصعيد ‪ ,‬حيث وادى النيل الضيق الذى تحيط به الجبال‬

‫و الصحارى من الجانبين ‪.‬‬

‫و كما تعبر ازدواجية الشرق و الغرب عن مناطق ميتافيزيقية و مفاهيم ماورائية ‪ ,‬كذلك تعبر‬

‫ازدواجية الجنوب و الشمال ‪.‬‬

‫عند النظر الى الجنوب ‪ ,‬يخيل للمرء أنه ينظر الى منطقة ماورائية غامضة ‪ ,‬حيث يوجد ينبوع‬

‫الحياة ‪.‬‬

‫‪- 21 -‬‬
‫نظر المصرى القديم الى المنابع التى تأتى منها مياه النيل نظرة ميثولوجية ‪ ,‬باعتبارها انعكاس‬

‫لرموز قصة الخلق ‪ .‬فقد اعتقد قدماء المصريين أن نهر النيل المقدس يأتى لألرض من ينبوع يوجد‬

‫فى ال "دوات" ‪ ,‬و هى كلمة تترجم عادة بمعنى "العالم السفلى" و لكنها فى الحقيقة ترجمة غير‬

‫دقيقة لذلك البعد الرئيسى من أبعاد الكون ‪.‬‬

‫كان ال "دوات" فى نظر قدماء المصريين هو منطقة وسطى بين عالم األرض و عالم الروح أو‬

‫العالم السماوى ‪ ,‬و برغم أن ال "دوات" هو العالم الذى تقع فيه مملكة الموتى ‪ ,‬اال انه فى نفس‬

‫الوقت الينبوع الذى تأتى منه الحياة و الصحة و الخصوبة الى العالم المادى ‪.‬‬

‫و لذلك كان رب الدوات (أوزير) هو فى نفس الوقت القدرة الكامنة فى فيضان النيل على تجديد‬

‫الحياة و على منح الخصوبة ‪.‬‬

‫و عندما ننظر الى الجنوب يبرز أمام أعيننا أوزير ‪ ,‬و أسطورة موته و بعثه ‪.‬‬

‫كان قدماء المصريين يرون أوزير فى نصف القبة السماوية الجنوبى فى مجموعة نجوم أوريون‬

‫و ذلك فى الفترة التى تسبق الفيضان مباشرة ‪.‬‬

‫أما الفيضان نفسه فكانت عالمة بدايته هى ظهور ايزيس فى السماء فى صورة نجمة "سوبدت"‬

‫(الشعرى ‪ /‬زيريوس) و ذلك بعد بضعة أيام من عودة ظهور أوريون من تحت خط األفق الجنوبى ‪.‬‬

‫تقول األسطورة أن الفيضان هو دموع ايزيس على زوجها المقتول أوزير ‪ ,‬و هى الدموع التى‬

‫تسقط من السماء من نجمة "سوبدت" الالمعة الى النهر الجاف فتملؤه بالمياه ‪.‬‬

‫فاذا أدرنا ظهرنا للجنوب الذى يرمز للدوات (العالم السفلى) و اتجهنا الى النصف الشمالى من قبة‬

‫السماء ‪ ,‬سنشاهد النجوم القطبية الشمالية و التى يطلق عليها النجوم التى التأفل (أى التى ال تختفى‬

‫تحت خط األفق) ‪ ,‬و لذلك كانت فى نظر قدماء المصريين رمزا للخلود ‪.‬‬

‫كانت النجوم الشمالية التى ال ينقطع دورانها حول القطب الشمالى و التى ال تأفل هى الوجهة التى‬

‫تقصدها أرواح الموتى المبجلين ‪ ,‬و هى تمثل عالم الروح النقى الذى يقع فيما وراء ال "دوات"‬

‫(العالم السفلى) ‪.‬‬

‫‪- 22 -‬‬
‫أن يقف المرء و يولى وجهه شطر الجنوب ‪ ,‬ذلك هو الوضع الذى كان قدماء المصريين يتخذونه‬
‫فى أرضهم الحبيبة "تا ‪ -‬مرى" ‪.‬‬

‫كان قدماء المصريين يطلقون على اتجاه الجنوب لقب "الوجه" ‪ ,‬بينما كان اتجاه الشمال فى نظرهم‬

‫هو "الخلف" ‪ .‬و اتجاه الشرق هو اليسار ‪ ,‬بينما الغرب هو اليمين ‪.‬‬

‫فى الحقيقة ال يوجد مكان آخر فى العالم تتحدد فيه الجهات األصلية األربعة بمثل هذا الوضوح الذى‬

‫تتحدد به على خريطة مصر الجغرافية ‪.‬‬

‫فى مصر ‪ ,‬تشعر و كأن جذورك ضاربة فى األرض ‪ ,‬ألن الجهات األصلية فى المكان تقابل‬

‫جوانب جسم االنسان بشكل واضح و محدد بحيث ال يمكنك أبدا أن تفقد االتجاه اذا نظرت الى‬

‫األرض أو الى السماء ‪.‬‬

‫و من هذه الطبيعة الجغرافية الفريدة يمكننا أن نستشف السبب فى ايمان المصرى القديم بأن كل شئ‬

‫فى الكون يسير وفق نظام محكم ‪ .‬فهناك النهر العظيم ‪ ,‬و هناك األرض الخصبة السوداء ‪ ,‬و هناك‬

‫الصحراء القاحلة ‪ ,‬و هناك الشمس التى ترتحل فى مدارها الفلكى كل يوم من الشرق الى الغرب ‪.‬‬

‫و أيا كان الموضع الذى يقف فوقه المرء فى وادى النيل فهو دائما يقف وسط تقاطع يحدده تيار‬

‫النيل المتدفق من الجنوب للشمال من جهة ‪ ,‬و يحدده مسار الشمس من الشرق الى الغرب من جهة‬

‫أخرى ‪.‬‬

‫أينما وقف المرء فى وادى النيل ‪ ,‬يمكنه أن يتخيل كيف كان قدماء المصريين يرون أنفسهم فى‬

‫مركز الكون ‪.‬‬

‫و من األشياء الجديرة بالتامل أن المصرى القديم لم يكن يرى أرض مصر فقط مركزا للكون ‪,‬‬

‫و انما كان (بشكل ما) يرى أنها هى الكون أو العالم كله ‪.‬‬

‫لذلك أطلق قدماء المصريين على أرضهم لقب "التى تدور حولها الشمس" ‪ ,‬و كأنها هى كوكب‬

‫األرض بالكامل ‪.‬‬

‫ان اطالق هذا االسم على أرض مصر ال يعنى أن قدماء المصريين كانول يجهلون وجود بالد‬

‫أخرى تقع خارج حدود مصر ‪ ,‬و ال يعنى استعالءهم على البالد األجنبية ‪ ,‬و انما يعبر ذلك عن‬

‫‪- 23 -‬‬
‫شعور كان يميز عالقة االنسان القديم بوجه عام باألرض التى يعيش عليها ‪ ,‬و هو شعور بأن هناك‬

‫حضور أو تجلى للكل (األرض جميعا) فى تلك البقعة المحددة التى ولد فيها االنسان و التى يسكنها‪.‬‬

‫يتجلى هذا الشعور كحقيقة و يكتسب قوة خاصة فى مصر ‪ ,‬بفضل مناخها و طبيعتها الجغرافية‬

‫الفريدة ‪.‬‬

‫‪- 24 -‬‬
‫الفصل الثانى‬
‫التداخل بين أبعاد الكون‬

‫يمتلك الزائر لمصر فى العصر الحديث وعيا بالطبيعة و شعورا بالذات يختلف تماما عن وعى‬

‫االنسان فى مصر القديمة ‪.‬‬

‫ان أعمق المشاعر التى يمكن أن نختبرها عند زيارتنا لمصر فى العصر الحاضر ما هى اال مجرد‬

‫صدى أو صورة باهتة للمشاعر التى كانت تثيرها الطبيعة على أرض مصر فى نفوس زائريها فى‬

‫العصور القديمة ‪.‬‬

‫و األمر أشبه بزيارة قاعة موسيقى بعد انتهاء الفرقة الموسيقية من عزف سيمفونية ‪ ,‬مع فارق وحيد‬

‫‪ ,‬هو أن دخولنا الى المشهد هو السبب فى تالشى صدى صوت النوتة الموسيقية ‪.‬‬

‫فالكيانات االلهية لم تعد حاضرة فى وعينا كما كانت حاضرة فى وعى قدماء المصريين ‪ ,‬و من‬

‫الضرورى أن نبحث عن السبب و نفهمه ‪.‬‬

‫اعتقد انسان الحضارات القديمة أن القوى االلهية التى قامت بدور فى نشأة الكون ليست بمعزل عن‬

‫عالمنا ‪ ,‬و انما هى حاضرة فيه بشكل دائم ‪.‬‬

‫فى الحضارات القديمة ‪ ,‬كان االنسان يشعر بأن الكل (الكون كله) فى حالة حضور دائم فى تلك‬

‫البقعة التى يسكنها من األرض ‪.‬‬

‫لذلك كان كل بلد فى نظر سكانه هو صورة مصغرة (‪ )microcosm‬من الكون األكبر‬

‫(‪. )macrocosm‬‬

‫فى تلك الصورة المصغرة من الكون ‪ ,‬كان باستطاعة االنسان فى ذلك الوقت أن يرى الكيانات‬

‫االلهية و القوى الكونية و هى تقوم بعملها فى كل مظاهر الطبيعة ؛ فى الصحراء و فى الفيضان ‪,‬‬

‫‪- 25 -‬‬
‫و فى مسار الشمس فى الفلك ‪ ,‬و فى قبة السماء ‪ ,‬و فى كل شئ ‪ ,‬حيث ال يوجد شئ مادى يخلو من‬
‫الحضور االلهى ‪.‬‬

‫رأى االنسان القديم أن للعالم المادى امتداد رأسى ‪ ,‬و هو ال يمتد فقط ليصل الى حدود العالم‬

‫السماوى ‪ ,‬و انما هو يتداخل مع ذلك العالم الذى تحيا فيه القوى الكونية و الكيانات االلهية التى لم‬

‫يعد االنسان المعاصر قادرا على أن يعى وجودها ‪.‬‬

‫فى نظر المصرى القديم ‪ ,‬كان العالم الروحى ينسكب فى العالم المادى فيجعله مفعما بالحياة و‬

‫يجعل لكل شئ مادى معنى و مغزى روحى ‪.‬‬

‫فى العصر الحديث ‪ ,‬تغير وعى االنسان بشكل أصبح معه االتصال بأبعاد الكون الماورائية شيئا فى‬

‫منتهى الصعوبة ‪ .‬لم يعد بمقدورنا أن نتصل بالكيانات االلهية ‪ ,‬ليس ألنها غادرت عالمنا ‪ ,‬و انما‬

‫ألننا نحن الذين فقدنا القدرة على رؤيتهم ‪.‬‬

‫فى مصر القديمة ‪ ,‬كان الوعى بأبعاد الكون الماورائية جزءا هاما من خبرات االنسان و تجاربه‬

‫فى الحياة ‪ .‬أما اآلن ‪ ,‬فقد أصبحنا مقيدين بأغالل الوعى المادى الضيق الذى ال يرى أبعد مما ترى‬

‫العين ‪ .‬و نتيجة ذلك التغير فى الوعى ‪ ,‬أصبحنا نرى ذلك الجزء من العالم الذى نعيش فيه مجرد‬

‫جزء من الكل ‪.‬‬

‫و حتى اذا كانت الطبيعة حولنا مفعمة بالرموز ‪ ,‬فاننا نسارع برفضها أو بتصنيفها على على أنها‬

‫نتاج عواطف شخصية و ليست تعبيرا عن مفاهيم ميتافيزيقية ‪.‬‬

‫يقودنا التفكير العقالنى الى االعتقاد بأن القيمة الوحيدة الحقيقية للطبيعة هى القيمة االقتصادية ‪.‬‬

‫المنفعة المادية هى العين التى نرى بها الطبيعة ‪ ,‬و بخالف ذلك فان أى جزء منها يتساوى تماما مع‬

‫أى جزء آخر ‪.‬‬

‫فى العصر الحديث ‪ ,‬يصل االنسان الى الكل عن طريق تجميع كل األجزاء معا ‪ ,‬بمعنى آخر أن‬

‫الكل بالنسبة لنا هو مجموع قطع متناثره ‪ .‬أما انسان الحضارات القديمة ‪ ,‬فقد كان يرى الكل فى كل‬

‫جزء على حدة ‪ .‬أو بعبارة أخرى ‪ ,‬كان يرى نسخة مصغرة من الكل داخل كل جزء ‪ .‬ألن الكون‬

‫بنى بنظام هولوغرافى ‪ ,‬بحيث يكون كل جزء عبارة عن صورة مصغرة من نموذج أكبر ‪.‬‬

‫‪- 26 -‬‬
‫يقوم علم الجغرافيا فى العصر الحديث على نظرة أفقية للطبيعة ‪ ,‬و هى نظرة ترى كل جزء من‬

‫أجزاء الصورة على حدة ‪ ,‬و ال ترى أى أبعاد ميثولوجية أو ماورائية لعناصر الصورة ‪.‬‬

‫قد يكون من الصعب علينا اآلن أن نرى العالم بعيون قدماء المصريين ‪ ,‬و لكنها تجربة تستحق‬

‫عناء المحاولة ‪ .‬و ما تنطوى عليه هذه التجربة هو عالقة جديدة بيننا و بين المكان ‪.‬‬

‫الفضاء الخارجى و الفضاء الداخلى ‪-:‬‬

‫برغم الجهود الكبيرة التى يبذلها الفيزيائيون لتغيير الطريقة التى ننظر بها الى الفضاء ‪ ,‬فان معظمنا‬

‫ال زال ينظر للفضاء على أنه وعاء مادى توجد األشياء بداخله ‪.‬‬

‫الفضاء هو وسيط محايد تتواجد فيه األشياء ‪ ,‬ليس له أى صفات تميزه ‪ .‬و لذلك فقد تمت ازاحته من‬

‫وعينا و أصبح يقف فى خلفية تفكيرنا ‪.‬‬

‫يتجه وعينا دائما الى األشياء التى تتواجد داخل الفضاء ‪ ,‬و ليس على الفضاء نفسه ‪.‬‬

‫و اذا وجهنا وعينا الى هذا الفضاء ‪ ,‬فسيكون من العسير علينا فهمه ‪.‬‬

‫فكيف لنا أن نختبر فضاءا خاليا من أى شئ ‪ .‬كيف لنا أن نعرف الفراغ ‪ .‬ان هذا مستحيل !‬

‫انه أشبه بمحاولة االمساك بشئ مجرد ليس له جسد ‪.‬‬

‫لكى نختبر الفضاء و نعرفه علينا أن نختبر عالم األشياء المتجسده فى أشكال و صور ‪.‬‬

‫و هكذا نجد أننا بدال من أن ننظر حولنا فنرى أشياء تتواجد داخل فضاء ‪ ,‬فنحن ننظر الى الفضاء‬

‫على أنه هو الذى يشكل العالقة بين الشئ و غيره من األشياء ‪.‬‬

‫ان خبرتنا و معرفتنا باألشياء تدور بشكل أساسى حول عالقتها الخارجية بغيرها من األشياء‬

‫و كذلك عالقتها الخارجية بنا نحن ‪.‬‬

‫عندما نشير الى المفهوم المجرد الذى نطلق عليه "فضاء" ‪ ,‬فان ما نشير اليه هو فى الحقيقة خبرتنا‬

‫بالعالم و معرفتنا به باعتباره شئ يقع هناك خارجنا ‪.‬‬

‫و اذا كنا ننظر لعالم المكان من حولنا على أنه يقع خارجنا ‪ ,‬فذلك يعود الى شعورنا بأننا نراقب‬

‫‪- 27 -‬‬
‫العالم من الخارج ‪ .‬و لكن هذه النظرة الخارجية للمكان أو الفضاء ليست هى الطريقة الوحيدة التى‬

‫يمكن لالنسان أن يختبر بها العالم من حوله ‪ ,‬فهناك طريقة أخرى يمكن لالنسان أن يختبر بها العالم‬

‫من الداخل بدال من مراقبته من الخارج ‪.‬‬

‫من الواضح أن المكان أو الفضاء فى نظر انسان الحضارات القديمة لم يكن مجرد شئ يقع فى‬

‫الخارج و انما هو درجات متفاوته من الخبرة الباطنية ‪ .‬فهناك مناطق واسعة و هامة فى الكون لها‬

‫وجود باطنى ‪ ,‬و هذا الوجود الباطنى هو الذى ينبثق منه الوجود الخارجى أو الظاهر لألشياء ‪.‬‬

‫فى الحضارات القديمة ‪ ,‬لم تكن عين االنسان تراقب العالم من الخارج ‪ .‬فكل شئ ظاهر له بعد آخر‬

‫باطنى ‪ .‬و فى تلك األزمنة البعيدة كان بمقدور المرء أن يخترق تلك األبعاد الباطنية و يدخل اليها‬

‫بطريقة أصبحت تتعذر على االنسان المعاصر ‪.‬‬

‫هذا البعد الباطنى لألشياء هو البعد الرمزى أو الذى نطلق عليه البعد الرأسى (بعكس البعد األفقى‬

‫المرئى أو المحسوس) ‪.‬‬

‫و ما ينتمى لذلك البعد الباطنى ليس ماديا ‪ ,‬أى ال يمكننا ادراكه بالحواس المادية ‪.‬‬

‫فى ذلك البعد الباطنى تتواجد الجوانب الماورائية لألشياء التى تتخذ شكال خارجيا فى العالم المادى ‪,‬‬

‫و فيه تتواجد أيضا القوى أو الكيانات االلهية التى تتجسد فى عالم الظاهر ‪.‬‬

‫ينظر االنسان المعاصر الى ذلك البعد الباطنى باعتباره يقع داخل النفس االنسانية ‪.‬‬

‫أما عند الحضارات القديمة ‪ ,‬فقد كان لذلك البعد الباطنى وجود ذاتى مستقل خارج النفس االنسانية ‪.‬‬

‫كان البعد الباطنى بالنسبة لهم عالما يمكن لالنسان أن يعيه بسهولة ‪ ,‬بل و يرتحل اليه ‪.‬‬

‫و اذا جاز لنا أن نشير الى فارق جوهرى بين وعى انسان الحضارات القديمة و بين االنسان‬

‫المعاصر ‪ ,‬فان هذا الفارق يكمن فى أن وعى االنسان المعاصر يرى أنه يحوى بداخله عالما باطنيا‬

‫‪ ,‬بينما يرى انسان الحضارت القديمة أن هناك عالما باطنيا يحيط به و يحتويه ‪.‬‬

‫يرى االنسان المعاصر أن األشياء تتواجد داخل فضاء خارجى ‪ ,‬أو أن هناك فضاء خارجى يفصل‬

‫بين األشياء ‪ .‬أما االنسان القديم فقد كان يرى أن لألشياء امتداد باطنى فيما حولها من فضاء ‪,‬‬

‫‪- 28 -‬‬
‫و بمعنى آخر ‪ ,‬كان يرى األشياء المادية تشف عن وجود عوالم ماورائية ‪.‬‬

‫و هذه الخبرة أو المعرفة باألبعاد الباطنية للكون هى المصدر و المنبع الذى استقى منه سكان‬

‫الحضارات القديمة رموزهم ‪.‬‬

‫و لكن بمرور الزمن تغيرت نظرة االنسان للعالم و أصبحت األشياء معتمة ‪ ,‬و تحولت المادة الى‬

‫حجاب ثقيل بعد أن كانت مجرد ستار خفيف يشف عما وراءه من مفاهيم ماورائية ‪.‬‬

‫و هكذا تحول االنسان من النظرة الروحانية للكون ‪ ,‬الى النظرة المادية الدنيوية التى أصبحت تهيمن‬

‫على وعى االنسان المعاصر ‪.‬‬

‫و ننتقل اآلن الى الكون كما رآه قدماء المصريين ‪.‬‬

‫الكون المتجسد ‪-:‬‬

‫اعتقد قدماء المصريين أن للكون ثالثة أبعاد رئيسية ‪ ,‬هى ‪ :‬األرض التى تعلوها الجبال ‪ ,‬و السماء‬

‫التى تعلو األرض ‪ ,‬و الغالف الجوى الذى يقف بين األرض و السماء ‪.‬‬

‫لم تكن هذه األبعاد الثالثة مجرد أبعاد مادية فقط ‪ ,‬و انما لكل بعد منها جانب آخر باطنى ‪ ,‬و لكل‬

‫منها حضور الهى ‪.‬‬

‫كان المصرى القديم يرى العالم األدنى و هو األرض ‪ ,‬فى صورة األرض الحبيبة ‪ ,‬أرض مصر‬

‫و هى عبارة عن صورة أرض مسطحة يتدفق وسطها النهر العظيم ‪ ,‬و تحيط بها من الجانبين‬

‫سلسلة من الجبال كالكنانة ‪.‬‬

‫و فيما وراء الجبال الشرقية تقع بالد الشرق األوسط التى كانت تشكل حدود الكون فى نظر قدماء‬

‫المصريين ‪.‬‬

‫كانت أرض مصر فى نظر قدماء المصريين هى صورة مصغرة (‪ )microcosm‬من الكون‬

‫األكبر (‪ . )macrocosm‬أما البالد التى تقع على حدود مصر فليس لها بعد ماورائى ألنها ليست‬

‫صورة للسماء ‪ ,‬و بالتالى فهى ليست فى مركز الكون ‪.‬‬

‫‪- 29 -‬‬
‫أطلق قدماء المصريين لقب البالد األجنبية على كل الدول التى تحيط بمصر ‪ ,‬و ذلك ألنها تقع على‬

‫أطراف الصورة الرمزية للكون كما رآه المصرى القديم ‪.‬‬

‫و األرض فى الفكر الدينى المصرى هى جسد الكيان االلهى "جب" (رب األرض) ‪.‬‬

‫جاء فى أحد النصوص المصرية القديمة أن األرض هى جسد "جب" الذى تنمو فوقه الزروع ‪,‬‬

‫و الذى ينبت من بين ضلوعه الشعير و الغالل ‪.‬‬

‫فى هذا الشكل يظهر "جب" رب األرض و جسده مغطى بالنباتات ‪.‬‬

‫"جب" ‪ ,‬رب األرض ( من احدى برديات عصر الدولة الحديثه )‬

‫األرض فى نظر قدماء المصريين هى كائن حى له روح ‪.‬‬

‫أن يطأ االنسان األرض ‪ ,‬كان ذلك يعنى بالنسبة لقدماء المصريين أن يطأ االنسان فوق جسد كيان‬

‫الهى ‪ .‬ان صورة األرض ككيان الهى فى نظر المصرى القديم لم تكن مستمدة من الحواس المادية ‪,‬‬

‫و ال من الفهم العقالنى أو المنطق ‪ ,‬و انما هى مستمدة من رؤية تخيلية لعين بصيرة ترى من خالل‬

‫مظاهر الطبيعة المادية التى تشف عن وجود أبعاد أخرى باطنية ‪.‬‬

‫و المعرفة االلهية فى مصر القديمة هى نتاج تلك الرؤية الباطنية لمظاهر الطبيعة ‪ ,‬و التى يصنفها‬

‫البعض باعتبارها مجرد خيال أو اسقاط سيكولوجى لما يدور فى العقل الباطن ‪.‬‬

‫و لكنها فى الحقيقة نظرة تخترق ما هو مادى محسوس لترى القوى و الكيانات الغير مرئية التى‬

‫توجد فى العوالم الباطنية ‪ ,‬و هى القوى التى نراها فى الصور الرمزية المصرية ‪.‬‬

‫يبدو هذا المستوى من الوعى و االدراك الذى يخترق األشياء المادية ليرى ماوراءها و كأنه غافل‬

‫‪- 30 -‬‬
‫عن رؤية األرض نفسها ‪ ,‬و لكنه فى الحقيقة وعى يتجاوب بصورة أعمق مع عالم الروح ‪.‬‬

‫فى هذا المستوى من الوعى الروحى (بعكس الوعى القائم على الحواس المادية) "يتجلى عالم‬

‫الصور األولية (عالم الجوهر) و يطغى حضوره على الحضور الشخصى لألشياء المادية" ‪ ,‬حسب‬

‫تعبير هنرى كوربين (‪. )Henry Corbin‬‬

‫فى هذا الشكل نرى "جب" (رب األرض) فى وضعه التقليدى ‪.‬‬

‫يظهر "جب" (رب األرض) فى أغلب األحيان فى هذا الوضع الغريب الذى يعبر عن هويته‬

‫باعتباره روح األرض ‪ .‬و فى هذا الوضع يرفع جب ساقه اليمنى – و فى الغالب أيضا ذراعه‬

‫اليسرى – و يرتكز على كوعه و فخذه األيسر ‪ ,‬و وجهه متجه ناحية األرض ‪ ,‬و كأنه مستسلم‬

‫ألقداره التى حكمت عليه بأن تحيط به أغالل العالم المادى ‪.‬‬

‫رب األرض "جب" فى وضع يعبر عن استسالمه لعالم المادة‬

‫( من بردية "نستى تا نبت تاوى" ‪ ,‬من عصر الدولة الحديثه )‬

‫من النادر أن تعثر على مشهد ينظر فيه "جب" الى أعلى ‪ ,‬و كأن هناك مشاعر دهشه و حزن‬

‫انتابته فجأة فجعلت بصره مقيدا الى األسفل و ليس الى األعلى ‪.‬‬

‫و ما يعلو جب هو زوجته و حبيبته "نوت" ‪ ,‬ربة السماء ‪.‬‬

‫يبدو جب دائما و كأنه فقد حيويته ‪ ,‬و كأنه فقد القدرة على النهوض ‪ .‬و عندما تنظر اليه تشعر‬

‫و كأنه قد سقط للتو من عل ‪ .‬و أيا كانت الطريقة التى تنظر بها الى "جب" ‪ ,‬فانه يرمز للطاقة التى‬

‫خلق منها عالم المادة ‪ ,‬و هى طاقة تتسم بأنها سلبية بالمقارنة بطاقة عالم الروح االيجابية ‪.‬‬

‫‪- 31 -‬‬
‫فى معظم أساطير العالم القديم يظهر الكيان االلهى الذى يمثل األرض فى هيئة مؤنثه ‪ ,‬و يبدو فى‬

‫صورة سلبية (فى حالة استقبال ‪ /‬تلقى) ‪ ,‬بعكس رب السماء ‪.‬‬

‫أما قدماء المصريين ‪ ,‬فقد صوروا رب األرض فى هيئة مذكرة ‪ ,‬ألنهم لم يعرفوا ربة تتسم بالسلبية‬

‫فقد كان ل "نوت" (ربة السماء و زوجة جب) حضور أقوى من حضور زوجها و قدرتها على منح‬

‫الطاقة أقوى منه ‪ ,‬بينما هو فى حالة استقبال و تلقى للطاقة ‪.‬‬

‫يبدو جب فى مثل هذه المشاهد و كأنه رجل أنهك و استنفذت طاقته من ممارسة الحب ‪.‬‬

‫ظهر "جب" فى الفن المصرى أيضا فى صور أخرى ‪ ,‬و منها صورة األوزة و هى أكثر الطيور‬

‫الداجنة انتشارا فى مصر القديمة (حتى عصر الملك تحتمس الثالث) ‪ ,‬و لذلك ارتبط هذا الطائر‬

‫بشكل خاص بوضع البيض ‪.‬‬

‫فى هذا الشكل يظهر "جب" (رب األرض) فى هيئة "الصياح العظيم" ‪ ,‬أو األوزة الكونية ‪.‬‬

‫"جب" فى صورة األوزة الكونية‬

‫( من بردية "أوسر حات" ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫و دور جب هنا يختلف عن دوره فى المشاهد التى رأيناها فى السابق ‪ .‬فمن هذه األوزة الكونية تأتى‬

‫بيضة الخلق للوجود ‪ .‬تبدو األوزة الكونية و كأنها صورة من االله الخالق الذى ليس بذكر و ال أنثى‬

‫‪ ,‬و الذى سنصادفه فى أسطورة تاسوع هليوبوليس باسم "آتوم ‪ -‬رع" ‪.‬‬

‫‪- 32 -‬‬
‫و كما تخرج الحياة من بيضة األوزة ‪ ,‬كذلك انبثقت الحياة على المستوى المادى من "جب" (رب‬

‫األرض) فى بدء الخليقة ‪.‬‬

‫عندما يصور الفنان المصرى القديم "جب" فى هيئة الرجل الذى سقط من عل مرة ‪ ,‬و فى هيئة‬

‫األوزة مرة أخرى فهو بذلك يعبر عن جانبين مختلفين من جوانب شخصية "جب" ‪ ,‬و هنا نجد‬

‫أنفسنا نقف وجها لوجه أمام الطبيعة المزدوجة لعقل انسان الحضارات القديمة الذى رأى األلوهية‬

‫فى صور متعددة ‪ .‬فكل كيان أو تجلى من التجليات االلهية مهما كانت دائرة عمله محدودة ‪ ,‬يمكن‬

‫النظر اليه فى نفس الوقت باعتباره هو نفسه العقل الكونى أو المصدر الذى انبثق منه الوجود ‪.‬‬

‫و فوق "جب" (رب األرض) صور الفنان المصرى القديم "نوت" (ربة السماء) ‪ ,‬و التى تظهر فى‬

‫أغلب المشاهد فى صورة امرأة بجسد مرصع بالنجوم ‪ ,‬تنحنى فوق زوجها "جب"على هيئة قبة ‪,‬‬

‫و تمتد أطراف أصابع يديها و قدميها لتلمس الجهات األصلية األربعة لألرض ‪.‬‬

‫ربة السماء "نوت" تنحنى على هيئة قبة فوق األرض‬

‫( من بردية "نستى تا نبت تاوى" ‪ ,‬من عصر الدولة الحديثه )‬

‫و من الجدير بالتأمل أن الفنان المصرى القديم كان يصور جسد "نوت" و هو عارى ‪ ,‬و كذلك جسد‬

‫‪- 33 -‬‬
‫"جب" ‪ ,‬و هو أمر ال ينطبق على الكيانات االلهية األخرى فى مصر القديمة ‪.‬‬

‫ربما كان السبب فى ذلك يرجع الى دورهما األساسى و هو ممارسة الحب ‪ .‬أو ربما كان السبب‬

‫أنهما يختلفان عن الكيانات االلهية األخرى فى أن العين يمكن أن تراهما بدون حجاب – و الذى‬

‫تعبر عنه المالبس ‪.‬‬

‫و بمعنى آخر ‪ ,‬ان كل من "نوت" و "جب" قد وهبها نفسيهما تماما لعالم التجسد ‪ ,‬و أنهما ال يخفيان‬

‫أى شئ عن األعين ‪.‬‬

‫ان صورة "نوت" فى الفن المصرى ال تعبر فقط عن سماء النهار الزرقاء اللون أو سماء الليل‬

‫المظلمة المرصعة بالنجوم التى نراها بالعين المجردة ‪.‬‬

‫فهذا األسلوب الفنى للتعبير عن قبة السماء ليس مجرد صورة من خيال الفنان تم اسقاطها على‬

‫السماء ‪ ,‬و انما هى رؤية باطنية للقوة الكونية أو الكيان االلهى الذى من خالله أتت النجوم‬

‫و الكواكب و الشمس للوجود ‪.‬‬

‫فى الشكل التالى ‪ ,‬صور الفنان المصرى القديم قرصين للشمس فوق جسد "نوت" ‪.‬‬

‫يمثل قرصى الشمس مرحلتين رئيسيتين من رحلة الشمس داخل جسد نوت ‪ :‬المرحلة األولى تبدأ‬

‫عند الغروب ‪ ,‬حين تبتلع نوت قرص الشمس ‪ ,‬و المرحلة الثانية تبدأ عن الشروق حين تولد الشمس‬

‫من جديد من رحم "نوت" ‪ .‬تظهر نوت هنا عارية ‪ ,‬و كأنها أم تلد طفلها ‪.‬‬

‫‪- 34 -‬‬
‫ربة السماء "نوت" تنظر الى األرض‬

‫( من أحد التوابيت الملونة ‪ ,‬أسرة ‪ , 21‬دولة حديثه )‬

‫نوت فى حالة مخاض دائم ‪ ,‬فهى تظل الى األبد تلد المخلوقات فى عالم الروح ‪ ,‬و هو ما ترمز له‬

‫النجوم و الكواكب ‪.‬‬

‫لذلك كانت نوت دائما هى الحضور االلهى الذى يمتد فوق العالم على هيئة قبة و كأنه يحتضنه ‪.‬‬

‫جاء فى أحد االبتهاالت المصرية القديمة ل "نوت" ‪-:‬‬

‫*** أيتها العظيمة التى أتت للوجود على هيئة السماء ‪ ,‬و التى امتلكت القوة و القدرة ‪ ..‬و مألت كل‬

‫مكان بالجمال ‪ ...‬األرض كلها لك ‪ ...‬لقد احتضنت األرض ‪ ,‬و صار كل شئ داخل حضنك ***‬

‫"نوت" هى القوة الكونية أو الكيان االلهى المقابل ل "جب" (رب األرض) ‪.‬‬

‫اذا كانت "نوت" هى األم الكونية العظمى التى تهب المخلوقات الجسد الروحى ‪ ,‬فان "جب" هو‬

‫‪- 35 -‬‬
‫الذى يكمل عمل "نوت" و يهب المخلوقات الرداء أو الجسد المادى ‪.‬‬

‫ان "نوت" و "جب" يعبران عن مبدأ كونى يتكون من شقين يكمل أحدهما اآلخر ‪ ,‬حيث تعبر‬

‫"نوت" عن الشق الروحى أو السماوى ‪ ,‬بينما يعبر "جب" عن الشق األرضى أو المادى ‪.‬‬

‫فى هذا الشكل يتخذ "جب" (رب األرض) هيئة رجل برأس ثعبان يرقد تحت جسد زوجته و حبيبته‬

‫"نوت" ‪ ,‬فى اشارة الى طبيعة "جب" األزلية ‪ ,‬أو ربما ألن الثعابين هى أقرب الحيوانات الى‬

‫األرض ‪ ,‬حيث تعيش فى جحور فى باطن األرض و تزحف فوقها فيالمس جسدها دائما جسد‬

‫األرض ‪ .‬و أيا كانت طريقة فهمنا لهيئة "جب" الثعبانية ‪ ,‬نالحظ أن "نوت" دائما ما تحيط ب‬

‫"جب" من كل جانب و تحتضنه فى عناق أبدى ‪.‬‬

‫"جب" و "نوت"‬

‫( من احدى البرديات التى تعود لعصر الدولة الحديثه )‬

‫و الكون فى نظر قدماء المصريين لم يكن فقط سماء و أرض ‪ ,‬و انما هناك عنصر ثالث يفصل‬

‫السماء عن األرض ‪ ,‬و فى نفس الوقت يصلهما و يعمل كوسيط لنقل الطاقة بينهما ‪ .‬هذا العنصر‬

‫الثالث هو الغالف الجوى ‪ ,‬و الذى نظر له قدماء المصريين (كعادتهم) باعتباره كيان الهى ‪ ,‬أطلقوا‬

‫‪- 36 -‬‬
‫عليه اسم "شو" ‪.‬‬

‫يلعب "شو" دورا رئيسيا فى تجسد المخلوقات فى العالم المادى و ذلك عن طريق خلق المناخ‬

‫المالئم الذى يمكن للنباتات و الحيوانات و الطيور أن تحيا فيه ‪.‬‬

‫و بفضل حضور "شو" و من خالله يدخل النور و تدخل أنفاس الحياة (الطاقة الحيوية) الى الغالف‬

‫الجوى لألرض لتهب المخلوقات الحياة ‪.‬‬

‫لذلك كان الوضع الذى يعبر عن هوية و صفات "شو" هو وضع ال "كا" ‪ ,‬حيث يقف "شو" رافعا‬

‫ذراعيه الى السماء ‪.‬‬

‫ال "كا" هى طاقة الحياة ‪ ,‬و قد رمز لها المصرى القديم بصورة ذراعين مرفوعين الى أعلى ‪.‬‬

‫يعبر هذا الرمز عن الطاقة الحيوية و عن تجددها بشكل دائم من خالل االتصال بالسماء ‪.‬‬

‫أما الشعار الذى يحمله "شو" فوق رأسه فهو ريشه النعامة و التى تعتبر فى حد ذاتها رمز‬

‫هيروغليفى يعطى القيمة الصوتية لكلمة "شو" ‪.‬‬

‫"شو" رافعا ذراعيه ألعلى على شكل عالمة ال "كا"‬

‫‪- 37 -‬‬
‫( من بردية "نسيتا نب تاشرو" ‪ ,‬أسرة ‪ , 21‬دولة حديثه )‬

‫تشترك "ماعت" (النظام الكونى) مع "شو" فى الشعار الذى يحمله فوق رأسه و هو الريشه ‪ ,‬كما‬

‫يظهر "شو" فى بعض األحيان بجناحين مثله مثل "ماعت" ‪.‬‬

‫فى الشكل التالى يظهر "شو" فى هيئته الخنثى ‪ ,‬حيث يجمع بين صفات األنوثه و الذكوره ‪,‬‬

‫و يحمل أيضا بعضا من صفات "حح" رب الفضاء الالمحدود أو رب الالنهائية ‪.‬‬

‫"شو" بجناحين ‪ ,‬تحيط به رياح الشمال و رياح الجنوب‬

‫( النقش من عصر الدولة الحديثه )‬

‫يظهر "شو" فى هذا الشكل مجنحا و هو فى وضع الركوع تحيط به من ناحية رياح الجنوب (على‬

‫هيئة لبؤة مجنحة ذات رؤوس عديدة) ‪ ,‬و من ناحية أخرى رياح الشمال (على هيئة ثور برأسين) ‪.‬‬

‫جاء فى أحد االبتهاالت الدينية المصرية القديمة هذه العبارات على لسان "شو" ‪-:‬‬

‫** أنا "شو" ابن آتوم ‪ ...‬ردائى هو أنفاس الحياة ‪ ,‬التى تخرج من فم آتوم و تتجمع حولى ‪ ,‬و تشق‬

‫طريقى وسط الرياح ‪ ...‬أنا الذى أضئ ظلمة السماء ‪ ...‬خطواتى عرضها السموات ‪ ...‬و أنا الذى‬

‫أهب األرض أنفاس الحياة **‬

‫"شو" هو السبب فى انفصال السماء عن األرض و تحولهما الى قطبين أحدهما فوق و اآلخر تحت ‪,‬‬

‫ألنه هو الذى يرفع السماء فوق ذراعيه التى تتخذ دائما هيئة عالمة ال "كا" ‪.‬‬

‫‪- 38 -‬‬
‫و هذ الوضع هو الوسيلة التى يضمن بها "شو" أن تظل السماء (عالم الروح) دائما مرفوعة فوق‬

‫األرض (عالم المادة) ‪ .‬يعبر هذا الوضع عن احتياج الكون بصفة دائمة لتدخل "شو" من أجل حفظ‬

‫النظام الكونى ‪ .‬فاذا تخيلنا "شو" و هو يرخى ذراعيه و لو للحظة واحدة ‪ ,‬فان ذلك يعنى تالشى‬

‫االزدواجية التى يقوم عليها النظام الكونى ‪ ,‬و عودة األرض و السماء الى حالتهما األزلية حين كانا‬

‫يمتزجان معا فى كيان واحد ‪ ,‬قبل أن يقوم "شو" بفصلهما و برفع السماء فوق األرض ‪.‬‬

‫يبين لنا الشكل التالى العالقة بين الكيانات االلهية الثالثة ( جب ‪ /‬نوت ‪ /‬شو) التى ترمز لألبعاد‬

‫الثالثة الرئيسية للكون المتجسد ‪ ,‬أى الكون الذى يمكن ادراكه بالحواس المادية ‪.‬‬

‫الكون المتجسد كما يعبر عنه ثالوث "نوت ‪ /‬شو ‪ /‬جب"‬

‫( من بردية "نسيتا نب تاشرو" ‪ ,‬أسرة ‪ , 21‬دولة حديثه )‬

‫تحتل "نوت" مركز الصدارة فى المشهد ‪ ,‬بينما يظهر "جب" و كأنه سقط للتو من مكان مرتفع ‪.‬‬

‫و بين االثنين يقف "شو" رافعا ذراعيه على هيئة عالمة ال "كا" ‪ ,‬و يساعده فى ذلك اثنان من‬

‫األرواح الكونية برأس كبش ‪.‬‬

‫ل "نوت" (ربة السماء) حضور يطغى على حضور كل من جب و نوت ‪ .‬و برغم أن أذرع "شو"‬

‫‪- 39 -‬‬
‫تبدو و هى ترفع جسد "نوت" ‪ ,‬اال أن جسد نوت يبدو أيضا و كأن بمقدوره أن يرفع نفسه بدون‬

‫مساعدة ‪ ,‬حيث ترتكز نوت على ذراعيها و ساقيها ‪.‬‬

‫تظهر نوت فى الفن المصرى أيضا فى بعض األحيان فى هيئة بقرة ‪ ,‬حيث ترمز أرجلها األربعة‬

‫ألعمدة الكون األربعة التى تحمل السماء ‪.‬‬

‫و هنا يتضح أن الوضع الذى يتخذه "شو" حين يرفع ذراعيه الى أعلى ال يعبر عن دوره فى رفع‬

‫السماء بقدر ما يعبر عن دوره فى مأل الفراغ بين السماء و األرض ‪.‬‬

‫فى الشكل التالى تظهر نوت فى صورة بقرة سماوية ‪ ,‬و يختفى "جب" من المشهد ‪.‬‬

‫نوت فى هيئة بقرة سماوية ‪ ,‬ترمز أرجلها األربعة ألعمدة السماء األربعة‬

‫( من احدى مقاصير الملك "توت عنخ آمون" ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫تقول احدى األساطير أن "شو" قام بفصل "جب" (األرض) عن "نوت" (السماء) ألنه كان يحب‬

‫نوت و يغار عليها ‪.‬‬

‫و اذا نظرنا مرة أخرى الى هذا المشهد الذى يرفع فيه "شو" جسد نوت فوق ذراعيه و تأملناه ‪ ,‬فهل‬

‫‪- 40 -‬‬
‫يمكن أن نتخيل أن ذراعى "شو" ينجذبان الى أعلى بسبب الطاقة المغناطيسية المنبعثه من صدر‬
‫"نوت" و من رحمها !‬

‫يصور المشهد "شو" و هو يخطو ليمأل الفراغ الذى نشأ من انفصال السماء عن األرض ‪ .‬و هو‬

‫يقف هناك و كأنه عامود يرتفع من األرض للسماء و يهيمن على المنطقة الوسطى بينهما ‪.‬‬

‫يبدو "جب" باهتا و ضئيال بالمقارنة بكل من "نوت" و "شو" ‪.‬‬

‫يظهر "جب" فى بعض األحيان بعضو ذكرى منتصب و هو ما يرمز لقدرته على خلق حياة جديدة‬

‫‪ ,‬و لكنه فى نفس الوقت يبدو و كأنه عاجز ‪ ,‬فهو يرقد دائما مستسلما فاقدا للطاقة و غير قادر على‬

‫الحركة ‪ .‬و عادة ما يظهر "جب" فى الفن المصرى بحجم أصغر من الحجم الذى تظهر به زوجته‬

‫"نوت" ‪ ,‬التى تبدو و كأنها تحتويه ‪.‬‬

‫"نوت" و "جب" و "شو"‬

‫( من احدى البرديات التى تعود لعصر األسرة ‪ , 22‬دولة حديثه )‬

‫اعتقد المصرى القديم أن "جب" و "نوت" كانا فى األصل يتحدان معا فى عناق أزلى ‪ ,‬و ذلك قبل‬

‫‪- 41 -‬‬
‫أن يفصل بينهما "شو" و يرفع السماء عن األرض ‪ ,‬و لذلك حافظ الفنان المصرى على صورة‬

‫العناق بين جب و نوت فكان يصورهما و كأن أحدهما يهم بعناق اآلخر ‪ ,‬و ان كانت نوت هى التى‬

‫تحتوى جب فى هذا العناق ‪ ,‬و ليس العكس ‪.‬‬

‫و يبدو أن الفصل بينهما كان عنيفا لدرجة أن جب سقط مكبا على وجهه ‪.‬‬

‫تشير الصورة الكوزمولوجية للكيانات االلهية الثالثة (نوت ‪ /‬جب ‪ /‬شو) الى أن هناك ترتيبا هرميا‬

‫تقف "نوت" على قمته ‪ ,‬بينما يبدو "جب" و "شو" و كأنهما كيانات ثانوية بجوار األم الكونية‬

‫العظمى "نوت" التى تنحنى فوقهما على هيئة قبة و تحتويهما فى حضنها ‪.‬‬

‫و عند المقارنة بين "جب" و "شو" يبدو "شو" بصورة أكثر فاعلية و نشاطا من "جب" الذى رقد‬

‫مستسلما ‪ .‬يبدو "جب" و كأنه استنفذ طاقته الحيوية فى العالم المادى ‪.‬‬

‫و لما كان "جب" ربا لألرض ‪ ,‬فهو يرتبط بشكل خاص بعالم الظاهر و بالوجود المادى ‪.‬‬

‫يقف "شو" بين ذلك العالم و بين عالم السماء ‪ /‬الروح ‪.‬‬

‫يعتمد وجود "شو" على األرض التى يضع فوقها أقدامه ‪ ,‬و أيضا على السماء التى تمتد اليها‬

‫أذرعه ‪.‬‬

‫يرمز "شو" للعالم الذى يصل بين عالم األرض‪/‬المادة و بين عالم السماء‪/‬الروح ‪ .‬و بقدر ما يفصل‬

‫"شو" بين األرض و السماء ‪ ,‬فهو فى نفس الوقت يضمن وجود وسيلة لالتصال أو الوصل بينهما ‪.‬‬

‫لذلك فالعالقة بين هذه الكيانات االلهية الثالثة كما صورها الفنان المصرى القديم تعبر عن مفاهيم‬

‫ميتافيزيقية ‪.‬‬

‫يقوم علم الفيزياء الكونية فى مصر القديمة على تقسيم الكون المتجسد (الذى ندركه بالحواس) الى‬

‫ثالثة أبعاد أو مناطق رئيسية ‪ .‬و هذه األبعاد ال تتميز عن بعضها البعض فقط من خالل خصائصها‬

‫الفيزيائية و انما من خالل خصائصها الميتافيزيقية أيضا ‪.‬‬

‫هناك ثالثة مستويات للوجود تعبر عنها هذه األبعاد أو العوالم الثالثة ‪ ,‬و هى بالترتيب من األعلى‬

‫الى األدنى ‪-:‬‬

‫‪- 42 -‬‬
‫(‪ )1‬العالم السماوى ‪ /‬الروحى ‪ :‬نوت‬

‫(‪ )2‬العالم البرزخى ‪ :‬شو‬

‫(‪ )3‬العالم المادى ‪ /‬األرضى ‪ :‬جب‬

‫يعتبر عالم "شو" البرزخى أقرب الى عالم الروح منه الى عالم المادة ‪ ,‬و قد عبر الفنان المصرى‬

‫القديم عن ذلك بتصوير "شو" فى أغلب األحيان و هو يرفع السماء فوق ذراعيه بمساعدة أرواح‬

‫على هيئة رجال برؤوس كباش ‪.‬‬

‫أما فى الشكل التالى ‪ ,‬فقد صور الفنان المصرى األرواح التى تساعد "شو" فى رفع السماء على‬

‫هيئة طيور ال "با" (الروح المتجسده) ‪ ,‬بدال من صورة الكبش ‪.‬‬

‫"شو" يرفع السماء بمساعدة طيور ال "با" ‪ ,‬رمز األرواح‬

‫( من أحد التوابيت التى تعود لعصر الدولة الحديثه )‬

‫تعتبر صورة الكبش فى حد ذاتها رمزا هيروغليفيا يعبر عن القيمة الصوتية لكلمة "با" و تعنى‬
‫الروح المتجسدة ‪.‬‬

‫‪- 43 -‬‬
‫ان الظهور المتكرر لرموز ال "با" (الروح المتجسده) سواء فى هيئة كبش أو فى هيئة طائر ال "با"‬

‫تدل على أن عالم "شو" البرزخى هو عالم الروح المتجسده أو المتقمصه (‪ )soul‬الذى يعتبر جسرا‬

‫أو همزة وصل بين عالم الروح الغير متجسده (‪ , )spirit‬و بين عالم األرض‪/‬المادة ‪.‬‬

‫و بتأمل تلك الصور الكوزمولوجية يتبين لنا أن الكون المادى فى نظر قدماء المصريين يشف‬

‫و يكشف عن عالم الروح أكثر مما يحجبه و يخفيه ‪.‬‬

‫و بالتالى من الخطأ أن نصنف مثل هذه المشاهد الفنية على أنها مجرد تفسيرات أو تأويالت خرافية‬

‫للكون المادى انبثقت من خيال الفنان المصرى القديم ‪ .‬فمن خالل هذه الصور الرمزية و من خالل‬

‫قوة الخيال كان باستطاعة المصرى القديم أن يلج الى عالم الروح باستخدام رموز مستمدة من عالم‬

‫المادة كبوابة أو مدخل ‪.‬‬

‫و اذا كانت فكرة األرض المسطحة عند سكان الحضارات القديمة تبدو ساذجة لعقل انسان العصر‬

‫الحديث ‪ ,‬فعلينا أن نذكر أنفسنا أن هذه الصورة ال تعبر عن الشكل الخارجى لألرض و انما تعبر‬

‫عن صورتها الباطنية أو عن الوجود الباطنى لألرض و ليس الوجود المادى ‪.‬‬

‫ان صورة األرض المسطحة عند انسان الحضارات القديمة هى نتاج علم فيزياء كونية يختلف تماما‬

‫عن علم الفيزياء الكونية الحديث ‪.‬‬

‫لم يكن علم الفيزياء الكونية القديم يعنى بوصف المظهر الخارجى للكون بدقة ‪ ,‬و انما هو يعنى‬

‫بوصف البعد الباطنى أو العوالم الماورائية التى تقع فيما وراء العالم المادى باستخدام رموز مستمدة‬

‫من عالم المادة ‪.‬‬

‫و برغم سذاجة صورة األرض المسطحة ‪ ,‬اال انها تحمل عمقا روحيا ال نجده فى الصور الحديثه‬

‫التى تصف المظهر الخارجى للكون بدقة مذهلة ‪ ,‬و لكنها عارية من أى معنى روحى ‪.‬‬

‫كان انسان الحضارات القديمة يحيا فى عالم ال يقتصر وجوده على المستوى المادى فقط ‪ ,‬و انما‬

‫هو عالم يمتد ليشمل أبعاد باطنية ‪ ,‬بينما يهتم االنسان المعاصر بتصوير كل تفاصيل عالم مادى‬

‫خارجى يخلو من الحضور االلهى ‪.‬‬

‫‪- 44 -‬‬
‫الكون الغير متجسد (الماورائى) ‪-:‬‬

‫و لكن صورة الكون التى رأيناها فى الفقرة السابقة ليست هى الصورة الكاملة ‪ ,‬فباالضافة الى‬

‫األرض و السماء و الغالف الجوى هناك مناطق أو أبعاد غير مرئية و هى ما يطلق عليه األبعاد‬

‫الرأسية أو الماورائية للكون ‪.‬‬

‫فى الشكل التالى تظهر "نوت" وحدها بينما يغيب "جب و "شو" ‪ ,‬حيث يركز المشهد بشكل خاص‬

‫على عالقة نوت ب "رع" (رب الشمس‪/‬النور) ‪.‬‬

‫رحلة الشمس داخل جسد نوت‬

‫( من كتاب الليل و النهار ‪ ,‬من مقبرة الملك رمسيس التاسع ‪ ,‬أسرة ‪ , 22‬دولة حديثه)‬

‫فى أقصى يسار الصورة تظهر نوت و هى توشك أن تبتلع قرص الشمس لدى بلوغه األفق الغربى‬

‫و بدال من السقوط تحت خط األفق الغربى تلج الشمس الى داخل جسد ربة السماء "نوت" ‪ ,‬بينما‬

‫تقف تسعة من أرواح (أرباب) النجوم لتحية "رع" ‪.‬‬

‫تقطع الشمس جسد نوت كله خالل ساعات الليل االثنى عشر ‪ ,‬ثم تولد من جديد فى األفق الشرقى‬

‫فى الصباح قوية عفية ‪ .‬و فى النصف األسفل من المشهد نرى قارب "رع" تجره مجموعة من‬

‫‪- 45 -‬‬
‫الكيانات االلهية يتقدمها أربعة منهم برؤوس ابن آوى ‪.‬‬

‫و هذا المشهد هو جزء من كتاب الليل و النهار الذى دونه قدماء المصريين فى مقابر ملوك الدولة‬

‫الحديثه ‪ .‬لهذا الكتاب أهمية خاصة ألنه يركز على أبعاد أخرى من الكون بخالف األرض و الغالف‬

‫الجوى ‪ ,‬و هى أبعاد ماورائية ‪.‬‬

‫فداخل جسد نوت هناك منطقة خفية تقع فيما وراء حواس االنسان المادية ‪.‬‬

‫حين تصل الشمس الى هذه المنطقة ال يمكن رؤيتها بالعين المجردة ‪ ,‬ألنها تكون عند ذلك قد دخلت‬

‫عالما باطنيا ‪ .‬هنا ال يوجد فضاء خارجى لكى تتجلى فيه الشمس ‪.‬‬

‫من منظور ثقافتنا المعاصرة قد نبادر بالقول "أن الشمس حين تختفى من أمام أنظارنا فهى تنتقل‬

‫للجانب اآلخر من الكرة األرضية و تصبح مرئية فى ذلك الجانب حيث يمكن لشعوب أخرى أن‬

‫تراها فى مناطق أخرى من العالم ‪ .‬و هو ما يعنى أنها ال زالت تتواجد فى الفضاء الخارجى ‪/‬‬

‫المرئى ‪ ,‬و أى شخص يدعى أن الشمس قد دخلت الى منطقة فيما وراء الحواس هو شخص واهم"‬

‫أما من وجهة نظر قدماء المصريين فان قولنا هذا يعنى أننا نفتقد القدرة على رؤية وجهة الشمس‬

‫بعد أن تصل الى األفق الغربى ‪ .‬فالمنظور الروحى و الكوزمولوجى المصرى القديم يرى أن دورة‬

‫الشمس فى الفلك ليست مجرد حركة ميكانيكية لجسم مادى يدور فى الفضاء ‪ ,‬و انما هى حدث‬

‫ميثولوجى (أسطورى) ‪ ,‬أو بمعنى أدق هى اعادة تكرار لحدث ميثولوجى تقوم الشمس بمحاكاته‬

‫أثناء حركتها فى الفضاء ‪.‬‬

‫كان العالم المادى المحسوس فى نظر قدماء المصريين هو مجرد سطح أو قشرة خارجية تخترقها‬

‫عيونهم بسهولة لكى تنفذ الى الجوهر الميثولوجى (األسطورى) و هو العالم الذى يقف فى بؤرة‬

‫اهتمام قدماء المصريين ‪.‬‬

‫ان ما يحدث للشمس بعد غروبها من وجهة نظر قدماء المصريين هو شئ أعمق من أن يدرك‬

‫بالحواس المادية ‪ ,‬ألن الشمس التى نراها بالعين المجردة هى الجسد الخارجى ‪ /‬الظاهر ألحد‬

‫الكيانات االلهية ‪ .‬و دورة حياة هذا الكيان االلهى هى الحقيقة التى تحدد مسار رحلة الشمس ‪ ,‬و هى‬

‫‪- 46 -‬‬
‫حياة تقوم على ايقاع منتظم من التجلى يعقبه احتجاب ‪ ,‬يعقبه تجلى من جديد ‪ ,‬و هكذا ‪.‬‬

‫يرتحل "رع" فى ال "دوات" (العالم السفلى) ‪ ,‬حيث يجدد هناك طاقته و يولد من جديد فى عالم‬

‫التجلى ‪ /‬الظاهر ‪.‬‬

‫ان مشكلتنا تكمن فى أننا (بدعوى الموضوعية) نتعامل مع الظواهر الحسية بمعزل عن هويتها‬

‫األسطورية حيث تعتبر األسطورة فى نظرنا مجرد خيال ‪.‬‬

‫و حين نفعل ذلك فاننا ننزع القلب النابض بالحياة من عالمنا ‪ ,‬ليصير عالما جامدا ميتا ‪ ,‬و نرضى‬

‫بالقشور المادية التى تتبقى منه بعد غياب الكيانات االلهية عن وعينا ‪.‬‬

‫اذا خطر ببالنا أن نصم نظرة قدماء المصريين بأنها مجرد أفكار نبعت من وحى خيالهم نتيجة‬

‫جهلهم بعلم الفيزياء الكونية ‪ ,‬فعلينا أوال أن نسأل أنفسنا ما هى حدود معرفتنا بالكون ؟‬

‫ان استخفافنا و عدم احترامنا لنظرية المعرفة عند قدماء المصريين هو الذى ساهم فى اهمالنا‬

‫لدراستها و بالتالى عدم فهمها ‪ ,‬و هو الذى أدى الى تعميق هوة جهلنا بالعوالم الماورائية التى كان‬

‫قدماء المصريين على دراية عميقة بها ‪ ,‬و هى عوالم ال يمكن فهمها عن طريق المنهج العلمى‬

‫التجريبى ‪.‬‬

‫‪----------‬‬

‫أطلق قدماء المصريين على المنطقة الخفية أو العالم الباطنى داخل جسد نوت اسم "دوات" ‪ ,‬و هى‬

‫كلمة تترجم عادة بمعنى العالم السفلى ‪ ,‬و هى الى حد ما تعتبر ترجمة غير دقيقة ‪.‬‬

‫و أتوقع أن القارئ بدأ اآلن يدرك السبب فى ذلك ‪ .‬فال "دوات" لم يظهر فى الشكل السابق تحت‬

‫األرض ‪ ,‬حيث يتوقع أن يكون العالم السفلى ‪ ,‬و انما ظهر داخل جسد ربة السماء "نوت" ‪.‬‬

‫لذلك فهو باألحرى عالم باطنى ‪ ,‬و ليس عالم سفلى ‪.‬‬

‫اذا اعتبرنا أن "نوت" ربة السماء ترمز لعالم الروح ‪ ,‬فعند المرور من النجوم التى ترصع جسدها‬

‫الى العالم الباطنى يكون المرتحل قد دخل الى عالم الروح الذى تشير اليه النجوم ‪ ,‬أو تقف عند‬

‫حدوده ‪ .‬و عند الدخول الى عالم عالم الروح تسقط كل الظواهر الحسية ‪ .‬و كما تختفى الشمس عن‬

‫‪- 47 -‬‬
‫األنظار عندما تدخل بوابة الدوات من األفق الغربى ‪ ,‬كذلك يفعل البشر عند الموت ‪ .‬و كما تفعل‬

‫الشمس ‪ ,‬كذلك تفقد كل المخلوقات جسدها الخارجى حين تدخل الى ال "دوات" ‪ ,‬ألن ما يدخل ال‬

‫"دوات" هو الروح و ليس الجسد المادى ‪.‬‬

‫و برغم أن ال "دوات" يمكن أن ينظر له باعتباره منطقة ‪ ,‬اال انه فى الحقيقة "حالة من حاالت‬

‫الوجود" أكثر من كونه منطقة ‪ ,‬و هى الحالة التى تصير اليها المخلوقات حين تموت و تترك‬

‫جسدها المادى ‪ ,‬و هى أيضا نفس الحالة التى تأتى منها المخلوقات لتتجسد فى عالم الظاهر ‪.‬‬

‫و بعبارة أخرى ان ال "دوات" هو العالم الذى يذهب اليه الموتى ‪ ,‬و هو فى نفس الوقت العالم الذى‬

‫يأتى منه األحياء ليتجسدوا فى العالم المادى ‪.‬‬

‫و كما تولد الشمس فى األفق الشرقى كل يوم من رحم األم السماوية نوت (و هو ال "دوات") ‪,‬‬

‫كذلك تولد كل المخلوقات التى تأتى للوجود – بما فى ذلك البشر – من نفس الرحم ‪.‬‬

‫كل األشياء التى تأتى لتتجسد فى عالم الظاهر تأتى من ال "دوات" ‪ .‬فهناك تتواجد المخلوقات قبل‬

‫أن تولد فى عالمنا ‪ ,‬و الى هناك تعود مرة أخرى بعد أن تطرح عنها جسدها المادى و تتركه ‪.‬‬

‫و برغم أن ال "دوات" يقع داخل جسد نوت ‪ ,‬اال أن الكيان االلهى الذى يحكم ذلك العالم الباطنى‬

‫ليس نوت ‪ ,‬و انما ابنها البكر أوزير ‪.‬‬

‫أوزير هو رب ال "دوات" ‪ ,‬و هو الذى ينظم دورة الميالد و الموت و االنبعاث من جديد ‪ ,‬و هى‬

‫الدورة التى تخضع لها كل المخلوقات ‪.‬‬

‫يصور الشكل التالى العالقة بين نوت و أوزير ‪ ,‬و هو عبارة عن مشهد من كتاب البوابات الذى‬

‫ينتمى لعصر الدولة الحديثه ‪.‬‬

‫‪- 48 -‬‬
‫"نوت" و "أوزير" ‪ .‬مشهد من الفصل أو الساعة رقم ‪ 12‬من كتاب البوابات‬

‫( مقبرة الملك رمسيس السادس ‪ ,‬أسرة عشرين ‪ ,‬دولة حديثه )‬

‫يظهر جسد أوزير متكورا على نفسه بحيث تلمس أطراف أصابع قدمه مؤخرة رأسه ‪ ,‬بينما تمتد‬

‫أذرعه ألعلى لتدعم جسد نوت و هى تقف فوق رأسه و تمسك فى يدها بقرص الشمس ‪.‬‬

‫يقول النص المدون أمام جسد نوت ‪ ( :‬انها نوت ‪ ,‬التى تستقبل رع ) ‪.‬‬

‫أما النص المدون داخل الفراغ الذى يحويه جسد أوزير المتكور فيقول ‪( :‬انه أوزير ‪ ,‬الذى يحيط‬

‫بالدوات ) ‪.‬‬

‫يعطى هذا المشهد االنطباع بأن أوزير يحيط بمنطقة سرية غامضة مسقلة بذاتها عن جسد نوت ‪,‬‬

‫و لكنها فى نفس الوقت تتصل به ‪ .‬و تبدو نوت هنا و كأنها تعتمد فى وجودها على وجود أوزير ‪,‬‬

‫رب ال "دوات" ‪ ,‬فهى تضع أقدامها فوق رأسه ‪ ,‬بينما يمسك أوزير بهذه األرجل ليثبتها فى وقفتها‬

‫و يدعمها ‪.‬‬

‫و هنا يبدو لنا ال "دوات" فى صورة منطقة خفية يكتنفها الغموض ‪ ,‬و لكنها فى غاية األهمية ‪.‬‬

‫يعتمد وجود ال "دوات" على أوزير الذى يشكل جسده حدود ذلك العالم الباطنى و الذى يمكن أن‬

‫ننظر اليه باعتباره العقل الباطن ل "نوت" ‪.‬‬

‫‪- 49 -‬‬
‫للدوات وجود باطنى مستقل ال ينتمى لعالم الزمان و المكان الظاهر لحواسنا المادية ‪ ,‬و هو األساس‬

‫الذى يقوم عليه العالم السماوى‪/‬الروحى الذى تمثله الربة "نوت" ‪.‬‬

‫و هنا علينا أن ننحى جانبا صورة نوت األخرى التى تشترك فيها مع "جب" و "شو" فى رسم‬

‫الصورة الكلية للكون المتجسد‪/‬المحسوس ‪ ,‬فأوزير ليس بديال ل "جب" (رب األرض) ‪.‬‬

‫و الصورة التى أمامنا تعبر عنى قوى روحانية غير متجسده فى عالم الظاهر ‪ ,‬بعكس الصور‬

‫السابقة لثالوث "نوت ‪ /‬جب ‪ /‬شو" ‪.‬‬

‫ان ال "دوات" الذى يحتويه جسد أوزير هو مولد الطاقة أو المنبع الذى تخرج منه كل األشكال‬

‫و الصور ‪ ,‬و أيضا كل قوى البناء التى تخضع لها األشكال و الصور ‪.‬‬

‫و كما سنرى فى الفصول التالية ‪ ,‬ال "دوات" ليس فقط العالم السفلى للموتى ‪ ,‬و انما هو عالم‬

‫النفس (العقل الباطن) ‪.‬‬

‫و هناك شئ آخر يلفت االنتباه فى الشكل السابق ‪ ,‬و هو أن جسد أوزير تحيط به مياه األزل من كل‬

‫جانب ‪ ,‬و كذلك جسد نوت ‪ ,‬من قدمها حتى رأسها الذى يبدو و هو يبرز من فوق سطح المحيط‬

‫الذى يغرق فيه جسد أوزير بالكامل ‪ .‬تمسك نوت بقرص الشمس و ترفعه فوق سطح مياه األزل‬

‫‪ ,‬و بذلك تنقله الى مستوى آخر من مستويات الوجود ‪.‬‬

‫أما الشكل التالى فهو المشهد الكامل الذى اقتطعنا منه الشكل السابق ‪.‬‬

‫‪- 50 -‬‬
‫المحيط األزلى "نون" يرفع قارب "رع" فوق ذراعيه‬

‫مشهد من الفصل أو الساعة رقم ‪ 12‬من كتاب البوابات‬

‫( مقبرة الملك رمسيس السادس ‪ ,‬أسرة عشرين ‪ ,‬دولة حديثه )‬

‫و عند النظر الى المشهد الكامل نالحظ أن الجزء الذى يصور جسد أوزير المتكور الذى يستند اليه‬

‫جسد "نوت" مقلوب رأسا على عقب ‪ ,‬و فى األسفل هناك فراغ يشغله قرص الشمس الذى يحتل‬

‫موقع الصدارة فوق قارب "خبرى ‪ -‬رع" ‪.‬‬

‫تبدو نوت هنا و كأنها تستقبل أو تتسلم قرص الشمس من الجعران "خبرى" ( أو ربما تمنحه ل‬

‫‪- 51 -‬‬
‫"خبرى" !) ‪ .‬و "خبرى" هو هيئة "رع" لحظة مجيئه للوجود ‪.‬‬

‫و على الجانب األيمن و األيسر ل "خبرى ‪ -‬رع" تقف كل من ايزيس و نفتيس و خلفهما مالحى‬

‫قارب "رع" لكى يشهدوا جميعا لحظة مولده ‪ ,‬حين يأتى للوجود و يتجلى على العالم باطاللته ‪.‬‬

‫يشكل قارب "رع" فراغا أشبه بفقاعة من الهواء وسط المحيط األزلى الذى ليس له حدود ‪.‬‬

‫قارب "رع" هو الذى يجعل مجئ العالم للوجود ممكنا وسط محيط الالوجود ‪.‬‬

‫أما المحيط نفسه فقد عبر عنه الفنان المصرى القديم فى صورة انسان يرفع قارب "رع" من الهاوية‬

‫‪ ,‬مشيرا بذلك الى مستوى آخر من مستويات الوجود ‪ ,‬حيث الجذور األعمق التى ينبع منها الخلق ‪.‬‬

‫و الشخص الذى يرفع قارب رع هو الصور التخيلية فى وعى قدماء المصريين ألحد الكيانات‬

‫االلهية ‪ ,‬و يطلق عليه اسم "نون" ‪.‬‬

‫يقول النص المدون بين ذراعى "نون" فى المشهد السابق ‪-:‬‬

‫*** ان هذه األذرع تخرج من مياه األزل ‪ ,‬و هى ترفع االله (رع) ***‬

‫حين ترفع أذرع نون قارب "رع" فهى بذلك ترفع الكون كله ‪ ,‬و الذى يستمد طاقة الحياة و النور‬

‫من "رع" ‪.‬‬

‫يعبر المشهد التالى عن نفس المعنى ‪ ,‬مع فارق واحد مهم ‪ ,‬و هو أن الوضع الذى يتخذه "نون" هنا‬

‫(و الذى يشبه الوضع الذى يتخذه "شو" حين يرفع السماء) يبدو أنه هو الذى يخلق فراغا وسط مياه‬

‫األزل التى تنحسر الى حدود العالم الذى يحكمه النظام و النور ‪.‬‬

‫‪- 52 -‬‬
‫المحيط األزلى "نون" يخلق فراغا وسط مياه األزل حين يرفع قارب "رع"‬

‫( من بردية "خونسو مس" ‪ ,‬دولة حديثه )‬

‫ان موقع المحيط األزلى عند أطراف الكون يعبر عن الطريقة التى كان المصرى القديم ينظر بها‬

‫الى الكون ‪ .‬فما هو ذلك المحيط األزلى و كيف لنا أن نفهمه ؟‬

‫الشئ الوحيد األكيد الذى يمكن أن نبدأ به بحثنا عن معنى المحيط األزلى هو أن قدماء المصريين لم‬

‫يعتقدوا فى وجود محيط سماوى من المياه بالمعنى الحرفى لكلمة مياه ‪ -‬مثل المياه التى يتكون منها‬

‫البحر األبيض المتوسط على سبيل المثال – على حدود الكون ‪.‬‬

‫ان لمياه "نون" مستوى أكثر شفافية من المياه التى نراها على سطح األرض ‪.‬‬

‫و فى كال الشكلين ‪ ,‬يظهر أوزير و العالم الباطنى الذى يحيط به غارقا وسط هذه المياه ‪ ,‬و هو ما‬

‫يدل على أن مياه األزل تتواجد فى مستوى من مستويات الوجود أكثر عمقا و غموضا من المستوى‬

‫‪- 53 -‬‬
‫الذى يرمز له أوزير و عالمه ‪ ,‬و هو ال "دوات" ‪.‬‬

‫تبدو صورة "نون" فى الكتب الدينية المصرية دائما غامضة ‪ ,‬فهى دائما ما توصف بمصطلحات‬

‫و تعبيرات سلبية ‪ ,‬كالظلمة و السكون و الالشكل أو انعدام الهيئة ‪.‬‬

‫"نون" هى امكانيات الوجود الالمتناهية و التى ال يمكن أن نحيط بها ‪ ,‬و التى عبر عنها المصرى‬

‫القديم بصورة محيط المتناهى فى حالة سيولة و انعدام للشكل ‪.‬‬

‫رأى المصرى القديم فى المياه رمزا ل "نون" ألن المياه تعبر عن صفات "نون" ‪.‬‬

‫فباالضافة الى كونها هى مصدر الحياة على سطح األرض ‪ ,‬نجد أن المياه ليس لها شكل و ال يوجد‬

‫لها تعريف محدد ‪ ,‬ألنها أتت للوجود قبل أن توجد كل الصور و األشكال (سواء المادية أو األثيرية)‬

‫‪ ,‬و لذلك فهى رمز لحالة ما قبل الخلق ‪.‬‬

‫كانت نون موجود قبل أن تأتى الكيانات االلهية للوجود ‪ ,‬قبل أوزير و قبل ال "دوات" و قبل عالم‬

‫الظاهر المتجسد ‪ ,‬عالم الزمان و المكان ‪.‬‬

‫جاء فى أحد نصوص األهرام أن "نون" كانت موجودة ( قبل أن توجد السماء ‪ ,‬و قبل أن توجد‬

‫األرض ‪ ,‬و قبل أن يوجد أى شئ له شكل أو صورة محددة ) ‪.‬‬

‫و ألن "نون" مجهولة بالنسبة لالنسان ‪ ,‬لذلك كان موقعها فى علم الكونيات المصرى على حدود‬

‫العالم المعلوم ‪.‬‬

‫ان "نون" ليست كيان الهى كالكيانات االلهية األخرى التى نصادفها فى الفكر الدينى المصرى ‪,‬‬

‫و انما هى باألحرى المادة األولية التى صنع منها الكون ‪ ,‬و لذلك تلقب بأنها هى أب و أم كل‬

‫الكيانات االلهية ‪.‬‬

‫و "نون" ليست مجهولة لالنسان فقط ‪ ,‬و انما للكيانات االلهية أيضا ‪ ,‬ألنها هى منبع الوجود ‪.‬‬

‫يصور هذا المشهد العالقة بين "نون" و الكون كله ‪ ,‬و قد سجله الفنان المصرى القديم فى مقبرة‬

‫الملك سيتى األول (فى القرن الثالث عشر قبل الميالد تقريبا) ‪.‬‬

‫‪- 54 -‬‬
‫الكون المتجسد ‪ ,‬و الكون الغير متجسد‬

‫( من مقبرة الملك سيتى األول ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫و هذا المشهد هو نتاج العلوم الباطنية التى بلغت درجة عالية من النضج فى عصر الدولة الحديثه ‪.‬‬

‫تظهر نوت فى هذه الجدارية فى هيئتها المعتادة و هى صورة امرأة تنحنى بجسدها فوق األرض‬

‫على هيئة قبة ‪ .‬يقف "شو" بين السماء و األرض التى صورها الفنان المصرى على هيئة رمال ‪.‬‬

‫فى الجانب األيمن للصورة تبتلع نوت قرص الشمس ‪ ,‬الذى يبدأ رحلته داخل جسدها فيمر عبر‬

‫المناطق المختلفة من ال "دوات" ‪ ,‬و يعود فيخرج منه مرة أخرى و بذلك يولد من جديد ‪.‬‬

‫فى الناحية اليسرى من الصورة يظهر قرص الشمس عند أقدام نوت لحظة والدته ‪.‬‬

‫فى هذا المشهد تجتمع كل العناصر الرئيسية للكون كما رآها المصرى القديم ‪ .‬و هذه العناصر هى‬

‫السماء و األرض و المنطقة البرزخية بينهما و الشمس و ال "دوات" ‪.‬‬

‫و لكن هناك عنصر آخر فى هذا المشهد ال نجده فى المشاهد األخرى فى كتب العالم اآلخر ‪ ,‬و هو‬

‫عنصر يمنح الصورة اكتماال قل أن نجده فى الصور األخرى ‪.‬‬

‫فعلى الجانب األيمن للصورة ‪ -‬فوق جسد نوت ‪ -‬هناك نص يصفها بشكل دقيق ‪.‬‬

‫و يبدو أن وضع النص فى هذا المكان كان مقصودا ‪.‬‬

‫فالنص يقع خارج جسد نوت الذى يحتضن ما تحته من عوالم ‪ ,‬فى منطقة تتميز و تختلف عن ال‬

‫"دوات" الذى يقع داخل جسد نوت ‪ .‬يقول النص واصفا نوت ‪-:‬‬

‫‪- 55 -‬‬
‫*** الظلمة هى الينبوع الذى تنبثق منه الكيانات االلهية ‪ ...‬تهيمن الظلمة على السماء العليا التى ال‬

‫تعرف فيها االتجاهات األربعة (الجنوب و الشمال و الشرق و الغرب) ‪ ...‬خلقت كل األشياء من‬

‫"نون" ‪ ,‬التى يهيمن عليها السكون ‪ ,‬حيث ال يوجد أى شعاع لنور "آمون رع" ‪ ,‬و حيث ال يستطيع‬

‫أى من األرواح أو الكيانات االلهية معرفة االتجاهات األربعة (الجنوب و الشمال و الشرق‬

‫و الغرب) ‪ ...‬فليس هناك نور **‬

‫اذا كان ال "دوات" هو أول مستوى من مستويات الوجود الغير ظاهر (الغير متجسد) ‪ ,‬فان "نون"‬

‫أعمق و أبعد من ذلك ‪.‬‬

‫فبينما يحوى ال "دوات" صورا روحانية (أثيرية) ‪ ,‬نجد أن كل الصور و األشكال تختفى و تتالشى‬

‫فى ظلمة مياه األزل "نون" ‪.‬‬

‫"نون" هى الفراغ الذى ال يسبر غوره و الذى ليس له شكل ‪ ,‬و لذلك فهى أبعد من أن يعيها أى‬

‫كائن ‪ .‬لذلك توصف دائما بمصطلحات سلبية استخدمتها كل الفلسفات الصوفية فى مختلف أنحاء‬

‫العالم للتعبير عن مصدر الوجود و منبعه ‪.‬‬

‫و لكى نفهم رمزية "نون" فى علم الوجود فى مصر القديمة ‪ ,‬و لكى نستطيع تكوين صورة أوضح‬

‫لكل الرموز التى تحدثنا عنها سابقا فى هذا الفصل ‪ ,‬علينا أن نبحث فى أساطير الخلق المصرية ‪.‬‬

‫‪- 56 -‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫أساطير نشأة الكون‬

‫تتسم نظرة قدماء المصريين للكون بأنها نظرة كيفية و ليست كمية ‪ ,‬بمعنى أنها تركز بصورة أكبر‬

‫على مستويات الوجود الميتافيزيقية التى تقع فيما وراء العالم المادى و التى ترمز لها الكيانات‬

‫االلهية ‪ ,‬و يطلق عليها فى مصر القديمة "نترو" ( المفرد منها "نتر" ‪ ,‬و الجمع "نترو" ) ‪.‬‬

‫و بالتالى ‪ ,‬تركز أساطير نشأة الكون المصرية على العالقة بين مستويات الوجود المختلفة أكثر من‬

‫محاولة تقديم تفسير فيزيائى لنشأة الكون المادى ‪.‬‬

‫يقوم علم الوجود المصرى على العالقة الرأسية لمستويات الوجود التى تمتد من أرقى الكيانات‬

‫االلهية الماورائية و أكثرها غموضا و احتجابا الى كيانات أخرى تتجلى فى عالم األرض بشكل‬

‫أوضح ‪ ,‬الى الكائنات المتجسدة التى تسكن هذا العالم ‪.‬‬

‫ترسم أساطير نشأة الكون المصرية صورة لنظام كونى يقوم على ترتيب هرمى لمستويات الوجود‬

‫يبدأ من المطلق أو الروح أو العقل األسمى و ينتهى بالمخلوقات المتجسده فى جسد مادى ‪.‬‬

‫و لكن هذا الترتيب الهرمى ليس ترتيبا استاتيكيا ‪ ,‬فالكيانات االلهية و القوى الكونية (التى هى أيضا‬

‫الهية) فى حالة تطور و صيرورة و انتقال دائم من مستوى الى مستوى آخر للوجود ‪ ,‬و هذه‬

‫الصيرورة هى التى أدت لظهور العالم المادى المتجسد الذى ندركه بحواسنا المادية ‪.‬‬

‫وصف قدماء المصريين الطريقة التى أتى بها عالمنا للوجود فى مشاهد فنية تصور عالقة الكيانات‬

‫االلهية بعضها ببعض ‪ ,‬و هى عالقة أشبه بعالقة النسب عند االنسان ‪ .‬و كما تعبر شجرة العائلة‬

‫عن فكرة خروج أفرع عديدة من بذرة واحدة أو من أصل واحد ‪ ,‬كذلك العالقة بين الكيانات االلهية‬

‫‪ ,‬فهى قد تولد من بعضها البعض أحيانا ‪ ,‬أو تتحد ببعضها البعض ‪ ,‬أو قد تنفصل عن بعضها‬

‫البعض فى أحيان أخرى ‪.‬‬

‫‪- 57 -‬‬
‫يمكننا أن نقرأ أساطير نشأة الكون المصرية بطريقتين مختلفتين ‪.‬‬

‫فمن ناحية تحدد هذه األساطير أطار علم الوجود الذى يهتم بوصف العالقة بين عالم الكيانات االلهية‬

‫الخالد (عالم الجوهر) و بين عالم البشر المادى الذى يعتريه التغير و الشيخوخه و الموت ‪.‬‬

‫و بالتالى تدعونا هذه األساطير ألن ننظر للعوالم الباطنية التى تقع فيما وراء العالم المادى باعتبارها‬

‫الجذر أو المنبع الذى انبثق منه عالمنا ‪.‬‬

‫و اذا توقفت حركة الكيانات االلهية التى تسكن العوالم األسمى و كفت عن التفاعل مع بعضها‬

‫البعض ‪ ,‬فسيعود الكون الى حالته األزلية السديمية التى اطلق عليها قدماء المصريين اسم "نون" ‪.‬‬

‫هناك عالقة حتمية و أزلية تربط بين العوالم الباطنية ‪ /‬الروحانية ‪ /‬الخالدة و بين العالم المادى ‪/‬‬

‫النسبى ‪ /‬المتغير ‪ ,‬حيث ال يعتمد عالم المادة على عالم الروح فقط ‪ ,‬و انما هو يستمد وجوده من‬

‫ذلك العالم الماورائى ‪.‬‬

‫بعبارة أخرى ‪ ,‬ان ما هو "نسبى ‪ /‬متغير ‪ /‬زائل" يستمد وجوده مما هو "مطلق ‪ /‬أزلى ‪ /‬خالد" ‪.‬‬

‫و من ناحية أخرى ‪ ,‬تعتبر عملية الخلق فى جوهرها عملية انبثاق ‪.‬‬

‫فقد ولدت الشبكة أو الماتريكس التى تشكل العالم المادى الظاهر الزائل من عالم الروح الخالد ‪,‬‬

‫و بالتالى فان هذا العالم الظاهر الزائل ليس كما نراه فى ثقافتنا الحديثه ‪.‬‬

‫تصف أساطير نشأة الكون المصرية عملية تطور الكون من الوجود الروحى األزلى ‪ /‬الخالد ‪/‬‬

‫الباطنى (الغير متجسد) الى وجود آخر ظاهر و متجسد و لكنه زائل ‪.‬‬

‫كيف يمكننا أن نفهم ذلك ؟‬

‫فى نظر قدماء المصريين ‪ ,‬كلما نظر المرء الى الماضى البعيد جدا ‪ ,‬كلما أدرك أن مستويات‬

‫الوجود تختلف تماما عن مستوى الوجود الذى يحيا فيه االنسان فى هذه المرحلة من مراحل الخلق ‪.‬‬

‫و كلما عدنا الى الوراء ‪ ,‬كلما بدا الكون أكثر روحانية و كلما صار الوجود أكثر باطنية و أبعد‬

‫عن التجلى أو التجسد المادى ‪ ,‬حيث يتالشى المكان (و الزمان) و يذوب وسط مستوى باطنى من‬

‫مستويات الوجود ‪ ,‬و هو مستوى أكثر سيولة و مرونة ‪ ,‬تقل فيه الحدود الفاصلة التى تميز األشياء‬

‫‪- 58 -‬‬
‫عن بعضها البعض بحيث تتوارى هذه الحدود تدريجيا و تقترب األشياء من بعضها البعض لتتحد‬

‫بالكل ‪ /‬الواحد ‪.‬‬

‫ان الحالة األزلية للكون هى فى األصل حالة باطنية ‪.‬‬

‫فى األزل لم يكن هناك سوى الكيانات االلهية فى حالة وجود باطنى لم يتجلى بعد على هيئة مظاهر‬

‫فلكية أو طبيعية ‪ .‬و كل كيان من هذه الكيانات االلهية يعبر عن مبدأ أو صفة أو قدرة الهية‬

‫ستتجلى فى العالم المادى فى مرحلة متأخرة من مراحل نشأة الكون و تطوره ‪.‬‬

‫و اذا كانت النصوص الدينية المصرية قد وصفت هذه الكيانات االلهية بأن لها مظهر خارجى تتجلى‬

‫فيه (مثل تجلى "رع" فى نور الشمس الذى هو مصدر الحياة ‪ ,‬و تجلى "شو" فى الهواء الذى يعكس‬

‫نور الشمس و يجعله متوهجا ‪ ,‬و تجلى "تفنوت" فى الرطوبة ‪ ,‬الخ) ‪ ,‬فان هذه الظواهر الطبيعية‬

‫هى المظهر الخارجى الذى تتجسد فيه هذه القدرات و الصفات االلهية التى كانت فى األصل باطنية‬

‫و محتجبة ‪.‬‬

‫و بعبارة أخرى ‪ ,‬ان النور و الهواء و الرطوبة فى مرحلة مبكرة من نشأة الكون كانت تتواجد‬

‫وجودا روحانيا (الهيا) فقط بدون أن تنعكس فى أى صورة مادية محسوسه ‪.‬‬

‫فى تلك المرحلة لم يكن النور هو النور الذى نعرفه اآلن و لم يكن الهواء هو الهواء الذى نعرفه‬

‫و لم تكن الرطوبة كما نعرفها اآلن ‪ ,‬ألن العالم كما نعرفه اآلن لم يكن قد أتى بعد للوجود ‪.‬‬

‫و بنفس الطريقة ‪ ,‬كان المصرى القديم يرى أن طبيعة الزمن تتغير كلما نظرنا الى الوراء و كلما‬

‫عدنا الى الماضى البعيد جدا ‪ ,‬حيث يفقد الزمان (و كذلك المكان) مظهره الخارجى ‪.‬‬

‫فى الماضى البعيد – بعبارة أخرى "فى األزل" – لم يكن الزمن محكوما بالدورة السنوية لفيضان‬

‫النيل و ال بدورة الشمس فى الفلك و ال بدورة القمر أو نجم الشعرى (زيريوس) ‪ .‬فى األزل لم يكن‬

‫الزمن قد اكتسب بعد هذه المظاهر الخارجية ‪.‬‬

‫قبل خلق الزمن الذى نعرفه و الذى يقاس بحركة األفالك كان الزمن يقاس أو يدرك فقط من خالل‬

‫عالقة الكيانات االلهية بعضها ببعض و انبثاقها من بعضها البعض عبر مراحل مختلفة من والدة‬

‫‪- 59 -‬‬
‫الكون و هى المراحل التى عبر عنها المصرى القديم من خالل فكرة توالد الكيانات االلهية‬

‫باعتبارها ذرية أو شجرة عائلة ‪.‬‬

‫تخيل قدماء المصريين أن هذه الكيانات هى التى كانت تحكم مصر قبل خلق الزمن فى عالم الظاهر‬

‫‪ ,‬حيث كانت أرض مصر فى نظر المصرى القديم نسخة مصغرة من الكون األكبر ‪.‬‬

‫أطلق قدماء المصريين على ذلك الزمن األزلى اسم "الزمن األول" ‪.‬‬

‫الزمن األول هو الزمن الذى كان قبل أن تأتى الحواس المادية األرضية (أو الوعى األرضى )‬

‫للوجود ‪ .‬و بقدر ما تعبر أساطير نشأة الكون عن علم الوجود كما رآه قدماء المصريين ‪ ,‬فهى أيضا‬

‫تصف التاريخ الميتافيزيقى الذى يحكى كيف انسكب "المطلق ‪ /‬الروح ‪ /‬العقل االلهى" فى تجليات‬

‫أو تجسدات ال حصر لها فى عالم الظاهر ‪.‬‬

‫و عن طريق ذلك االنسكاب اتخذ عالم الزمان و المكان صورته الحالية التى نعرفها ‪.‬‬

‫و لذلك فأساطير نشأة الكون المصرية تختلف تماما عن علم الفيزياء الكونية الحديث و الذى يغفل‬

‫عن رؤية أى عوالم رأسية (ماورائية) ‪.‬‬

‫يحاول علم الفيزياء الكونية الحديث تفسير نشأة الكون من وجهة نظر مادية بحتة ‪ ,‬و لذلك يغيب عن‬

‫ادراكه شئ هام ‪ ,‬و هو أن الكون كان يتواجد فى مراحل والدته األولى فى عالم أسمى أو فى وجود‬

‫أسمى‪ /‬أقدس هو الوجود الروحى ‪.‬‬

‫فى مصر القديمة كان هناك العديد من أساطير الخلق ‪ ,‬و أيضا العديد من المراكز الدينية كل منها‬

‫يقدس أحد الكيانات أو التجليات االلهية ‪ ,‬أو جمع منها ‪.‬‬

‫سينصب تركيزنا فى هذا الفصل على أهم ثالثة نظريات منها ‪ ,‬و التى تعتبر هى الصورة األولية أو‬

‫النموذج األول الذى قامت عليه قصص أخرى لوالدة الكون ( و منها على سبيل المثال نظرية طيبة‬

‫لنشأة الكون و التى تدور حول آمون ) ‪.‬‬

‫تتكامل هذه النظريات الثالثة معا لترسم صورة شاملة عن نظرة المصرى القديم و فهمه للعالقة‬

‫المتداخله بين عالم الظاهر ‪ /‬التجسد ‪ ,‬و بين العوالم الباطنية الغير متجسده ‪.‬‬

‫‪- 60 -‬‬
‫نشأت هذه النظريات الكونية الثالثة فى المراكز الدينية المقدسة لكل من "رع" و "تحوت" و "بتاح"‬

‫‪ ,‬و هذه المراكز هى ‪-:‬‬

‫(‪ )1‬هليوبوليس ‪ :‬مدينة رع‬

‫(‪ )2‬هرموبوليس (األشمونيين) ‪ :‬مدينة تحوت‬

‫(‪ )3‬منف ‪ :‬مدينة بتاح‬

‫يطلق على هذه النظريات الثالثة لنشأة الكون اسم تاسوع هليوبوليس ‪ ,‬و ثامون األشمونيين ‪,‬‬

‫و ثالوث منف ‪.‬‬

‫و ما يميز هذه النظريات الثالثة عن بعضها البعض ليس نشأتها من ثالثة مدن مختلفة ‪ ,‬و لكن ما‬

‫يميزها هو أن كل منها يعبر عن منظور مختلف لأللوهية و لنشأة الكون الذى تتجلى و تتجسد فيه‬

‫صفات االله و قدراته ‪ .‬فكل كيان الهى مقدس فى مركز من هذه المراكز الدينية الثالثة له دور‬

‫مختلف فى منظومة الجمع االلهى و هو ما ينعكس فى موقع كل منها و دوره فى عملية التجلى‬

‫االلهى‪/‬المقدس فى عالم الظاهر ‪.‬‬

‫من الصعب تحديد الفترة الزمنية التى نشأت فيها كل نظرية من هذه النظريات الثالثة على هيئة‬

‫تراث شفهى (قبل أن تدون فى نصوص مكتوبة) و لكن يمكننا بالطبع تحديد تواريخ النصوص التى‬

‫وردت فيها هذه النظريات فى عصر األسرات ‪.‬‬

‫و أقدم النصوص المدونة التى تحدثت عن تاسوع هليوبيس هى متون األهرام التى تعود لعصر‬

‫الدولة القديمة ‪.‬‬

‫و أقدم مصدر مصرى مدون تناول ثامون األشمونيين هو متون التوابيت التى تعود لعصر الدولة‬

‫الوسطى ‪.‬‬

‫أما معرفتنا بثالوث منف أو نظرية منف لنشأة الكون فهى مستمدة من لوحة شباكا التى دونت فى‬

‫عصر األسرة الخامسه و العشرين (دولة حديثه) ‪ ,‬و لكنها فى الحقيقة منقولة من مصدر أقدم يعود‬

‫لعصر الدولة القديمة ‪.‬‬

‫‪- 61 -‬‬
‫و لذلك فعند بحثنا فى هذه النظريات الثالثة فنحن بذلك نستعرض مراحل مختلفة من تاريخ مصر‬

‫القديمة ‪.‬‬

‫يعتقد بعض الباحثين أن كل نظرية من هذه النظريات الثالثة ذاع صيتها و لمع نجمها فى فترة معينة‬

‫من تاريخ مصر بالمقارنة بالنظريات األخرى ‪ ,‬و لكن ذلك ليس هو سبب اختيارها لتكون فى بؤرة‬

‫اهتمامنا فى هذا الفصل ‪ .‬ان السبب الحقيقى وراء اختيار هذه النظريات الثالثة هو أنها تعبر عن‬

‫مفاهيم ميتافيزيقية عميقة ‪.‬‬

‫تركز نظرية هليوبوليس (التاسوع) على فعل الخلق األول الذى قامت فيه الذات االلهية بتعريف‬

‫نفسها فأتت للوجود ‪ ,‬و بذلك أتى الوجود للوجود ‪ ,‬أى أصبح خلق العالم شيئا ممكنا ‪ ,‬و لكنها فى‬

‫المقابل ال تهتم بخلق العالم المادى كما نعرفه ألن تركيزها ينصب بشكل أساسى على التطورات‬

‫الروحانية التى سبقت مرحلة التجسد ‪.‬‬

‫و بعكس نظرية هلوبوليس ‪ ,‬نجد نظرية الثامون أو نظرية هرموبوليس (األشمونيين) تركز على‬

‫الكيفية التى تنتقل بها الطاقة الخالقة من المستوى الروحى للوجود الى عالمنا ‪.‬‬

‫و لكنها أيضا ال تهتم بالمستوى المادى للوجود ‪ ,‬و انما تركز على مراحل انتقال الطاقة من عالم‬

‫الباطن الى عالم الظاهر ‪.‬‬

‫أما نظرية منف لنشأة الكون (ثالوث منف) ‪ ,‬فهى تركز على تجسد األلوهية فى أشكال و صور‬

‫مادية ‪ ,‬و هى تولى أهمية أكبر لتفاصيل تجسد الروح فى المادة ‪.‬‬

‫و الكيان االلهى الذى تدور حوله نظرية هليوبوليس لنشأة الكون هو "آتوم ‪ -‬رع" ‪ ,‬و الذى ارتبط‬

‫بشكل خاص بالشمس ‪ .‬كانت الشمس فى نظر قدماء المصريين هى الصورة التى تنعكس فيها القوى‬

‫السماوية ‪ /‬الروحانية أكثر من أى جرم سماوى آخر ‪.‬‬

‫أما الكيان االلهى الرئيسى فى نظرية هرموبوليس لنشأة الكون فهو تحوت ‪ ,‬رب القمر ‪.‬‬

‫يعكس القمر نور الشمس بدرجات متفاوتة و عبر مراحل مختلفة من الزيادة و النقصان ‪ ,‬و لذلك‬

‫رأى فيه قدماء المصريين صورة لعالم برزخى يحتل موقعا وسطا و يعمل كجسر بين السماء و‬
‫األرض ‪.‬‬

‫‪- 62 -‬‬
‫و فى نظرية منف لنشأة الكون كان الكيان االلهى الرئيسى الذى تدور حوله قصة الخلق هو بتاح‬

‫و الذى ارتبط بشكل خاص باألرض و بالعالم المادى ‪.‬‬

‫لذلك ال يجدر بنا أن ننظر الى العالقة بين هذه النظريات الثالثة على أنها عالقة تنافس أو عداء ‪.‬‬

‫فهذه النظريات الثالثة ال تتنافس و انما هى تتكامل معا لتعبر بشكل أوضح عن دراما كونية تحكى‬

‫قصة انسكاب الروح فى المادة و تجسدها ‪ ,‬و هو حدث يقع فى ثالثة مراحل رئيسية لوالدة الكون‬

‫عبرت عنها األنظمة الالهوتية الثالثة ‪ .‬و لذلك فهى تشكل معا الصورة الميتافيزيقية الباطنية للكون‬

‫و التى يمكن أن نقارنها بالصورة التى وصفتها نصوص األوبانيشادا الهندوسية المقدسة ‪.‬‬

‫هليوبوليس ‪-:‬‬

‫وصفت نظرية تاسوع هليوبوليس نشأة الكون من وجهة نظر كهنة "رع" ‪ ,‬أى من وجهة النظر التى‬

‫يلعب فيها "رع" الدور الرئيسى ‪.‬‬

‫منذ بداية عصر األسرات كانت هليوبوليس هى مركز تقديس "رع" و تدريس العلوم الكونية التى‬

‫تتعلق به ‪ .‬و هليوبوليس هى كلمة اغريقية معناها مدينة الشمس (هيليوس = الشمس) ‪.‬‬

‫أما االسم الذى اطلقه قدماء المصريين على هذه المدينة فهو "ايونو" ‪ ,‬و تكتب فى الغالب "أون"‬

‫باستخدام رمز هيروغليفى على شكل عامود ‪.‬‬

‫كانت معابد "آتوم ‪ -‬رع" فى بداية عصر الدولة القديمة دائما ما تشيد بفناء مفتوح يقف فى وسطه‬

‫عامود مرتفع يحمل حجر على شكل هرمى أو مخروطى يرمز لحجر ال "بن بن" ‪.‬‬

‫و تاسوع هليوبوليس هو نظرية علمية تتناول والدة الكون و نشأته ‪ ,‬يلعب فيها "آتوم ‪ -‬رع" الدور‬

‫الرئيسى ‪ ,‬و لذلك فهى تعتبر أيضا نظاما الهوتيا يتناول أحد جوانب األلوهية ‪.‬‬

‫تصف نظرية هليوبوليس كيف انسكب عالم الروح األبدى الخالد فى عالم المادة المتغير الزائل ‪,‬‬

‫حيث نقطة البداية هى "نون" ‪.‬‬

‫فى البدء لم يكن هناك شئ سوى "نون" ‪ ,‬و هى هاوية مظلمة ال يسبر غورها من المياه األزلية التى‬

‫‪- 63 -‬‬
‫ليس لها سطح و ال حدود ‪ .‬فى ذلك المحيط األزلى ‪ ,‬لم يكن هناك أى أشكال أو صور تميز أى‬

‫شئ عن اآلخر ‪ .‬كل شئ بدأ من "نون" ‪ ,‬حيث السديمية و الالشكل ‪ ,‬و حيث كل األشياء تمتزج‬

‫و تختلط معا فى هذا المحيط الالنهائى ‪.‬‬

‫عند البحث فى مغزى "نون" ‪ ,‬علينا أن نتخيل حالة من حاالت الوجود سابقة على خلق الزمان‬

‫و المكان ‪ ,‬حيث لم يكن هناك أى أقطاب أو أضداد ‪ ,‬ال فوق و ال تحت ‪ ,‬ال قبل و ال بعد ‪ ,‬ال ليل‬

‫و ال نهار ‪ .‬ال شئ ينفصل عن أى شئ آخر ‪ ,‬بل األشياء كلها تتداخل و تتشابك معا ‪.‬‬

‫كل شئ يتداخل مع غيره ‪ ,‬و ال يمكن تمييز شئ عن آخر ‪ ,‬ألنه لم يكن هناك أشياء مستقلة بذاتها ‪.‬‬

‫هنا فى "نون" كان الخلق فى حالة أزلية من الوحدة و االمتزاج و االنصهار ال يمكن وصفها اال‬

‫باستخدام مصطلحات سلبية مثل الظلمة و السكون ‪.‬‬

‫و برغم ذلك فان صورة محيط المياه الالمتناهى تنقل لنا فكرة ايجابية عن "نون" بوصفها مصدر‬

‫الخلق و ينبوع الحياة ‪.‬‬

‫و برغم أن كينونة "نون" تعبر عن الالشى أو الالوجود ‪ ,‬اال انها فى نفس الوقت تحتوى كل ما‬

‫سيأتى للوجود ‪.‬‬

‫"نون" هى الكون الذى يحتوى صورا و أشكاال مختلفة ال حصر لها ‪ ,‬و هى ما زالت كامنة ‪/‬‬

‫محتجبة قبل أن تأتى للوجود ‪.‬‬

‫كان الفنان المصرى القديم يصور تلك الحالة األزلية للوجود و التى يطلق عليها "نون" فى بعض‬

‫األحيان فى هيئة ثعبان ضخم ‪.‬‬

‫و هنا علينا أن ننتبه الى أن صورة الثعبان الذى يلتف حول نفسه عدة مرات تعبر فى الغالب عن‬

‫أول كيان يخرج من عالم الممكن الى عالم الكائن ‪.‬‬

‫يطلق على هذا الثعبان فى مصر القديمة اسم "نحب كاو" ‪ ,‬و اسمه يعنى "واهب طاقة الحياة" ‪.‬‬

‫جاء ذكر ثعبان ال "نحب كاو" فى متون األهرام فى هذه العباة التى يتحدث فيها "نحب كاو" عن‬

‫نفسه قائال ‪-:‬‬

‫‪- 64 -‬‬
‫*** أنا تدفق الفيضان األزلى "نون" ‪ ...‬أنا الذى أخرج من مياه األزل ‪ ...‬أنا "نحب كاو" ‪ ,‬الثعبان‬

‫الذى يلتف حول نفسه عدة مرات ***‬

‫يحمل ثعبان ال "نحب كاو" نفس االزدواجية التى تتصف بها "نون" ‪ ,‬فالتفاف جسد الثعبان حول‬

‫نفسه عدة مرات يشكل فخا أو دوامة تستقطب طاقة الوجود و الحياة فى حالتها الكامنه ‪ ,‬و فى نفس‬

‫الوقت توفر لها مسكنا آمنا و حضنا يحميها من التشتت و يساعدها على أن تنبعث و تتدفق من‬

‫محيط الالوجود الى الوجود ‪.‬‬

‫داخل التواءات جسد ثعبان ال "نحب كاو" ‪ -‬و وسط مياه نون ‪ -‬يسكن المبدأ األول من مبادئ‬

‫الخلق أو ومضة الحياة ‪ ,‬و هى الومضة أو الشرارة التى بمقدورها أن تطلق طاقة الحياة الكامنة‬

‫داخل نون ‪.‬‬

‫أطلق قدماء المصريين على ذلك المبدأ أو القوة الكونية اسم "آتوم" ‪ ,‬و يعنى "الكامل‪/‬الكل" ‪.‬‬

‫ان "نون" و "آتوم" هما وجهان لعملة واحدة هى العقل األسمى أو عقل االله ‪ ,‬الذى يحوى بداخله‬

‫كل امكانيات الوجود ‪.‬‬

‫آتوم هو القوة أو القدرة االلهية التى تبدأ حركة الخلق من عالم الممكن الى عالم الكائن ‪ /‬الواقع ‪ ,‬أو‬

‫من عالم الباطن الى عالم الظاهر ‪.‬‬

‫آتوم هو الذى يقوم بتفعيل طاقة الحياة الكامنة داخل نون و يجعلها تخرج للوجود ‪.‬‬

‫تصف النصوص الدينية المصرية آتوم بأنه كان فى األزل كامنا داخل نون فى حالة من الخمول‬

‫و السكون ‪ ,‬حيث لم يكن هناك موطئا لقدمه ‪.‬‬

‫جاء فى متون التوابيت ‪-:‬‬

‫*** كنت وحدى فى مياه األزل ‪ ,‬فى حالة من السكون ‪ ...‬قبل أن يكون هناك موطئ لقدمى ‪ ,‬و قبل‬

‫أن أجد مكانا ألقف أو أجلس فوقه ‪ ...‬و قبل أن تنشأ مدينة هليوبوليس ***‬

‫فى المشهد التالى صور الفنان المصرى القديم مياه األزل فى هيئة ثعبان ضخم يلتوى جسده و يلتف‬

‫عدة مرات ‪ ,‬و فى المنتصف يقف آتوم و يبدو منهكا ‪ ,‬و وجهه يتجه ألسفل ‪.‬‬

‫‪- 65 -‬‬
‫آتوم داخل التواءات جسد الثعبان األزلى‬

‫( من احدى البرديات التى تعود لعصر األسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫فى األصل ‪ ,‬لم يكن آتوم كيانا مستقال عن مياه األزل "نون" ‪ ,‬و ال عن الثعبان الضخم الذى يرمز‬

‫لها ‪ .‬فى متون التوابيت على سبيل المثال ‪ ,‬يقول أحد النصوص على لسان آتوم ‪-:‬‬

‫*** لقد التففت حول نفسى ‪ ...‬و أحاطت بى التواءات جسدى ‪ ...‬أنا الذى خلق لنفسه مكانا وسط‬

‫التواءات جسده ***‬

‫و بينما كان آتوم يصنع لنفسه مكانا وسط دوامات جسد الثعبان الملتوى ‪ ,‬كان فى نفس الوقت يميز‬

‫نفسه عن مياه األزل "نون" (و هو ما زال فى داخلها) ليصبح مستقال عنها بعد أن كان كامنا فيها ‪,‬‬

‫و بذلك يأتى للوجود ‪.‬‬

‫كان تمييز آتوم لنفسه أو تعريفه لذاته داخل الميحط األزلى هو أول فعل من أفعال الخلق ‪.‬‬

‫أو بعبارة اخرى هو أول فعل من سلسلة من األفعال الخالقة التى أدت الى خروج الكون الذى‬

‫يحكمه النظام من داخل المحيط األزلى أو الهاوية ‪.‬‬

‫و أثناء قيامه بتعريف ذاته و تمييزها عن مياه األزل طرأ على آتوم "تغير‪/‬تطور‪/‬صيرورة" ‪ ,‬فلم‬

‫‪- 66 -‬‬
‫يعد فقط آتوم الذى يرمز لكل ما هو موجود و هو فى حالة تفكك و سديمية داخل مياه نون ‪ ,‬و انما‬

‫صار هو آتوم الذى كان مجيئة للوجود هو مجئ الوجود للوجود ‪.‬‬

‫آتوم هو القدرة االلهية التى من خاللها أتت األشياء للوجود ‪.‬‬

‫تزامن حدث تعريف آتوم لذاته مع حدث والدة الكون ‪ ,‬أو المجئ للوجود ‪ ,‬و هو المبدأ الكونى الذى‬

‫عبر عنه قدماء المصريين باسم "خبرى" و معناه يأتى للوجود ‪ ,‬و هو من ألقاب آتوم ‪.‬‬

‫تحول آتوم من حال الوجود المحض (السلبى الذى ال يتضمن أى فعل) ‪ ,‬الى حال آخر حيث بدأ فى‬

‫االتيان بأفعال ‪ ,‬و أول فعل قام به آتوم هو أنه أتى للوجود ‪ ,‬و من هذه اللحظة بدأت سلسلة ال‬

‫تنتهى من التحول و التطور و الصيرورة ‪ ,‬و هى فى مراحلها األولى لم تكن تحدث داخل الزمان‬

‫الذى نعرفه ‪.‬‬

‫رمز المصرى القديم ل "خبرى" (الذى أتى للوجود) بالجعران ‪ .‬و الذى عرف فى مصر القديمة‬

‫بقدرته على خلق حياة جديدة بشكل تلقائى من داخله باستخدام كرات من الروث يضع بيضه بداخلها‬

‫فى الشكل التالى يقف آتوم داخل التواءات جسد الثعبان الضخم (رمز مياه األزل) الذى تخرج منه‬

‫عدة رؤوس ‪.‬‬

‫آتوم داخل التواءات جسد الثعبان األزلى ‪ ,‬و فوق رأسه خبرى‬

‫أحد مشاهد الفصل السادس من كتاب ال "أمدوات"‬

‫(من مقبرة الملك تحتمس الثالث ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫‪- 67 -‬‬
‫يرفع آتوم ذراعه ليمسك بالجعران "خبرى" فوق رأسه ‪ ,‬و هو ما يعبر عن قدرته على أن يأتى‬

‫للوجود بذاته و بالتالى يعبر عن قدرته على الخلق ‪.‬‬

‫و هكذا يخرج آتوم من مياه األزل "نون" و يحرر نفسه من التواءات جسد الثعبان األزلى الذى يلتف‬
‫حوله ‪.‬‬

‫صور الفنان المصرى القديم خروج آتوم من مياه األزل بطريقتين ‪.‬‬

‫الطريقة األولى تصوره على هيئة أرض مرتفعة تبرز وسط مياه األزل ‪ ,‬يطلق عليها اسم التل‬

‫األزلى ‪ ,‬و هو عبارة عن شئ له شكل محدد و مميز يبرز وسط محيط المتناهى فى حالة سيولة ال‬

‫يمكن تمييز أى شئ فيها عن اآلخر ‪.‬‬

‫جاء فى متون األهرام ‪-:‬‬

‫*** التحيات لك يا آتوم ‪ ...‬التحيات لك يا خبرى ‪ ,‬يا من أتيت للوجود بذاتك ‪ ,‬يا من خلقت نفسك‬

‫بنفسك ‪ ...‬لقد ارتفعت على هيئة تل عالى ‪ ...‬لقد أتيت للوجود فكان اسمك "خبرى" **‬

‫تعيد الطبيعة تكرار حدث خروج آتوم من مياه األزل على هيئة تل مرتفع كل عام بشكل رمزى فى‬

‫صورة األرض بعد الفيضان حين تنحسر عنها مياه النيل التى ترمز لمياه األزل ‪.‬‬

‫أما الصورة الثانية التى تعبر عن خروج آتوم من مياه األزل فهى قيامه بتحرير نفسه من بين‬

‫التواءات جسد الثعبان األزلى التى تحيط به من كل جانب ‪.‬‬

‫و لكى يستطيع آتوم أن يحرر نفسه عليه أن يصارع الثعبان األزلى و يذبحه و فى هذه الحالة يتخذ‬

‫آتوم هيئة قط أو نمس ‪.‬‬

‫يصور المشهد التالى آتوم على هيئة قط ‪ .‬و بينما يقوم القط آتوم بذبح الثعبان األزلى تنمو شجرة‬

‫خارج التواءات جسد الثعبان ‪ .‬هذه الشجرة هى شجرة اليشد ‪ ,‬و هى رمز الشجرة الكونية التى‬

‫ينبثق العالم من بين فروعها ‪.‬‬

‫‪- 68 -‬‬
‫آتوم على هيئة قط هليوبوليس ‪ ,‬يذبح الثعبان األزلى‬

‫( من احدى البرديات التى تعود لعصر الدولة الحديثه )‬

‫يتزامن انبثاق العالم من بين أفرع الشجرة الكونية مع حدث آخر ‪ ,‬و هو نمو أعواد البوص عند‬

‫أطراف التل األزلى ‪ ,‬حيث تنغرس جذور أعواد البوص فى المياه األزلية و األرض األزلية‬

‫و ترتفع الى أعلى ‪ ,‬ثم يخرج طائر النور من وسط الظلمات ناشرا جناحيه و يحط فوق أعواد‬

‫البوص ‪ .‬هذا الطائر الذى يأتى بالنور من قلب الظلمة هو الصورة األزلية ل "رع" ‪ ,‬رب النور ‪.‬‬

‫تقول روايات أخرى أن طائر النور يحط فوق حجر ال "بن بن" ‪ ,‬بدال من البوص ‪.‬‬

‫و كلمة "بن بن" فى اللغة المصرية القديمة تعنى الحجر الذى سال (من جسد آتوم) ‪.‬‬

‫فى عصر الدولة القديمة ‪ ,‬كان قدماء المصريين يرفعون حجرا هرمى أو مخروطى الشكل فوق‬

‫عامود وسط فناء المعبد الرئيسى بمدينة هليوبوليس ليكون رمزا مقدسا ل "آتوم – رع" ‪.‬‬

‫فى الشكل التالى صور الفنان المصرى طائر النور و هو يحط فوق أعواد البوص التى نمت فوق‬

‫أول أرض ارتفعت من مياه األزل ‪.‬‬

‫‪- 69 -‬‬
‫طائر النور "رع" يحط فوق أعواد البوص التى تنمو فوق التل األزلى الهرمى الشكل‬

‫( من بردية "آنحاى" ‪ ,‬أسرة ‪ , 22‬دولة حديثه )‬

‫ان ما تصفه النصوص الدينية المصرية هو تجلى آتوم للوجود عبر مرحلتين ‪.‬‬

‫المرحلة األولى هى صورة أول شكل صلب يمكن تمييزه وسط مياه األزل السائلة التى تهيمن عليها‬

‫العشوائية ‪ ,‬أو ظهور أول تعريف وسط محيط المتناهى ال يمكن فيه تعريف أو تحديد أى شئ ‪.‬‬

‫و المرحلة الثانية هى سطوع النور وسط ظلمة الالوجود ‪.‬‬

‫و كما تعيد الطبيعة تكرار ظهور التل األزلى من بين مياه األزل كل عام فى صورة انحسار مياه‬

‫الفيضان عن أرض مصر ‪ ,‬كذلك كان حدث خروج النور من قلب الظلمة يعاد كل صباح فى‬

‫صورة شروق الشمس و ميالد النور بعد ظلمة الليل ‪.‬‬

‫يعبر الجعران "خبرى" عن تجلى آتوم للوجود سواء فى صورة ميالد النور من قلب الظلمة أو فى‬

‫صورة بروز األرض وسط المحيط األزلى ‪.‬‬

‫يرمز "خبرى" بشكل خاص لظهور أول خيط نور من قلب الظلمة ‪ ,‬و لذلك فهو يرتبط ب "رع" ‪,‬‬

‫رب النور و العقل األسمى الذى يتجلى فى نور الشمس ‪.‬‬

‫و كما يرتدى آتوم عباءة "خبرى" و يتخذ هيئته لحظة مجيئه للوجود ‪ ,‬كذلك يرتدى أيضا عباءة‬

‫"رع" و يظهر فى صورته ‪ .‬على سبيل المثال ‪ ,‬يقول أحد نصوص كتاب الخروج الى النهار ‪-:‬‬

‫‪- 70 -‬‬
‫*** أنا آتوم ‪ ...‬روح "رع" المقدسة‪ /‬االلهية ‪ ,‬التى انبثقت من "نون" ‪ ...‬أتيت للوجود من ذاتى ‪,‬‬

‫و خلقت نفسى بنفسى وسط "نون" ‪ ,‬فكان اسمى "خبرى" ***‬

‫و لذلك كان آلتوم هوية ثالثية ‪ ,‬فهو "آتوم ‪ -‬خبرى ‪ -‬رع" ‪.‬‬

‫نحن هنا أمام مفهوم ميتافيزيقى معقد يصف تحول الواحد الى ثالثة ( أو الى أربعة اذا أضفنا‬

‫"نون" )‪ ,‬و هو مفهوم يصعب اخضاعه للتحليل المنطقى ‪.‬‬

‫من الصعب أن نحلل عالقة كل كيان من هذه الكيانات االلهية مع غيره بشكل عقالنى ‪ ,‬على سبيل‬

‫المثال العالقة بين نون و آتوم ‪ ,‬أو بين خبرى و رع ‪ ,‬أو بين رع و نون ‪ ,‬و هكذا ‪.‬‬

‫و اذا أخضعنا العالقة بين هذه المفاهيم للتحليل المنطقى ‪ ,‬فسوف نبتعد عن روح الحضارة المصرية‬

‫القديمة و عن الطريقة التى كان يفكر بها المصرى القديم بدال من أن نقترب منها ‪.‬‬

‫ان المفاهيم التى يدور حولها علم الفيزياء الكونية فى مصر القديمة هى مفاهيم بعيدة تماما عن‬

‫الفيزياء المادية التى يدور حولها العلم الحديث ‪ ,‬بحيث اذا أخضعنا تلك العلوم القديمة للنظام‬

‫المنطقى الذى نعرفه فسنفقد المعنى و المغزى الذى أراد قدماء المصريين التعبير عنه ‪.‬‬

‫لكى نفهم رموز الحضارة المصرية القديمة علينا أن نتبنى طريقة تفكير أقرب الى روح الطبيعة‬

‫بحيث تتدفق األفكار بمرونة داخل بعضها البعض فى عالقة احتواء (مثل هولوغراف) بدال من أن‬

‫يقف كل منها على حدة فى وجه غيره من األفكار ‪.‬‬

‫ان نون هى آتوم ‪ ,‬و آتوم هو رع ‪ ,‬و "آتوم رع" هو نون ‪ ,‬و مع ذلك يمكننا أن نميز نون عن‬

‫آتوم ‪.‬‬

‫كان آتوم كامنا داخل نون و لكنه فى نفس الوقت يحمل صفات و قدرات تميزه عن نون ‪ ,‬و هو ما‬

‫جعله قادرا على تمييز نفسه و هو ما زال داخل نون ‪ .‬هذ التمييز هو الذى جعل خروج آتوم من‬

‫مياه األزل ممكنا و بالتالى أدى الى خروج الخلق كله للوجود ‪.‬‬

‫و فى اللحظة التى قام فيها آتوم بتعريف ذاته و تمييزها وسط مياه األزل ‪ ,‬تحرك و أتى للوجود‬

‫فصار هو "خبرى" ‪ ,‬ثم اكتمل تجلى خبرى بعد أن أتى للوجود فصار هو "رع" ‪.‬‬

‫‪- 71 -‬‬
‫يمكننا اذن أن نقول أن "رع" هو المرحلة الرابعة و األخيرة من تجلى الواحد أو العقل األسمى ‪,‬‬

‫الذى بدأ من نون و انتهى ب "رع" مرورا بآتوم و خبرى ‪.‬‬

‫و مع ذلك فقد كان "رع" حاضرا و فعاال خالل كل مراحل تجليه للوجود ‪.‬‬

‫يصف النص التالى من كتاب الخروج الى النهار (فصل رقم ‪ )07‬العالقة المحيرة بين الكيانات‬

‫االلهية األربعة – نون ‪ /‬آتوم ‪ /‬خبرى ‪ /‬رع – بهذه العبارات ‪-:‬‬

‫*** أنا آتوم فى تجليه و مجيئه للوجود ‪ ...‬أنا الواحد ‪ ...‬أتيت للوجود داخل نون (مياه األزل) ‪,‬‬

‫فكنت "خبرى"‪ ...‬و أنا "رع" فى اطاللته على العالم فى الزمن األول ‪ ..‬أنا االله العظيم الذى أتى‬

‫للوجود من ذاته و خلق نفسه بنفسه ‪ ,‬من داخل "نون" ‪ ,‬و هو الجوهر (األب) الذى انبثقت منه‬

‫الكيانات االلهية ***‬

‫يعتبر هذا النص من أهم النصوص التى وصفت العالقة بين الكيانات االلهية األربعة و هو جدير‬

‫بالتأمل ‪.‬‬

‫نحن هنا بصدد مفاهيم ميتافيزيقية ماورائية عبر عنها النص بلغة األسطورة ‪ ,‬حيث تحول العقل‬

‫االسمى ‪ /‬الواحد الى أربعة ( نون ‪ /‬آتوم ‪ /‬خبرى ‪ /‬رع) و قد أعد المشهد لظهور هذه الكيانات أو‬

‫التجليات االلهية و مجيئها للوجود ‪.‬‬

‫يوصف آتوم بأنه يتوق للتعبير عن قدراته الخالقة ‪.‬‬

‫ان التعبير عن القدرة الالمتناهية على الخلق و االبداع هو ركيزة أساسية فى هوية آتوم ‪.‬‬

‫آتوم هو الخالق الذى يسكب جوهره فى جميع الخالئق ‪.‬‬

‫جاء فى متون األهرام على لسان آتوم ‪-:‬‬

‫*** أنا الذى أتى للوجود على هيئة آتوم ‪ ...‬فى هليوبوليس انتصب عضوى الذكرى ‪ ,‬فأمسكت به‬

‫و حين بلغت حالة من النشوة ‪ ,‬خلقت التوأم "شو" و "تفنوت" ***‬

‫تعبر فكرة االستمناء عن طبيعة آتوم الخنثى ‪ ,‬فهو ليس بذكر و ال أنثى ‪ ,‬و انما هو الكل ‪ /‬الكامل ‪.‬‬

‫يوصف آتوم بأنه "هو ‪ -‬هى" الذى يمكنه أن يخصب و فى نفس الوقت أيضا يحمل و يلد ‪.‬‬

‫‪- 72 -‬‬
‫بعبارة أخرى ‪ ,‬ان آلتوم طبيعة مزدوجة تحوى كال من الذكر و األنثى معا ‪.‬‬

‫أما آتوم نفسه فيتواجد فى صورة غير مزدوجة ‪ ,‬ألنه يعبر عن مبدأ الوحدانية ‪.‬‬

‫تزامن االستمناء مع فعل آخر و هو البصق و العطس ‪.‬‬

‫جاء فى متون األهرام هذه العبارات التى تخاطب آتوم قائلة ‪-:‬‬

‫*** عطست فأتى "شو للوجود" ‪ ...‬و بصقت فأتت "تفنوت" للوجود ‪ ...‬ثم وضعت ذراعيك حولهما‬

‫على هيئة عالمة ال "كا" (طاقة الحياة) لتسرى فيهما كاءك ***‬

‫و كل فعل من هذه األفعال (االستمناء و البصق أو العطس) هو مرحلة من مراحل مجئ آتوم‬

‫للوجود على هيئة خبرى ‪.‬‬

‫نحن هنا بصدد فعل من أفعال الخلق ‪ ,‬و ليس مجرد تمييز أو تعريف للذات كما حدث من قبل داخل‬

‫مياه األزل ‪ .‬أى أن الخلق بدأ بظهور التميز و التنوع وسط محيط أزلى ال يمكن فيه تمييز شئ عن‬

‫آخر ‪ ,‬ثم تطور الى ظهور كيانات الهية مستقلة بذاتها عن المصدر و لكنها فى نفس الوقت ترتبط به‬

‫فى عالقة احتواء ‪ ,‬حيث يحتوى "األصل ‪ /‬الواحد" كل أشكال التعدد التى انبثقت منه لتعبر عن‬

‫قدرته الالمحدودة على الخلق ‪.‬‬

‫انبثق كل من "شو" و "تفنوت" من "آتوم" و أصبحا كيانات مستقلة بذاتها ‪ ,‬ثم وضع آتوم ذراعيه‬

‫حولهما على هيئة عالمة ال "كا" ‪ ,‬لكى تسرى فيهما كاءه ‪ ,‬أى لتسرى طاقة الحياة من خاللهما ‪.‬‬

‫ان "شو" و "تفنوت" لم ينفصال عن آتوم بعد انبثاقهما منه ‪ ,‬ألن منهما يستمد وجوده من آتوم الذى‬

‫يمنحه طاقة الحياة "كا"‪.‬‬

‫ان انبثاق "شو" و "تفنوت" من "آتوم" ال يعنى أن كل منهما يستمد وجوده من ذاته ‪.‬‬

‫و اذا استخدمنا لغة العصور الوسطى األكاديمية ‪ ,‬يمكننا أن نقول أن "شو" و "تفنوت" هما جوهر‬

‫يتميز بذاته و لكنه فى نفس الوقت يعتمد فى وجوده على آتوم ‪.‬‬

‫و بعبارة أخرى ان عالقة "شو" و "تفنوت" بآتوم أشبه بعالقة المالئكه ب "يهوه" كما وصفها‬

‫القديس توما األكوينى ‪.‬‬

‫‪- 73 -‬‬
‫و بوجه عام ‪ ,‬تصور النصوص الدينية المصرية القديمة العالقة بين الكيانات االلهية بأنها أشبه‬

‫بالعالقة بين أعضاء الجسد الواحد التى يحكمها عقل واحد هو العقل األسمى ‪.‬‬

‫على سبيل المثال ‪ ,‬نقرأ فى أحد نصوص التوابيت (نص رقم ‪ )31‬هذه العبارات التى تصف االله‬

‫الخالق و هو فى حالة تأمل فى بدء الخليقة ‪-:‬‬

‫*** يقول آتوم لهاوية نون ‪ :‬أنا فى حالة سكون و تأمل ‪ ,‬و تنتابنى حالة من الوهن و الضعف ‪...‬‬

‫لم أصور البشر بعد ‪ ...‬لو كانت األرض موجودة فى ذلك الزمن ألراحت قلبى و منحته البهجة‬

‫و أثلجت صدرى ‪ ...‬دعنا نجمع أجزاء الجسد لكى يتشكل و يأتى للوجود ‪ ,‬و لنضع حدا لذلك‬

‫الوهن العظيم ***‬

‫على آتوم أن يجمع أجزاء جسده الواهن (و الذى ترمز له الكيانات االلهية) أوال ‪ ,‬لكى تأتى األرض‬

‫(العالم المادى) للوجود ‪ ,‬و لكى يأتى البشر و كل المخلوقات للوجود ‪.‬‬

‫فقط عند جمع أوصال آتوم الممزقة ‪ ,‬يمكن أن تتشكل األرض و تأتى للوجود ‪.‬‬

‫فى النص السابق نجد تأكيد على فكرة مفادها أن السبب األول وراء خلق الكون هو التعبير عن‬

‫قدرات آتوم الالمحدودة على الخلق ‪.‬‬

‫تسعى الذات االلهية الخالقة دائما الى التعبير عن نفسها حيث تتطور و تخرج من حالتها األصلية‬

‫حين كان الواحد موجودا و ال موجود سواه ‪.‬‬

‫فقط عند خلق عوالم و أكوان جديدة تجد الذات االلهية بهجتها ‪.‬‬

‫يعتبر خروج "شو" و "تفنوت" للوجود محطة رئيسية فى رحلة نشأة الكون و تطوره ‪.‬‬

‫يمثل "شو" الهواء و الفضاء ‪.‬‬

‫جاء فى متون التوابيت (نص رقم ‪ )245‬على لسان "شو" ‪-:‬‬

‫*** أنا ذلك الفضاء الذى نشأ وسط مياه األزل ‪ ..‬لقد أتيت للوجود و نشأت داخل تلك المياه ‪...‬‬

‫و لكنى لست جزءا من الهاوية المظلمة ***‬

‫"شو" هو الفضاء ‪ ,‬و لكنه ليس الفضاء الذى نعرفه ‪ ,‬ألن "شو" أتى للوجود قبل أن يأتى للوجود‬

‫‪- 74 -‬‬
‫الكون الذى نعرفه بما فيه من فضاء ‪.‬‬

‫يمكننا أن ننظر الى "شو" على أنه المبدأ الكونى أو القوة الكونية (أو القدرة االلهية) التى عن‬

‫طريقها تنبثق األشكال و الصور من محيط الالشكل األزلى الذى تتواجد فيه األشياء فى حالة‬

‫انصهار و وحدة ‪.‬‬

‫"شو" هو القوة الكونية التى يعبر من خاللها آتوم عن مشيئته و قدرته على خلق الكيانات االلهية‬

‫و الكون المتجسد ‪.‬‬

‫أما "تفنوت" ‪ ,‬فقد ارتبطت فى الفكر الدينى المصرى بالرطوبة أو المياه و بوجه خاص مياه‬

‫المشيمة أو مياه رحم األم الكونية الحبلى بامكانيات الخلق ‪.‬‬

‫تكمن أهمية "تفنوت" و دورها فى منظومة الخلق فى أنها هى رفيقة "شو" األنثى ‪ ,‬التى تناقض‬

‫طبيعتها طبيعته و لكنها فى نفس الوقت تكمل عمله ‪.‬‬

‫يمثل آتوم مبدأ الوحدانية األزلى ‪ ,‬الذى انبثق منه مبدأ االزدواجية عند بدء الخليقة ‪.‬‬

‫ان ظهور "شو" و "تفنوت" يمثل انبثاق مبدأ االزدواجية ‪ -‬و الذى يتجلى بشكل خاص فى العالقة‬

‫بين الذكر و األنثى ‪ -‬من الوحدة األزلية ‪.‬‬

‫أتى "شو" و "تفنوت" للوجود ككيانات كل منهما مستقل بذاته عن اآلخر و عن األصل الواحد الذى‬

‫انبثق منه ‪ ,‬و لكن هذا االستقالل و التميز ال يعنى االنفصال ‪.‬‬

‫و هكذا صار الواحد ثالثة ‪.‬‬

‫تشرح لنا بردية "نسى ‪ -‬آمسو" (‪ )Nesi Amsu‬هذا المبدأ العددى و دوره فى نشأة الكون بهذه‬

‫العبارات ‪-:‬‬

‫*** أخرجت من ذاتى "شو" و "تفنوت" ‪ ...‬و بعد أن كنت واحدا صرت ثالثه ***‬

‫و هكذا تعيد المرحلة األولى من مراحل الخلق الحدث األزلى الذى قام فيه آتوم بتعريف ذاته‬

‫داخل المحيط األزلى ‪.‬‬

‫فكما ميز آتوم نفسه عن نون فصار الواحد اثنان و فى نفس الوقت ظهر للوجود مبدأ جديد هو‬

‫‪- 75 -‬‬
‫مبدأ الصيرورة و التحول "خبرى" ‪ ,‬كذلك أخرج الواحد "آتوم" من ذاته أول زوج من األقطاب‬

‫يعبر عن مبدأ االزدواجية (شو ‪ +‬تفنوت) و هى ازدواجية قائمة على اختالف الجنس الذى تكمن‬

‫فيه القدرة على خلق حياة جديدة من خالل التوالد بحيث يتجلى الخلق للوجود على هيئة أجيال تشبه‬

‫شجرة العائلة ‪.‬‬

‫آتوم‬ ‫نون‬

‫↘↙‬ ‫↘↙‬

‫تفنوت‬ ‫شو‬ ‫خبرى‬ ‫آتوم‬

‫من خالل االتحاد الجنسى بين "شو" و "تفنوت" يولد جيل جديد من الكيانات االلهية ‪.‬‬

‫و هكذا ننتقل الى مرحلة ثالثه هامة من مراحل نشأة الكون ‪.‬‬

‫فالمرحلة األولى هى مرحلة تعريف الذات االلهية و تمييزها عن المحيط األزلى الذى يحوى كل من‬

‫الخالق و المخلوق (الذى سيأتى للوجود) ‪ ,‬و هم جميعا فى حالة الوحدة األزلية ‪.‬‬

‫و المرحلة الثانية هى مرحلة انبثاق مبدأ االزدواجية (شو ‪ +‬تفنوت ) من مبدأ الوحدانية (آتوم)‬

‫و استقالل كل منهما بذاته عن اآلخرين ‪ ,‬و لكن بدون أن يحدث انفصال ‪.‬‬

‫أما المرحلة الثالثة فهى مرحلة الخلق من خالل مبدأ االزدواجية الذى يمثله "شو" و "تفنوت" ‪.‬‬

‫و منذ ذلك الحين تأخذ عملية نشأة الكون و تطوره منحى جديدا و تتجه بعيدا عن العقل األسمى ‪,‬‬

‫و هى اللحظة التى يتوارى فيها آتوم خلف الستار بعد أن أدى دوره ليصير فى الخلفية ‪.‬‬

‫من ذلك التفاعل الجنسى بين "شو" و "تفنوت" يولد الجيل التالى من الخلق ‪ ,‬و هو عبارة عن زوج‬

‫آخر من الكيانات االلهية ‪ ,‬و هم جب (رب األرض) و نوت (ربة السماء) ‪.‬‬

‫و هنا علينا أن ننتبه الى أن مجئ "جب" و "نوت" للوجود ال يعنى خلق السماء و األرض على‬

‫المستوى المادى ‪ ,‬ألن ظهور ظهور جب و نوت ككيانات الهية سابق على خلق السماء و األرض‬

‫‪- 76 -‬‬
‫بشكلها الذى نعرفه اآلن ‪.‬‬

‫ولد "جب" و "نوت" معا يعانق أحدهما اآلخر ‪.‬‬

‫كانت األرض و السماء فى األصل كيانا واحدا ‪ ,‬ال يفصل بينهما أى فضاء ‪ .‬و علينا مرة أخرى أن‬

‫ننتبه الى أن هذه الحالة من االندماج و الوحدة بين السماء و األرض كانت سابقة على خلق العالم‬

‫الذى نعرفه ‪.‬‬

‫ان الوحدة األزلية بين جب و نوت و انصهارهما معا فى كيان واحد يصعب الفصل بين شقيه هو‬

‫انعكاس للوحدة التى تميز العقل األسمى ‪.‬‬

‫بعبارة أخرى ان اتحاد جب و نوت معا هو المقابل ل "رع" ‪.‬‬

‫نون‬ ‫آتوم‬

‫↘↙‬ ‫↘↙‬

‫خبرى‬ ‫آتوم‬ ‫تفنوت‬ ‫شو‬

‫↙↘‬ ‫↙↘‬

‫رع‬ ‫جب ‪ +‬نوت‬

‫و كما حدث فى المرحلة األولى من الخلق حين صار الواحد أربعة ‪ ,‬أعيد تكرار نفس المبدأ الكونى‬

‫على مستوى آخر فى مرحلة جديدة من مراحل نشأة الكون حين قام آتوم باالستمناء فأخرج أول توأم‬

‫(شو و تفنوت) من ذاته عن طريق االنبثاق ‪ ,‬ثم تلى ذلك خروج جيل آخر من الكيانات االلهية (جب‬

‫و نوت) عن طريق التزاوج ‪ .‬و بذلك أصبح المشهد مهيئا للمرحلة التالية ‪ ,‬مرحلة خلق العالم‬

‫المتجسد ‪ ,‬و هو حدث لم يقع من خالل التزاوج و انما من خالل فعل محدد قام به "شو" ‪ ,‬و هو‬

‫فصل السماء عن األرض ‪.‬‬

‫فى المشهد التالى صور الفنان المصرى القديم "شو" و هو يقف على يمين جسد نوت الذى ينحنى‬

‫‪- 77 -‬‬
‫فوق جب رافعا يديه الى أعلى ‪ ,‬و بذلك يفصل بين نوت و جب ‪.‬‬

‫انفصال "جب" عن "نوت"‬

‫( من بردية "تامنيو" ‪ ,‬أسرة ‪ , 21‬دولة حديثه )‬

‫تختلف هذه الصورة عن الصور السابقة التى تعبر عن صيرورة الواحد الى اثنين ‪.‬‬

‫فى الصور التى تعبر عن تعريف آتوم لذاته و تمييزها عن مياه األزل يظهر آتوم و هو يبرز من‬

‫المياه على هيئة تل عالى ‪ ,‬مبرهنا بذلك على قدرته الالمتناهية على الخلق و بذلك يعرف نفسه بأنه‬

‫هو العقل األسمى ‪.‬‬

‫و فى المشهد الذى يصور هزيمة الثعبان األزلى ‪ ,‬هناك شعور بنشوة انتصار آتوم الدموى على‬

‫قوى الركود و العشوائية الكامنه فى مياه األزل ‪.‬‬

‫فى المرحلة التالية يتحول الواحد الى اثنين ‪ ,‬فيخلق آتوم من ذاته التوأم "شو" و "تفنوت" عن طريق‬

‫االستمناء أو العطس و البصق ‪ .‬و هى تعبيرات مختلفة نستشف منها (أو على األقل من بعضها) أن‬

‫فعل انجاب "شو" و "تفنوت" كان مصحوبا بالنشوة و البهجة ‪.‬‬

‫أما فى المرحلة التالية التى يقوم فيها "شو" بفضل نوت عن جب ‪ ,‬فنحن هنا أمام عملية انفصال‬

‫للواحد (جب – نوت) ليصبح اثنين ‪ ,‬و ذلك بواسطة قوة خارجية هى "شو" ‪.‬‬

‫‪- 78 -‬‬
‫و بعكس األحداث السابقة التى كانت مصحوبة بالنشوة و البهجة ‪ ,‬نجد أن حدث انفصال "نوت" عن‬

‫"جب" مصحوب باأللم ‪ .‬فقد وقع حدث االنفصال رغما عن ارادة العاشقين (جب و نوت) ‪ ,‬و اذا‬

‫ترك األمر لرغبتهما ‪ ,‬لظال فى عناق الى األبد ‪.‬‬

‫من خالل فصل "نوت" عن "جب" بدأ عالم الروح أخيرا يدخل حيز التجسد ‪.‬‬

‫برفع السماء فوق األرض ‪ ,‬و باتخاذ "شو" موقعه بينهما ليفصلهما أصبحت الظروف مهيئة‬

‫لألرواح لتتخذ لنفسها أجسادا تتجلى من خاللها فى عالم الظاهر ‪.‬‬

‫فى هذه اللحظة بدأت الكيانات االلهية (التى كانت كامنة داخل كيان "جب ‪ +‬نوت" الواحد) تكتسب‬

‫هيئة ظاهرة أو جسد خارجى ‪ ,‬فاتخذت صور النجوم التى ترصع جسد نوت ‪.‬‬

‫جاء فى متون األهرام (نص رقم ‪-: )735‬‬

‫*** يا نوت ‪ ,‬لقد احتضنت كل كيان الهى يمتلك قاربا (مدارا فلكيا) ‪ ,‬لكى يبحر فوق جسدك ***‬

‫احتل تجلى "رع" فى هيئة الشمس أهمية خاصة فى أساطير الخلق المصرية ‪ .‬تخيل المصرى القديم‬

‫مجئ الشمس و تجليها للوجود فى صورة طائر النور الذى يخرج من بيضة وضتعها أوزة كونية‬

‫يطلق عليها لقب "الصياح العظيم" ‪ ,‬و هو من ألقاب "جب" ‪.‬‬

‫تولد الشمس من بيضة كونية على هيئة طائر ينقر قشرة البيضة و يكسرها ليخرج الى الوجود ‪.‬‬

‫و هنا تطالعنا مرة أخرى صورة تجلى عالم الروح الباطن و تجسده فى عالم الظاهر من خالل‬

‫انفصال أو انقسام ما كان فى األصل واحدا ‪.‬‬

‫هناك شعور بالتمزق و التفتت يصاحب تجلى الخلق و تجسده فى عالم المادة ‪.‬‬

‫ان صورة انفصال "نوت" عن "جب" باستخدام العنف تعبر عن فكرة والدة الخلق من خالل األلم‬

‫الذى يشبه ألم المخاض ‪ .‬فاأللم و المعاناة هما شرط الحياة فى العالم المادى ‪.‬‬

‫يصور هذا المشهد العالم الذى بدأ للتو فى التجسد ‪ .‬و فيه يظهر "آتوم ‪ -‬رع" و هو يبحر فى قاربه‬

‫السماوى فوق جسد نوت ‪.‬‬

‫‪- 79 -‬‬
‫الكون المتجسد لحظة مجيئه للوجود‬

‫( من احدى البرديات التى تعود لعصر الدولة الحديثه )‬

‫على الجانب األيمن للصورة يستقبل ال "دوات" (العالم السفلى) قارب "رع" بأذرع مفتوحة ‪.‬‬

‫و برغم أن "آتوم ‪ -‬رع" هو خالق كل الكيانات االلهية ‪ ,‬اال أن نوت هى األم الكونية لكل ما‬

‫يتجلى فى عالم التجسد ‪.‬‬

‫و اذا كان "رع" يتجلى فى الشمس ‪ ,‬فان ابنته (أو بمعنى أدق حفيدته) نوت هى فى نفس الوقت‬

‫أمه التى تلده من جديد كل يوم ‪.‬‬

‫يتزامن مجئ األجرام السماوية للوجود مع مجئ األرض للوجود ‪.‬‬

‫و منذ تلك اللحظة تصبح األرض هى مسرح كل التطورات الروحانية التالية ‪.‬‬

‫فوق مسرح األرض تبدأ أحداث الدراما الكونية بين الكيانات االلهية ‪ ,‬و هى دراما تحكمها قوانين‬

‫الزمان و المكان التى نعرفها ‪.‬‬

‫من انفصال جب و نوت أتى للوجود أربعة أطفال ؛ "أوزوريس ‪ /‬ايزيس ‪ /‬ست ‪ /‬نفتيس" و هم‬

‫كيانات الهية و فى نفس الوقت قوى كونية ‪ ,‬حيث يهيمن كل منهم على منطقة فى الكون ‪.‬‬

‫‪- 80 -‬‬
‫ارتبط أوزير بشكل خاص بمجموعة نجوم أوريون و بالقمر ‪ ,‬و ارتبطت ايزيس بنجم زيريوس‬

‫(الشعرى) و ارتبط "ست" بمجموعة نجوم الدب األكبر و التى تتخذ شكل فخذ ثور ‪ ,‬أما نفتيس‬

‫فارتبطت بذلك الجزء الخفى من السماء الذى يقع تحت خط األفق ‪.‬‬

‫و كل من هذه الكيانات االلهية يعتبر وسيط أو قناة تنتقل عبرها الطاقات الكونية من مستوى الى‬

‫مستوى آخر ‪ .‬و ألن االنسان المعاصر ينظر للكون على أنه يقع خارج عالم األرض ‪ ,‬لذلك فهو ال‬

‫يعى أن المفاهيم المتناقضة فى عالمنا األرضى (كالخير و الشر ‪ ,‬الخصوبة و العقم ‪ ,‬الكراهية‬

‫و الحب ‪ ,‬الصراع و التصالح ‪ ,‬الخ) هى فى األصل مفاهيم أو مبادئ كونية ‪.‬‬

‫كان المصرى القديم يرى أن كل ما يحدث على األرض ما هو اال صورة أو انعكاس ألحد القوى‬

‫الكونية ‪.‬‬

‫تدور نظرية هليوبوليس لنشأة الكون حول هذه القوى أو المبادئ الكونية الماورائية التى تعتبر هى‬

‫الصور األولية التى تحاكيها كل الصور المادية فى عالمنا ‪.‬‬

‫يركز تاسوع هليوبوليس بشكل كامل على عالم الكيانات االلهية ‪ ,‬و يبحث فى سؤال جوهرى ‪,‬‬

‫و هو كيف انبثقت الكيانات االلهية المتعددة من الكيان االلهى الواحد ؟‬

‫أو بعبارة أخرى ‪ ,‬يبحث تاسوع هليوبوليس فى كيفية نشوء المتعدد من الواحد ‪.‬‬

‫بانبثاق الكيانات االلهية التسعة من الواحد اكتمل الخلق كما جاء فى الهوت هليوبوليس ‪.‬‬

‫و من وجهة نظر علم األعداد المقدس ‪ ,‬يعتبر رقم تسعة هو المنتهى الذى ال يمكن للخلق أن‬

‫يتجاوزه ‪ ,‬و لذلك فببلوغ هذا العدد يعود كل شئ مرة أخرى الى الواحد الذى انبثق منه ‪.‬‬

‫و من األشياء الجديرة باالنتباه أنه بظهور حورس (ابن ايزيس و أوزوريس) ارتفع عدد الكيانات‬

‫االلهية فى تاسوع هليوبوليس ليصير عشرة (بدال من تسعة) ‪ ,‬و هو الرقم المقدس الذى ارتبط دائما‬

‫بحورس ‪.‬‬

‫يرمز رقم عشرة للعودة مرة أخرى الى نقطة البداية ‪.‬‬

‫كان قدماء المصريين يكتبون رقم واحد على شكل خط مستقيم فى وضع رأسى ‪ .‬أما رقم عشرة فهو‬
‫نفسه رقم واحد ‪ ,‬و لكنه انحنى ليعود مرة أخرى الى نقطة البدء ‪.‬‬

‫‪- 81 -‬‬
‫الى اليسار ‪ :‬رقم واحد بالهيروغليفية‬

‫الى اليمين ‪ :‬رقم عشرة بالهيروغليفية‬

‫كان حورس فى مدرسة هليوبوليس للعلوم االلهية هو عاشر التاسوع ‪ ,‬فهو الذى أعاد التاسوع مرة‬

‫أخرى الى الواحد ‪.‬‬

‫بعبارة أخرى يعتبر حورس انعكاس أو صورة مصغرة (‪ )microcosm‬من آتوم ‪.‬‬

‫حورس هو الكيان االلهى الذى يمكن من خالله العودة مرة أخرى الى الواحد ‪.‬‬

‫هرموبوليس (األشمونيين) ‪-:‬‬

‫نشأت نظرية التاسوع فى مدينة هليوبوليس التى كانت مركزا لتقديس "رع" و هو العقل األسمى‬

‫الذى يتجلى فى نور الشمس ‪.‬‬

‫عبرت نظرية التاسوع عن العلوم االلهية من وجهة نظر كهنة هليوبوليس التى رأت فى "رع"‬

‫صورة من "آتوم" الذى تجلى بعد أن كان محتجبا و الذى بدأ الخلق بأن أتى للوجود ‪ ,‬فأتى الخلق‬

‫للوجود ‪.‬‬

‫أما "هرموبوليس" (األشمونيين ‪ /‬محافظة المنيا) فهى مركز تقديس "تحوت" الذى ارتبط بالقمر ‪.‬‬

‫ان عالقة تحوت ب "رع" أشبه بعالقة القمر بالشمس ‪ ,‬حيث يتجلى "رع" فى نور الشمس بينما‬

‫يتجلى تحوت فى نور القمر ‪.‬‬

‫‪- 82 -‬‬
‫ال يوجد مصدر واحد يشرح نظرية هرموبوليس لنشأة الكون ‪ ,‬و انما هناك نصوص متفرقة بمتون‬
‫التوابيت ‪.‬‬

‫و من المالحظ أن هذه المصادر المتفرقة تعكس بشكل واضح الفرق بين "تحوت" و "رع" ‪.‬‬

‫تحوت هو الذى قام بتفعيل و تنفيذ خطة الخلق ‪ ,‬و لذلك يمكن أن نطلق عليه (‪ , )demiurge‬أى‬

‫المهندس التنفيذى ‪ ,‬اذا جاز التعبير ‪.‬‬

‫من األشكال التى اتخذها تحوت فى الفلسفة الدينية المصرية هيئة طائر األيبيس (طائر أبو منجل) ‪.‬‬

‫و يقال أن تحوت (فى هيئة طائر األيبيس) هو الذى نقر البيضة الكونية فى هرموبوليس فأتى الخلق‬

‫للوجود ‪.‬‬

‫تحوت فى هيئة طائر األيبيس (الى اليسار) ‪ ,‬و فى هيئة قرد البابون (الى اليمين)‬

‫( من برديات تعود لعصر الدولة الحديثه )‬

‫من ألقاب تحوت "رب القمر" و "رب العالم" ‪ ,‬و هى ألقاب تعبر عن هويته و صفاته ‪ ,‬و تعكس‬

‫الفرق بينه و بين "آتوم ‪ -‬رع" ‪ ,‬حيث يعبر كل منهما عن أحد جوانب األلوهية التى تختلف تماما‬

‫عن الجانب اآلخر ‪.‬‬

‫كان تحوت (بوصفه ربا للقمر) مسئوال عن تنظيم الكون و ضبط مقاييسه و أبعاده الهندسية ‪.‬‬

‫‪- 83 -‬‬
‫لذلك كان من ألقابه "الذى يعرف أبعاد السماء" و "الذى يحصى النجوم" و "الذى يحيط علما‬

‫بمقاييس األرض و بما فيها" و "الذى يقيس األرض" ‪.‬‬

‫و تحوت باللغة المصرية القديمة ينطق "تحوتى" و يعنى "الذى يحصى أو يقيس" ‪.‬‬

‫لذلك يمكننا أن ننظر الى تحوت باعتباره العقل الكونى ‪ ,‬و الذى أطلق عليه االغريق مصطلح‬

‫"لوجوس" (‪. )Logos‬‬

‫وصف الفيلسوف و المؤرخ و االغريقى بلوتارك تحوت بأنه أقرب الكيانات االلهية المصرية‬

‫الى مفهوم اللوجوس االغريقى ‪.‬‬

‫تحوت هو ذلك الجانب من العقل االلهى الذى يستقطب فيض الطاقة الروحانية فى صورتها األولية‬

‫و يعيد صياغتها طبقا لقوانين التناغم و الهارمونى و الهندسة المقدسة ‪ ,‬و هكذا يتجلى للوجود كون‬

‫يحكمه النظام ‪ .‬و لذلك كانت زوجة تحوت و رفيقته هى "ماعت" ‪ ,‬و هى الكيان االلهى الذى يعبر‬

‫عن النظام و االتزان و التناغم ‪.‬‬

‫و تحوت – مثله مثل ماعت – هو وسيط يقوم بنقل طاقة الحياة من العالم األسمى (عالم الروح)‬

‫و يعيد بثها طبقا لقوانين التناغم الكونى الى العوالم األدنى ‪.‬‬

‫يظهر تحوت فى الفن المصرى القديم أحيانا و هو يقوم بضبط الميزان الذى توزن به قلوب البشر‬

‫يوم الحساب ‪ .‬و فى هذه المشاهد يتخذ تحوت عادة هيئة قرد البابون ‪.‬‬

‫يصور المشهد التالى عملية وزن القلب ‪ ,‬حيث وضع قلب المتوفى فى كفة الميزان المجاورة لتحوت‬

‫فى مقابل تمثال لماعت فى الكفة المقابلة لكفة القلب ‪.‬‬

‫و بين كفتى الميزان يقف حيوان ميثولوجى يطلق عليه "عاممت" ‪ ,‬و هو الذى يلتهم القلوب التى‬

‫تثبت عملية الوزن أنها غير نقية ‪.‬‬

‫‪- 84 -‬‬
‫تحوت و ماعت أمام الميزان‬

‫( من بردية "قننا" ‪ ,‬من عصر الدولة الحديثه )‬

‫ان وقوف كل من تحوت و ماعت عند كفتى الميزان الذى يزن قلوب البشر يوم الحساب يعبر عن‬

‫دورهما األصلى فى وضع أسس االتزان و التناغم فى الكون ‪.‬‬

‫هذا االتزان الكونى هو الصورة األولية أو النموذج االلهى الذى يجب على االنسان أن يضبط عليه‬

‫أفعاله لتأتى متناغمه مع النظام الكونى ‪.‬‬

‫ارتبط تحوت بماعت ألن كل منهما يكمل عمل اآلخر ‪ .‬لذلك يظهر تحوت فى كثير من األحيان‬

‫وهو يقوم برسم ريشة نعامة ‪ ,‬و هى شعار ماعت و رمزها ‪.‬‬

‫و يعتبر المشهد التالى تعبيرا فنيا رائعا عن دور تحوت الهام و تفانيه فى تفعيل المبادئ و الصفات‬

‫التى ترمز لها الماعت ‪.‬‬

‫‪- 85 -‬‬
‫تحوت يرسم ريشة الماعت‬

‫( من بردية "تاوشريت" ‪ ,‬أسرة ‪ , 21‬دولة حديثه )‬

‫و من ألقاب تحوت أيضا "رب الكلمات االلهية ‪ /‬المقدسة" ‪.‬‬

‫تحوت هو العقل االلهى الذى يستخدم الصوت كأداة لتفعيل قدرته على الخلق ‪.‬‬

‫يقوم تحوت بتفعيل القدرة االلهية على الخلق من خالل الصوت ‪.‬‬

‫كتب عالم المصريات "جاستون ماسبيرو" واصفا تحوت بهذه العبارات ‪-:‬‬

‫*** اعتقد قدماء المصريين أن الكلمة المنطوقة هى أكثر قوى الخلق فاعلية ‪ ,‬فالكلمة بعد أن تخرج‬

‫من بين الشفاه ال تظل مجرد صوت و انما تتجسد فى كيان محسوس و فى أجساد تحركها طاقة‬

‫الحياة و تتجلى فى كيانات الهية تحيا و تخلق المزيد من أشكال الحياة ***‬

‫أتى الكون للوجود من خالل تحوت و الذى يمكن أن نصفه بأنه العقل الكونى الذى يطلق ذبذبات‬

‫الصوت التى تتجسد فى صور و أشكال ‪.‬‬

‫الصوت هو المادة الخام التى شكلت الكون و جعلته كائنا ‪ .‬و تحوت هو القدرة االلهية التى نطقت‬

‫ذلك الصوت ‪ .‬و لذلك كان تحوت هو رب السحر ‪ ,‬الذى يلعب فيه ترتيل الكلمات السحرية دورا‬

‫رئيسيا من خالل االنشاد و االبتهاالت ‪.‬‬

‫فقط حين يكون الصوت صوت الحق (الماعت) يصبح بمقدور الساحر أن يتحكم فى القوى‬
‫الماورائية فى الطبيعة ‪.‬‬

‫‪- 86 -‬‬
‫تحوت هو الكيان االلهى الذى يحكم قوى الخلق و يجعلها تتجلى فى أشكال و هيئات متناغمه ‪,‬‬

‫و بذلك تعكس المصدر الذى انبثقت منه و هو عالم الروح ‪.‬‬

‫وصفت النصوص الدينية المصرية القديمة تحوت بأنه قلب "رع" و لسانه ‪ ,‬حيث القلب هو رمز‬

‫الذكاء الكونى و االرادة و اللسان هو رمز القدرة على التعبير و على تفعيل االرادة ‪ .‬و هو ما يعنى‬

‫أن العالقة بين نظرية هليوبوليس و نظرية هرموبوليس لنشأة الكون لم تكن عالقة تنافس و انما هى‬

‫عالقة تكامل ‪ ,‬حيث تركز كل منهما على أحد جوانب القدرة االلهية ‪.‬‬

‫و كما رأينا فى الفقرة السابقة ‪ ,‬تركز الصور و الرموز المستخدمة فى أساطير هليوبوليس على‬

‫الينبوع الذى انبثق منه كل شئ ‪ ,‬و يوصف بأنه "مطلق ‪ /‬ال محدود ‪ /‬ال ينضب" ‪.‬‬

‫يحوى هذا الينبوع امكانيات للخلق ال حصر لها ‪.‬‬

‫ينبوع الخلق ليس فقط ممتلئ عن آخره و انما هو يفيض بما فيه من وفرة ‪ ,‬و من ذلك الفيضان‬

‫تتدفق الطاقة الخالقة فى صورة آتوم الذى يخلق من ذاته عن طريق القذف أو البصق أو العطس ‪.‬‬

‫رأى المصرى القديم فى صورة الشمس التى تنبثق منها طاقة الحياة و النور و الدفء بال انقطاع‬

‫رمزا لذلك الجانب من جوانب العقل األسمى الذى يختزل فى اسم "آتوم" (الكامل ‪ /‬الكل) ‪.‬‬

‫أما نظرية هرموبوليس لنشأة الكون ‪ ,‬فهى تركز على تحديد الالمحدود ‪ ,‬بمعنى اعادة توجيه الطاقة‬

‫الروحانية االلهية التى ليس لها شكل و ال حدود داخل قنوات معينة تعيد هيكلتها حسب قوانين‬

‫التناغم و التناسق المقدسة فى أشكال متجسدة ‪ .‬و هى عملية تقوم بشكل أساسى على استخدام‬

‫األعداد و األشكال الهندسية ‪.‬‬

‫يرمز القمر لذلك المبدأ من مبادئ األلوهية ‪.‬‬

‫تأمل المصرى القديم القمر فى زيادته و نقصانه ‪ ,‬فاعتقد أنه يقوم بتحجيم نور الشمس الذى يعكسه‬

‫على األرض فى دورته التى تستغرق شهرا ‪.‬‬

‫يقوم تحوت بمهمة مشابهة عندما يستقطب الطاقة الروحانية الالمحدودة بطبيعتها و يجعلها محدودة‬

‫داخل أشكال و صور ‪ .‬و من خالل عمل تحوت فى هندسة الطاقة الروحانية و اعادة تصميمها‬

‫‪- 87 -‬‬
‫يمكن للكيانات االلهية أن تقوم بدورها فى منظومة الخلق ‪.‬‬

‫و لذلك كان من ألقاب تحوت "الذى يضع الكيانات االلهية فى مكانها " ‪.‬‬

‫جاء فى ابتهال حور محب لتحوت ‪-:‬‬

‫*** التحيات لك يا تحوت ‪ ,‬يا رب القمر ‪ ...‬أيها الثور الذى يسكن هرموبوليس ‪ ...‬الذى يضع‬

‫الكيانات االلهية فى مكانها ‪ ...‬ال شئ يحدث دون علمك ***‬

‫تبدأ قصة الخلق فى هرموبوليس – مثلها مثل كل أساطير الخلق فى مصر القديمة – من "نون"‬

‫(مياه األزل) ‪ ,‬و هى حالة ما قبل الخلق أو الالوجود التى تشبه فى سيولتها المياه التى ال يمكن‬

‫تمييز أى شئ فيها عن اآلخر ‪.‬‬

‫يبدأ فعل الخلق األول فى نظرية هرموبوليس حين ينطق تحوت بالصوت األزلى أو الكلمة األزلية‬

‫الخالقة فيأتى للوجود أربعة أزواج من الكيانات االلهية داخل "نون" ‪ .‬صور الفنان المصرى القديم‬

‫الكيانات االلهية المذكرة برؤس ضفادع ‪ ,‬و الكيانات االلهية المؤنثه برؤس حيات ‪ ,‬كما فى هذا‬

‫المشهد المنقول من معبد فيلة ‪.‬‬

‫‪- 88 -‬‬
‫ثامون األشمونيين ( من معبد فيلة )‬

‫فى القسم العلوى من المشهد يقف بتاح فى الجانب األيمن فوق منصة الماعت ليشرف على قوى‬

‫الثامون أثناء عملها ‪ ,‬و فى القسم السفلى من المشهد يقف تحوت فى الجانب األيمن أيضا ليقوم بنفس‬

‫الدور ‪.‬‬

‫و ظهور قوى الثامون فى صورة حيوانات زاحفة (حيات) و برمائية (ضفادع) هو شئ جدير‬

‫بالتأمل ‪.‬‬

‫اعتقد قدماء المصريين أن هيئة الحيات و األفاعى هى أقدم األشكال و أكثرها تعبيرا عن الحالة‬

‫األزلية للوجود ‪ .‬أما الضفادع فقد كانت فى نظر قدماء المصريين رمزا لخروج الحياة من المياه بعد‬

‫‪- 89 -‬‬
‫تشكلها تحت سطحها ‪ .‬و ظهور الحيات و الضفادع معا فى المشهد السابق يعبر عن الحالة األزلية‬

‫للوجود ‪.‬‬

‫أتت قوى الثامون للوجود فى مدينة هرموبوليس (األشمونيين ‪ ,‬محافظة المنيا) ‪ ,‬و اسمها باللغة‬

‫المصرية القديمة هو "خمنو" (‪ , )Khmunu‬أى مدينة الثمانية أو مدينة الثامون ‪ .‬و هنا علينا أن‬

‫ننتبه الى أن قوى الثامون ال تنتمى للكون المخلوق ‪ ,‬و انما هى تعبر عن الجوانب المختلفة لحالة‬

‫الالوجود ( أو الالوعى ) ‪.‬‬

‫تعبر أسماء قوى الثامون عن هذه الصفات ‪ ,‬و هى كما يلى ‪-:‬‬

‫* نون و نونت ‪ :‬الالشكل أو الفوضى‬

‫* كوك و كوكت ‪ :‬الظلمة أو الغموض‬

‫* حح و ححت ‪ :‬الالنهائية و الالمحدودية‬

‫* آمون و آمونيت ‪ :‬االحتجاب و الخفاء‬

‫و أقدم ذكر للثامون ورد فى متون األهرام فى عصر الدولة القديمة ‪.‬‬

‫أما فى متون التوابيت (من عصر الدولة الوسطى) فقد تكرر ذكر الثامون أكثر من مرة فى سياق‬

‫األحداث التى سبقت تجلى "آتوم ‪ -‬رع" للوجود ‪.‬‬

‫و لكن فى بعض هذه النصوص نجد أن "شو" يقوم بدور تحوت ‪ .‬لذلك افترض بعض الباحثين أن‬

‫"شو" ربما كان هو أول صورة من صور تحوت فى الفكر الدينى المصرى ‪ ,‬و خصوصا أن "شو"‬

‫ظهر أحيانا فى هيئة قرد البابون أو برأس بابون ‪ ,‬كما فى المشهد التالى ‪.‬‬

‫‪- 90 -‬‬
‫"شو" برأس بابون ‪ ,‬يرفع "نوت" (السماء) فوق ذراعيه‬

‫( من بردية "نستى تا نبت تاوى" ‪ ,‬من عصر الدولة الحديثه )‬

‫كما أن هناك أيضا تشابها بين "شو" و "حكا" (السحر الكونى ‪ /‬األزلى) فى المشهد التالى ‪ ,‬حيث‬

‫يحمل "شو"فوق رأسه الشعار المميز ل "حكا"و بذلك يرتدى عباءته و يقوم بدوره ‪.‬‬

‫"حكا" يقوم بدور "شو" فى رفع السماء‬

‫‪- 91 -‬‬
‫( من أحد التوابيت التى تعود لعصر األسرة ‪ , 21‬دولة حديثه )‬

‫يقف "شو ‪ -‬حكا" هنا ليرفع السماء عن األرض و يصفه النص بأنه "حكا ‪ ,‬االله العظيم ‪ ,‬رب‬

‫السماء" ‪ .‬يحمل حكا فوق رأسه الساق الخلفية لألسد محمولة فوق منصة أو عامود ‪ ,‬و هو رمز‬

‫يعبر عن مفهوم الكلمة الخالقة أو كلمة الخلق ‪.‬‬

‫كل ذلك يعبر عن القدرة االلهية الخالقة التى تعمل من خالل جسر أو همزة وصل يرمز لها "شو" ‪.‬‬

‫و هنا يتضح لنا الفارق الجوهرى بين نظرية هرموبوليس حيث تعمل القدرة االلهية من خالل همزة‬

‫وصل رمز لها المصرى القديم بالقمر ‪ ,‬و بين نظرية هليوبوليس حيث تتجلى القدرة االلهية بشكل‬

‫مباشر كما يتجلى نور الشمس ‪.‬‬

‫و اذا عدنا لتأمل صفات الثامون ‪ ,‬سنجد أن هذه الصفات فى حد ذاتها ليست فعالة ‪ /‬ايجابية ‪ ,‬و انما‬

‫هى صفات سلبية أقرب الى الالوعى ‪ ,‬و بالتالى ال يمكنها أن تقوم بفعل الخلق وحدها ‪.‬‬

‫اال أن مهارة تحوت و حكمته هى التى حولت هذه الصفات السلبية الى نقيضها ‪ ,‬فأخرجتها من‬

‫الباطن الى الظاهر ‪ ,‬و بذلك يتجلى الالمحدود (الروح) فى أشكال محددة ‪.‬‬

‫يقوم تحوت باالشراف على هذه القوى األزلية الثمانية التى تسبح معا وسط الفيضان العظيم (مياه‬

‫األزل) ‪ ,‬و من اتحادها معا تتشكل البيضة الكونية التى يخرج منها "رع" على هيئة طائر النور‬

‫ليعلن بداية خلق العالم الذى يحكمه النور و النظام ‪.‬‬

‫و هناك روايات أخرى ألسطورة الثامون تقول أن اقتراب قوى الثامون و تفاعلها معا أدى لخلق‬

‫زهرة لوتس تفتحت أوراقها و ظهر "رع" و هو يجلس فوقها على هيئة طفل ‪.‬‬

‫يصور هذا المشهد "حح" و "ححت" و هما يركعان فوق سطح المحيط األزلى على جانبى زهرة‬

‫اللوتس األزلية التى ولد منها "رع" للتو فى صورة طفل ‪.‬‬

‫و فوق رأس الطفل الوليد يقف الجعران "خبرى" ناشرا جناحيه و ممسكا بقرص الشمس ‪.‬‬

‫‪- 92 -‬‬
‫"حح" و "ححت" يشهدان ميالد "رع"‬

‫( من عصر الدولة الحديثه )‬

‫يصف أحد نصوص معبد ادفو ميالد "رع" فى األزل من زهرة لوتس بهذه العبارات ‪-:‬‬

‫*** أيها النور االلهى ‪ ,‬لقد خلقت من ذاتك بذرة ‪ ...‬و وضعت هذه البذرة داخل زهرة اللوتس‬

‫(األزلية) ‪ ...‬و سكبت سائلك المنوى فى "نون" (مياه األزل) ‪ ...‬فتحولت الى كيان له شكل ‪ ...‬و قد‬

‫ولد وريثك فى هيئته التى تشع نورا و كأنه طفل ***‬

‫‪- 93 -‬‬
‫ميالد "رع" من زهرة اللوتس األزلية‬

‫( من بردية "آنى" ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫و بعد خروج "رع" من مياه األزل – سواء من داخل بيضة أو من زهرة لوتس – يرتدى "رع"‬

‫عباءة االله الخالق و يقوم بدوره بالتعاون مع تحوت الذى يوصف بأنه هو قلب رع و لسانه ‪ ,‬أو‬

‫بعبارة أخرى يعتبر تحوت هو عقل رع (العقل الكونى) ‪ ,‬أى القوة الكونية القادرة على تفعيل‬

‫المشيئة االلهية ‪.‬‬

‫و برغم اختالف نظرية تاسوع هليوبوليس عن نظرية ثامون األشمونيين ‪ ,‬اال أن فكرة الخروج من‬

‫مياه األزل تعتبر هى القاسم المشترك بين النظريتين ‪.‬‬

‫فى هرموبوليس (األشمونيين) كان هناك بحيرة مقدسة يطلق عليها اسم "بحيرة الخنجرين" ‪,‬‬

‫و وسط البحيرة هناك جزيرة يطلق عليها اسم جزيرة اللهيب ‪.‬‬

‫هنا فوق هذه الجزيرة فقست البيضة الكونية عند بدء الخليقة ‪ ,‬و هنا وقع حدث الخروج العظيم ل‬

‫"رع" من داخل زهرة اللوتس األزلية ‪ .‬هنا أتى العالم للوجود فى الزمن األول ‪.‬‬

‫‪- 94 -‬‬
‫منف ‪-:‬‬

‫أما النظرية الثالثة الرئيسية لنشأة الكون فى مصرالقديمة فهى نظرية منف ‪ ,‬و هى تحكى قصة‬

‫الخلق من وجهة نظر كهنة بتاح ‪.‬‬

‫و برغم أن نظرية منف تعود لعصر الدولة القديمة و ربما ظهرت بعد نظرية هليوبوليس مباشرة ‪,‬‬

‫اال أن معرفتنا بهذه النظرية تستند الى لوحة دونت فى عصر األسرة الخامسه و العشرين بناء على‬

‫أمر من الملك شباكا ‪ ,‬و لكن النص نفسه يعود الى عصر سابق على عصر األسرة الخامسه‬

‫و العشرين ‪.‬‬

‫و بخالف نظرية هليوبوليس و نظرية هرموبوليس لنشأة الكون و التى تناولت جانبين مختلفين للعقل‬

‫األسمى قبل تجلى الخلق للوجود ‪ ,‬تركز نصوص لوحة شباكا على فعل الخلق الذى يقوم به العقل‬

‫األسمى و الذى يتخذ فى منف هيئة بتاح ‪ ,‬خالق العالم األرضى ‪.‬‬

‫ركزت نظرية هليوبوليس على وصف المراحل المختلفة النسكاب الجوهر االلهى من الوجود‬

‫الباطن الى الوجود الظاهر ‪ ,‬حيث تعتبر كل مرحلة بمثابة خطوة يخطوها الخلق بعيدا عن المنبع‬

‫الذى انبثق منه و هو العقل األسمى ‪.‬‬

‫اكتملت عملية الخلق فى هليوبوليس بظهور األربعة كيانات الشهيرة ( أوزوريس ‪ /‬ايزيس ‪ /‬ست ‪/‬‬

‫نفتيس ) ‪.‬‬

‫أما نظرية هرموبوليس ‪ ,‬فقد ركزت على قوى الثامون التى ترمز لحالة ما قبل الخلق ‪ ,‬و هى‬

‫القوى التى أوجدها تحوت داخل مياه األزل و هو يقوم بدوره كمهندس للكون ‪ ,‬ثم قام بتحويلها من‬

‫حالتها السلبية لتصبح هى األساس الذى شيد فوقه تحوت الكون المتجسد ‪.‬‬

‫أما نظرية منف ‪ ,‬فهى تركز على مرحلة أخرى من مراحل نشأة الكون ‪ ,‬و هى مرحلة يبدأ فيها‬

‫العقل األسمى عملية التجسد ‪ ,‬حيث ينسكب المطلق ‪ /‬الالمحدود فى أشكال و صور محددة ‪.‬‬

‫يتخذ العقل األسمى فى منف اسم و هيئة بتاح و يقوم بفعل الخلق بنفسه "بالقلب و اللسان" لكى‬

‫يتجلى الخلق للوجود بدءا من الكيانات االلهية الى كل ما يحيا على األرض من بشر و دواب‬

‫‪- 95 -‬‬
‫و زواحف و غيرها من أشكال الحياة ‪.‬‬

‫بتاح هو ذلك الجانب من العقل األسمى الذى يمنح المخلوقات صور و أشكال و هيئات ‪.‬‬

‫بتاح هو الذى أبدع كل الصور و األشكال ‪ ,‬و لذلك كان هو رب العمال و الفنانين و الصنايعية‬

‫و المهندسين ‪ ,‬و كل من يحول مواد األرض الخام (المعادن و األحجار) الى قطع فنية ملموسة ‪.‬‬

‫و فى العصر البطلمى صار الحداد "هيفايستوس" هو المقابل ل "بتاح" فى الفلسفة االغريقية ‪.‬‬

‫و كلمة بتاح باللغة المصرية القديمة قد تعنى النحات ‪ ,‬و هى بذلك تصور بتاح و هو يقوم بتشكيل‬

‫الكون حين منح كل مخلوق صورته و هيئته ‪.‬‬

‫يظهر بتاح فى الغالب و هو يرتدى قلنسوة الرأس المحبوكة التى يرتديها العمال و الصنايعية ‪ ,‬كما‬

‫فى الشكل التالى ‪.‬‬

‫‪- 96 -‬‬
‫بتاح داخل مقصورته‬

‫( من بردية "آنى" ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫فى هذا المشهد يقف بتاح فوق منصة مرتفعة قليال و هى رمز من رموز ماعت (النظام الكونى) ‪.‬‬

‫و هو ما يعنى وجود عالقة وثيقة بين بتاح و ماعت ‪.‬‬

‫تتضح لنا عالقة بتاح القوية بالعالم المادى من أحد ألقابه و هو لقب "بتاح تاتنن" ‪ .‬و كلمة "تاتنن"‬

‫تعنى األرض التى ارتفعت ‪ ,‬و يقصد بها التل األزلى الذى برز وسط مياه األزل عند بدء الخليقة ‪.‬‬

‫و "تاتنن" هو أحد الكيانات االلهية فى مصر القديمة ‪ ,‬و هو يحمل الكثير من صفات "جب" (رب‬

‫األرض) ‪ ,‬و لذلك يظهر فى الفن المصرى القديم – مثله مثل جب – فى كثير من األحيان بوجه‬

‫أخضر ‪.‬‬

‫حين يمتزج بتاح ب "تاتنن" يرتدى عباءة االله الخالق الذى يتولى تنفيذ المرحلة األخيرة من‬

‫انسكاب المطلق فى العالم المادى المحدود ‪ ,‬أو بعبارة أخرى انسكاب الروح فى المادة لكى تحييها ‪.‬‬

‫جاء فى أحد األناشيد المصرية القديمة التى تبتهل ل "بتاح تاتنن" ‪-:‬‬

‫*** لقد وصلت األرض باألرض ‪ ,‬و جمعت أعضاء جسدك ‪ ...‬و عانقت جوارحك ‪ ...‬و صنعت‬

‫عرشك ‪ ,‬و صورت األرضين ***‬

‫و من األشياء الجديرة بالتأمل أن بتاح يظهر دائما فى الفن المصرى القديم فى صورة جسد مقيد‬

‫بلفائف مومياء ‪ ,‬و هو بذلك مثل أوزير و لذلك ارتبط بتاح بأوزير و قد مزج المصرى القديم بين‬

‫االثنين فى كيان الهى واحد أطلق عليه اسم "بتاح – أوزير" ‪ .‬و الجزء األكبر من نصوص لوحة‬

‫شباكا تتناول العالقة بين أوزير و بتاح ‪.‬‬

‫و لكن بتاح لم يرتبط بأوزير فقط ‪ ,‬و انما ارتبط أيضا ب "سوكر" ‪ ,‬و هو رب أعمق منطقة فى‬

‫قاع العالم السفلى ‪.‬‬

‫تتناول نظرية منف ذلك الجانب من األلوهية أو المبدأ الكونى الذى يتصل اتصاال مباشرا بعالم‬

‫‪- 97 -‬‬
‫المادة ‪ .‬و لكى يتحقق ذلك و يستطيع ذلك المبدأ الكونى أن يتجسد ‪ ,‬تخلى عن جزء من الوجود‬

‫الروحى األقدس ‪ ,‬و نزل ليختلط بالمادة ‪ ,‬لكى يتجلى فيها ‪.‬‬

‫تتناول نصوص لوحة شباكا قدرة بتاح على الخلق باعتبار أنه هو نفسه العقل األسمى ‪.‬‬

‫فى لوحة شباكا نقرأ أن كل من "نون" و التل األزلى جاءا للوجود داخل بتاح و من خالله ‪.‬‬

‫و لكن النصوص لم تربط بين ظهور نون و التل األزلى من داخل بتاح و بين االرتفاع الغامض‬

‫للتل األزلى من مياه األزل ‪ ,‬و ربما اعتمدت النصوص على أن ذلك معروف بالضرورة ‪.‬‬

‫ال تذكر لوحة شباكا تفاصيل حول المراحل األولى لوالدة الكون ‪ ,‬و انما تكتفى بذكر عبارات‬

‫مختصرة عن مفاهيم الهوتية و ميتافيزيقية كخلفية ضرورية لوالدة الكون ‪ .‬و لكنها تؤكد بكل ثقة‬

‫أن بتاح "الواحد ‪ /‬العظيم ‪ /‬القدير" هو منبع الوجود ‪ ,‬و بذلك يكون بتاح فى منف هو نظير آتوم فى‬

‫هليوبوليس ‪ .‬تبدأ قصة والدة الكون فى نظرية منف بهذه العبارات ‪-:‬‬

‫*** بمشيئة القلب ‪ ,‬و بقوة الكلمة التى نطقها اللسان ‪ ,‬أتى للوجود كيان على هيئة آتوم ***‬

‫يمكننا أن نعيد صياغة النص السابق كاآلتى ‪-:‬‬

‫*** أتت ارادة القلب و قدرة اللسان للوجود فى هيئة آتوم ***‬

‫و حتى هذه اللحظة ‪ ,‬ظل بتاح مرادفا ل "الروح األسمى" ( المطلق ) ‪.‬‬

‫و عند ظهور أول صورة من صور تجلى الروح األسمى (المطلق) للوجود ‪ ,‬اتخذ بتاح هيئة آتوم ‪.‬‬

‫قام بتاح – مثل آتوم ‪ -‬بتفعيل قدرته على الخلق بأن أوجد أوال الجوارح التى سيخلق من خاللها ‪,‬‬

‫و هذه الجوارح هى القلب و اللسان ‪ .‬القلب هو عضو التفكير و اللسان هو عضو النطق ‪.‬‬

‫ارتبط القلب و اللسان أيضا ب "تحوت" فى هرموبوليس ‪.‬‬

‫أما فى نصوص لوحة شباكا ‪ ,‬فقد تولى تحوت الهيمنة على اللسان فقط ‪ ,‬بينما تولى حورس الهيمنة‬

‫على القلب ‪ ,‬و ذلك بعد أن أتى االثنان للوجود بقدرة بتاح ‪.‬‬

‫أى أن بتاح أتى فعل الخلق و هو فى صورة ثالوث "آتوم – حورس – تحوت" ‪.‬‬

‫تقول نصوص لوحة شباكا ‪-:‬‬

‫‪- 98 -‬‬
‫*** بتاح هو العظيم ‪ /‬القدير ‪ ...‬الذى وهب الحياة لكل الكيانات االلهية و لكاواتها ‪ ...‬عن طريق‬

‫القلب ‪ ,‬الذى تحول بتاح من خالله الى حورس ‪ ...‬و عن طريق اللسان ‪ ,‬الذى تحول بتاح من خالله‬

‫الى تحوت ***‬

‫و أول الكيانات التى أتت للوجود من خالل ذلك الثالوث هم الجمع االلهى ‪ ,‬الذين وصفتهم نصوص‬

‫لوحة شباكا بأنهم أسنان بتاح و شفته التى ينطق بها كلمة الخلق ‪.‬‬

‫تقول نصوص لوحة شباكا ‪-:‬‬

‫*** ان صحبة بتاح من الكيانات االلهية هم جزء من جسده ‪ ,‬و هم بمثابة أسنانه و لسانه ‪ ...‬و هم‬

‫أشبه ببذرة آتوم و يده ‪ ,‬التى خلق بها الجمع االلهى (تاسوع هليوبوليس) ‪ ...‬الجمع االلهى هم‬

‫األسنان و الشفاه فى الفم العظيم (فم بتاح) الذى أعطى كل شئ اسمه **‬

‫و هنا علينا أن نفرق بين الجمع االلهى فى منف و بين الجمع االلهى فى هليوبوليس و المعروف‬

‫باسم التاسوع ‪.‬‬

‫ظهر تاسوع هليوبوليس للوجود كنتيجة لتزاوج آتوم مع نفسه (باستخدام يده و بذرته) ‪.‬‬

‫أما فى نظرية منف ‪ ,‬فالجمع االلهى هو الوسيلة التى يقوم من خاللها بتاح بتفعيل قدرته على الخلق‪.‬‬

‫فى منف يظهر كل من تحوت و حورس كجزء من كيان بتاح الذى يحتويهما ‪ ,‬كما يحتوى كل‬

‫الكيانات االلهية األخرى التى تتعاون جميعا داخل منظومة واحدة ‪.‬‬

‫ان العالم الروحى األسمى للكيانات االلهية كله يدخل تحت عباءة بتاح ‪ ,‬الخالق ‪.‬‬

‫فالكيانات االلهية كلها هى وسيلة أو أداة أو قناة لتفعيل أفكار الكيان االلهى األسمى و مشيئته ‪.‬‬

‫و فى حين ركزت نظرية هليوبوليس و نظرية هرموبوليس لنشأة الكون على تجلى المطلق للوجود‬

‫عبر مراحل من خالل ظهور أجيال متتابعة من الكيانات االلهية التى تمثل الوجود الروحى األقدس‬

‫للكون قبل التجسد ‪ ,‬نجد أن نظرية منف لنشأة الكون تنظر للكيانات االلهية باعتبارها أدوات‬

‫و وسائل االله الخالق لتفعيل مشيئته ‪ ,‬و بذلك تنقلهم الى خلفية األحداث ‪ ,‬بينما يحتل العالم المادى‬

‫صدارة المشهد ‪.‬‬

‫‪- 99 -‬‬
‫تركز نصوص لوحة شباكا على المراحل النهائية النسكاب المطلق فى تجليات مادية محسوسه ‪,‬‬

‫و تنسب ذلك الفعل من أفعال الخلق الى بتاح ‪ ,‬كما فى هذه العبارات ‪-:‬‬

‫*** بتاح هو الذى صنع كل شئ ‪ ,‬و هو الذى خلق كل الكيانات االلهية ‪ ...‬بتاح هو التل األزلى‬

‫الذى انبثقت منه الكيانات االلهية ‪ ,‬و الذى أتى منه كل شئ ‪ ...‬كل شئ أتى من بتاح ‪ :‬الطعام ‪,‬‬

‫و الجوهر االلهى و كل شئ جميل **‬

‫فى هليوبوليس و هرموبوليس تقف الكيانات االلهية كوسيط بين العقل األسمى و بين الخلق ‪.‬‬

‫أما فى منف ‪ ,‬فالكيانات االلهية هى جزء من العقل األسمى ‪ ,‬و لذلك فان التركيز هنا ينصب بشكل‬

‫اساسى على دور العقل األسمى فى الخلق ‪.‬‬

‫العقل األسمى هو قلب و لسان الخلق جميعا ‪.‬‬

‫و قد عبرت نصوص لوحة شباكا عن ذلك بهذه العبارات ‪-:‬‬

‫*** للقلب و اللسان الهيمنة على كل أعضاء الجسد األخرى ‪ ...‬بتاح يسكن كل شئ فى هيئة القلب‬

‫و اللسان ‪ ...‬بتاح هو قلب و لسان الكيانات االلهية و البشر و الدواب و الزواحف و كل ما يحيا‬

‫على األرض ‪ ...‬أتى الخلق للوجود حين أراد بتاح بقلبه و نطق كلمة الخلق بلسانه ***‬

‫خلق بتاح القلب و اللسان و هو فى هيئة آتوم ‪ .‬و هو ما يعنى أن آتوم – من وجهة نظر كهنة منف‬

‫– نزل للعالم األرضى ‪ /‬المادى و أصبح كامنا فى كل أشكال الخلق ‪.‬‬

‫و لذلك نقرأ على سبيل المثال فى هذا االبتهال ل "بتاح تاتنن" ‪-:‬‬

‫*** تهب الرياح من أنفك ‪ ...‬و تنبع المياه السماوية من فمك ‪ ..‬و تنبت الغالل التى تمنح البشر‬

‫طاقة الحياة فوق ظهرك ‪ ...‬أنت الذى تجعل األرض تؤتى ثمارها ‪ ...‬لينعم البشر و الكيانات االلهية‬

‫بخيراتها ***‬

‫تتخطى مكانة بتاح الرفيعة حدود الطبيعة الى عالم القيم و األخالقيات عند البشر ‪ ,‬حيث تقول‬

‫نصوص لوحة شباكا ‪-:‬‬

‫*** من عمل صالحا يجازى بالعدل ‪ ...‬و من ارتكب اثما ‪ ,‬سينال جزاءا من جنس عمله ‪ ...‬ان من‬

‫‪- 100 -‬‬


‫يعيش فى سالم ‪ ,‬سيحظى بالحياة األبدية ‪ ...‬و من يرتكب جرما فمصيره الموت ‪ ...‬الجزاء من‬

‫جنس العمل ***‬

‫يمتد انغماس بتاح فى العالم المادى ليشمل جوانب عديدة منها النظام االجتماعى و الدينى ‪ ,‬كما‬

‫يشمل أيضا الصور و األشكال التى تتجلى فيها الكيانات االلهية و التى يمكن للبشر من خاللها‬

‫االتصال بهم ‪ ,‬بما فى ذلك المواد التى تستخدم فى صنع الصور المقدسة (تماثيل) الكيانات االلهية ‪,‬‬

‫ألن الصخور و المعادن هى جزء من جسد بتاح باعتباره ربا لألرض ‪.‬‬

‫جاء فى لوحة شباكا عن بتاح ‪-:‬‬

‫*** هو الذى ولد الكيانات االلهية ‪ ,‬و أنشأ المدن ‪ ,‬و وضع تصميمها الهندسى و توزيع أحياءها ‪...‬‬

‫و هو الذى حدد البقعة المباركة التى سيتم فيها تقديس كل كيان الهى على األرض ‪ ,‬و وضع‬

‫مقاصيرها ‪ ...‬و هو الذى حدد صور و أشكال الكيانات االلهية كيفما أرادت ‪ ...‬و هكذا سكنت‬

‫الكيانات االلهية أجسادها من كل أنواع الخشب ‪ ,‬و من كل أنواع الحجارة ‪ ,‬و الفخار ‪ ,‬و من كل ما‬

‫يخرج من األرض ‪ ...‬حيث اتخذت الكيانات االلهية هيئاتها من هذه األشياء جميعا ***‬

‫تلك العناية المذهلة بالتفاصيل الدقيقة هى صفة مميزة لبتاح الذى ينغمس بشغف فى العالم المادى‬

‫و تفاصيله الشيقة ‪.‬‬

‫تصف لنا نظرية منف لنشأة الكون اكتمال منظومة الخلق بتجسد الجوهر االلهى فى شتى الصور‬

‫و األشكال المادية ‪ .‬و هكذا يتضح لنا أن النظريات الثالثة (هليوبوليس و هرموبوليس و منف) ال‬

‫تتنافس ‪ ,‬و انما هى تتكامل معا ‪ ,‬حيث تعبر كل منها عن أحد جوانب قصة الخلق التى مرت‬

‫بمراحل متعددة ‪.‬‬

‫‪- 101 -‬‬


‫الفصل الرابع‬
‫عالمات الزمن‬

‫نظرة االنسان القديم و نظرة االنسان المعاصر للزمن ‪-:‬‬

‫رأينا فى الفصل السابق أن للمكان بعد آخر باطنى فى نظر المصرى القديم ‪.‬‬

‫فاألشياء ال تتواجد فقط وجودا ظاهرا (فى جسد مادى) ‪ ,‬و انما تتواجد أيضا وجودا باطنيا روحانيا‬

‫كانت األشياء أو الكيانات التى تتواجد وجودا باطنيا فى نظر المصرى القديم حقيقية أكثر من‬

‫األشياء التى تتواجد وجودا ظاهرا (أى فى جسد مادى) ‪.‬‬

‫فاألشياء التى تتواجد وجودا باطنيا هى الصورة األولية (‪ )archetype‬أو النموذج الذى تحاكيه‬

‫األشياء المتجسده و تصنع على مثاله ‪.‬‬

‫و المبدأ نفسه ينطبق على الزمان كما ينطبق على المكان ‪.‬‬

‫و لكى نفهم نظرة المصرى القديم للزمن ‪ ,‬علينا أوال أن نتأمل نظرة االنسان المعاصر لطبيعة‬

‫الزمن ‪ ,‬و هنا سيتضح لنا أن هناك فرقا كبيرا بين النظرتين ‪.‬‬

‫لكى يقع حدث ما ‪ ,‬ال يقال فقط أنه وقع "فى مكان ما" و انما يتم تحديد الزمن فيقال انه وقع "فى‬

‫زمان ما" ‪ .‬ان اللغة التى نستخدمها تجعلنا نعتقد أن الزمان – مثله مثل المكان – هو شئ أشبه‬

‫بحاوية أو وعاء تقع األحداث داخله ‪ .‬و لكن الزمن فى الحقيقة ليس وعاءا فارغا تتواجد فيه‬

‫األحداث ‪.‬‬

‫يتواجد الزمن دائما فى عالقة متشابكه تربط بينه و بين األحداث ‪ ,‬فبدون أحداث ال يوجد زمن ‪.‬‬

‫الزمان – و كذلك المكان – هو الذى يجعل بمقدورنا تمييز األحداث عن بعضها البعض ‪.‬‬

‫ان ترتيب األحداث ترتيبا زمنيا متتابعا يعنى أن لها عالقة ظاهرة بالنسبة لبعضها البعض ‪ ,‬بمعنى‬

‫أن لكل حدث مكان محدد فى تيار الزمن الذى يتدفق بال انقطاع و فى اتجاه واحد من ماضى وقع‬

‫‪- 102 -‬‬


‫و انتهى الى مستقبل سوف يأتى ‪ .‬و هذا التدفق المتواصل يمكن رصده و تقسيمه الى وحدات ‪.‬‬

‫الزمن فى نظر االنسان المعاصر أشبه بشريط سينما طويل جدا يتحرك ببطء ‪ ,‬و كلما تحرك‬

‫الشريط كلما تتابعت األحداث ‪.‬‬

‫تتميز نظرة االنسان المعاصر للزمن بأنها نظرة مكانية ‪ ,‬بمعنى أننا نربط الزمان دائما بالمكان ‪,‬‬

‫و هو شئ ضرورى لكى نستطيع تمييز األحداث عن بعضها البعض و فى نفس الوقت نحافظ على‬

‫العالقة النسبية بين كل حدث و غيره من األحداث ‪.‬‬

‫بقياس الزمن و تقسيمه الى وحدات يمكننا تحديد موقع كل حدث وسط تيار الزمن المتدفق و الذى‬

‫ال نشعر فى داخلنا بوجود أى عالقة روحانية تربطنا به ‪.‬‬

‫و نتيجة لذلك فان تمييز األحداث عن بعضها البعض يتم عن طريق تتابع و بذلك تتحول األحداث‬

‫الى مظاهر خارجية منفصلة عن بعضها البعض ‪.‬‬

‫فى العصر الحديث ‪ ,‬عندما يفكر االنسان فى الزمن يخطر بباله على الفور شئ يمكن قياسه ‪ ,‬فقد‬

‫صار الزمن يرتبط دائما بوسائل و وحدات قياسه كاليوم و الساعة و الدقيقة ‪ ,‬الخ ‪.‬‬

‫صرنا نعيش فى زمن "الساعة" التى يقاس بها الزمن ‪ ,‬حيث يرتبط مفهوم الزمن بتتابع أرقام‬

‫تحددها حركة العقارب أو أرقام ديجيتال كما فى الساعات األحدث ‪.‬‬

‫صار الزمن بالنسبة لالنسان شيئا مجردا ‪ ,‬محايدا ‪ ,‬ليس له شكل و ال شخصية و ال صفات مميزة ‪.‬‬

‫لم نعد نرى الزمن كشئ له صفات ‪ ,‬فاألرقام التى نعرف الزمن من خاللها ليس لها أى مغزى ‪.‬‬

‫اذا نظرنا للساعة ‪ 2‬مساءا ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬على أنها لحظة هامة فى حياتنا ‪ ,‬فان أهمية هذه‬

‫اللحظة تظل شخصية (ذاتية) و ليست موضوعية ألن أهمية اللحظة بالنسبة لنا مستمدة من وقوع‬

‫حدث يتعلق بحياتنا الشخصية ‪ ,‬و بالتالى فان نظرتنا لتلك اللحظة ال تعكس طبيعة اللحظة نفسها ‪.‬‬

‫كل شخص ينظر للساعة ‪ 2‬مساءا نظرة مختلفة تماما عن الشخص اآلخر ‪ ,‬و لكن اللحظة تظل كما‬

‫هى ال تتغير ‪.‬‬

‫يشير االنسان المعاصر الى وحدات الزمن باعتبارها أرقام مجردة من أى صفات ‪.‬‬

‫‪- 103 -‬‬


‫و هذه األرقام هى التى نتعامل بها فى حياتنا اليومية و هى قاسم مشترك بيننا جميعا ‪.‬‬

‫اكتسب الزمن مظهرا خارجيا و ذلك عن طريق تحديده بأرقام و تجريده من أى صفات نابعة من‬

‫طبيعته ‪.‬‬

‫و فى أواخر القرن العشرين انتشرت الساعات الرقمية (ديجيتال) ‪ ,‬و مع انتشارها ازداد احساسنا‬

‫بالزمن ككيان يخلو تماما من أى صفات ‪.‬‬

‫فى الساعات القديمة التى تعتمدعلى حركة العقارب هناك عالقة بين حركة الزمن و بين الكون ‪.‬‬

‫فالنظر الى دورة العقرب داخل الساعة تشعرنا – و لو بشكل سطحى ‪ -‬بحركة الكون و بوجود‬

‫عالقة ما بين حركة العقرب و بين حركة الشمس فى الفلك ‪.‬‬

‫فى منتصف النهار ‪ ,‬حين تكون الشمس فوق رؤوسنا يشير عقرب الدقائق الى أعلى ‪ ,‬حيث تحاكى‬

‫دورة عقرب الساعات من الصباح الى المساء حركة الشمس من األفق الشرقى الى األفق الغربى ‪.‬‬

‫فى الشكل التالى نرى صورة نادرة لساعة قديمة تعود للقرن الثامن عشر ‪ ,‬و قد قام مصممها بوضع‬

‫نموذج مصغر لحركة الشمس ‪ ,‬بحيث يشير عقرب الساعات عند منتصف النهار لموقع البالد التى‬

‫يحين فيها موعد انتصاف النهار (حيث تقع لندن مباشرة فوق الساعة ‪ 02‬ظهرا) ‪.‬‬

‫‪- 104 -‬‬


‫ساعة تعود للقرن الثامن عشر‬

‫من صنع توماس أوجدن فى عام ‪ 1572‬ميالدية‬

‫أما الساعة الرقمية ‪ ,‬فهى تنتزع من وجداننا ذلك الخيط الرفيع المتبقى الذى يربط وعى االنسان‬

‫بالدورات الكونية ‪.‬‬

‫ساعة رقمة تعود لعام ‪ 1152‬ميالدية ‪ ,‬من صنع شركة هاميلتون بالواليات المتحدة األمريكية‬

‫ظهرت الساعات الرقمية ألول مرة فى سويسرا فى عام ‪ 1172‬ميالدية‬

‫صار الزمن فى نظر االنسان مجرد سلسلة من اللحظات أو الثوانى التى يتبع بعضها البعض وسط‬

‫فراغ ‪ .‬قد تخبرنا الساعة الرقمية التى يخلو وجهها من أية مالمح أن الساعة صارت ‪ 02‬ظهرا ‪,‬‬

‫و لكنها لم تعد تذكرنا أن موقع الشمس فى السماء صار فوق رؤوسنا ‪.‬‬

‫تحول الزمن الى مجرد تعاقب لوحدات رقمية تخلو من أى معنى أو صفات تميز أى رقم عن اآلخر‬

‫‪- 105 -‬‬


‫‪ ,‬و منعزلة تماما عن خبرة االنسان ‪ .‬و هذا التحول فى عالقة االنسان بالزمن هو فى الحقيقة جزء‬

‫من عملية تحول كبرى حدثت لوعى االنسان ‪ ,‬حيث لم يعد االنسان قادرا على ادراك وجود أى‬

‫مغزى أو كيان روحى فيما وراء المظاهر المادية ‪.‬‬

‫بدأ ذلك التحول منذ بدأ جاليليو فى التمييز بين الصفات األولية و الصفات الثانوية ‪.‬‬

‫يعطى ذلك التمييز األولوية فى الوجود لكل ما يمكن قياسه و ادراكه بالحواس المادية ‪ ,‬أما ما ال‬

‫يمكن قياسه فهو ذاتى و ليس موضوعى ‪ ,‬و بالتالى ليس له وجود حقيقى ‪.‬‬

‫و هكذا أصبحت وسائل القياس هى نقطة االرتكاز و المعيار الذى يتم به تمييز ما هو حقيقى و ما‬

‫هو غير حقيقى ‪ ,‬و صار ذلك جزءا من منظومة التعليم التى تشكل وعى االنسان الغربى بحيث‬

‫صار االنسان ينكر أى خبرة أو تجربة باطنية ال يمكن قياسها بأداة أو آلة مادية ملموسة ‪.‬‬

‫و هكذا صارت األدوات و الوسائل التى تقيس ما هو مادى هى المعيار الذى يميز به االنسان ما هو‬

‫حقيقى ‪.‬‬

‫صار األمان النفسى لالنسان المعاصر و ادراكه للحقيقة يقوم على قدرته على قياس كل شئ فى‬

‫العالم بأداة مادية خالية من أى صفات ‪ .‬و هو ما يفسر ميل االنسان الى تجريد األدوات‬

‫المستخدمة فى القياس (كالساعة) من أى اشارة الى صفات ذاتية ‪.‬‬

‫هذا الميل الى فصل ما هو ذاتى عما هو موضوعى أدى الى ظهور انطباع بأن وحدات قياس‬

‫الزمان و المكان هى األساس الذى يقوم عليه الواقع الذى نعيشه ‪.‬‬

‫فنحن نقول ‪ -‬على سبيل المثال – أن األسبوع مكون من سبعة أيام ‪ ,‬بدال من أن نقول أن األسبوع‬

‫هو ربع شهر ‪.‬‬

‫كان األوروبيون – حتى وقت قريب ‪ -‬يربطون بين تعاقب األسابيع و بين مراحل القمر ‪ ,‬بدال من‬

‫النظر لألسبوع على أنه تعاقب لعدد محدد من األيام ‪.‬‬

‫أما فى يومنا هذا ‪ ,‬فلم يعد هناك أحد ينتبه لمراحل زيادة القمر و نقصانه أو حتى يدرك أهمية‬

‫الوعى بدورات القمر و دورات الطبيعة بوجه عام ‪.‬‬

‫‪- 106 -‬‬


‫أصبح الوعى بتدفق الزمن فى نظر االنسان المعاصر منفصال عن األحداث الكونية و دورات‬

‫الطبيعة مثل دورة القمر و غيره من األجرام السماوية ‪.‬‬

‫و كما ينظر االنسان المعاصر لألسبوع على أنه تراكم أو تتابع لسبعة أيام ‪ ,‬كذلك ينظر لليوم على‬

‫أنه تراكم أو تتابع ألربعة و عشرين ساعة ‪ ,‬و الساعة هى تراكم لستين دقيقة و الدقيقة هى تراكم‬

‫لستين ثانيه ‪.‬الثانية هى الوحدة األساسية التى يبنى عليها االنسان وعيه بالزمن ‪ .‬و كل وحدات‬

‫الزمن األخرى ما هى اال تراكم للثوانى ‪ .‬صرنا ننظر للزمن على أنه تراكم و توالى لوحدة صغرى‬

‫‪ ,‬بدال من أن ننظر اليه على أنه أجزاء من كيان أكبر ‪.‬‬

‫و هكذا تم تجريد وحدات الزمن الكبرى من صفاتها الجوهرية الكونية ‪.‬‬

‫فى العصر الحديث ‪ ,‬تفتت الزمان الى وحدات متناهية الصغر تشبه الذرات ‪.‬‬

‫فالثانية (و هى وحدة قياس الزمان) تقابل الذرة (و هى وحدة قياس المكان) ‪.‬‬

‫و الثانية (و كسورها) أصغر من أن تعبر عن أى صفات أو مفاهيم كونية ‪.‬‬

‫كان علينا أن نتأمل أوال نظرتنا للزمن ‪ ,‬لكى ندرك عمق االختالف بينها و بين نظرة قدماء‬

‫المصريين للزمن ‪.‬‬

‫و برغم أن قدماء المصريين لم يعرفوا الساعات بالشكل الذى نعرفه فى العصر الحاضر ‪ ,‬اال أن‬

‫ذلك ال يعنى أنه لم يكن لديهم أدوات لقياس الزمن ‪.‬‬

‫فى الحقيقة ان قدماء المصريين لم يقوموا بقياس الزمن و انما قاموا بوضع عالمات فوق تيار الزمن‬

‫المتدفق ‪ ,‬و هى عالمات كونية ‪ ,‬مثل دورات الشمس و القمر و نجوم معينة كنجم الشعرى و ال‬

‫‪ 10‬مجموعة نجمية التى تعرف باسم العشريات ‪ ,‬و أيضا دورة الفيضان السنوى للنيل (باالضافة‬

‫الى دورة أخرى سنناقشها فى الفصل الخامس) ‪.‬‬

‫فى مصر القديمة كانت أصغر وحدة لقياس الزمن هى الساعة ‪ .‬و كل ما هو أصغر من الساعة‬

‫يشار اليه عادة بمصطلح اللحظة أو الوهلة ‪.‬‬

‫لكل ساعة من ساعات اليوم صفات تميزها عن غيرها من الساعات ‪ ,‬و لذلك أطلق قدماء‬

‫‪- 107 -‬‬


‫المصريين على كل ساعة من ساعات اليوم اسما خاصا بها ‪ ,‬و كانت فى نظرهم تجليا ألحد‬

‫الكيانات االلهية ‪.‬‬

‫فى الشكل التالى (و هو من كتاب البوابات) نرى ساعات الليل االثنى عشر ‪ ,‬تقف ستة منها فوق‬

‫الماء و الستة األخرى فوق األرض ‪ ,‬حيث الماء و األرض هما العناصر الرئيسية المهيمنة على‬

‫العالم السفلى الذى تنتمى اليه ساعات الليل ‪.‬‬

‫ساعات الليل االثنى عشر ‪ ,‬من الفصل الثالث من كتاب البوابات‬

‫( من مقبرة الملك رمسيس السادس ‪ ,‬أسرة ‪ , 22‬دولة حديثه )‬

‫فى هذا المشهد ‪ ,‬ال يمكننا أن نعرف على وجه اليقين ان كان هناك تطابق بين ساعات النهار‬

‫االثنى عشر و ساعات الليل االثنى عشر و بين أبراج الزودياك االثنى عشر ‪ .‬و لكن من المؤكد أن‬

‫قدماء المصريين ربطوا بين ساعات الليل و النهار و بين المجموعات النجمية التى يطلق عليها اسم‬

‫العشريات (‪ )decans‬و بين رحلة الشمس فى قبة السماء ‪.‬‬

‫و خالل العام يتغير عدد ساعات الليل و النهار حيث يزداد عدد ساعات الليل على حساب ساعات‬

‫النهار فى الشتاء ‪ ,‬بينما يحدث العكس فى الصيف ‪.‬‬

‫و لذلك كان الزمن فى نظر قدماء المصريين أشبه بكائن حى يتنفس ‪.‬‬

‫‪- 108 -‬‬


‫الشمس و القمر ‪-:‬‬

‫كان تقسيم الليل و النهار فى مصر القديمة الى ساعات هو تقسيم كهنوتى (أى من صنع الكهنة) تم‬

‫ابتكاره ألغراض دينية ‪ ,‬و لم يكن يستخدم عادة خارج المعبد ‪.‬‬

‫أما عامة الشعب فقد كان اليوم بالنسبة لهم ينقسم الى فترات (و ليس ساعات) تعكس المحطات‬

‫الرئيسية فى رحلة الشمس فى قبة السماء ‪ ,‬كالصباح و الظهيرة و المساء ‪.‬‬

‫يمكننا اذن أن نقول أن الشمس عند قدماء المصريين هى المقابل للساعة التى يستخدمها االنسان‬

‫المعاصر لتحديد الوقت فيما يتعلق بأنشطة الحياة اليومية ‪.‬‬

‫و هو ما يعنى أن عالقة قدماء المصريين بالزمن تختلف عن عالقتنا به ‪.‬‬

‫و بخالف طريقة قياس الزمن فى العصر الحاضر و التى تعتمد على تتابع أرقام فوق وجه أداة‬

‫قياس الزمن (الساعة) ‪ ,‬تأمل المصرى القديم الشمس فوجد فيها أداة مثالية لقياس الزمن ‪ ,‬و ذلك‬

‫ألنها تمر أثناء رحلتها اليومية فى قبة السماء بتغيرات كيفية يمكن مالحظتها بالعين المجردة ‪.‬‬

‫تبدأ الشمس رحلتها عند الفجر بضوء خافت ‪ ,‬ثم باستمرار الرحلة يزداد الضوء قوة و سطوعا ليبلغ‬

‫ذروته فى وقت الظهيرة ‪ ,‬ثم يعود النور و ينسحب تدريجيا نحو األفق الغربى عند المساء ‪ .‬و هكذا‬

‫كان المصرى القديم يعرف الزمن من خالل التغيرات الكيفية فى ضوء الشمس أثناء ارتحالها فى‬

‫السماء ‪.‬‬

‫و هنا ‪ ,‬علينا أن نسأل عن مغزى الشمس فى الفكر الدينى المصرى ؟‬

‫لم تكن الشمس فى نظر قدماء المصريين (سواء الكهنة أو عامة الشعب) مجرد كرة من الغازات‬

‫المشتعلة ‪ ,‬و انما هى تجسيد ألحد الكيانات االلهية ‪ ,‬و نورها هو انعكاس لنور و جالل ذلك الكيان‬

‫االلهى ‪.‬‬

‫الشمس ليست مصباح معلق فى السماء ‪ ,‬و انما هى كيان روحى يرتدى جسدا ماديا ‪.‬‬

‫كانت رحلة الشمس من الشروق الى الغروب فى نظر المصرى القديم هى انعكاس لطبيعة ذلك‬

‫الكيان الروحى ذى الجالل ‪ .‬فمن خالل الشمس يتجلى العقل األسمى للعالم ‪ ,‬حيث تنعكس صفات‬

‫‪- 109 -‬‬


‫و قدرات ذلك العقل األسمى فى رحلة الشمس اليومية فى صفحة السماء ‪.‬‬

‫تروى أساطير نشأة الكون المصرية أن ذلك االله العظيم كان كامنا ‪ /‬محتجبا وسط ظلمة مياه األزل‬

‫"نون" و ذلك قبل أن يبدأ الخلق ‪.‬‬

‫تعيد الشمس تكرار ذلك الحدث كل ليلة حيث تكون غارقة فى ظلمة الليل التى تشبه ظلمة مياه‬

‫األزل ‪ .‬و ميالد الشمس كل صباح من قلب ظلمة الليل هو اعادة تكرار لحدث أزلى ‪ ,‬و هو انسكاب‬

‫النور الذى سيخلق منه العالم ‪.‬‬

‫عند شروق كل يوم ‪ ,‬تعكس الشمس صفات و قدرات "خبرى" ‪ ,‬الذى أتى للوجود أول مرة فى‬
‫الزمن األول ‪.‬‬

‫الشمس الوليدة على هيئة طفل يخرج من زهرة لوتس‬

‫( من عصر الدولة الحديثه )‬

‫‪- 110 -‬‬


‫صور الفنان المصرى القديم الشمس الوليدة على هيئة طفل يخرج من بين أوراق زهرة لوتس نبتت‬

‫من المحيط األزلى ‪ .‬و كلما ارتفع "خبرى" (الطفل الذى أتى للوجود) فى كبد السماء ‪ ,‬كلما طرح‬

‫عنه نعومة الطفولة و اكتسب هيئة أكثر نضجا و قوة و هى هيئة "رع" ‪ ,‬و هكذا تتحول صفته‬

‫و طبيعته من "الصيرورة" (خبرى) الى "التجلى‪/‬الوجود" (رع) ‪.‬‬

‫تعبر شمس منتصف النهار عن القدرة الخالقة ل "رع" التى يستمد منها العالم وجوده و التى تتدفق‬

‫فى شتى الصور بقوة و بدون أن يعوقها شئ لتتجسد فى الكون المخلوق ‪ .‬و لكن فى نهاية الزمن‬

‫(بعبارة أخرى فى نهاية دورة الخلق) سيعود الكون كله الى منبعه الروحى (آتوم) ‪ ,‬كما يعود كل‬

‫انسان على حدة بعد انتهاء حياته على األرض الى المصدر الروحى الذى أتى منه ‪.‬‬

‫و عند المساء تصل الشمس الى مرحلة الشيخوخة و بذلك تحاكى المرحلة األخيرة من دورة الخلق ‪,‬‬

‫و هى انسحاب النور الى منبعه ليعود مرة أخرى نورا باطنيا محتجبا بعد أن تجلى فى عالم الظاهر‬

‫فى المشهد التالى صور الفنان المصرى القديم شمس الصباح "خبرى" على هيئة جعران ‪ ,‬أما‬

‫شمس المساء فقد صورها الفنان على هيئة رجل برأس كبش ‪.‬‬

‫‪- 111 -‬‬


‫خبرى (شمس الصباح) و آتوم (شمس المساء)‬

‫( من مقبرة الملك مرنبتاح ‪ ,‬وادى الملوك ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫و الجمع بين الصورتين (خبرى الصبى و "آتوم – رع" الرجل المسن) داخل دائرة واحدة تمثل‬

‫قرص الشمس يدل على أن مغزى هذه الرموز ال يقف عند حدود المظهر الخارجى للشمس و انما‬

‫هو مغزى عميق يدور حول مفاهيم ماورائية تتجلى فى مظهر الشمس و حركتها فى السماء ‪.‬‬

‫و لذلك كانت طقوس المعابد تتزامن مع محطات رحلة الشمس فى الفلك ‪ .‬حيث كانت الصلوات‬

‫اليومية الرئيسية تقام فى ثالثة أوقات هى الشروق ‪ ,‬و الظهيرة ‪ ,‬و قبل الغروب ‪ ,‬ألن هذه األوقات‬

‫تمثل المحطات الرئيسية فى رحلة الشمس اليومية ‪.‬‬

‫بعبارة أخرى ‪ ,‬ان رحلة الزمن و عالمات قياسه خالل النهار تحولت عند قدماء المصريين الى‬

‫رحلة طقسية ‪.‬‬

‫رأى حكماء مصر القديمة فى رحلة الشمس مغزى روحى عميق ‪.‬‬

‫يقول عالم المصريات الفرنسى "سيرجى سونيرون" (‪-: )Serge Sauneron‬‬

‫*** فى مصر القديمة ‪ ,‬كانت كل لحظة هامة فى رحلة الشمس فى مدارها الفلكى تستدعى طقسا‬

‫دينيا يقام من أجل الكيان االلهى الذى يعبر عنه جسد الشمس ***‬

‫‪- 112 -‬‬


‫قام قدماء المصريين برصد اثنا عشر تحوال تحدث للشمس أثناء رحلتها عبر السماء ‪ .‬و كانت هذه‬

‫التحوالت بؤرة اهتمام حكماء مصر القديمة و موضع تأمل ‪.‬‬

‫فى كتاب الخروج الى النهار هناك اثنا عشر نصا تصف (بالتتابع) التحوالت الكونية التى تنعكس‬

‫فى رحلة الشمس اليومية ‪ ,‬و هى نفس التحوالت التى تمر بها روح المتوفى فى العالم اآلخر منذ‬

‫دخوله الى ظلمة القبر و حتى "الخروج الى النهار" ‪ ,‬أى البعث ‪.‬‬

‫صور الفنان المصرى القديم هذه التحوالت على أحد التوابيت التى تعود الى العصر المتأخر ‪.‬‬

‫التحوالت االثنى عشر للشمس أثناء النهار‬

‫( من أحد توابيت العصر المتأخر ‪ ,‬المتحف المصرى ‪ ,‬القاهرة )‬

‫تبدأ الرحلة من اليمين حيث تكون الشمس طفال و تمر بسلسلة من التحوالت الخيميائية تنتهى (فى‬

‫اليسار) بصورة رجل عجوز برأس كبش ينحنى فوق عكازه ‪ ,‬على وشك أن يموت و ينزل الى‬

‫العالم السفلى ‪.‬‬

‫و بيت القصيد هنا هو أن التغيرات التى تطرأ على جسد الشمس فى السماء خالل ساعات النهار‬

‫االثنا عشر تعكس العالقة بين جسد الشمس المادى الذى نراه بالعين المجردة و بين الكيان االلهى‬

‫‪- 113 -‬‬


‫الذى يتجلى فى الشمس و هو السبب وراء حدوث كل هذه التحوالت ‪.‬‬

‫و ما ينطبق على ساعات النهار ينطبق أيضا على ساعات الليل ‪ .‬و لكن ساعات الليل أكثر غموضا‬

‫و باطنية من ساعات النهار ‪ ,‬ألن رحلة الشمس الليلية تقع أحداثها فى عالم ماورائى ال تراه العين‬

‫و هو ال "دوات" (العالم السفلى) ‪.‬‬

‫وصف قدماء المصريين فى العديد من النصوص الصوفية (الروحانية) من عصر الدولة الحديثه‬

‫رحلة الشمس فى ال "دوات" خالل ساعات الليل وصفا تفصيليا ‪ .‬و تعتبر الساعة التى يواجه فيها‬

‫"رع" ثعبان الفوضى و الظلمة "عبيب" (أبو فيس) أهم و أخطر محطة فى هذه الرحلة ‪.‬‬

‫فقط بعد االنتصار على أبوفيس يمكن ل "رع" أن يولد من جديد عند الفجر على هيئة خبرى ‪.‬‬

‫المواجهة بين "رع" و ثعبان "أبوفيس" ‪ ,‬الفصل السابع من كتاب ال "أمدوات"‬

‫( من مقبرة الملك رمسيس السادس ‪ ,‬أسرة ‪ , 22‬دولة حديثه )‬

‫لم يكن عامة الشعب فى مصر القديمة على دراية بالصفات التى تميز كل ساعة من ساعات الليل‬

‫عن غيرها ‪ ,‬و لكن صورة المواجهة التى تحدث فى عمق الليل بين "رع" و "أبو فيس" كانت تشكل‬

‫جزءا من وعى المصرى القديم ‪ ,‬ألنها هى الصورة المعكوسة و المقابل لصورة "رع" فى ذروة‬

‫تجليه عند منتصف النهار ‪.‬‬

‫فى مصر القديمة ‪ ,‬كان االنسان يعى الزمن وعيا باطنيا ‪ .‬فمرور الوقت ال يدرك بواسطة أرقام‬

‫‪- 114 -‬‬


‫متتابعة بانتظلم و رتابة ‪ ,‬و انما هو رحلة درامية تصف تحوالت خيميائية تمر بها الشمس و التى لم‬

‫تكن فى نظر المصرى القديم مجرد شئ مادى يتحرك فى السماء حركة ألية رتيبة و انما هى الجسد‬

‫المادى الظاهر ألحد الكيانات االلهية المحتجبة ‪.‬‬

‫أدرك حكماء مصر القديمة الذين بلغوا درجة عالية من المعرفة الروحانية أن ذلك الكيان االلهى‬

‫الذى يسكن فى الشمس ‪ ,‬يسكن أيضا داخل روح االنسان ‪.‬‬

‫و يعتبر االتحاد ب "رع" أحد أهم التجارب الروحانية التى يمكن أن يمر بها االنسان ‪.‬‬

‫حين تتحد روح االنسان ب "رع" فانها ترى الكون بعين "رع" و تمتلك وعى "رع" و يجرى لها ما‬

‫يجرى ل "رع" من تحوالت باطنية أثناء رحلته اليومية بين أبعاد الكون ‪.‬‬

‫و هنا علينا أن نتذكر مرة أخرى أن الشمس ما هى اال جسد "رع" ‪ ,‬و لذلك فان حركة الشمس فى‬

‫مدارها الفلكى تعبر عن حياة و صفات ذلك الكيان االلهى الذى ينتمى لعالم باطنى تتواجد فيه‬

‫الصور األولية و النماذج االلهية خارج حدود الزمان الذى نعرفه ‪.‬‬

‫فى مصر القديمة لم يكن الزمن النسبى الذى يحكم عالمنا يتواجد بشكل منفصل عن العوالم‬

‫الماورائية ‪ ,‬و انما هناك عالقة تربط بينه و بين الزمن األبدى أو الزمن األول ‪.‬‬

‫تكشف النصوص الدينية المصرية عن نظرة المصرى القديم للزمن ليس فقط باعتباره انعكاس‬

‫لدورة الشمس فى الفلك و انما انعكاس لكل دورات الطبيعة ‪ ,‬ألن كل مظهر من مظاهر الطبيعة هو‬

‫صورة لحدث يقع فى عالم ماورائى ‪.‬‬

‫على سبيل المثال كانت دورة القمر هى التى تحكم التقويم الزراعى و هى التى يتم على أساسها‬

‫تحديد األعياد و االحتفاالت الدينية كل عام ‪.‬‬

‫و كما كانت الشمس فى نظر المصرى القديم جسد أحد الكيانات االلهية ‪ ,‬كذلك كان القمر ‪.‬‬

‫فى وعى االنسان القديم كان لكل شئ وجود "ظاهر ‪ /‬متجلى" ‪ ,‬و وجود آخر "باطنى ‪ /‬محتجب" ‪.‬‬

‫لذلك كانت دورة القمر فى السماء ما بين زيادة و نقصان هى تعبير عن قوة روحانية ماورائية تؤثر‬

‫على الخصوبة و النمو و الموت و االنبعاث من جديد و هى الدورة التى يهيمن عليها أوزير ‪.‬‬

‫‪- 115 -‬‬


‫أما القمر نفسه ‪ ,‬فقد ارتبط فى الفكر الدينى المصرى بعدد من الكيانات االلهية ‪ ,‬أهمها تحوت‬

‫و الذى أشرنا من قبل لدوره فى منظومة الخلق ‪.‬‬

‫نجم زيريوس (الشعرى) ‪-:‬‬

‫و كما تعبر كل من دورة الشمس و القمر فى السماء عن أحد الكيانات االلهية ‪ ,‬كذلك نجمة الشعرى‬

‫(زيريوس) التى كان شروقها االحتراقى بعد االنقالب الصيفى هو عالمة بداية فيضان النيل ‪.‬‬

‫و الشروق االحتراقى هو مصطلح فلكى يعنى أول ظهور لنجم بعد اختفائه تحت خط األفق لعدة أيام‬

‫و عادة ما يكون الشروق االحتراقى قبل شروق الشمس بدقائق ‪.‬‬

‫لم تكن الشعرى مجرد نجم فى السماء ‪ ,‬و انما هى الجسد المادى الظاهر ألحد الكيانات االلهية التى‬

‫تنعكس حركتها فى السماء بشكل خاص على حياة االنسان و على مظاهر الطبيعة على األرض ‪.‬‬

‫يدهشنا علم الفيزياء الكونية الحديث بأرقام مذهلة عن أحجام النجوم و أشكالها و بعدها أو قربها منا‬

‫و حجم األرض الضئيل بالنسبة ألجرام سماوية أخرى ‪ .‬تعكس هذه المعلومات المذهلة نظرة‬

‫االنسان المعاصر للوجود و هى نظرة تهتم بالكم (المظهر) على حساب الكيف (الجوهر) ‪ ,‬حيث‬

‫يستند معيار الحقيقة الى المظهر الخارجى الذى يدرك بالحواس المادية ‪.‬‬

‫و على النقيض من ذلك ‪ ,‬كان انسان الحضارات القديمة يحيا فى عالم مفعم بالحضور االلهى ‪ .‬فكل‬

‫مظهر خارجى من مظاهر الطبيعة هو تعبير عن حضور أحد الكيانات االلهية ‪.‬‬

‫و هو عالم ال تحتل فيه المسافات أهمية كبرى ‪.‬‬

‫كان المكان بالنسبة النسان الحضارات القديمة ال يمتد بشكل أفقى و انما بشكل رأسى ‪ .‬بمعنى أن‬

‫كل موضع مادى سواء على األرض أو فى قبة السماء هو نافذة تفضى الى عوالم باطنية تسكنها‬

‫كيانات الهية و أرواح و هى ليست منفصلة عن األحداث التى تقع فى حياتنا اليومية ‪.‬‬

‫كان المصرى القديم يرى أن هناك عالقة باطنية تربط نجمة الشعرى ( و يطلق عليها فى مصر‬

‫القديمة "سوبدت" ) بدورات الزمن على األرض ‪.‬‬

‫‪- 116 -‬‬


‫لم تقتصر هذه العالقة على اعتبار الشروق االحتراقى لنجمة "سوبدت" عالمة بداية الفيضان فقط ‪,‬‬

‫و انما كان ذلك الحدث الفلكى هو أيضا بداية السنة المصرية و هو العالمة الفلكية األساسية فى‬

‫التقويم المصرى القديم ‪.‬‬

‫كان الشروق االحتراقى لنجمة "سوبدت" عالمة مثالية لبداية السنة ألنه يتكرر كل ‪ 105‬و ¼ يوم ‪,‬‬

‫و هو جزء من نظام التقويم المعقد فى مصر القديمة و الذى يشمل التقويم الدينى الذى يعتمد على‬

‫حركة نجمة سوبدت التى تستغرق ‪ 105‬و ¼ يوم بالتنسيق مع تقويم آخر مدنى يعتمد على حركة‬

‫العشريات (‪ , )decans‬و هى عبارة عن ‪ 10‬عشرية ‪ ,‬تظهر كل عشرية منها فى قبة السماء لمدة‬

‫‪ 01‬أيام ( ‪ 10‬مجموعة ‪ 01 X‬أيام = ‪ 101‬يوم ‪ 5 +‬أيام تعرف باسم الشهر الصغير = ‪105‬‬
‫يوم) ‪.‬‬

‫و ألن التقويم المدنى أقصر من التقويم الشعرى (الذى يعتمد على حركة نجم الشعرى) بربع يوم ‪,‬‬

‫فان بداية السنة الشمسية تتزامن مع بداية السنة الشعرية مرة واحدة فقط كل ‪ 0400‬سنة ‪.‬‬

‫تشكل هذه الفترة الزمنية (‪ 0400‬سنة) جزءا هاما من دورة كونية أخرى أكبر منها تعرف باسم‬

‫دورة السبق (‪ , )precession of the equinoxes‬و هى دورة يتحرك فيها موقع الشمس فى‬

‫االعتدال الربيعى حركة تراجعية بطيئة جدا من برج الى برج آخر من أبراج الزودياك ‪ ,‬حيث تعود‬

‫الشمس الى نفس الموضع كل ‪ 20‬ألف سنة ‪.‬‬

‫يقول عالم الكيمياء الفرنسى "‪ "R.A. Schwaller De Lubicz‬أن هذه الدورة ليست ثابته و انما‬

‫تتناقص مدتها بمرور الزمن ‪ .‬ففى عام ‪ 1111‬قبل الميالد كانت دورة السبق تتكون من ‪ 03‬سنة‬

‫شعرية ( السنة الشعرية الواحدة تتكون من ‪ 0400‬سنة ) أما فى العصر الحديث فقد أصبحت مدة‬

‫دورة السبق أقصر من ذلك ‪.‬‬

‫من المحتمل أن قدماء المصريين قسموا حركة الشمس فى مدارها الفلكى حسب دورة أبراج‬

‫الزودياك االثنى عشر ‪ ,‬اال أن السجالت الفلكية التى تركوها تشير الى أنهم كانوا يعتمدون بشكل‬

‫أساسى على حركة ‪ 10‬مجموعة نجمية توجد فى النصف الجنوبة من قبة السماء و تعرف باسم‬

‫‪- 117 -‬‬


‫العشريات (‪. )decans‬‬

‫و الحركة التراجعية للشمس بالنسبة للعشريات تستغرق نصف سنة شعرية (أى تستغرق ‪ 711‬سنة)‬

‫يطلق على هذه الدورة التى تتكون من ‪ 711‬سنة و التى تعادل مدتها نصف سنة شعرية (أى نصف‬

‫‪ 0400‬سنة) اسم "األسبوع الكونى" ‪.‬‬

‫اذا قسمنا رحلة الشمس التراجعية فى أبراج الزودياك و التى تستغرق ‪ 20‬ألف سنة الى ‪ 02‬قسم ‪,‬‬

‫سيكون كل قسم منها بمثابة شهر كونى ‪ ,‬و كل شهر منها ينقسم الى ثالثة أسابيع كونية (كان الشهر‬

‫عند قدماء المصريين ينقسم الى ثالثة أسابيع ‪ ,‬كل أسبوع ‪ 01‬أيام) ‪ ,‬و كل أسبوع كونى يستغرق‬
‫حوالى ‪ 711‬سنة ‪.‬‬

‫كان قدماء المصريين ينظرون للعشريات باعتبارها كيانات الهية ‪ ,‬و نفس المبدأ ينطبق أيضا على‬

‫األسابيع الكونية ‪.‬‬

‫و اذا قسمنا األسبوع الكونى الى أيام ‪ ,‬سيكون اليوم الكونى عبارة عن ‪ 71‬سنة ‪ ,‬و هو رقم مقدس‬

‫ألنه هو متوسط عمر االنسان ‪ ,‬و هو أيضا الفترة التى يستغرقها جرم سماوى لكى يغير موقعه فى‬

‫قبة السماء درجة واحدة ‪ .‬فكل حوالى ‪ 71‬سنة تحدث ازاحة لمواقع كل األجرام السماوية تقريبا‬

‫و تتحرك من موضعها بمقدار درجة واحدة ‪.‬‬

‫و كل جيل من أجيال البشر يعيش تحت تأثير عشرية أو اثنين من العشريات ‪.‬‬

‫أما نجم الشعرى ‪ ,‬فال شك أنه كان يحتل موقعا مركزيا فى الكون فى نظر قدماء المصريين ‪.‬‬

‫يقول عالم الكيمياء الفرنسى "‪ "R.A. Schwaller De Lubicz‬أن نجم الشعرى فى نظر قدماء‬

‫المصريين هو الشمس المركزية التى يتبعها نظامنا الشمسى ‪.‬‬

‫كانت طقوس المعابد فى مصر القديمة تعبر عن وجود عالقة باطنية تربط بين نجم الشعرى و بين‬

‫نظامنا الشمسى ‪.‬‬

‫يشير نظام التقويم المعقد فى مصر القديمة الى وجود علم فيزياء كونية متقدم عند قدماء المصريين‬

‫و يدل على امتالكهم معرفة عميقة بأبعاد الكون تتخطى فكرة األرض المسطحة ‪.‬‬

‫‪- 118 -‬‬


‫يمكننا أن ننظر الى فكرة األرض المسطحة التى عبرت عنها الفيزياء الكونية المصرية فى سياق‬

‫علم الوجود المصرى الذى يحتوى على عوالم ماورائية تتداخل مع عالمنا حسب نظام هرمى له‬

‫ترتيب معين من الباطن الى الظاهر عبر عنها المصرى القديم بصور رمزية ‪.‬‬

‫كان التقويم فى مصر القديمة يهدف الى جعل مصر فى تناغم مع القوى الروحانية فى الكون ‪,‬‬

‫و من أهمها الكيان االلهى الذى يتجلى فى نجمة الشعرى ‪ .‬ذلك الكيان االلهى لم يكن سوى األم‬

‫الكونية ايزيس ‪.‬‬

‫جاء فى نصوص معبد فيلة هذا االبتهال اليزيس ‪-:‬‬

‫*** أنا التى تتجلى فى نجمة "سوبدت" ( الشعرى ‪/‬زيريوس) ‪ ...‬أنا األم الكونية التى يبتهل اليها‬

‫البشر ‪ ...‬أنا من قمت بفصل السماء عن األرض ‪ ..‬و انا التى أرشد النجوم فى مداراتها ‪ ..‬انا من‬

‫حددت للشمس و القمر مساراتها ***‬

‫تظهر ايزيس فى المشهد التالى فى هيئة نجمة الشعرى و هى ترشد النجوم فى مدارتها ‪ .‬تتبعها‬

‫ثالثة كواكب هى فى الغالب ‪ :‬زحل ‪ ,‬و عطارد ‪ ,‬و المشترى ‪.‬‬

‫تمسك ايزيس بمفتاح الحياة "عنخ" و بعصا أخرى على شكل عود من البردى يرمز للخصوبة ‪.‬‬

‫‪- 119 -‬‬


‫"ايزيس – سوبدت" (الشعرى) ترشد النجوم الى مداراتها‬

‫( من سقف مقبرة الملك سيتى األول ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫أطلق قدماء المصريين على "ايزيس ‪ -‬سوبدت" (نجمة الشعرى) لقب "الواهبة العظيمة" ‪.‬‬

‫و اطالق مثل هذا اللقب على جرم سماوى بعيد جدا عن األرض يعنى أن قدماء المصريين كانوا‬

‫ينظرون للوجود الباطنى لذلك النجم ‪.‬‬

‫منذ عصر متون األهرام (أى منذ عصر الدولة القديمة) عرفت "ايزيس – سوبدت" بأنها هى التى‬

‫توفر القوت للملك و لمصر كلها مع طلعة كل عام جديد ‪.‬‬

‫النيل ‪-:‬‬

‫رأى المصرى القديم فى تزامن الشروق االحتراقى لنجم الشعرى مع بداية فيضان النيل مغزى‬

‫عميق يتعلق بالنظام الكونى ‪ .‬فما يبدو فى الظاهر على أنه تزامن بين حدث يقع على األرض‬

‫و آخر يقع فى السماء هو تعبير عن العالقة الروحانية التى تربيط بين اثنين من الكيانات االلهية ‪.‬‬

‫كان النيل بوجه عام فى نظر قدماء المصريين هو الجسد المادى للكيان االلهى "حابى" ‪.‬‬

‫و لكن أثناء الفيضان ال يكون النيل "حابى" ‪ ,‬و انما هناك قوة روحانية أخرى تحل فى النيل‬

‫و تهيمن عليه أثناء ذلك الحدث ‪ ,‬حيث تمتزج مياه الفيضان المرتفعة بطاقة روحانية تتسم بالقدرة‬

‫على االخصاب و خلق حياة جديدة من جسد األرض الميت ‪ .‬تتدفق مياه الفيضان و هى مشبعة‬

‫بالطمى الذى تعتمد عليه حياة األرض فى الدورة الزراعية الجديدة ‪.‬‬

‫أثناء حدث الفيضان يتحول النيل من "حابى" الى أوزير (زوج ايزيس) ‪ ,‬و هو الكيان االلهى الذى‬

‫يشرف على دورات الميالد و الحياة و الموت و االنبعاث من جديد ‪.‬‬

‫فى الشهور التى تسبق الفيضان يجف النيل و ينظر له قدماء المصريين باعتباره جسد أوزير الميت‬

‫و الذى تبكيه ايزيس و تنتحب من أجله ‪.‬‬

‫‪- 120 -‬‬


‫يقول المؤرخ االغريقى بلوتارك أن ايزيس هى األرض الجافة العطشى ؛ هى روح الطبيعة التى‬

‫تفتقد ماء الحياة ‪.‬‬

‫فى المشهد التالى تظهر ايزيس بجوار جثمان زوجها الحبيب أوزير و وجهه يتجه الى أسفل ‪ ,‬نحو‬

‫األرض ‪ .‬و هنا تعتبر ايزيس قوة كونية (سماوية) و أيضا قوة من قوى الطبيعة التى تتدخل فى‬

‫الحياة على األرض ‪.‬‬

‫"ايزيس" تبكى زوجها الحبيب أوزير‬

‫( من معبد حتحور بدندرة ‪ ,‬عصر بطلمى )‬

‫ايزيس هى األم الكونية التى تتجسد فى نجمة "سوبدت" (الشعرى) فى السماء ‪ ,‬و هى أيضا األم‬

‫الكونية التى خلقت الحياة على األرض ‪.‬‬

‫ان بكاء األرض و نحيبها على أوزير هو حدث كونى ‪ ,‬ألن القوة التى تخلق الحياة على األرض‬

‫هى نفس القوة التى تخلق الحياة فى كل مكان فى الكون ‪ .‬فدموع "ايزيس – سوبدت" فى تجليها‬

‫السماوى وسط النجوم هى التى تمأل النيل (رمز جسد أوزير) بالمياه الى أن يفيض ‪ .‬و ذلك وفقا‬

‫ألحداث األسطورة التى تقول أن ايزيس هى التى أعادت الحياة لجسد أوزير الميت ‪ ,‬و حملت منه‬

‫بالطفل حورس ‪.‬‬

‫و لذلك يقال أن مياه النيل حين تنحسر بعد انتهاء موسم الفيضان و موسم االنبات تصبح األرض‬

‫الزراعية تحت حراسة حورس الى أن يعود أوزير للحياة مرة أخرى فى موسم الفيضان القادم ‪.‬‬

‫‪- 121 -‬‬


‫يطلق على موسم الفيضان اسم "آخت" ‪ ,‬أما موسم االنبات أو البعث فيطلق عليه اسم "بيريت" ‪.‬‬

‫يصور المشهد التالى حورس و هو يخرج من بين جناحى أمه ايزيس ‪ .‬يمكننا أن ننظر الى هذا‬

‫المشهد على أنه صورة لتتابع فصول السنة و هو انعكاس لتغير فى الطاقة المنبعثه من الكيانات‬

‫االلهية ‪.‬‬

‫حورس يقف بين جناحى أمه ايزيس‬

‫( التمثال معروض بالمتحف البريطانى )‬

‫ترتبط هيمنة حورس على األرض الزراعية بمبدأ االزدواجية ‪ ,‬فحورس دائما ما يقابله "ست" ‪.‬‬

‫حورس هو حارس الحياة و النظام و التناغم على األرض ‪ ,‬أما "ست" فهو الذى يهدم الحياة و يدعم‬

‫الفوضى ‪.‬‬

‫فى موسم االنبات أو البعث ‪ ,‬حين يبدأ غرس الحبوب و الغالل ‪ ,‬تزداد حدة الصراع بين هذه القوى‬

‫المتناقضة ‪ .‬حيث تقف األرض الطينية السوداء التى تخترقها الترع و القنوات كرمز للنظام و الحياة‬

‫و الوفرة ‪ ,‬فى مقابل األرض الحمراء (الصحراء) التى تحيط بوادى النيل من الجانبين و هى رمز‬

‫‪- 122 -‬‬


‫الفوضى و الموت و العقم ‪.‬‬

‫و هكذا تعيد الطبيعة قصة الصراع بين حورس و ست فى موسم االنبات و البعث من خالل‬

‫التغيرات التى تطرأ على األرض ‪ .‬و لكن بانتهاء موسم الحصاد ‪ ,‬يهيمن "ست" على المملكتين‬

‫و تصبح األرض كلها جافة ميته ‪ ,‬حتى أرض الوادى و الدلتا ‪.‬‬

‫يطلق على موسم الجفاف اسم "شمو" ‪ ,‬و هو الموسم الذى يبلغ فيه الصراع ذروته بين حورس‬

‫و ست ‪ ,‬بين قوى البناء و قوى الهدم ‪ ,‬بين الحياة و الموت ‪ ,‬بين النظام و الفوضى ‪ .‬و الساحة التى‬
‫يجرى فيها الصراع هى أرض مصر ‪.‬‬

‫فى حرارة أشهر فصل الجفاف ‪ ,‬تتبخر مياه النيل و تجف تماما ‪ ,‬و تختفى معها قوى الخصوبة‬

‫و الحياة ‪ ,‬و هو ما عبر عنه قدماء المصريين بصورة أوزير الذى قتل على يد أخيه "ست" ‪.‬‬

‫ال يتوقف األمر على قتل أوزير فقط و انما يهدد ست أيضا باالستيالء على مملكة حورس وريث‬

‫أبيه أوزير ‪ .‬و هكذا كان المصرى القديم يعيش أحداث أساطير نشأة الكون فى حياته اليومية بشكل‬

‫دائم مع تكرار دورات الطبيعة ‪.‬‬

‫فالطبيعة و التغيرات التى تطرأ عليها مع تتابع فصول السنة هى المسرح الذى يتم فيه عرض‬

‫الدراما الكونية التى تحكى قصة الخلق ‪.‬‬

‫ان عالم األسطورة هو عالم القوى الروحانية و هى قوى ليست منفصلة عن عالم البشر و انما هى‬

‫تتخلله ‪ ,‬كما تتخلل كل شئ فى الكون ‪.‬‬

‫يقول عالم األنثروبولوجى "ميرسيا ايلياد" ‪-:‬‬

‫*** تشكل األسطورة نواة علم الوجود عند انسان الحضارات القديمة ‪ .‬تتحدث األساطير عن حقائق‬

‫‪ ,‬أى عن أحداث كونية أزلية وقعت فى عالم الهى ‪ /‬مقدس ‪ ,‬ذلك العالم االلهى هو العالم الحقيقى ‪/‬‬

‫المطلق " ‪.‬‬

‫لبعض األحداث التى تقع فى عالم الزمان و المكان مغزى ميثولوجى ماورائى ‪.‬‬

‫و لذلك كان المصرى القديم دائما ما يدمج األحداث التاريخية فى األحداث الميثولوجية و يدمج ما‬

‫هو دنيوى فى ما هو مقدس ‪ ,‬و يدمج عالم الظاهر فى عالم الباطن ‪.‬‬

‫‪- 123 -‬‬


‫األعياد و عالمات الزمن ‪-:‬‬

‫كان لالحتفال باألعياد أهمية كبرى فى حياة قدماء المصريين و هى أهمية تنبع من رؤيتهم للزمن‬

‫و دوراته التى كانت فى نظرهم انعكاس لعوالم باطنية و اعادة تكرار ألحداث ميثولوجية‬

‫(أسطورية) ‪.‬‬

‫كانت األعياد فى مصر القديمة دائما موجهة الى العالم االلهى ‪ /‬األسمى ‪ .‬فاألعياد ليست فقط‬

‫الوسيلة التى يضع بها الشعب عالمات فوق تيار الزمن المتدفق ‪ ,‬و انما هى أيضا الوسيلة التى تنقل‬

‫المشاركين فيها من عالم الزمان و المكان الزائل الى عالم الكيانات االلهية الخالد األبدى ‪.‬‬

‫فى األعياد يتحرر أفراد الشعب من القيود التى تربطهم بعالم األرض الزائل و ينتقلون للعيش فى‬

‫عالم األسطورة الخالد ‪.‬‬

‫ان احتفال قدماء المصريين باألعياد هو عبارة عن وضع عالمات فوق الزمن ‪ ,‬و هى عالمات‬

‫مستمدة من عالم الهى ‪ /‬مقدس خارج حدود الزمان ‪.‬‬

‫تخبرنا األدلة األثرية العديدة أن األعياد فى مصر القديمة هى مناسبات تجتمع فيها حشود غفيرة من‬

‫أفراد الشعب و يشاركون فيها من خالل مواكب مقدسة مفعمة بالحيوية ‪ ,‬حيث يمارس فيها االنشاد‬

‫و عزف الموسيقى و التصفيق و الرقص ‪.‬‬

‫و كانت المواكب السائرة على ضفاف النيل غالبا ما تصاحب مواكب أخرى باستخدام قوارب تبحر‬

‫فوق صفحة النيل و تحمل فى داخلها الصور المقدسة للكيانات االلهية ‪.‬‬

‫يمكننا أن نتخيل تلك االحتفاالت فى أجواء مفعمة بالحيوية ‪ ,‬حيث األلوان و الرايات و األعالم‬

‫ترفرق فوق الحشود الغفيرة التى تشارك فى العيد و هى فى الغالب فى حالة من النشوة سواء من‬

‫الموسيقى و االنشاد أو من تناول النبيذ ‪.‬‬

‫و لكن ما يجتذب الناس لهذه االحتفاالت ليس فقط الموسيقى أو الطعام و الشراب و انما العاطفة‬

‫الدينية ‪ .‬فكل الطقوس و الشعائر التى تتم ممارستها فى األعياد هى طقوس موجهة الى الكيانات‬

‫‪- 124 -‬‬


‫االلهية و مكرسة من أجل اقامة جسر أو همزة وصل بين عالمنا و عالمها و من أجل استحضارها‬

‫أو اقامة "حضرة" لها بحيث تكون الكيانات االلهية فى حالة حضور دائم على األرض ‪.‬‬

‫و فى قلب االحتفال باألعياد يقف الكهنة الذين يقدمون األضاحى من الثيران و يقيمون الطقوس‬

‫و الشعائر المقدسة ‪.‬‬

‫األعياد هى احتفاليات كبرى يشارك فيها مختلف أطياف الشعب من رجال و نساء و أطفال ‪.‬‬

‫كتب المؤرخ اليونانى هيرودوت واصفا األعداد الغفيرة التى كانت تشارك فى أعياد "باستت" فى‬

‫مدينة "بوباستيس" (تل بسطة بالشرقية) كل عام بحوالى ‪ 711‬ألف مواطن ‪ ,‬و ذلك فى الفترة التى‬

‫زار فيها هيرودوت مصر فى القرن الخامس قبل الميالد‪.‬‬

‫كما يقدر أعداد المشاركين فى عيد ايزيس فى مدينة "بوزيريس" (أبو صير بننا ‪ ,‬احدى قرى مركز‬

‫سمنود ‪ ,‬محافظة الغربية) بحوالى عشرة آالف مواطن ‪.‬‬

‫لم تكن األعياد مجرد تجمعات و حشود ‪ ,‬فلها جانب آخر باطنى بخالف المظاهر العاطفية الصاخبة‬

‫لالحتفال ‪ .‬فكل عيد من األعياد هو مناسبة تقام فيها طقوس سرية باطنية داخل المعابد تدور حول‬

‫الوالدة من جديد والدة روحانية ‪ .,‬و هى طقوس أوزيرية ‪ ,‬بمعنى أن المشارك فيها يعيد تكرار‬

‫حدث موت و بعث أوزير بشكل طقسى و بذلك يطلع على المعرفة الروحانية بشكل مباشر أثناء‬

‫قيامه بتجارب خارج الجسد و ارتحاله فى العالم السفلى و العالم السماوى ‪.‬‬

‫كان الصخب الذى يشوب المواكب االحتفالية على ضفاف النيل مصحوبا باقامة طقوس سرية‬

‫باطنية داخل المعابد ‪.‬‬

‫فى الفقرات التالية من هذا الفصل سنستعرض ثالثة أعياد رئيسية ارتبطت بفصول السنة الثالثة‬

‫و التى يحددها فيضان النيل ‪.‬‬

‫فى مصر القديمة ‪ ,‬كان هناك عدد كبير من األعياد و المناسبات التى تقام فى فترات االنتقال من‬

‫فصل الى فصل آخر من فصول السنة ‪.‬‬

‫و لكننا سنركز على األعياد التى ترتبط بشكل مباشر بأحداث ميثولوجية أى احداث أزلية كونية‬

‫‪- 125 -‬‬


‫وقعت ضمن سياق أحد األساطير ‪ ,‬و التى رأى قدماء المصريين أنها تنعكس فى الطبيعة على‬

‫األرض من خالل دورة فيضان النيل و انحساره ‪.‬‬

‫الفيضان ‪-:‬‬

‫فى منتصف الصيف تعود نجمة "سوبدت" (الشعرى) للظهور مجددا فى السماء بعد اختفائها عن‬

‫األنظار تحت خط األفق لمدة ‪ 71‬يوما ‪ .‬يطلق على هذا الحدث الفلكى اسم الشروق االحتراقى‬

‫لنجمة الشعرى و يعتبر هو عالمة بداية السنة فى مصر القديمة ‪.‬‬

‫نظر قدماء المصريين للشروق االحتراقى لنجمة الشعرى باعتباره بداية السنة الشعرية و أيضا بداية‬

‫السنة القمرية ‪ ,‬و التى تبدأ فى أول يوم محاق للقمر (اليوم الذى يظلم فيها القمر تماما قبل أن يولد‬

‫من جديد) بعد الظهور االحتراقى لنجمة الشعرى مباشرة ‪.‬‬

‫كان كهنة مصر القديمة يحددون األعياد دائما وفقا للتقويم القمرى و حسب مراحل القمر ‪.‬‬

‫فى مصر القديمة كان هناك ثالثة أنواع من التقويم ‪.‬‬

‫(‪ )1‬التقويم المدنى ‪ ,‬و يتكون من ‪ 101‬يوم ‪ 5 +‬أيام تعرف باسم الشهر الصغير ‪ ,‬و هو تقويم‬

‫يعتمد على حركة مجموعات نجمية معينة تعرف باسم العشريات ‪.‬‬

‫(‪ )2‬التقويم الشعرى ‪ ,‬و يتكون من ‪ 105‬و ¼ يوم و يعتمد على حركة نجمة الشعرى فى السماء‬

‫و يعتبر ظهورها االحتراقى بعد فترة اختفاء هو عالمة بداية السنة ‪.‬‬

‫(‪ )3‬التقويم القمرى ‪ ,‬و يتكون من ‪ 154‬يوم ‪ ,‬و يعتمد على دورة القمر الشهرية التى تستغرق‬

‫‪ 29‬يوم و نصف تقريبا ‪.‬‬

‫و بسبب قصر مدة السنة القمرية بالمقارنة بالسنة الشعرية ‪ ,‬كان الكهنة يقومون باضافة شهرصغير‬

‫مدته ‪ 00‬يوم كل سنتين أو ثالثة سنوات لكى يعيد التوازن بين التقويمين ‪ ,‬و يعتبر شهرا مقدسا ل‬

‫"تحوت" ‪.‬‬

‫بعد الشروق االحتراقى لنجمة "ايزيس – سوبدت" (الشعرى) مباشرة يتجاوب معها النيل و يبدأ فى‬

‫‪- 126 -‬‬


‫الفيضان ‪ .‬تقول احدى األساطير أن مياه فيضان النيل هى دموع ايزيس التى ذرفتها حزنا على‬

‫زوجها و حبيبها أوزير ‪ .‬و لذلك يطلق على العيد الذى يقام لالحتفال ببداية موسم الفيضان "آخت"‬

‫اسم "عيد سقوط دموع ايزيس" ( و يعرف فى ريف مصر حتى اليوم باسم "ليلة النقطة" ) ‪.‬‬

‫يقول المؤرخ االغريقى هيرودوت الذى زار مصر فى القرن الخامس قبل الميالد أن االحتفال ببداية‬

‫السنة و الذى يتزامن مع الشروق االحتراقى لنجمة "ايزيس ‪ -‬سوبدت" هو أهم األعياد فى مصر‬
‫القديمة ‪.‬‬

‫يأتى ذلك العيد فى منتصف الصيف و يتزامن مع بداية الفيضان ‪ .‬و ال يوجد أى عيد آخر فى مصر‬

‫القديمة ينافسه فى األهمية و مظاهر البهجة التى تصاحبه ‪.‬‬

‫فى نظر عامة الشعب ‪ ,‬كان ذلك العيد هو احتفال برب النيل "حابى" ‪.‬‬

‫يظهر "حابى" فى المشهد التالى فى صورة "خنثى" (أى بمالمح ذكر ‪ ,‬و صدر و بطن أنثى حبلى)‬

‫‪ ,‬و يرتدى حزام الصيادين ‪ ,‬و يحمل الزهور و أوانى الماء و هى الهدية أو الهبة التى يهديها لشعب‬

‫مصر كل عام ‪.‬‬

‫‪- 127 -‬‬


‫رب النيل "حابى" يحمل الماء و الزهور و الخيرات‬

‫( من معبد حورس بادفو ‪ ,‬عصر بطلمى )‬

‫و بسبب تعدد جوانب التجليات االلهية ‪ ,‬لم تكن األعياد المصرية الموسمية تنحصر فى تقديس كيان‬

‫الهى واحد فقط ‪ .‬فمن الممكن – بل من المقبول فى نظر قدماء المصريين – أن يرتبط االحتفال‬

‫بفيضان النيل بأوزير أحيانا ‪ ,‬و بحابى فى أحيان أخرى ‪.‬‬

‫لم يكن لحابى معابد خاصة فى مصر القديمة ‪ ,‬و مع ذلك فقد كان قريبا لقلوب عامة الشعب ‪ ,‬و كان‬

‫يشكل جزءا هاما من وعيهم الدينى ‪.‬‬

‫و هناك أنشودة شهيرة ل "حابى" (و قد حفظها قدماء المصريين بصيغ مختلفة) تصف مشاعر‬

‫البهجة التى كانت تصاحب بداية موسم الفيضان و تصف جانبا من االحتفاالت التى كانت تقام بهذه‬

‫المناسبة ‪ .‬تقول كلمات األنشودة ل "حابى" ‪-:‬‬

‫*** من أجلك تعزف األغانى على الهارب ‪ ...‬و لك ينشد الناس االبتهاالت و هم يصفقون ‪...‬‬

‫و يصيح الشباب و الصبية ابتهاجا بقدومك ‪ ...‬من أجلك ترتدى حشود الناس أبهى زينتها ‪ ...‬يا من‬

‫يأتى بالخيرات فتبدو األرض فى أبهى صورها ‪ ,‬و تزهر األشجار ‪ ...‬و يبتهج قلب كل امرأة حبلى‬

‫بفضلك ‪ ...‬يا من تحب الخير و النماء لكل المخلوقات ‪ ...‬حين ترتفع و تصل الى مقر الملك ‪ ,‬يقيم‬

‫الناس الموائد و المأدبات مما يخرج من الحقول و المروج ‪ ...‬و يتزينون بأزهار اللوتس الفواحة ‪...‬‬

‫و تمتلئ أيادى األطفال باألعشاب ‪ ,‬و لكنهم ينسون تناولها من البهجة التى تمأل قلوبهم ‪ ...‬تحيط‬

‫الزروع و األزهار بالبيوت ‪ ,‬و تقفز األرض كلها من الفرحة ‪ ...‬حين ترتفع يا حابى ‪ ,‬تقدم لك‬

‫األضاحى و القرابين ‪ ,‬و تذبح الثيران من أجلك ‪ ...‬يقدم لك القربان العظيم ‪ ...‬و تذبح الطيور من‬

‫أجلك ‪ ...‬ان ما قدمته من خير و عطاء يرد لك مرة أخرى فى صورة قرابين ‪ ...‬تقدم القرابين لكل‬

‫الكيانات االلهية ‪ ,‬من كل ما أنعم به حابى على أرض مصر ‪ ,‬من كل أنواع البخور و الثيران‬

‫و الماعز و الطيور المشوية ‪ ...‬حين تأتى ‪ ,‬ترافقك البهجة ‪ ...‬يا من تطعم البشر و قطعان الماشية‬

‫‪- 128 -‬‬


‫بالهدايا التى تنبت من المروج بفضلك ‪ ...‬حين تاتى ترافقك البهجة يا حابى ***‬

‫لكى نفهم مغزى هذه األنشودة و البهجة المقصودة فى سياقها ‪ ,‬علينا أن نعى أوال أن النيل كان فى‬

‫بعض األحيان يأتى بمعدل أقل من المياه التى تكفى لموسم الزراعة القادم ‪ .‬لذلك كان هناك دائما‬

‫خوف عند قدماء المصريين من أن يأتى الفيضان بأقل مما تحتاجه أرض مصر ‪ ,‬أو ال يأتى ‪.‬‬

‫و قد جاء ذكر العديد من المجاعات و األزمات االقتصادية التى عانتها مصر طوال تاريخها القديم‬

‫نتيجة نقص مياه الفيضان ‪.‬‬

‫لم يكن هناك أى ضمان أن مياه الفيضان سوف تأتى بكل احتياجات األرض فى كل األعوام ‪.‬‬

‫كما أن أيام الفيضان يمكن أن تتغير أو تتأخر لبضعة أيام من سنة الى أخرى ‪.‬‬

‫يمكننا أن نتخيل مدى القلق الذى ينتشر فى كل أنحاء مصر اذا تأخر الفيضان ‪.‬‬

‫و من عادات االحتفال بفيضان النيل فى منطقة جبل السلسلة (و تقع على بعد ‪ 05‬كيلو متر شمال‬

‫أسوان) قيام الكاهن األكبر أو الملك فى بعض األحيان بتقديم أضحية من ثور و أوز ‪ ,‬يعقبها القاء‬

‫لفافة بردى مغلقة و مختومة تحوى رسالة من الملك الى حابى تأمره بأن يفيض الى المنسوب الذى‬

‫يضمن لكل أرض مصر احتياجاتها فى العام القادم ‪.‬‬

‫فى هذا الطقس يوجه الملك (أو الكاهن األكبر الذى ينوب عنه) – بوصفه حورس – خطابه لحابى‬

‫و يأمره بأن يؤدى دوره فى منظومة الخلق حسب قوانين النظام الكونى التى تقوم على التناغم‬

‫و االتزان ‪ ,‬فال تأتى مياه الفيضان أكثر و ال أقل مما تحتاجه األرض ‪.‬‬

‫و باالضافة الى "حابى" ‪ ,‬كان المصرى القديم يستشعر حضور قوة الهية أخرى تتجلى بشكل خاص‬

‫فى مياه الفيضان التى ترتفع بالتدريج ‪ .‬و هذه القوة االلهية هى أوزير ‪.‬‬

‫جاء فى متون األهرام (نص رقم ‪-: )535‬‬

‫*** يا أوزير ‪ ,‬اصعد الى حورس ‪ ,‬اقترب منه ‪ ,‬و ال تبتعد عنه ‪ ...‬لقد أتى حورس لكى يتعرف‬

‫عليك ‪ ...‬لقد ضرب على يد ست من أجلك ‪ ...‬أنت قدر "ست" ‪ ...‬لقد أتى حورس و عرف أنك أباه‬

‫‪ ...‬لقد ولد حورس طفال يانعا بسبب قدرتك التى تتجلى فى اسمك المقدس و هو المياه المتجدده ***‬

‫‪- 129 -‬‬


‫يوصف الفيضان فى النص السابق بأنه ميالد جديد ألوزير و تجديد لشبابه ‪.‬‬

‫فى فصل الجفاف "شمو" تقل قدرة أوزير على منح الخصوبة تدريجيا الى أن تتالشى ‪ ,‬و تجف مياه‬

‫نهر النيل ‪ ,‬و يبدو و كأنه شخص مات و فقد طاقته تماما ‪.‬‬

‫كتب المؤرخ االغريقى بلوتارك يصف الطقوس التى تجرى فى ذلك الوقت الحرج من السنة‬

‫يقول ‪-:‬‬

‫*** فى ذلك الوقت من السنة يقوم كهنة مصر بالعديد من الطقوس ‪ ,‬و منها طقس يأتون فيه ببقرة‬

‫مغطاه بالذهب و يلفون جسدها بشرائط من الكتان األسود كعالمة على الحزن و الحداد ‪ ,‬و هذه‬

‫البقرة هى صورة اليزيس و لألرض بوجه عام ‪ .‬يبدأ هذا الطقس فى اليوم السابع عشر من الشهر‬

‫‪ ..‬و فى الليلة التاسعة عشرة من الشهر ينزل الكهنة الى المياه الضحلة للنيل و يستخرجون منها‬

‫الصندوق المقدس المحفوظ داخل تابوت ذهبى ‪ ,‬و يسكبون بداخله قدرا من مياه الشرب التى‬

‫أحضروها معهم فى وعاء ‪ ,‬و هنا يصيح الحاضرون "لقد عثر على أوزير" ‪ .‬ثم يقومون بخلط‬

‫المياه بتربة األرض ‪ ,‬و بعد ذلك يمزجون الخليط الطينى بالتوابل و البخور و يشكلون منها تمثال‬

‫على هيئة هالل يرمز التحاد و تزاوج كل من ايزيس (األرض) و الماء (أوزير) ***‬

‫تعود هذه الطقوس للعصر العتيق ‪.‬‬

‫تصف متون األهرام حدث عثور ايزيس و نفتيس (و أحيانا حورس) على جسد أوزير راقدا فوق‬

‫جنبه على أحد ضفتى النيل ‪ .‬و مكان العثور على جثمان أوزير عادة ما يكون هو مدينة "نديت"‬

‫بالقرب من أبيدوس (محافظة سوهاج حاليا) ‪.‬‬

‫‪- 130 -‬‬


‫قيامة أوزير بمساعدة حورس ‪ ,‬رمز بداية الفيضان‬

‫( من معبد حتحور بدندرة ‪ ,‬عصر بطلمى )‬

‫فى الشكل السابق يرفع أوزير جسده الراقد استجابة لحورس الذى أتى للمكان الذى يرقد فوقه أوزير‬

‫مكبا على وجهه ‪.‬‬

‫ان لشفاء أوزير و عودته للحياة فى العالم الميثولوجى تأثير مباشر على العالم المادى ‪.‬‬

‫فبينما يقوم أوزير برفع جسده الراقد ‪ ,‬ترتفع مياه النيل لتمنح الحياة ألرض مصر ‪.‬‬

‫و ربما كان طقس العثور على أوزير جزءا من احتفالية أطول كانت تجرى شعائرها فى أبيدوس ‪.‬‬

‫فى كل أنحاء مصر كانت هناك طقوس تقام لالحتفال بارتفاع مياه الفيضان كل عام ‪ ,‬و كان معظمها‬

‫يتخذ طابعا أوزيريا و يعيد تكرار أحداث موت أوزير و سقوطه فى حالة فقدان الوعى و فقدان‬

‫القدرة على الحركة ثم عودته للحياة و بذلك يعيد الحياة لألرض مرة أخرى ‪.‬‬

‫يهيمن على تلك االحتفاالت شعور عام بالمشاركة فى أحداث أسطورية تقع فى عالم باطنى و لكنها‬

‫تؤثر على عالمنا و تتسبب فى ارتفاع مياه الفيضان ‪.‬‬

‫أعتقد المصرى القديم أنه ال يوجد حدث يقع فى عالمنا المادى ليس له سبب أو جذر فى عالم الروح‬

‫‪- 131 -‬‬


‫و السبب فى فيضان النيل هو عودة الحياة و القوة ألوزير مرة أخرى ‪ ,‬و هى القوة التى تأتى الى‬

‫عالمنا من عالم آخر ماورائى هو ال "دوات" (العالم السفلى‪/‬النجمى) ‪.‬‬

‫فى مصر القديمة كان فيضان النيل حدثا ماديا و باطنيا (روحانيا) فى نفس الوقت ‪.‬‬

‫فهو باطنى ألنه ينتمى الى عالم األسطورة ‪ ,‬و لذلك كان موضع استحضار و اعادة تكرار بشكل‬

‫طقسى ‪.‬‬

‫فبينما يعيد الكهنة االحتفال بحضور أوزير المتجدد ‪ ,‬كانت الطقوس فى نفس الوقت تستحضر القوى‬

‫الروحانية التى تهيمن على الفيضان و تنظم حركته ‪.‬‬

‫ان األفعال الطقسية التى يأتى بها الكهنة و أفراد الشعب يصل صداها الى عالم الروح ‪ ,‬و هو عالم‬

‫الكيانات االلهية الذى تكمن فيه األسباب التى تنبع منها كل مظاهر الطبيعة فى عالمنا ‪.‬‬

‫لم تكن الطقوس المقدسة فى مصر القديمة مجرد ممارسات دينية ‪ ,‬و انما هى ممارسات سحرية‬

‫فى هدفها و تأثيرها ‪.‬‬

‫باالضافة الى الطقوس األوزيرية ‪ ,‬يشير "هليودوروس" (‪ )Heliodorus‬الى أن هناك طقوس‬

‫أخرى باطنية تجرى فى المعابد ‪ ,‬و فيها يصل الطلبة الذين بلغوا درجة عالية من المعرفة الروحانية‬

‫الى رؤى و اشراقات صوفية واضحة تتجاوز الصور الميثولوجية (األسطورية) ‪.‬‬

‫و بالرغم من ذكر هليودوروس لهذه الطقوس ‪ ,‬اال انه لم يذكر تفاصيل حول كيفية اقامة هذا‬

‫الطقوس الصوفية ‪.‬‬

‫االنبعاث ‪-:‬‬

‫فى نهاية فصل ال "آخت" (الفيضان) – فى شهر أكتوبر ‪ /‬نوفمبر – تبدأ مياه النيل فى االنحسار‬

‫لتكشف عن األرض المكسوه بالطمى ‪.‬‬

‫وبقدوم شهر كيهك (الذى يتزامن مع بدايات شهر ديسمبر) يبدأ االحتفال بأحد أهم األعياد ‪.‬‬

‫سجل قدماء المصريين هذا االحتفال على جدران معبد دندرة و وصفوه بأنه احتفال الثمانية عشر‬

‫‪- 132 -‬‬


‫يوما ‪.‬‬

‫يبدأ االحتفال فى النصف الثانى من شهر كيهك ‪ ,‬بعد اكتمال القمر مباشرة ‪ .‬أى أن االحتفال يقام فى‬

‫النصف الثانى من الشهر القمرى الذى ينظر فيه للقمر على أنه يمر بمرحلة موت تسبق انبعاثه من‬

‫جديد فى بداية الشهر التالى ‪.‬‬

‫يتشابه عيد كهيك المصرى مع أحد األعياد األوروبية القديمة التى كانت تقام فى بالد شمال أوروبا‬

‫فى فصل الربيع ‪.‬‬

‫فى نهاية شهر كيهك ‪ ,‬يبدأ الفالحون فى مصر فى غرس بذور القمح و الشعير و غيرها من‬

‫المحاصيل التى يبدأ انباتها فى فصل "بيريت" (فصل االنبات) ‪.‬‬

‫يحمل احتفال شهر كيهك طابعا أوزيريا خالصا ‪ .‬ففيه تتم اعادة دراما موت و بعث أوزير من خالل‬

‫الطقوس ‪.‬‬

‫كان أوزير فى نظر عامة الشعب فى مصر القديمة هو القدرة االلهية التى تنبت بسببها الحبوب‬

‫و الغالل ‪ .‬أوزير هو الذى يجعل الغالل تنبت بفضل المياه التى تحمل فى داخلها سر الحياة ‪,‬‬

‫فتخرج ثمارها لتطعم النبالء و العامة على السواء ‪.‬‬

‫فى معبد فيلة ‪ ,‬هناك نقش يصور ربة على هيئة امرأة برأس بقرة ( رمز "ايزيس – حتحور –‬

‫سوبدت" ) و هى تسكب الماء من اناء لينهمر فوق األرض السوداء التى تنبت منها الغالل ‪ .‬و من‬

‫الغالل تنبثق روح أوزير على هيئة طائر ال "با" (الروح) ‪.‬‬

‫‪- 133 -‬‬


‫قيامة روح أوزير مع انبات الغالل‬

‫( من معبد ايزيس بجزيرة فيلة ‪ ,‬عصر بطلمى )‬

‫يعبر النقش عن فكرة االنبعاث من جديد و التى تتجلى فى عودة الحياة لألرض بفضل المياه التى‬

‫تأتى مع الفيضان فتنبت الحبوب و يخرج الزرع كما انبعثت روح أوزير فى عالم األسطورة‬

‫و عادت للحياة من جديد ‪.‬‬

‫كان غرس الحبوب فى نظر قدماء المصريين بمثابة اعادة تكرار لحدث أزلى هو دفن جثمان أوزير‬

‫الميت و ذلك قبل انبعاثه مباشرة فى صورة نباتات حية تخرج من البذور الميته الخالية من الحياة ‪.‬‬

‫وصف المؤرخ االغريقى بلوتارك مشاعر الحزن التى كانت تنتاب الفالحين فى مصر القديمة‬

‫عند غرس البذور فى بداية موسم االنبات ‪ ,‬و كأنهم يقومون بدفن جثمان أوزير ‪ .‬يقول بلوتارك ‪-:‬‬

‫*** عند قيام الفالحين فى مصر بتسوية األرض بعد أن حرثوها و غرسوا فيها البذور و دفنوها‬

‫تحت التربة كانت وجوههم تعكس الحزن و كأنهم فى حداد على عزيز لديهم قاموا للتو بدفنه ***‬

‫‪- 134 -‬‬


‫و لكن ذلك ال يعنى أن أوزير كان مجرد رب لالنبات أو أن صورته الوحيدة التى ينعكس فيها هى‬

‫صورة الغالل و الحبوب و النباتات ‪.‬‬

‫للكيان االلهى أوزير جوانب أخرى تتعدى االنبات و هى جوانب كانت جلية حتى بالنسبة ألبسط‬

‫الفالحين ‪.‬‬

‫ان أوزير ليس هو البذرة ‪ ,‬و انما هو سر الحياة الكامن فى البذرة و الذى ينبعث من جديد حين‬

‫تتوافر شروط الحياة ‪.‬‬

‫أوزير هو القدرة االلهية التى تتجلى بفضلها الحياة الكامنة داخل البذرة و تأتى للوجود لتتجسد فى‬

‫صورة نبات ‪.‬‬

‫أوزير هو الذى ينظم عملية تجلى و مجئ المخلوقات من عالم الروح لتتخذ جسدا ماديا ‪.‬‬

‫حين يتوقف عمل طاقة الحياة فى العالم المادى ‪ ,‬فان ذلك يعنى أن أوزير قد فقد أو مات ‪ .‬و حين‬

‫تعود هذه الطاقة للعمل مرة أخرى (حسب ايقاع دورات الطبيعة) ‪ ,‬فان ذلك يعنى عودة أوزير‬

‫للحياة مرة أخرى فى العالم السببى (عالم األسطورة) ‪.‬‬

‫أوزير هو القدرة االلهية على خلق حياة جديدة من داخل بذرة كانت تبدو ألعيننا ميته قبل غرسها‬

‫فى األرض ‪ .‬و لكى تنبت البذرة و تخرج ما بداخلها من حياة جديدة يجب أوال تفعيل القدرة االلهية‬

‫الكامنة فيها ‪.‬‬

‫بتوافر شروط الحياة تنبعث القدرة االلهية من جديد و تعبر عن حضورها من خالل مظاهر‬

‫محسوسه تتجلى فى مراحل نمو النبات ‪.‬‬

‫فى مصر القديمة ‪ ,‬هناك عالقة وثيقه تربط بين مظاهر الطبيعة و بين عالم األسطورة الذى تكمن‬

‫فيه األسباب الماورائية لهذه المظاهر ‪.‬‬

‫فعالم األسطورة فى نظر قدماء المصريين هو عالم حقيقى ‪ .‬و برغم كونه عالما باطنيا ‪ ,‬اال انه‬

‫يتجلى فى كل مظاهر الطبيعة فى عالمنا ‪.‬‬

‫تصف أسطورة أوزير من خالل الصور و الرموز عالقة التشابك و التداخل بين العالمين ‪ .‬و من‬

‫‪- 135 -‬‬


‫خالل هذه الصور و الرموز تتضح العالقة بين ما هو "روحى ‪ /‬باطنى" و ما هو "مادى ‪ /‬ظاهر" ‪.‬‬

‫من ذلك المنظور يمكننا أن نتأمل الطقوس و الشعائر الدينية التى كانت تقام فى عيد كيهك فى مصر‬

‫القديمة كل عام ‪.‬‬

‫يبدأ االحتفال فى الثانى عشر من شهر كيهك بطقس حرث األرض و غرس البذور فيها ‪ ,‬حيث يتم‬

‫ربط بقرتين سوداوين (بلون األرض) الى محراث مصنوع من خشب شجرة األثل و من النحاس ‪.‬‬

‫و خلف المحراث يسير صبى و ينشر بذور الشعير فى جانب من الحقل ‪ ,‬و بذور القمح فى جانب‬

‫آخر ‪ ,‬و بذور الكتان فى جانب ثالث ‪ .‬و أثناء نثر البذور فوق األرض المحروثه ‪ ,‬يقوم الكهنة‬

‫بترتيل نص دينى يعرف باسم نص "غرس البذور فى الحقل" ‪ .‬و يعتبر هذا الطقس محاكاة لحدث‬

‫ميثولوجى أزلى ‪ ,‬و هو موت أوزير و دفنه ‪.‬‬

‫فى بعض األحيان يكون الصبى الذى ينثر البذور متبوعا بحمار يسير خلفه ‪ ,‬حيث تقوم حوافر‬

‫الحمار بدهس الغالل و جعلها تنغرس فى التربة ‪ .‬و هنا علينا أن ننتبه الى أن الحمار كان أحد‬

‫رموز "ست" فى مصر القديمة ‪ ,‬و هو ما يؤكد أن ذلك الطقس هو محاكاة لقصة موت و بعث‬

‫أوزير ‪.‬‬

‫يقام هذا الطقس فى كل أنحاء مصر بصور مختلفة ليكون عالمة على بداية موسم الحرث و االنبات‬

‫و ذلك بوضع الطقوس داخل سياق ميثولوجى (أسطورى) ‪.‬‬

‫و ربما كانت هذه العالقة بين الحرث و بين ذلك الجزء من أسطورة موت و بعث أوزير هى‬

‫المغزى وراء تصوير مشاهد الحرث فى كتاب الخروج الى النهار (فى عصر الدولة الحديثه )‬

‫كجزء من رحلة الروح بعد الموت الى ال "دوات" (العالم السفلى‪/‬النجمى) ‪.‬‬

‫و لما كان ال "دوات" هو عالم التحوالت و الميالد من جديد ‪ ,‬لذلك كان لتصوير الرموز التى تعبر‬

‫عن موت أوزير و آالمه ثم انبعاثه من جديد تأثيرا سحريا على روح المتوفى ‪.‬‬

‫فى المشهد التالى يظهر الكاتب "آنى" و هو يقوم بحرث األرض فى منطقة من مناطق العالم السفلى‬

‫وصفتها نصوص الدولة الوسطى بأنها منطقة فرس النهر األبيض ‪.‬‬

‫‪- 136 -‬‬


‫حرث األرض باستخدام الثيران‬

‫( من بردية آنى ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫و كما سنرى فى الفصل العاشر ‪ ,‬فرس النهر األبيض هو أحد رموز "ايبى" ‪ ,‬ربة بعث األرواح ‪.‬‬

‫و بالتزامن مع طقس حرث األرض الذى يجرى أمام أعين عامة الشعب ‪ ,‬كان هناك طقس آخر‬

‫باطنى ‪ /‬سرى يجرى داخل المعابد و قد جاء وصفه فى نصوص تعود للعصر البطلمى ‪ .‬و فيه يأتى‬

‫الكهنة بتمثال مجوف من الذهب على هيئة جسد أوزير المحنط و يمألونه بحبوب الشعير و بالرمل‬

‫يتم ذلك فى حضور الربة "شنتى" التى تصور على هيئة بقرة منحوته من خشب الجميز و يغطى‬

‫جسدها بصفائح من الذهب ‪ .‬ثم يوضع التمثال فى حوض من الحجر فى قاعه بعض المياه الضحلة‬

‫‪ ,‬و يتم سكب القليل من الماء فيه كل يوم لمدة تسعة أيام متتالية ‪.‬‬

‫و فى اليوم التاسع يوضع الحوض فى مكان مكشوف ليتعرض لضوء الشمس قبل الغروب ‪.‬‬

‫و فى اليوم التالى يتم حمل التمثال و براعم الزرع التى بدأت تبرز منه و الطواف به حول البحيرة‬

‫المقدسه فى المعبد ‪ ,‬و يستمر ذلك لثالثة أيام ‪ ,‬يتم بعدها دفن التمثال فى مقبرة يطلق عليها اسم‬

‫"بيت سوكر" ‪ ,‬و هو نفس الموضع الذى دفن فيه تمثال مشابه فى العام السابق ‪ ,‬حيث يتم ازالة‬

‫تمثال العام الماضى ليحل محله التمثال الجديد ‪.‬‬

‫لم يكن ذلك الطقس يجرى حصريا بواسطة الكهنة و انما كان عامة الشعب أيضا يقومون به و لكن‬

‫‪- 137 -‬‬


‫بشكل مختلف قليال و باستخدام مواد أخرى ‪ ,‬حيث يقومون بعمل دمية من الكتان و القش على هيئة‬

‫جسد أوزير المحنط و يحشونها ببذور الشعير و القمح و يغمسونها فى الماء لبضعة أيام لتنبت‬

‫الغالل من جسد أوزير المحنط ‪.‬‬

‫المشهد التالى من معبد فيلة ‪ ,‬و هو يصور طقس انبات الغالل من دمية على هيئة جسد أوزير‬

‫المحنط بعد أن يروى بالماء الذى يكمن فيه سر انبعاث الحياة من جديد ‪.‬‬

‫انبات الغالل من دمية على شكل جسد أوزير المحنط‬

‫( من معبد ايزيس بجزيرة فيلة ‪ ,‬عصر بطلمى )‬

‫يتزامن ظهور براعم النبات مع حالة من النشوة تنتاب جسد أوزير الراقد فينتصب عضوه الذكرى‬

‫كداللة على عودته للحياة ‪ .‬فانبعاث أوزير يتضمن تفعيل الطاقة الجنسية الكونية و التى يكمن فيها‬

‫سر الخلق ‪.‬‬

‫تنتقل هذه الطاقة من عالم الروح الى العالم المادى من خالل أوزير الذى يجلس فوق عرشه فى ال‬

‫"دوات" ‪.‬‬

‫‪- 138 -‬‬


‫انبات الغالل من جسد أوزير نتيجة لتفعيل الطاقة الجنسية‬

‫( من بردية "جوميلياك" ‪ Jumilhac‬المعروضة بمتحف اللوفر و التى تعود للعصر البطلمى )‬

‫يطلق على اليوم الذى يتم فيه دفن الدمية األوزيرية الشكل اسم "يوم دفن أوزير" ‪ ,‬و هو آخر‬

‫يوم من أيام موسم الفيضان "آخت" ‪.‬‬

‫و انبات الغالل من الدمية األوزيرية يحدث داخل المقبرة الرمزية المخصصة لها ‪.‬‬

‫يتزامن يوم دفن أوزير مع اليوم األخير من الشهر القمرى ‪ ,‬أى يوم المحاق ‪ .‬ثم يعقب ذلك أول أيام‬

‫الشهر القمرى الجديد ‪ .‬و لما كان القمر يختفى فى كثير من األحيان فى بداية الشهر القمرى و ال‬

‫يمكن رؤيته ‪ ,‬لذلك يقال أن أوزير قد فقد ‪.‬‬

‫و الطقس التالى من هذه السلسلة من الطقوس يقام فى اليوم التالى و هو أول أيام الشهر القمرى‬

‫الجديد ‪ .‬يطلق على هذا الطقس اسم "طقس اقامة عامود الجد" ‪.‬‬

‫ترمز اقامة عامود ال "جد" لقيامة أوزير من عالم الموتى و بالتالى تجدد طاقة الحياة ‪.‬‬

‫سجل الفنان المصرى القديم بعض مشاهد من ذلك الطقس فى معبد الملك سيتى األول بأبيدوس (من‬

‫عصر الدولة الحديثه) ‪.‬‬

‫‪- 139 -‬‬


‫الملك سيتى األول يؤدى طقس اقامة عامود ال "جد"‬

‫( من معبد الملك سيتى األول بأبيدوس ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫فى الجانب األيسر من المشهد يظهر عامود ال "جد" و هو مائل بينما يقوم الملك سيتى األول باقامته‬

‫فى وضع رأسى بمساعدة ايزيس ‪.‬‬

‫و فى الجانب األيمن من المشهد يظهر عامود ال "جد" بعد اقامته فى وضع رأسى و قد اكتسى‬

‫برداء صنع من شرائط الكتان التى قدمها الملك سيتى األول كقربان ‪.‬‬

‫تبدو رمزية عامود ال "جد" فى هذا المشهد معقده ‪ ,‬و قد يتعذر علينا أن نستوعبها بشكل كامل ألول‬

‫وهلة ‪.‬‬

‫من ناحية ‪ ,‬يرمز عامود ال "جد" للعامود الفقرى ألوزير ‪ .‬حين يكون عامود ال "جد" ممددا فى‬

‫وضع أفقى فوق األرض ‪ ,‬فهو رمز سقوط أوزير فى حالة من فقدان الوعى و الحركة و الحياة ‪.‬‬

‫و بعد رفعه فى وضع رأسى ‪ ,‬يرمز النبعاث أوزير و تحوله من رب للموت الى رب للحياة األبدية‬

‫و الخلود ‪ ,‬ذلك أن أوزير هو الينبوع الذى تنبثق منه طاقة الحياة من عالم الروح و تأتى لعالمنا ‪.‬‬

‫يقال أن عامود ال "جد" فى العصر العتيق كانت له آذان من الغالل و الحبوب التى تلصق فوقه‬

‫‪- 140 -‬‬


‫فى صفوف أو طبقات ‪.‬‬

‫يوصف عامود ال "جد" فى كثير من األحيان بأنه المستودع الذى تختزن فيه طاقة الحياة التى تنبت‬

‫بفضلها الغالل ‪ .‬و برغم أن ذلك التفسير لعامود ال "جد" يبدو منطقيا و يتجلى فى الطبيعة بشكل‬

‫واضح ‪ ,‬اال انه ليس هو التفسير الوحيد لعامود ال "جد" الذى يحمل مغزى أعمق يعبر عن صفات‬

‫أوزير كرب لعالم باطنى هو ال "دوات" ‪.‬‬

‫ان اقامة عامود ال "جد" ترمز فى المقام األول النبعاث الروح من جديد ‪.‬‬

‫كان طقس اقامة عامود ال "جد" عالمة بداية موسم االنبات "بيريت" ‪ .‬و برغم أن بداية موسم‬

‫االنبات تقع فى الشهر الخامس من السنة المصرية (طوبة) الى أن قدماء المصريين كانوا يرونها‬
‫بداية أخرى للسنة ‪.‬‬

‫كان المصرى القديم يعتقد أن تدفق طاقة الحياة الى العالم المادى يعتمد بشكل أساسى على انبعاث‬

‫أوزير من موته فى الجانب اآلخر من الوجود ‪ ,‬و تحديدا فى ال "دوات" (العالم السفلى) ‪.‬‬

‫تنتهى طقوس المعابد فى اليوم األول من فصل االنبات ‪ ,‬و لكن تتوالى االحتفاالت على المستوى‬

‫الشعبى فى كل أنحاء مصر ‪ .‬و هى احتفاالت تشبه الى حد ما احتفاالت أول مايو فى ثقافات شمال‬

‫أوروبا ‪.‬‬

‫من الصعب تحديد كيف تركت طقوس المعابد أثرها على االحتفاالت الشعبية فى مصر ‪ .‬اال أن‬

‫االحتفاليات كانت تحمل بشكل عام طابعا روحانيا ‪ .‬و هى تختلف من مكان آلخر حسب فهم‬

‫المشاركين لطبيعة الحضور األوزيرى فى عالم الروح و عالم المادة و عالقته بروح االنسان‬

‫و دورات الحياة و الموت و االنبعاث من جديد ‪.‬‬

‫و لكن من وصف بلوتارك ألعياد كيهك ‪ ,‬يمكننا أن نضع تصورا عاما لحالة من الحزن تخيم على‬

‫عامة الشعب فى مستهل االحتفال الذى يبدأ بدفن أوزير ‪ ,‬يعقبها حالة من البهجة و الفرحة تصاحب‬

‫بعث أوزير و الذى تتم محاكاته من خالل طقس اقامة عامود ال "جد" ‪.‬‬

‫الحصاد ‪-:‬‬

‫‪- 141 -‬‬


‫و ثالث أهم األعياد فى مصر القديمة هو العيد الذى يقام عند االنتقال من موسم االنبات و االنبعاث‬

‫الى موسم الجفاف و الموت ‪.‬‬

‫يتزامن ذلك العيد مع بداية موسم الحصاد و يحتفل به مرتين ‪ ,‬مرة فى الشهر الثامن و مرة أخرى‬

‫فى الشهر التاسع من شهور السنة المصرية ‪.‬‬

‫و بعكس عيد كيهك الذى يبدأ فى منتصف الشهر القمرى و ينتهى بميالد القمر الجديد ‪ ,‬نجد أن‬

‫عيد الحصاد يبدأ مع ظهور هالل الشهر الثامن من شهور السنة المصرية "برمودة" ‪ ,‬و هو الشهر‬

‫المقدس ل "رينينوتت" ربة الحصاد ‪.‬‬

‫مع ميالد القمر الجديد لشهر "رينينوت" المقدس يتم تقديم أول ثمار الحصاد لربة الحصاد ‪.‬‬

‫أما االحتفاالت الكبرى المخصصة لتبجيل هذه الربة فهى تقام فى منتصف الشهر عند اكتمال القمر‬

‫كانت "رينينوتت" قريبة من حياة الفالحين اليومية ‪ ,‬و بدال من المعابد الكبيرة كان لها مقاصير‬

‫صغيرة فى القرى ‪ .‬و بعد حصاد الغالل و عصر العنب مباشرة يتم تقديم بواكير ما تنتجه األرض‬

‫كقرابين ل "رينينوتت" فى مقاصيرها المنتشرة فى كل أنحاء ريف مصر حيث يتم تصويرها أحيانا‬

‫على هيئة امرأة برأس حية و أحيان أخرى على هيئة حية برأس امرأة ‪.‬‬

‫مشهد تبجيل "رينينوتت" فى هيئة امرأة برأس حية‬

‫( من احدى اللوحات التى تعود لعصر الدولة الحديثه )‬

‫‪- 142 -‬‬


‫و فى المشهد التالى تظهر "رينينوتت" على شكل حية كوبرا برأس امرأة ‪ ,‬و أمامها يجلس أحد‬

‫مريديها فى وضع تبجيل و يقدم لها قرابين من الزهور و الفاكهة و الكعك ‪.‬‬

‫مشهد تبجيل "رينينوتت" فى هيئة حية برأس امرأة‬

‫( من احدى اللوحات التى تعود لعصر الدولة الحديثه )‬

‫و من الجدير بالتأمل أن "رينينوتت" كانت تظهر فى بعض األحيان فى هيئة امرأة برأس حية‬

‫و هى ترضع الطفل الصغير "نبرى" رب براعم الغالل ‪.‬‬

‫‪- 143 -‬‬


‫"رينينوتت" و "نبرى" رب الغالل‬

‫( المشهد من عصر الدولة الحديثه )‬

‫فى العصر المتأخر مزج المصرى القديم بين "رينينوتت" و بين ايزيس ‪ ,‬و هو ما يعبر عن دور‬

‫ايزيس كزوجة ألوزير و فى نفس الوقت كأم له ‪ ,‬ألن "نبرى" هو أحد أشكال أوزير ‪.‬‬

‫تحمل عالقة ايزيس ب "مين" (رب االخصاب) أيضا نفس الغموض ‪ ,‬و كذلك عالقتها بحورس ‪.‬‬

‫فى بداية الشهر التاسع من شهور السنة المصرية (بشنس) ‪ ,‬و مع بداية القمر الجديد يتغير الحضور‬

‫االلهى الذى يهيمن على الحصاد من "رينينوتت" الى "مين" رب االخصاب و الذى يظهر فى الفن‬

‫المصرى القديم عادة على هيئة رجل بعضو ذكرى منتصب برغم لفائف الكتان التى تحيط بجسده‬

‫المحنط ‪.‬‬

‫منذ عصر الدولة الوسطى بدأ المصرى القديم فى دمج "مين" و "حورس" معا فى كيان واحد تحت‬

‫اسم "مين – حور" ابن ايزس ‪.‬‬

‫و فى نفس الوقت يمكن اليزيس أن تكون أيضا زوجة "مين" فى ثالوث مكون من ايزيس و مين‬

‫و الطفل حورس ‪.‬‬

‫‪- 144 -‬‬


‫أما ملك مصر الجالس على العرش ‪ ,‬فتربطه ب "مين" عالقة خاصه ‪ .‬و لذلك كانت طقوس تتويج‬

‫الملك تتضمن عادة موكبا و عيدا خاصا يكرس لتبجيل "مين" و استحضاره ‪ ,‬لكى تسرى طاقته‬

‫و قدرته على االخصاب من خالل الملك الى األرض كلها ‪.‬‬

‫و بعد التتويج األول للملك ‪ ,‬يعاد تكرار موكب و عيد "مين" كل عام فى موسم الحصاد ‪.‬‬

‫يبدأ عيد "مين" كل عام فى مستهل الشهر التاسع من شهور السنة المصرية (بشنس) و هو بداية‬

‫فصل الجفاف و الحصاد و اسمه باللغة المصرية القديمة "شمو" ‪.‬‬

‫و يراعى أن تتزامن بداية االحتفاالت دائما مع آخر أيام الشهر القمرى ‪ ,‬حين يكون القمر فى‬

‫المحاق ‪.‬‬

‫ترك قدماء المصريين وصفا تفصيليا لمراسم ذلك االحتفال على جدران الصرح الثانى بمعبد‬

‫الرامسيوم باألقصر و الذى شيد فى عصر الملك رمسيس الثانى (أسرة ‪ , 09‬دولة حديثه) ‪ ,‬و فى‬

‫الفناء الثانى بمعبد هابو باألقصر و الذى شيد فى عصر الملك رمسيس الثالث (أسرة ‪ , 21‬دولة‬

‫حديثه) ‪.‬‬

‫و اذا عدنا الى جذور االحتفال بذلك العيد نجد أنها تعود بال شك الى الدولة القديمة ‪ ,‬ألن هناك نص‬

‫مسجل فوق جدران احدى المصاطب فى الجيزة من عصر األسرة الخامسه (دولة قديمة) جاء فيه‬

‫ذكر "موكب مين" ‪ ,‬مما يدل على أن االحتفال بعيد "مين" كان معروفا منذ عصر الدولة القديمة ‪.‬‬

‫و معظم التفاصيل التى نعرفها عن عيد "مين" مستمدة من معابد طيبة (معبد الرامسيوم و معبد‬

‫هابو) اال ان ذلك ال يعنى أن االحتفال كان يقام فى طيبة فقط ‪ .‬فاحتفاالت "مين" كانت تقام فى كل‬

‫أنحاء مصر فى بداية موسم الحصاد "شمو" ‪.‬‬

‫‪- 145 -‬‬


‫مشاركة الملك رمسيس الثالث فى عيد "مين"‬

‫( من معبد هابو باألقصر ‪ ,‬أسرة ‪ , 22‬دولة حديثه )‬

‫يبدء االحتفال بموكب يتجه من قصر الملك أو استراحته الى مقصورة "مين" أو محرابه ‪.‬‬

‫و فى المحراب يقوم الملك بحرق البخور و يسكب السوائل فى حضرة "مين" ‪ .‬و بعد ذلك الطقس‬

‫االفتتاحى ‪ ,‬يقوم الكهنة بحمل تمثال "مين" من داخل مقصورته و يسيرون به فى موكب يتقدمه‬

‫كهنة يحملون شعارات "مين" و تماثيل األجداد ‪ ,‬و خلفهم ثور أبيض يرمز ل "مين" يتبعه الملك أو‬

‫الكاهن األكبر الذى ينوب عنه ‪.‬‬

‫و خلف الملك تمثال "مين" يحمله مجموعة من الكهنة حليقى الرؤوس ‪ ,‬و من خلفهم مجموعة‬

‫أخرى من الكهنة تحمل باقات من نبات الخس و هو النبات المقدس ل "مين" و الذى عرف عند‬

‫سكان الحضارات القديمة بقدرته على تنشيط الطاقة الجنسية ‪.‬‬

‫يصاحب الموكب عدد من العازفين و المنشدين الذين ينشدون االبتهاالت ل "مين" ‪.‬‬

‫تنتهى المسيرة فى أحد الحقول ‪ ,‬حيث يوضع تمثال "مين" فوق منصة تم تشييدها خصيصا لالحتفال‬

‫‪ ,‬و هى منصة تعلوها مظلة و يرفعها عن األرض درجات سلم ‪.‬‬

‫‪- 146 -‬‬


‫و أمام هذه المنصة يتم تقديم األضحيات و القرابين ل "مين" ‪.‬‬

‫موكب "مين" و يتم فيه حمل تمثاله‬

‫( من معبد هابو باألقصر ‪ ,‬أسرة ‪ , 22‬دولة حديثه )‬

‫ثم يبدأ الطقس الرئيسى فى عيد "مين" ‪ ,‬حيث يقوم الملك (أو الكاهن األكبر الذى ينوب عنه) بقطع‬

‫أول حزمة من أعواد القمح من الحقل الذى يقام فيه االحتفال و يقدمها قربانا ل "مين" ‪.‬‬

‫‪- 147 -‬‬


‫تقديم قرابين البخور ل "مين"‬

‫( من معبد هابو باألقصر ‪ ,‬أسرة ‪ , 22‬دولة حديثه )‬

‫يقول عالم المصريات هنرى فرانكفورت أن شعائر االحتفال بعيد "مين" ربما اشتملت أيضا على‬

‫معاشرة جنسية بين الملك و الملكة فى خيمة أو استراحة ملكية بعيدا عن أعين الحاضرين ‪ ,‬و هى‬

‫معاشرة طقسية يقوم فيها الملك بدور "مين" و تتجلى فيه قدراته و تسرى فيه طاقته ‪.‬‬

‫تنتهى الشعائر باطالق أربعة أسهم فى الجهات األصلية األربعة لتحمل الى أركان الكون األربعة‬

‫أنباء اكتمال عيد "مين" و تجدد طاقة الملك و طاقة األرض كلها ‪.‬‬

‫و أثناء هذه الطقوس يتجلى حضور "مين" بشكل محسوس ‪ ,‬حيث يمتزج عالم الطبيعة بعالم‬

‫األسطورة ‪.‬‬

‫"مين" هو الصورة األولية و المبدء الكونى أو القدرة االلهية التى تعبر عن الخصوبة و تجدد الحياة‬

‫و االحتفال المكرس له يهدف الى استحضار تلك القدرة االلهية فى عالمنا ‪.‬‬

‫لذلك فمن الضرورى أن يتحول الملك نفسه فى مرحلة من مراحل االحتفال الى تجسيد ل "مين" ‪,‬‬

‫بمعنى أن تمتزج بداخله الصورة األولية التى يعبر عنها الكيان االلهى بالنسخة المادية التى يمثلها‬

‫‪- 148 -‬‬


‫جسد الملك ‪.‬‬

‫فى مصر القديمة ‪ ,‬كان من أهم واجبات الملك ضمان خصوبة األرض ‪ ,‬لذلك فان امتزاج كيان‬

‫الملك بكيان "مين" ليس مجرد طقس رمزى و انما هو طقس عملى يهدف لتحقيق نتائج ملموسة‬

‫على األرض تتجلى بشكل واضح فى خصوبة األرض و الماشية ‪.‬‬

‫ان تزامن توقيت عيد الخصوبة مع عيد الحصاد يحتاج الى مزيد من الشرح و التوضيح ‪.‬‬

‫فأعياد الخصوبة عادة ما ترتبط بغرس البذور و ليس الحصاد ‪.‬‬

‫و لكى نفهم مغزى و طبيعة عيد الحصاد فى مصر القديمة علينا أن ننظر اليه فى سياق أسطورة‬

‫أوزير ‪.‬‬

‫لما كان أوزير هو سر الحياة الكامن فى بذور الغالل ‪ ,‬فان قطع أعواد الغالل أثناء الحصاد هو‬

‫بمثابة موت ألوزير ‪.‬‬

‫يقول ديودور الصقلى ان الفالحين فى مصر القديمة كانوا يشعرون بالحزن عند قيامهم بقطع أول‬

‫حزمة غالل فى موسم الحصاد و كانوا يطلقون صيحات استغاثه بايزيس ‪.‬‬

‫و فى بردية الرامسيوم (‪ )Dramatic Ramesseum Papyrus‬يظهر أوزير على هيئة اعواد‬

‫الشعير التى يتم قطعها ثم دهسها و تقطيعها تحت أقدام حمار و هو واحد من الحيوانات التى‬

‫ارتبطت ب "ست" ‪.‬‬

‫يوصف ذلك الحدث بأنه "تقطيع أوصال أوزير" و هناك وصف آخر لطقس دهس و تقطيع اعواد‬

‫الشعير يعود لعصر األسرة الخامسه ‪ ,‬و فيه نقرأ أن عملية الدهس يتم فيها استخدام عجول تسير‬

‫فوق أعواد الشعير لتدهسها و تقتتها ‪ ,‬و ربما كان الهدف من ذلك الدهس لألرض هو اخفاء مكان‬

‫دفن أوزير عن أعين ست ‪.‬‬

‫اذا كان دهس و تقطيع أعواد الشعير و القمح يرمز لموت أوزير ‪ ,‬فلماذا اختار قدماء المصريين‬

‫موسم الحصاد ليكون عيدا للخصوبة ؟‬

‫ان مفتاح فهم ذلك االحتفال يكمن فى العالقة بين أوزير و حورس ‪ .‬و من الضرورى أوال أن نشير‬

‫‪- 149 -‬‬


‫الى أن تماثيل األجداد (و هم يرمزون بوجه عام الى أوزير) التى جاء وصفها فى طقوس معبد هابو‬

‫و التى يحملها الكهنة و يسيرون بها خلف الملك هم الشهود على الحدث الهام الذى يقع أثناء‬

‫االحتفال ‪.‬‬

‫فمن خالل موت أوزير و بسببه ‪ ,‬يعتلى حورس عرش األرضين (مصر) و بذلك يضمن الخصوبة‬

‫و النماء لألرض و ما عليها ‪.‬‬

‫و منذ عصر الدولة الوسطى بدأ قدماء المصريين يمزجون بين حورس و "مين" فى كيان واحد‬

‫ولد من رحم األم الكونية ايزيس ‪.‬‬

‫ان عيد الخصوبة و الحصاد اذن هو المناسبة التى يتم فيها التركيز على دور حورس بدال من‬

‫التركيز على موت أوزير ‪.‬‬

‫و لذلك كان من طقوس ذلك االحتفال وصف الملك فى األناشيد بأنه "مين ‪ -‬حورس القوى" ‪.‬‬

‫و لذلك كان هناك دائما تركيز على فكرة ميالد الحياة من جديد (كما ولد حورس من جسد أبيه‬

‫الميت) فى كل عيد من أعياد "مين" فى كل أنحاء مصر ‪.‬‬

‫ان انبعاث الحياة من جديد ليس نقيضا لموت أوزير ‪ ,‬و انما هو نتيجة له ‪ .‬فالحياة ولدت من‬

‫جديد بسبب موت أوزير ‪.‬‬

‫و من خالل موت أوزير أصبح حورس وسيطا لنقل طاقة الحياة من العالم السفلى "دوات" الى عالم‬

‫األرض ‪ ,‬و هذه القدرة على القيام بدور الوسيط فى نقل طاقة الحياة هى التى تمكن حورس من أن‬

‫يعيد الحياة ألبيه أوزير و يساعده على أن يبعث من جديد فى العالم السفلى ‪.‬‬

‫يقوم االحتفال بعيد الحصاد على ادراك العالقة المركبة و المتداخله بين العالم السفلى "دوات"‬

‫و بين العالم المادى الذى نعيش فيه ‪.‬‬

‫ففى هذا الوقت من كل عام ‪ ,‬مع بداية موسم الجفاف "شمو" ‪ ,‬يحتفل قدماء المصريين بعيد "مين"‬

‫لكى يضمنوا استمرار تداخل هذه العالقة بشكل سليم ‪.‬‬

‫يقدم لنا عيد الحصاد‪/‬الخصوبة (عيد "مين") مثاال واضحا ألحد جوانب الفكر الدينى فى مصر‬

‫‪- 150 -‬‬


‫القديمة و يبين لنا أن الهدف من اقامة الطقوس الدينية هو التأثير على العالقة الديناميكية بين العالم‬

‫المادى و العوالم الباطنية ‪ /‬الروحانية ‪.‬‬

‫فالطقوس الدينية فى مصر القديمة هى طقوس سحرية يسعى االنسان من خاللها الى الزج بلحظة‬

‫تاريخية معينة و نقلها من عالمنا لكى تشارك فى العالم االلهى الخالد ‪ ,‬و هو عالم الكيانات االلهية ‪,‬‬

‫و الذى يطلق عليه فى مصر القديمة اسم "سب ‪ -‬تبى" ‪ ,‬أى الزمن األول ‪.‬‬

‫يمكننا أن ننظر الى طقوس الحصاد األخرى بنفس الطريقة ‪.‬‬

‫يقف موت أوزير و بعثه من جديد فى قلب تلك الطقوس التى تحاكيه باستخدام رموز مستمدة من‬

‫الحياة الزراعية حيث يتم دهس أعواد الشعير و القمح و تفتيتها و تذريتها فى الهواء لترتفع سحابة‬

‫من الغبار المحمل بالقش الى السماء ‪.‬‬

‫فى بداية عصر األسرات كان "نبرى" هو رب الغالل و لكن بمرور الزمن امتزجت شخصية‬

‫"نبرى" فى شخصية أوزير و أكتسب أوزير صفات "نبرى" و ارتدى عباءته و اتصف بصفاته ‪.‬‬

‫و لذلك فان كل النصوص التى تصف ميالد "نبرى" و بعثه من جديد تنطبق على أوزير ‪.‬‬

‫على سبيل المثال ‪ ,‬جاء فى متون التوابيت (نص رقم ‪-: )011‬‬

‫*** انه رب الغالل الذى يبعث من جديد بعد أن مات ***‬

‫و لكى ينبعث "نبرى" من جديد عليه أن يتحول الى أوزير ‪.‬‬

‫يصور المشهد التالى حصاد الغالل و فصلها عن أعوادها ‪ ,‬ففى اليمين تتم غربلة الحبوب ‪ ,‬و فى‬

‫اليسار تقوم الثيران بدهس و تفتيت أعواد الشعير و القمح ‪.‬‬

‫‪- 151 -‬‬


‫دهس أعواد الشعير و القمح و تذريتها فى الهواء‬

‫( أحد المشاهد التى تعود لعصر الدولة الحديثه )‬

‫ان مشهد دهس أعواد الغالل و غربلتها و نقلها الذى نراه هنا ليس مجرد تسجيل ألنشطة الحياة‬

‫اليومية فى مصر القديمة ‪ ,‬و انما هو مشهد رمزى ‪.‬‬

‫على سبيل المثال ‪ ,‬جاء فى أحد نصوص التتويج التى تعود لعصر األسرة الى ‪( 02‬دولة وسطى)‬

‫وصفا لطقس يتضمن قيام ثيران بدهس أعواد شعير و تفتيتتها تمهيدا لغربلتها ‪.‬‬

‫يقول النص أن حورس هو الذى يقود الثيران التى تدهس أعواد الشعير و أثناء قيامه بذلك يردد‬

‫العبارة التالية موجها حديثه ألبيه أوزير‪ ( :‬لقد ضربت من ضربك يا أوزير ) ‪.‬‬

‫ثم يتم جمع الغالل بعد غربلتها و تنقل على ظهر الحمير ‪ ,‬و ترمز عملية نقل الغالل الى صعود‬

‫أوزير للسماء بمساعدة "ست" و أعوانه ‪.‬‬

‫كان العالم المادى فى نظر قدماء المصريين يشف عن العالم االلهى الذى تنبع منه أسباب كل‬

‫الظواهر الطبيعية التى نراها ‪ .‬و يجب على االنسان أن يحافظ عل تلك الشفافية و يبقى على‬

‫الجسور الممتدة بين العالمين (عالم المادة و عالم الروح) و ذلك باقامة الطقوس بشكل دائم و متكرر‬
‫و عدم اهمالها ‪.‬‬

‫‪- 152 -‬‬


‫و كانت االحتفاالت الموسمية فى مصر القديمة تهدف للحفاظ على عالقة التداخل بين العالمين‬

‫و ابقاء الجسور بينهما موصولة دائما ‪.‬‬

‫هذه االحتفاالت و الشعائر هى محاولة وصل عالم الطبيعة بعالم ما وراء الطبيعة فى فترات معينة‬

‫و خاصة فترات االنتقال من موسم الى موسم آخر ‪ ,‬لكى تتالمس حلقات الزمن المادى (النسبى) مع‬

‫الزمن األبدى ‪" ,‬الزمن األول" ‪.‬‬

‫‪- 153 -‬‬


‫الفصل الخامس‬
‫زواج األسطورة و التاريخ‬

‫رأينا فى الفصل السابق أن الزمن فى مصر القديمة كان يرتبط ارتباطا وثيقا بالدورات الكونية‬

‫للشمس و القمر و نجم الشعرى و دورة فيضان النيل و انحساره ‪.‬‬

‫أى أن قدماء المصريين كانوا ينظرون للزمن نظرة كيفية و ليست كمية ‪ .‬و دائما ما كانت تلك‬

‫النظرة تركز على عالقة الزمن النسبى الذى يحكم عالمنا بالزمن المطلق الذى يحكم العالم‬

‫الماورائى ‪ ,‬عالم الكيانات االلهية ‪.‬‬

‫فنهر النيل و كذلك كل األجرام السماوية التى تتخذ حركتها أو تغيراتها فى األفالك كعالمة لدورات‬

‫الزمن هى الجسد الظاهر لكيانات الهية محتجبة ‪.‬‬

‫كانت تلك هى نظرة المصرى القديم للظواهر الفلكية و الطبيعية ‪.‬‬

‫و ألن الكيانات االلهية خالدة ‪ ,‬فان العالمات التى يضعها المصرى القديم فوق تيار الزمن المتدفق‬

‫من خالل األعياد و االحتفاالت السنوية هى الوسيلة التى يتحرر بها االنسان بشكل مؤقت من الزمن‬

‫النسبى المحدود و ينتقل الى الزمن المطلق ‪" ,‬الزمن األول" ‪.‬‬

‫فى مصر القديمة كانت هناك دائما جسور تصل الزمن الدنيوى الزائل بعالم الكيانات االلهية الخالد‬

‫الذى يقع خارج حدود الزمان و المكان ‪.‬‬

‫فى هذا الفصل سنستكمل البحث فى نظرة المصرى القديم للزمن ‪ ,‬و سنركز بشكل خاص على‬

‫نظرته للتاريخ ‪ .‬و لكن علينا أوال أن نبحث فى اثنين من أهم المفاهيم فى الفكر الدينى المصرى ‪,‬‬

‫و هما ‪ :‬مفهوم الزمن األول ‪ ,‬و مفهوم الماعت ‪.‬‬

‫باالضافة الى ارتباط الزمن األول و الماعت بشكل مباشر بالتاريخ (كما رآه المصرى القديم) ‪ ,‬كان‬

‫لتلك المفاهيم أيضا صلة مباشرة بمنصب الملكية ‪ ,‬حيث يتولى الملك مسئولية اقامة جسور الصلة‬

‫‪- 154 -‬‬


‫بين الزمن النسبى الذى يحكم عالمنا و بين الزمن المطلق (الزمن األول) الذى يحكم عالم الروح‬

‫و الذى تكمن فيه أسباب كل ما يحدث فى عالمنا من ظواهر طبيعية ‪.‬‬

‫الزمن األول ‪-:‬‬

‫رأى المصرى القديم أن الزمن يسير فى "دوائر ‪ /‬دورات" ‪ ,‬حيث كل نهاية لدورة زمنية هى فى‬

‫نفس الوقت بداية لدورة أخرى ‪ .‬و عند تدوير الزمن فى عالمنا و انتقاله من حلقة الى أخرى‬

‫يتالمس مع الزمن المطلق الذى يحكم العالم االلهى الخالد ‪ ,‬و هو العالم الذى توجد فيه الصور‬

‫األولية لكل شئ و فيه تحيا الكيانات االلهية التى تدور حولها األساطير حياة أبدية ‪.‬‬

‫و اذا كانت الكيانات االلهية تتواجد و تقوم بأفعال (كما جاء فى األساطير) فالبد أن هناك زمن تقوم‬

‫فيه هذه النماذج االلهية بتلك األفعال ‪.‬‬

‫و لكن الزمن الذى تحيا فيه الكيانات االلهية و تقوم بأفعالها يختلف عن الزمن النسبى الذى يحكم‬

‫عالمنا و الذى يموت و يولد من جديد ‪ ,‬و بذلك يعيد تدوير نفسه ‪.‬‬

‫البد أن هناك زمن آخر فوق الزمن النسبى الدوار تحيا فيه الكيانات االلهية ‪ ,‬و هو زمن خارج‬

‫حدود الزمن الدنيوى الذى يحكم حركة التاريخ ‪.‬‬

‫ذلك الزمن الذى يقع خارج حدود الزمن النسبى هو ما أطلق عليه قدماء المصريين اسم "الزمن‬

‫األول" ‪.‬‬

‫ان مفهوم الزمن الغير نسبى أو الزمن الباطنى هو الوجه اآلخر من مفهوم المكان الباطنى ‪ ,‬و كل‬

‫منهما يكمل اآلخر و يفسره ‪.‬‬

‫تكمن أسباب عدم استيعاب انسان العصر الحديث لمفهوم الزمان و المكان الباطنى فى أنه دائما ما‬

‫يتصور أن الزمان و المكان هما الشروط التى تحكم عالقة كل شئ ظاهر متجسد بغيره من األشياء‬

‫و لكننا اذا أدركنا أن الزمان و المكان يمكن أن يصبحا بوابات تفضى الى عوالم باطنية فستزول‬

‫أسباب عدم فهم الزمان و المكان الباطنى ‪.‬‬

‫‪- 155 -‬‬


‫و كما يوصف ال "دوات" بأنه مكان باطنى ألن الكائنات تتواجد فيه وجودا باطنيا (أى بجسد آخر‬

‫نجمى‪/‬أثيرى ‪ ,‬يختلف عن الجسد المادى) ‪,‬‬

‫كذلك يمكننا أن نفهم الزمن األول باعتباره زمن باطنى‬

‫‪ ,‬ألن األحداث التى تقع فيه هى الصور األولية الروحانية التى تنعكس فى عالمنا المادى ‪ ,‬حيث كل‬

‫ظاهرة طبيعية أو فلكية فى عالمنا هى نسخة مكررة من حدث أزلى قامت به الكيانات االلهية فى‬

‫الزمن األول ‪.‬‬

‫تكتسب األحداث التى تقع فى الزمن الدنيوى مصداقيتها و واقعيتها من مدى تطابقها مع أحداث‬

‫الزمن األول ‪.‬‬

‫كل حدث فى عالمنا هو حقيقى بقدر ما يحاكى و يعيد تكرار ما وقع فى الزمن األول ‪.‬‬

‫و الكلمة المصرية القديمة التى تعبر عن الزمن األول هى كلمة "سب ‪ -‬تبى" ‪ ,‬و تتكون مقطعين‬

‫هما "سب" و معناه مناسبة أو حدث (أزلى) ‪ ,‬و "تبى" معناه األول ‪.‬‬

‫و المناسبة أو الحدث المقصود فى سياق قصة الخلق هو تطور الكون من حالة الالوجود التى تمثلها‬

‫"نون" الى الوجود الذى بدأ حين تحرك "آتوم ‪ -‬رع" أول مرة داخل محيط نون األزلى ‪.‬‬

‫كانت هذه اللحظة هى بداية زمن جديد أو مرحلة جديدة تغير فيها شرط الوجود بعد أن كان االله‬

‫موجودا وحده ‪ ,‬و ال موجود سواه ‪.‬‬

‫ان الزمن األول ال يشير فقط الى الحدث األزلى الذى تجلى فيه االله للوجود (و بالتالى تجلى الخلق‬

‫للوجود) ‪ ,‬و انما يشير أيضا الى الزمن الذى يقع خارج حدود الزمن الذى نعرفه ‪.‬‬

‫و كل األحداث التى جاء ذكرها فى األساطير المصرية تنتمى للزمن األول ‪ ,‬بدءا من الخروج أو‬

‫التجلى العظيم آلتوم من داخل مياه األزل ‪ ,‬الى خالص أوزير و انبعاثه الى تبرئة حورس‬

‫و اعتالئه عرش األرضين ‪.‬‬

‫كل األفعال التى تنسب للكيانات االلهية تنتمى الى الزمن األول ‪.‬‬

‫قبل أن يأتى الزمن األول للوجود ‪ ,‬لم يكن هناك أى أحداث ‪ ,‬ألنه لم يكن هناك وجود ‪ ,‬و هو ما‬

‫‪- 156 -‬‬


‫عبر عنه قدماء المصريين بكلمة "نون" ‪.‬‬

‫و بعد أن أتى الزمن األول للوجود ‪ ,‬خلق العالم المادى الذى يحكمه الزمن الدنيوى ‪ ,‬و هو الزمن‬

‫الذى يهيمن على حركة التاريخ ‪.‬‬

‫فى الزمن الدنيوى تقع األحداث مرة واحدة فقط ثم تزول ‪ ,‬و يسبقها و يعقبها أحداث مختلفة عنها ‪.‬‬

‫بعكس الزمن األول الذى يمكن أن تتكرر فيه األحداث ‪.‬‬

‫يصف عالم األنثروبولوجى "ميرسيا ايلياد" أحداث الزمن األول بأنها "قابلة للعودة و التكرار الى‬

‫األبد" و هو ما يوصف بمصطلح "العود األبدى" ‪.‬‬

‫الزمن األول هو زمن أو عصر ‪ ,‬بمعنى أنه كان موجودا قبل خلق الزمن الذى نعرفه ‪ ,‬و هو أيضا‬

‫حالة من حاالت الوجود سبقت خلق الوجود المادى ‪.‬‬

‫الزمن األول هو الزمن األقدس ‪ /‬االلهى ‪.‬‬

‫يقول عالم النثروبولوجى "ميرسيا ايلياد" واصفا ذلك الزمن ‪-:‬‬

‫*** يبقى ذلك الزمن االلهى مساويا لنفسه ‪ ,‬فهو ال يعتريه التغير ‪ ,‬و ال ينتهى ***‬

‫الزمن األول هو عالم باطنى خالد تكتسب منه أحداث عالمنا مصداقيتها و واقعيتها و يتوقف ذلك‬

‫على مدى تطابق األحداث الدنيوية مع األحداث األزلية التى تنتمى للزمن األول ‪ ,‬ألن عالمنا المادى‬

‫ما هو اال نسخة أو صورة مرآه من العالم الباطنى الخالد ‪.‬‬

‫ان مفهوم الزمن األول فى مصر القديمة أقرب الى فكرة عالم الجوهر فى الفلسفة األفالطونية ‪.‬‬

‫و لكن الزمن األول فى الفلسفة المصرية يختلف عن عالم الجوهر فى الفلسفة األفالطونية فى أن‬

‫سكانه ليسوا مجموعة من األفكار المجردة ‪ ,‬و انما هم كيانات الهية تحيا و تتفاعل مع بعضها‬

‫البعض ‪ ,‬و من ذلك التفاعل و العالقة المتبادلة تنشأ الصور األولية أو النموذج األصلى‪/‬االلهى‬

‫لكل ما يتجسد فى العالم المادى ‪.‬‬

‫الزمن األول هو العالم السببى ‪ ,‬هو عالم الحقائق الماورائية التى ال يمكن فهمها اال من خالل‬

‫الصور الرمزية و من خالل األساطير ‪.‬‬

‫‪- 157 -‬‬


‫و األحداث التى جاء ذكرها فى األساطير هى النماذج األصلية التى تنعكس صورتها فى العالم‬
‫المادى ‪.‬‬

‫ان ادراك االنسان للعالقة التى تربط بين أحداث األسطورة و بين األحداث الدنيوية و الظواهر‬

‫الطبيعية و الفلكية هو الذى يجعل العالم المادى شفافا ‪ ,‬روحانيا ‪ ,‬كالعالم االلهى ‪.‬‬

‫فى الزمن األول وجد المصرى القديم الصورة المثالية لكل شئ ‪ .‬فالزمن األول هو العصر الذهبى‬

‫الذى كان موجودا قبل أن يأتى للوجود الغضب و المعاناة و التنافس ‪.‬‬

‫و لكن ذلك ال يعنى أن األحداث األسطورية التى وقعت فى الزمن األول كانت صورة من التناغم‬

‫و السالم التام الذى ال يشوبه أى صراع ‪ .‬فأحداث األساطير تتناول أيضا أشكاال مختلفة للصراع‬

‫و العداوة ‪ ,‬و لكن الصراع ال يستمر ‪ ,‬فسرعان ما يعود التناغم و االتزان مرة أخرى ‪.‬‬

‫ان االتزان و التناغم هما األساس الذى يقوم عليه العالم االلهى ‪.‬‬

‫اما العالم المادى ‪ ,‬فهو غير محصن ضد قوى الفوضى و الهدم ‪ ,‬و لذلك يحتاج دائما الى اعادة‬

‫االتزان و النظام اليه بشكل دورى ‪.‬‬

‫ماعت ‪-:‬‬

‫يرتبط الزمن األول فى الفلسفة المصرية القديمة بمفهوم آخر هو "ماعت" ‪ ,‬و هى كلمة تترجم عادة‬

‫الى "الحقيقة ‪ /‬الحق ‪ /‬العدل" ‪ ,‬لكنها تحمل أيضا دالالت و معانى أخرى ‪.‬‬

‫ماعت هى النظام الذى يحكم الزمن األول الذى وقعت فيه كل أحداث أساطير الخلق ‪.‬‬

‫اذا كان الزمن األول هو العصر الذى أتت فيه الكيانات االلهية للوجود من المحيط األزلى "نون" ‪,‬‬

‫فمن المتوقع أن تكون ماعت قد أتت للوجود قبل الكيانات االلهية لكى تخلق النظام الذى سيحكم‬

‫عملية تجلى هذه الكيانات االلهية ‪.‬‬

‫لم يكن تجلى االله للوجود ‪ -‬عن طريق خروج الكيانات االلهية من المحيط األزلى ‪ -‬تجليا عشوائيا ‪,‬‬

‫و انما هو تجلى منظم تحكمه قوانين االتزان و التناغم ‪.‬‬

‫تعتبر مياه األزل "نون" الصورة األولية للفوضى الكونية التى يتم اخضاعها لقوى النظام الكونى ‪.‬‬

‫‪- 158 -‬‬


‫و هكذا أقام االله الخالق ( فى هيئة "آتوم – رع" ) ال "ماعت" أى النظام الكونى القائم على التناغم‬
‫و االتزان مكان الفوضى ‪.‬‬

‫ان "ماعت" ليست فقط مفهوم كونى ‪ ,‬و انما هى "نترت" أى ربة ‪ /‬كيان الهى ‪.‬‬

‫تظهر ماعت فى الفن المصرى القديم فى صورة امرأة جميلة ذات جناحين ‪ .‬و نالحظ أنها لم تظهر‬

‫فى صورة أى حيوان أو برأس حيوان كما يحدث مع الكيانات االلهية األخرى فى مصر القديمة ‪,‬‬

‫و بذلك تكون صورة ماعت أقرب الى صورة المالك ‪ .‬و كأنه ال يوجد فى مملكة الحيوان أى رمز‬

‫يمكنه أن يعبر عن صفات الماعت ‪.‬‬

‫فى الشكل التالى تظهر ماعت فى صورتها التقليدية و هى تنشر جناحيها و تحمل فوق رأسها‬

‫شعارها المميز و هو الريشة ‪ .‬و نالحظ أن ماعت تتشارك هذا الشعار مع "شو" ‪ ,‬و هو ما يعنى‬

‫وجود صلة قوية جدا بينهما ‪.‬‬

‫ماعت ( من مقبرة الملكة نفرتارى ‪ ,‬وادى الملكات ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫‪- 159 -‬‬


‫"شو" يحمل فوق رأسه الريشة و هى نفس شعار "ماعت"‬

‫( من مقبرة الملك رمسيس الثالث ‪ ,‬أسرة ‪ , 22‬دولة حديثه )‬

‫جاء فى متون التوابيت (نص رقم ‪ )31‬أن آتوم بدأ الخلق حين أراد أن يميز نفسه عن مياه األزل‬

‫"نون" ‪ ,‬فخاطبته "نون" بهذه العبارات ‪-:‬‬

‫*** قبل ابنتك ماعت ‪ ,‬و ضعها فى أنفك (تنفسها كالهواء) ‪ ...‬لكى يقتات عليها قلبك و يحيا ‪...‬‬

‫أنها لن تبتعد عنك ‪ ...‬ماعت هى ابنتك ‪ ...‬و "شو" هو ابنك الذى يحيا اسمه لألبد ‪ ..‬لتكن ابنتك‬

‫ماعت هى الخبز الذى تقتات به ‪ ...‬أما ابنك "شو" ‪ ,‬فهو الذى سيرفعك ***‬

‫فى النص السابق يقوم "شو" بدور ايجابى فعال ‪ ,‬أال و هو رفع آتوم ‪ ,‬بعكس أخته ماعت التى يبدو‬

‫دورها أكثر سلبية ‪.‬‬

‫يقول النص أن "آتوم ‪ -‬رع" يقتات على ابنته ماعت ‪ .‬أى أن ماعت هى الخبز الذى يتغذى عليه‬

‫"رع" ‪ ,‬كما جاء فى النص السابق و فى غيره من النصوص المصرية القديمة ‪.‬‬

‫‪- 160 -‬‬


‫يمكننا اذن أن نقول أن ماعت تمنح طاقتها للقوى االلهية لكى تستطيع تلك القوى أن تعمل و تؤدى‬

‫دورها فى منظومة الخلق ‪.‬‬

‫ماعت هى الخبز الذى يقتات به "رع" ‪ ,‬و بالتالى فهى أيضا الغذاء الذى تحيا به كل الكيانات االلهية‬

‫التى تشكل جسد "رع" ‪ .‬و هل هناك خبز أفضل من الحقيقة لتقتات به الكيانات االلهية !‬

‫ان ماعت ‪ -‬كمفهوم ماورائى و أيضا ككيان الهى ‪ -‬هى النظام الروحى الذى يقوم عليه الزمن األول‬

‫‪ ,‬و الكون المتجسد كله يعكس ذلك النظام الروحى ‪.‬‬

‫فالنجوم و الكواكب و الفصول األربعة و األنهار و النباتات و الحيوانات كلها فى تناغم مع الماعت‪.‬‬

‫فى الزمن األول تمت السيطرة على قوى الفوضى و الظالم بشكل حاسم و دائم منذ بدء الخليقة‬

‫و هكذا صار الزمن األول عالما مثاليا ‪ .‬بعكس العالم المادى الذى نحيا فيه ‪.‬‬

‫فالعالم المادى ليس بمأمن من عوامل الفوضى و الظالم و هو مهدد بشكل دائم من تلك القوى التى‬

‫تقف على حدوده تتربص به و توشك أن تنقض عليه لتهدمه و تعيده الى حالة ما قبل الخلق ‪.‬‬

‫ينطبق ذلك المبدأ الكونى بشكل خاص على المجتمع االنسانى و هو عرضة دائما لهجوم أعداء من‬

‫الخارج (فى صورة احتالل أجنبى) أو من الداخل (فى صورة انهيار أخالقى) ‪.‬‬

‫و كأن الخالد‪/‬األبدى قد تفتت الى قطع و شظيا فى العالم المادى الزائل ‪.‬‬

‫ان الجسور التى تربط العالم المادى بالزمن األول دائما ضعيفة و هشه و تحتاج الى صيانة‬

‫و اعادة بناء بشكل دورى ‪.‬‬

‫صمم العالم المادى بحيث يكون هشا زائال ‪ ,‬بعكس الزمن األول الذى تتواجد فيه الصور األولية‬

‫و هو العالم الحقيقى الذى ال يزول ‪.‬‬

‫لذلك كان من الضرورى اقامة الماعت و اعادة اقامة الماعت مرارا فى عالمنا ‪.‬‬

‫فى مصر القديمة كانت مهمة اقامة الماعت فى النظام المجتمعى توكل الى الملك ‪.‬‬

‫بل ان السبب األصلى الذى وجدت من أجله الملكية هو أن يقيم الملك الماعت على األرض ‪ ,‬بحيث‬

‫ينعكس النظام االلهى الذى يحكم الزمن األول على المجتمع االنسانى ‪.‬‬

‫‪- 161 -‬‬


‫أصبح موضوع تفكك المجتمع و اعادة اقامة الماعت فى المجتمع المصرى فى بؤرة اهتمام‬

‫النصوص المصرية القديمة منذ عصر االنتقال األول ‪ ,‬و لكن جذور تلك الفكرة تعود الى عصور‬

‫سابقة فى شكل تراث شفهى ‪.‬‬

‫تناولت النصوص المصرية القديمة فكرة عدم استمرار المثالية و االتزان فى المجتمع االنسانى الى‬

‫األبد ‪ .‬فالمجتمع بطبيعته ال يستمر محتفظا بنظامه و توازنه و انما هو يميل الى السقوط من تلك‬

‫الحالة و يخرج عن االتزان من فترة ألخرى حيث يكون عرضه لعوامل الفوضى و الهدم ‪.‬‬

‫يطلق على تلك الفترات التى يفقد فيها المجتمع اتزانه اسم "عصور الفوضى" ‪.‬‬

‫تتخلص السمات العامة لعصور الفوضى فى عدة مظاهر منها اهمال المعابد و نشوب الحروب‬

‫و الصراعات األهلية و انهيار أنظمة االتصال و غياب العدالة ‪.‬‬

‫تقع مسئولية اقامة الماعت فى كل أنحاء الدولة على عاتق الملك ‪.‬‬

‫و يعتبر نص تتويج الملك توت عنخ آمون أحد األمثلة التى توضح دور الملك فى اقامة النظام‬

‫و ازاحة الفوضى من أرض مصر ‪ .‬تولى توت عنخ آمون الحكم بعد فترة الفوضى االخناتونية التى‬

‫أهملت فيها التقاليد الدينية المصرية العريقة ‪ ,‬و تعرضت فيها المعابد لالهمال أحيانا و للتدمير‬

‫أحيان أخرى ‪ .‬يقول نص تتويج الملك توت عنخ آمون ‪-:‬‬

‫*** أزاح الملك توت عنخ آمون الفوضى من األرضين ‪ ...‬و أقام الماعت (النظام) محل الفوضى‬

‫‪ ...‬و عادت األرض كما كانت فى الزمن األول ***‬

‫و سواء مرت على المجتمع عصور فوضى أم ال ‪ ,‬كان على كل ملك جديد يعتلى عرش مصر أن‬

‫يعيد األرض كما كانت فى الزمن األول حيث تهيمن الماعت (االتزان و التناغم) على كل شئ ‪.‬‬

‫ان المهمة الرئيسية التى يدور حولها منصب المليكة هى جعل المجتمع االنسانى متناغما مع النظام‬

‫الكونى ‪ .‬و تقع هذه المسئولية على عاتق الملك ‪ ,‬ألن الملك انسان و أيضا كيان الهى ‪ ,‬فهو يحيا فى‬

‫عالم البشر الزائل و فى عالم الكيانات االلهية الخالد فى نفس الوقت ‪.‬‬

‫كان بمقدور الملك أن يصل بين العالمين و يصهرهما معا بفضل ما لديه من صفات و قدرات الهية‬

‫‪- 162 -‬‬


‫لذلك نقرأ فى نصوص التتويج على سبيل المثال أن الملك "أمنمحات الثانى" أزاح الفوضى من‬

‫الكون حين تجلى كما تجلى آتوم فى الزمن األول ‪.‬‬

‫و لما كان الملك كيان الهى ‪ ,‬فهو يقتات و يتغذى على الماعت مثل الكيانات االلهية األخرى ‪.‬‬

‫لذلك نقرأ فى أحد النصوص المصرية القديمة على لسان ملك مصر ‪-:‬‬

‫*** لقد اتخذت خبزى من ال "ماعت" التى يحبها "رع" ‪ ...‬فقد علمت أن "رع" يحيا بالماعت ‪,‬‬

‫و لذلك جعلتها خبزى الذى أقتات به ‪ ..‬و أنا أحيا على نورها **‬

‫هناك العديد من النصوص المصرية القديمة التى تنتمى الى فترات زمنية مختلفة تؤكد على صلة‬

‫الملك الوثيقة بالماعت و دوره المقدس فى اقامة النظام (ماعت) محل الفوضى ‪.‬‬

‫يلعب الملك دور الوسيط الذى يمكن من خالله للماعت أن تتنزل من العالم االلهى األسمى الى عالم‬

‫البشر األدنى و تجلب له االتزان و التناغم و السالم ‪.‬‬

‫و بعبارة أخرى ‪ ,‬يمكن اسقاط العوالم األدنى داخل الزمن األول و ذلك باقامة جسور روحانية عن‬

‫طريق الطقوس السحرية ‪ ,‬و بذلك تحيا تلك العوالم فى الماعت كما يحيا العالم االلهى ‪.‬‬

‫و لكى يحدث ذلك ‪ ,‬يجب أوال ازاحة الفوضى "اسفت" – و هى نقيض الماعت – من األرض ‪.‬‬

‫و من األشياء الجديرة بالتأمل أن نقيض الماعت ‪ ,‬و هى "اسفت" (الفوضى) ‪ ,‬ليست سوى فكرة‬

‫مجردة ‪ ,‬بعكس الماعت التى تصور دائما على هيئة كيان حى أو ربة ‪.‬‬

‫فال يوجد فى الفن المصرى أى مشهد يصور ال "اسفت" فى صورة كيان الهى مثل ماعت ‪.‬‬

‫هناك بعض الكيانات االلهية التى تعبر عن أشكال مختلفة للفوضى (على سبيل المثال تعبر "نون"‬

‫عن الفوضى الكونية ‪ ,‬بينما يعبر "ست" عن الفوضى فى عالم البشر و خاصة الفوضى األخالقية‬

‫و العنف ) ‪ .‬و لكن ال يوجد كيان الهى يجسد "اسفت" ‪ ,‬ألنها ال تتواجد وجودا ايجابيا حقيقيا ‪.‬‬

‫بعبارة أخرى ان "اسفت" (الفوضى) هى غياب ال "ماعت" (النظام) ‪.‬‬

‫و على جانبى الزمن األول ‪ ,‬يتأرجح العالم بين الفوضى سواء فى هيئة محيط الفوضى األزلى‬

‫"نون" أو فى صورة عوامل الفوضى التى تتربص بالعالم المادى الهش و تتحين الفرصة لكى‬
‫تنقض عليه و تهدمه ‪.‬‬

‫‪- 163 -‬‬


‫تتواجد الماعت بشكل قوى و فعال فقط فى الزمن األول الذى تقع فيه أحداث قصة الخلق ‪.‬‬

‫الماعت هى المادة الخام التى خلق منها الزمن األول ‪.‬‬

‫و منذ مجئ العالم المادى للوجود ‪ ,‬أصبح من الضرورى اعادة اقامة الماعت فى ذلك العالم‬

‫الزائل بشكل دورى فى مواجهة قوى الفوضى الكونية و االجتماعية ‪.‬‬

‫و كما تتواجد ماعت فى الزمن األول ‪ ,‬تتواجد أيضا فى وعى االنسان و فى قلبه ‪ ,‬و تشكل ما‬

‫يعرف ب "الضمير" ‪.‬‬

‫الماعت هى المعيار الذى يميز به االنسان األفعال التى تتناغم مع النظام الكونى من األفعال التى‬

‫تخرجه من ذلك النظام و تلقيه فى عالم الفوضى ‪.‬‬

‫ان ارتكاب االنسان الثم أو فعل خاطئ يعنى ان روحه تنتمى لعالم الفوضى ‪.‬‬

‫يقول الكاهن المصرى "بيتوزيريس" الذى عاش فى القرن الرابع قبل الميالد ‪-:‬‬

‫*** لن يصل الى الغرب الجميل (مملكة الموتى التى يحكمها أوزير) اال من جاء بقلب سليم ‪ ,‬و من‬

‫أتت أفعاله وفقا للماعت ***‬

‫حرص المصرى القديم أشد الحرص على أن يفعل الماعت (الخير) و أن يقول الماعت (الصدق) ‪.‬‬

‫و كلما كانت أفعال االنسان و أقواله متناغمه مع الماعت ‪ ,‬كلما كان قريبا من االلهى ‪ /‬المقدس ‪,‬‬

‫و بذلك يسمو االنسان فوق العالم المادى ليحيا فى الماعت ‪ ,‬أى يحيا فى العالم االلهى ‪.‬‬

‫صور الفنان المصرى القديم فى كتاب البوابات أرواح البشر الذين عاشوا حياتهم وفقا للماعت ‪,‬‬

‫و يطلق عليهم فى مصر القديمة اسم المبجلين أو الصالحين ‪ ,‬و هم يدخلون ال "دوات" (العالم‬

‫السفلى) ‪.‬‬

‫‪- 164 -‬‬


‫أرواح المبجلين ‪ /‬الصالحين فى ال "دوات" (العالم السفلى)‬

‫( الفصل األول من كتاب البوابات ‪ ,‬من مقبرة الملك رمسيس السادس ‪ ,‬أسرة ‪ , 22‬دولة حديثه )‬

‫يقول النص المصاحب للمشهد ‪-:‬‬

‫*** كانوا يقولون الماعت (الصدق) فى حياتهم الدنيا على األرض ‪ ,‬و هم اآلن "يعيشون فى‬

‫الماعت" ***‬

‫يقول "رع" موجها حديثه ألرواح الصالحين من البشر ‪-:‬‬

‫*** ان الماعت هى ما ستحيون به فى هذا العالم ‪ ...‬ماعت هى خبزكم ‪ ,‬أيها الصادقون ***‬

‫يقول التعليق المصاحب للنص عن الصالحين ‪-:‬‬

‫*** لقد صاروا يمتلكون قوتهم (الماعت) ‪ ,‬و الذى يتحول الى سائل يغلى فى حلق المذنبين ***‬

‫ان خبز الماعت يكون طيبا فقط فى أفواه الصالحين الذين كانت أفعالهم فى الحياة الدنيا متناغمة مع‬

‫الماعت أما من كانت أفعالهم متوافقة مع ال "اسفت" (الفوضى) فان هذا الخبز يتحول فى حلوقهم‬

‫الى سائل حارق ‪.‬‬

‫يتضح لنا من كل ما سبق كيف تأثرت شتى نواحى الحياة فى مصر القديمة بمفهوم الزمن األول‬

‫و مفهوم الماعت ‪.‬‬

‫يتجه عالم الزمان و المكان بطبيعته نحو الفوضى و العشوائية و لذلك فهو بحاجة دائمة الى صيانة‬

‫دورية ‪ ,‬و الى قوة تعيد اليه الماعت مرة أخرى ليصير متناغما مع العالم االلهى ‪.‬‬

‫فى نظر المصرى القديم ‪ ,‬كانت حركة التاريخ تبتعد تدريجيا عن الماعت ‪ ,‬و لذلك كان من‬

‫‪- 165 -‬‬


‫الضرورى اعادتها مرة أخرى لتتناغم مع عالم الصور األولية أو الزمن األول ‪.‬‬

‫ال يقتصر ذلك فقط على النظام االجتماعى و انما يجب أيضا اعادة القيم األخالقية للفرد مرة أخرى‬

‫لتكون متناغمه مع الماعت ‪.‬‬

‫هيكلة الزمن ‪-:‬‬

‫كان الزمن فى نظر قدماء المصريين عرضة لعوامل الهدم و التحلل ‪ .‬فى الحقيقة ان فكرة التطور‬

‫تبدو غريبة تماما على عقل قدماء المصريين ‪ .‬فالزمن فى نظرهم ال يتطور فى اتجاه واحد ‪ ,‬و انما‬

‫هو عرضة للتدهور و االنحالل بشكل دورى ‪.‬‬

‫و بعكس االنسان المعاصر الذى يتطلع دائما الى مستقبل أفضل و أكثر مثاليه من الحاضر و من‬

‫الماضى ‪ ,‬نجد أن العصر الذهبى فى نظر قدماء المصريين ال ينتمى الى المستقبل و انما الى‬

‫الماضى البعيد جدا ‪ ,‬الى بداية البداية ‪.‬‬

‫كان المصرى القديم دائما ما يربط الزمن على األرض بالدورات الكونية التى تحكمها الكيانات‬

‫االلهية ‪.‬‬

‫و تحت اشراف الكيانات االلهية و الكيانات النصف الهية (أرواح الطبيعة) يسير ايقاع هذه الدورات‬

‫حسب حركة النجوم فى السماء ‪ ,‬و أهم هذه النجوم على االطالق هو نجم زيريوس (الشعرى) ‪.‬‬

‫اعتمد التأريخ فى مصر القديمة على دورات نجم الشعرى ‪.‬‬

‫ليس فقط دورة الشعرى الكبرى (و مدتها ‪ 0400‬سنة) و انما أيضا وحدات زمنية أصغر تتكون‬

‫منها هذه الدورة الكبرى ‪ ,‬كما سنرى الحقا ‪ .‬و كأن نجمة الشعرى هى الجسر أو همزة الوصل بين‬

‫الوجود المادى و الوجود الروحى‪/‬األقدس ‪.‬‬

‫بهيكلة الزمن على األرض ليتوافق مع دورة نجم الشعرى فى السماء يصبح الزمن الدنيوى النسبى‬

‫صورة أو انعكاس للزمن االلهى ‪ /‬المقدس ‪.‬‬

‫يقول المؤرخ المصرى مانيتون السمنودى (الذى عاش فى العصر البطلمى) أن تاريخ مصر يعود‬

‫‪- 166 -‬‬


‫الى آالف السنين قبل عصر األسرات ‪ .‬فقبل حكم ملوك البشر الذى بدأ بالملك "مينا – نارمر"‬

‫(حوالى عام ‪ 1111‬قبل الميالد) تولى عرش مصر تسعة عشر من الكيانات االلهية و النصف الهية‬

‫الذين حكموا األرضين لفترة زمنية استمرت ‪ 01371‬ألف عام ‪.‬‬

‫قد يبدو الرقم عشوائيا فى نظر القارئ ألول وهلة ‪ ,‬و لكن عند النظر اليه فى ضوء دورة الشعرى‬

‫الكبرى سيتضح لنا أن ذلك الرقم يحمل مغزى عميق ‪.‬‬

‫ان الفترة الزمنية التى ذكرها مانيتون السمنودى هى عبارة عن ‪ 09‬أسبوع كونى ‪.‬‬

‫و األسبوع الكونى هو نصف دورة الشعرى الكبرى التى تستغرق ‪ 0400‬سنة (أسبوع كونى =‬

‫‪ 711‬سنة) ‪.‬‬

‫أى أن كل حاكم من تلك الكيانات االلهية تولى عرش مصر لمدة أسبوع كونى (= ‪ 711‬سنة) و هو‬

‫ما يعادل نصف دورة الشعرى الكبرى ‪.‬‬

‫يتفق ذلك مع ما جاء فى كتاب الشعرى (‪ , )Book of Sothis‬الذى ظهر فى القرن الثامن الميالدى‬

‫و ينسب ما جاء فيه الى مانيتون السمنودى ‪ .‬يقول كتاب الشعرى أن اجمالى عدد السنوات التى‬

‫تولى فيها عرش مصر كيانات الهية و نصف الهية باالضافة الى ملوك عصر األسرات من البشر‬

‫يصل الى ‪ 10525‬ألف سنة ‪.‬‬

‫و مرة أخرى تثير هذه الفترة الزمنية الطويلة عالمات استفهام فى عقل القارئ ‪ ,‬و ال يوجد أى‬

‫عالقة بينها و بين األرقام التى ذكرها تاريخ مانيتون السمنودى ‪.‬‬

‫و عند تحليل ذلك الرقم فى ضوء دورة الشعرى الكبرى نجد أنه عبارة عن ‪ 25‬دورة من دورات‬

‫الشعرى الكبرى ( ‪ 0400‬سنة ‪ 10525 = 25 X‬سنة ) ‪.‬‬

‫يتضح من األمثلة السابقة أن المؤرخين القدماء لتاريخ مصر العتيق كانوا يتبعون معادلة كونية ‪.‬‬

‫و حسب المصادر التاريخية المصرية القديمة و من أهمها بردية تورين ( و هى تعود الى عصر‬

‫الملك رمسيس الثانى ) انتقل حكم مصر من الكيانات االلهية "نترو" الى كيانات نصف الهية تعرف‬

‫باسم "شمسو ‪ -‬حور" أى أتباع حورس ‪ ,‬و ذلك قبل أن يبدأ عصر األسرات بتولى الملك مينا عرش‬

‫‪- 167 -‬‬


‫مصر حوالى عام ‪ 1111‬قبل الميالد ‪.‬‬

‫و عند النظر الى التوايخ التى جاء ذكرها فى بردية تورين نالحظ تقلص تدريجى فى الفترات‬

‫الزمنية كلما انتقل الحكم من الكيانات االلهية الى أتباع حورس الى ملوك البشر ‪ .‬فكل فترة حكم‬

‫تستغرق زمنا أقصر من الفترات التى سبقتها ‪.‬‬

‫جاء فى كتاب الشعرى (‪ )Book of Sothis‬أن "رع" حكم مصر لمدة ‪ 11‬ألف سنة ‪ ,‬ثم تبعه اثنا‬

‫عشر من الكيانات االلهية حكموا مصر لمدة ‪ 1934‬سنة (و هذا الرقم هو اجمالى فترة حكم ال ‪02‬‬

‫ملك مجتمعين) ‪ .‬ثم تبعهم ‪ 3‬من أتباع حورس و ‪ 001‬ملك من ملوك البشر و قد استغرق حكمهم‬

‫جميعا ‪ 2540‬عام فقط ‪.‬‬

‫و هناك مصادر تاريخية مصرية أخرى تعكس نفس الفكرة و هى تقلص فترات حكم الملوك كلما‬

‫انتقل الحكم من أيدى السماء (الكيانات االلهية) الى أيدى ملوك البشر المتجسدين فى جسد مادى‬

‫زائل ‪ ,‬و هم ملوك عصر األسرات ‪.‬‬

‫كلما اقتربت فترة الحكم من العصر الحاضر كلما تقلصت فترة حكم الملك لتتناسب مع متوسط عمر‬

‫االنسان بدال من أن تتناسب مع دورة األجرام السماوية فى أفالكها ‪.‬‬

‫و لما كان قدماء المصريين دائما ما يحاولون الربط بين الزمن على األرض و بين الدورات الكونية‬

‫‪ ,‬فمن المنطقى انهم لم يفصلوا حركة التاريخ عن الدورات الكونية التى تحكمها الكيانات االلهية‬

‫و التى تتجلى فى األجرام السماوية ‪.‬‬

‫و برغم تقلص فترة حكم كل ملك لتقترب من معدالت عمر االنسان ‪ ,‬اال أن هذه الفترات القصيرة‬

‫ظلت تعكس عالقة وثيقة بالدورات الكونية ‪.‬‬

‫عند تدوين قوائم الملوك و فترات حكمهم لم يكن المصرى القديم يهدف لتسجيل التاريخ (بالمعنى‬

‫الحديث للتاريخ كما نعرفه فى عصرنا الحديث) ‪ .‬فالهدف لم يكن تاريخى و انما هو هدف رمزى ‪,‬‬

‫ماورائى ‪.‬‬

‫كان المصرى القديم يهدف بذلك الى هيكلة الزمن الدنيوى على األرض ليتوافق مع الزمن‬

‫‪- 168 -‬‬


‫السماوى المقدس ‪.‬‬

‫باالضافة الى دورة الشعرى الكبرى (=‪ 0400‬سنة) استخدم قدماء المصريين دورة كونية أخرى‬

‫مدتها ‪ 09‬سنة ‪.‬‬

‫فى بداية عصر األسرات كانت بداية السنة الشعرية (و هى الشروق االحتراقى لنجم الشعرى)‬

‫تتزامن مع بداية السنة الشمسية ‪ .‬و خالل ‪ 11‬سنة ال يتزامن الشروق االحتراقى لنجم الشعرى مع‬

‫بداية الشهر القمرى اال مرة واحدة فقط ‪ .‬و نتيجة اختالف مدة السنة القمرية عن السنة الشمسية‬

‫فان التزامن الحقيقى بين بداية السنة الشعرية و القمر الجديد ال يحدث اال كل ‪ 70‬سنة (‪. ) 4 X 09‬‬

‫انعكست دورة "القمر ‪ -‬الشعرى" التى تستغرق ‪ 09‬سنة بشكل واضح على تدوين فترات حكم ملوك‬

‫أوائل عصر األسرات ‪.‬‬

‫لذلك نجد فى بردية تورين أن هناك خمسة من ملوك األسرة الثانية و بداية األسرة الثالثه تدور‬

‫فترات حكمهم حول دورة "القمر ‪ -‬الشعرى" التى تستغرق ‪ 09‬سنة ‪.‬‬

‫على سبيل المثال ‪-:‬‬

‫* الملك "نفر كا سوكر" (‪ )Neferkasokar‬حكم لمدة ‪ 3‬سنين ‪ ,‬أعقبه ملك آخر (االسم غير واضح‬

‫فى البردية) لمدة ‪ 00‬سنة = اجمالى ‪ 09‬سنة ‪.‬‬

‫* الملك "بيبتى" (‪ )Bebti‬حكم لمدة ‪ 27‬سنة (‪. )3 + 09‬‬

‫* الملك "نب كا" (‪ )Nebka‬حكم لمدة ‪ 09‬سنة‬

‫* الملك زوسر (‪ )Zoser‬حكم لمدة ‪ 09‬سنة ‪.‬‬

‫ان هذه السلسلة من التواريخ ‪ -‬كما يقول "باتريك ف‪ .‬أومارا" (‪ - )Patrick F. O’Mara‬ليست‬

‫مجرد أرقام تسجل فترات تاريخية ‪ ,‬و انما هى هيكلة عقالنية لفترات تاريخية بحيث تتركز جميعا‬

‫حول ظواهر فلكية ‪.‬‬

‫‪- 169 -‬‬


‫جزء من بردية تورين‬

‫(من عصر األسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫هناك حضور طاغى لرقم ‪ 09‬فى قوائم الملوك التى وردت فى بردية تورين ‪ ,‬و كذلك فى قائمة‬

‫مانيتون السمنودى ‪.‬‬

‫فى قائمة ملوك بردية تورين و أيضا قائمة مانيتون نجد أن الملوك يتم ترتيبهم فى مجموعات تدور‬

‫حول رقم ‪ . 09‬فقد ذكرت بردية تورين أن هناك ‪ 09‬ملك حكموا مصر منذ عصر الملك مينا فى‬

‫بداية األسرة األولى الى عصر الملك زوسر فى بداية األسرة الثالثه ‪.‬‬

‫أما مانيتون السمنودى فقد ذكر أسماء ‪ 09‬ملك حكموا مصر فى عصر األسرة التاسعة و العاشرة ‪,‬‬

‫كما ذكر أسماء ‪ 70‬ملك (‪ )4 X 09‬حكموا مصر فى عصر األسرة الرابعة عشرة ‪.‬‬

‫و جاء فى تاريخ مانيتون السمنودى أيضا أن ملوك األسرة السابعة عشرة حكموا لمدة ‪ 050‬سنة‬

‫( ‪ , ( 2 X 70‬و أن ملوك األسرة الثالثه عشرة حكموا لمدة ‪ 451‬سنة (‪. )1 X 151‬‬

‫ان استخدام قدماء المصريين لرقم ‪( 09‬و مضاعفاته) فى ترتيب سنوات حكم الملوك و ترتيب‬

‫األسرات يعكس االعتقاد السائد فى مصر القديمة بوجود عالقة قوية بين ملك مصر و بين نجمة‬

‫‪- 170 -‬‬


‫الشعرى ‪.‬‬

‫فكما تقوم نجمة الشعرى فى السماء بدور الوسيط أو همزة الوصل بين العالم المادى و العالم‬

‫السماوى كذلك يقوم الملك على األرض بنفس الدور بأن يصل ذاته الدنيا بالذات العليا‪/‬االلهية ‪.‬‬

‫ذكرت متون األهرام فى أكثر من موضع العالقة بين ملك مصر و بين نجمة الشعرى ‪ ,‬بل ان‬

‫النصوص قد تخاطب الملك باعتباره هو نجم الشعرى ‪ ,‬كما فى النص رقم ‪ 332‬من متون األهرام‬

‫الذى يخاطب الملك مرنرع قائال ‪-:‬‬

‫*** أيها الملك "مرنرع" ‪ ,‬أنت النجم العظيم (الشعرى) ‪ ...‬رفيق النجم "رجل الجبار" (‪)Rigel‬‬

‫‪ ...‬أنت تقطع السماء برفقة النجم "رجل الجبار" (‪*** )Rigel‬‬

‫و فى مواضع أخرى من متون األهرام وصف الملك بأنه ابن نجمة الشعرى ‪ ,‬على سبيل المثال‬

‫يقول النص رقم ‪-: 453‬‬

‫*** ان نجمة الشعرى تحيا ‪ ,‬ألن الملك ونيس يحيا ‪ ,‬و هو ابن نجمة الشعرى ***‬

‫فى هذه الحالة تبدو نجمة الشعرى فى هيئة ايزيس ‪.‬‬

‫و لكى تحمل نجمة الشعرى بملك مصر ‪ ,‬فان المعاشرة بين أبو الملك (باعتباره أوزير) و بين نجمة‬

‫الشعرى تحدث فى السماء بين النجوم ‪.‬‬

‫و سواء كان الملك هو نجم الشعرى نفسه أو رفيق نجم الشعرى (أو الرفيق المستقبلى لنجم‬

‫الشعرى) ‪ ,‬فمن الواضح أن الملك بين البشر هو المقابل لنجم الشعرى بين نجوم السماء ‪.‬‬

‫و من الجدير بالذكر هنا أن النجمة كانت هى شعار الملك فى مصر القديمة قبل أن يصبح الصقر‬

‫هو شعار الملك ‪ .‬فالنجمة تظهر دائما فوق رأس الملك العقرب أو خلفها ‪.‬‬

‫أى أن "الملك – العقرب" هو فى الحقيقة "الملك – النجم – العقرب" ‪.‬‬

‫قام قدماء المصريين بتدوين سجالتهم التاريخية بحيث تعكس تلك العالقة الوثيقة بين الملك و بين‬

‫نجمة الشعرى و ذلك من خالل وضع رقم ‪( 09‬و مضاعفاته) بصورة مشفرة فى عدد سنوات حكم‬

‫الملوك و األسرات ‪.‬‬

‫‪- 171 -‬‬


‫و الى جانب دورة ال ‪ 09‬عام التى ترتبط بنجمة الشعرى نجد أن حجر باليرمو (من عصر األسرة‬

‫الخامسه ‪ ,‬دولة قديمة) و أيضا تاريخ مانيتون السمنودى يحتويان على دورة أخرى مكونة من ‪07‬‬

‫أو ‪ 14‬عام ‪ ,‬و هى دورة تتعلق بتزامن الشروق االحتراقى لنجم الشعرى مع منازل القمر ‪.‬‬

‫اذا فرضنا أن الشروق االحتراقى لنجم الشعرى تزامن فى أحد األعوام مع ميالد القمر الجديد ‪ ,‬فبعد‬

‫‪ 07‬عام سيتزامن الشروق االحتراقى مع منزل القمر المسمى تربيع أول (و هو المنزل الوسط بين‬

‫الهالل و البدر) ‪ ,‬و بعد ‪ 14‬سنة سيتزامن الشروق االحتراقى لنجم الشعرى مع اكتمال القمر ‪.‬‬

‫و لكن ذلك ال يعنى أن قوائم الملوك التى دونها قدماء المصريين كانت مزيفة ‪ ,‬و انما يعنى أن‬

‫قدماء المصريين كانوا يعتقدون أنه من الضرورى أن تنعكس الدورات الكونية على سنوات حكم‬

‫الملك ‪.‬‬

‫يقول "باتريك ف‪ .‬أومارا" (‪-: )Patrick F. O’Mara‬‬

‫*** اذا اكتشف الباحث فى العصر الحديث أن التواريخ عند قدماء المصريين لم تكن "واقعية"‬

‫بالمعنى الذى تحمله كلمة واقعية بالنسبة لنا ‪ ,‬فان ذلك ال يفقد السجالت التاريخية المصرية‬

‫مصداقيتها فمنذ عصر األسرة الخامسه (دولة قديمة) نجد أن السجالت التاريخية المصرية القديمة‬

‫تحوى قدرا هائال من التفاصيل المذهلة ‪ .‬ان ذلك يعنى ببساطه أن المصرى القديم كان يقوم بعملية‬

‫حياكه و اعادة هيكلة للزمن الدنيوى لكى يتوافق مع الدورات الكونية بحيث يصبح عدد سنوات‬

‫حكم الملوك و األسرات جزءا من تلك الدورات ‪ .‬كان منهاج احصاء السنوات التاريخية يعكس‬

‫وجود نموذج واضح فى ذهن المصرى القديم ‪ ,‬و هو ما يعنى أن المؤرخ المصرى القديم كان‬

‫يستخدم معيارا موثوقا فيه يعكس مفهوم الزمن فى الفكر الدينى المصرى ***‬

‫و هناك رقم كونى آخر ينعكس فى السجالت التاريخية المصرية ‪ ,‬و هو رقم ‪. 044‬‬

‫و بدال من رقم ‪ 011‬الذى يستخدمه االنسان المعاصر لحساب الفترة الزمنية التى يستغرقها قرن من‬

‫الزمان ‪ ,‬استخدم المصرى القديم رقم ‪. 044‬‬

‫يرتبط هذا الرقم أيضا بدورة الشعرى الكبرى ‪ ,‬فهو عبارة عن ‪ 10‬أسبوع كونى ‪. 4 X‬‬

‫‪- 172 -‬‬


‫على سبيل المثال سجل حجر باليرمو (الذى يعود لعصر الدولة القديمة) فترة أواخر عصر األسرة‬

‫الثالثه و عصر األسرة الرابعة باعتبارهما فترة زمنية واحدة مدتها ‪ 044‬سنة ‪.‬‬

‫أما بردية تورين فينعكس فيها الرقم ‪ 044‬أو كسوره ‪ ,‬على سبيل المثال ‪-:‬‬

‫** استمر عصر األسرة السادسه لمدة ‪ 030‬عام ‪ +‬بضعة أشهر ‪ ,‬أى حوالى ‪ 032‬عام‬

‫( ‪) 044 + 2 X 09‬‬

‫** استمر عصر األسرة الحادية عشر لمدة ‪ 041‬عام ‪ +‬بضعة أشهر ‪ ,‬أى حوالى ‪ 044‬عام ‪.‬‬

‫** استمر عصر األسرة الثانية عشر لمدة ‪ 201‬عام ‪ +‬بضعة أشهر ‪ ,‬أى حوالى ‪ 204‬عام‬

‫( ‪. ) 71 + 044‬‬

‫** استمر عصر األسرة الخامسه عشر (أثناء االحتالل الهكسوسى) لمدة ‪ 013‬عام ( ¾ من ‪)044‬‬

‫اهتم قدماء المصريين بالسجالت التاريخية اهتماما يفوق الوصف ‪.‬‬

‫يقول المؤرخون االغريق أن كهنة مصر القديمة كانوا يحتفضون بسجالت تاريخية و فلكية تعود‬

‫الى فترات زمنية بعيدة جدا قبل عصر األسرات ‪.‬‬

‫يقول هيرودوت ‪ -‬الذى ينظر له الغرب باعتباره أول مؤرخ فى العالم ‪" -‬ان قدماء المصريين هم‬

‫أعظم المؤرخين من بين كل األمم التى عرفتها" ‪.‬‬

‫كما أثبتت الدراسة التفصيلية التى قام بها “ردفورد” لقوائم ملوك مصر و حولياتهم و سجالتهم‬

‫التاريخية أن قدماء المصريين كان لديهم قدرة مذهلة على حفظ السجالت ‪ ,‬و يبدو أن ذلك كان‬

‫مصدر متعة و سعادة لهم ‪ .‬و لكن تدوين هذه السجالت التاريخية – ضمن السياق التاريخى كما‬

‫فهمه المصرى القديم – كان مغلفا بالرموز ‪.‬‬

‫فى دولة احتل فيها الفكر الدينى األهمية الكبرى مثل مصر ‪ ,‬من المتوقع أن يكون لتفاصيل‬

‫األسطورة أولوية و أسبقية على تفاصيل الحياة اليومية ‪.‬‬

‫اذا كان منصب الملكية فى مصر القديمة يرتبط بنجم الشعرى ‪ ,‬فان السجالت التاريخية يجب أن‬

‫تعكس هذه الحقيقة ‪ .‬لذلك تحمل فترات حكم الملوك و األسرات أرقاما فلكية تعكس دورة نجم‬

‫‪- 173 -‬‬


‫الشعرى ‪.‬‬

‫و بذلك استطاع المصرى القديم اسقاط الزمن على األرض داخل الزمن السماوى المقدس ‪.‬‬

‫دورات التاريخ ‪-:‬‬

‫اعتاد انسان العصر الحديث على التأريخ الذى تتعاقب فيه األحداث فى خط مستقيم و فى اتجاه واحد‬

‫عبر قرون تمتد من "ما قبل الميالد" الى "ما بعد الميالد" ‪ .‬و هكذا يوجه االنسان المعاصر وعيه‬

‫بالكامل الى التتابع و ينسى المغزى الباطنى الذى تدور حوله األحداث ‪.‬‬

‫يعتمد احصاء الزمن لدينا على حدث ميالد المسيح (االله المتجسد فى هيئة انسان) ‪.‬‬

‫و فى كل مرة نقوم فيها بذكر أحد التواريخ متبوعا بكلمة قبل الميالد أو بعد الميالد ‪ ,‬فاننا نؤكد على‬

‫مغزى ذلك الحدث بطريقة الشعورية ‪.‬‬

‫ينطبق ذلك على انسان العصر الحديث بوجه عام ‪ ,‬سواء كان ينتمى للديانة المسيحية أم ال ‪.‬‬

‫يقوم بعض المؤرخين أحيانا باستبدال مصطلح ‪( B.C.‬أى قبل ميالد المسيح) و ‪( A.D.‬أى بعد‬

‫ميالد المسيح) بمصطلح ‪ B.C.E.‬و هو اختصار ‪ Before Common Era‬أى قبل العصر الحديث‬

‫‪ ,‬و مصطلح ‪ C.E.‬و هو اختصار ‪ Common Era‬أى العصر الحديث ‪.‬‬

‫و العصر المشار اليه بأنه الحديث أو الحالى أو المعاصر هو العصر الذى بدأ بظهور المسيحية ‪.‬‬

‫تشترك نظرة قدماء المصريين للزمن مع نظرتنا فى أحد الجوانب ‪ .‬حيث كان حدث تجسد االله فى‬

‫جسد مادى هو معيار بداية دورات الزمن ‪.‬‬

‫كانت ألقاب الملك فى مصر القديمة ال تكتفى بتبجيله بكلمات مثل "جاللتك" ‪ ,‬و انما تؤكد على‬

‫أنه تجسيد لالله ‪.‬‬

‫كل ملك من ملوك مصر هو تجسيد لحورس أثناء حياته على األرض ‪ ,‬و بمجرد موته يخرج‬

‫حورس من ذلك الجسد ليحل فى جسد الملك الجديد ‪ ,‬فى حين يتحول الملك المتوفى الى أوزير ‪.‬‬

‫يعيد حورس التجسد فى كل مرة يتم فيها تتويج ملك جديد على عرش مصر ‪.‬‬

‫‪- 174 -‬‬


‫أما فى الديانة المسيحية فان تجسد المسيح هو حدث وقع مرة واحدة فقط و أدى الى تغيير بنية‬
‫التاريخ كله ‪.‬‬

‫بعد تجسد المسيح صرنا نعيش فى زمن يسير فى خط مستقيم له بداية محددة هى ميالد المسيح ‪ ,‬و‬

‫أيضا نهاية محددة ‪ ,‬و هذه النهاية هى يوم القيامة الذى سيأتى فى "عام االله" ‪.‬‬

‫فى نظر قدماء المصريين كان تجسد حورس فى جسد انسان هو حدث يعيد تكرار نفسه مرارا ‪.‬‬

‫و كان تتويج كل ملك جديد يعتبر بداية دورة زمنية جديدة تستمر طوال فترة حكم ذلك الملك الذى‬

‫يعتبر صورة حورس على األرض ‪ .‬لذلك كان التاريخ عند قدماء المصريين يبدأ فى اليوم الذى يبدأ‬

‫فيه حكم الملك الجديد ‪ ,‬حيث يعتبر يوم تتويج الملك هو اليوم األول من الشهر األول من السنة‬

‫األولى من التاريخ ‪.‬‬

‫و لذلك نقرأ دائما فى السجالت التاريخية المصرية القديمة أن حدثا ما وقع فى العام رقم كذا من‬

‫حكم الملك فالن باعتبار أن الزمن بدأ فى اليوم الذى اعتلى فيه ذلك الملك العرش ‪.‬‬

‫فى عصر الدولة الحديثة كانت األحداث تؤرخ بذكر ترتيب السنة بدءا من يوم تتويج الملك ‪ ,‬ثم‬

‫الشهر ‪ ,‬ثم ذكر الفصل أو الموسم (حيث كانت السنة تقسم لثالثة فصول فقط و ليس أربعة) ‪ ,‬ثم‬

‫ذكر اليوم ‪.‬‬

‫و عند تتويج ملك جديد يعود احصاء السنين الى نقطة الصفر و يبدأ العد من جديد باليوم األول من‬

‫الشهر األول من العام األول من حكم الملك الجديد ‪.‬‬

‫بوفاة كل ملك من ملوك مصر يموت الزمن ‪ ,‬و لكنه يولد من جديد مع اعتالء الملك الجديد العرش‬

‫بوصفه حورس ‪.‬‬

‫ان اعادة تدوير الزمن مع تتويج كل ملك جديد لم تكن مجرد عادة أو تقليد أو عرف ‪ ,‬و انما هى‬

‫مفهوم دينى عميق يرى فى الملكية منصبا مقدسا ‪ .‬فالملك هو صورة االله على األرض ‪ ,‬لذلك فهو‬

‫الجسر أو همزة الوصل التى تصل عالم البشر بالعالم االلهى و هو القناة التى تنتقل خاللها الطاقة‬

‫من عالم الروح الى عالمنا ‪.‬‬

‫الملك فى مصر القديمة هو ينبوع الخصب و النماء لألرضين (مصر) ‪ ,‬و دوره ال يقتصر على‬

‫‪- 175 -‬‬


‫حفظ النظام فى المجتمع و انما هو أيضا يضمن االتزان و التناغم فى دورات الطبيعة مثل تتابع‬

‫الفصول و فيضان النيل و انبات المحاصيل ‪.‬‬

‫بعبارة أخرى كانت مهمة الملك هى جعل المجتمع و مظاهر الطبيعة فى تناغم مع الماعت (النظام‬

‫الكونى) ‪.‬‬

‫و موت الملك فى مصر القديمة يعنى سقوط الماعت أى اختالل التوازن فى المجتمع و فى النظام‬

‫البيئى فى مصر ‪ ,‬و لذلك كان على الملك الجديد أن يقيم الماعت من جديد ‪.‬‬

‫كانت فترة خلو العرش فترة حرجة ‪ ,‬ألن أرض مصر تكون معرضة خاللها لهجوم قوى الفوضى‬

‫و العشوائية ‪ .‬قد تستمر فترة خلو العرش لبضعة أشهر ‪.‬‬

‫فبرغم أن الملك الجديد يتولى المسئولية بعد وفاة سلفه مباشرة ‪ ,‬اال أن طقوس التتويج الرسمية كانت‬

‫تؤجل ليحتفل بها مع أقرب مناسبة تتزامن مع بداية دورة من دورات الطبيعة مثل بداية الفيضان‬

‫(أول شهر توت) أو بداية فصل االنبات (أول شهر طوبة) ‪.‬‬

‫و المخاطر التى يجلبها خلو العرش ال تزول اال بتتويج الملك الجديد الذى يقيم الماعت ‪ ,‬أى يعيد‬

‫النظام و االتزان مرة أخرى لألرضين ‪.‬‬

‫عند تتويج الملك الجديد تبدأ دورة جديدة من دورات الزمن ‪.‬‬

‫كان احتفال قدماء المصريين بتتويج الملك يعكس شعورا عاما باالرتياح و البهجة و يعبر عن أهمية‬

‫ذلك الحدث فى حياتهم ‪.‬‬

‫و النص التالى هو عبارة عن أنشودة سجلت حدث تتويج الملك مرنبتاح (أسرة ‪ , 09‬دولة حديثه) ‪,‬‬

‫و فيها وصف لتأثير ذلك الحدث كما رآه المصرى القديم ‪ .‬يقول النص ‪-:‬‬

‫*** ابتهجى يا أرض مصر ‪ ,‬ها قد أتى الزمن الجميل ‪ ...‬فقد تولى الحكم سيد األرضين ‪ ...‬يا كل‬

‫الصالحين ‪ /‬المبجلين ‪ ,‬أقبلوا جميعا و انظروا ‪ ...‬ان ال "ماعت" (النظام) قد أزاحت ال "اسفت"‬

‫(الفوضى) ‪ ...‬و سقط اآلثمون على وجوههم ‪ ...‬و أزيح الحاقدون ‪ ...‬صارت المياه وفيرة ‪,‬‬

‫و فاض النيل ‪ ...‬أصبحت األيام طويلة ‪ ,‬و أصبح لليل ساعات ‪ ...‬و أتت الشهور فى أوانها ‪...‬‬

‫‪- 176 -‬‬


‫رضيت الكيانات االلهية و ابتهجت قلوبها ‪ ...‬صارت حياة الناس مفعمة بالضحك و صار الكون فى‬

‫نظرهم جديرا بالدهشة و االعجاب ***‬

‫ان ما يصفه النص السابق هو اعادة تكرار لقصة الخلق ‪ ,‬ألن فترة خلو العرش تمثل نهاية الزمن ‪,‬‬

‫أى نهاية عصر كان يحكمه نظام الهى ‪.‬‬

‫فى فترة خلو العرش تبدو أرض مصر و كأن مياه األزل "نون" قد غمرتها ‪ ,‬و لذلك كان من‬

‫الضرورى أن يعاد خلقها من جديد ‪.‬‬

‫وصف حدث تتويج الملك – أو باألحرى تنصيبه – فى العديد من النصوص المصرية القديمة بأنه‬

‫يقع فى نفس اللحظة التى تشرق فيها الشمس و هى لحظة انتصار "رع" على قوى الفوضى‬

‫و الظالم ‪.‬‬

‫و برغم أن الملك هو تجسيد حورس على األرض ‪ ,‬اال ان النموذج االلهى للملك هو "رع" ‪.‬‬

‫فالملك هو "سا – رع" أى ابن "رع" (االله الخالق) و خليفته ‪ ,‬و هو يتبوأ مثله نفس العرش ‪,‬‬

‫"عرش آتوم" أو عرش "رع" ‪ ,‬و يأخذ على عاتقه القيام بنفس المهمة و هى اعادة األرض كما‬

‫كانت فى الزمن األول ‪.‬‬

‫فى مصر القديمة كان الملك هو محور حركة التاريخ ‪ ,‬كما كان "رع" هو محور الفكر الدينى ‪.‬‬

‫الملك هو صورة "رع" على األرض و بالتالى هو البؤرة التى تدور حولها عجلة التاريخ ‪.‬‬

‫يوصف الملك فى النصوص المصرية القديمة بأنه يصعد درجات "بيت الصباح" فى المعبد و يشرق‬

‫على األرض كما يشرق "رع" فى السماء ‪ ,‬و هى جميعا أوصاف تعبر عن دور الملك المحورى‬

‫فى الديانة المصرية ‪.‬‬

‫فى المشهد التالى يطل الملك رمسيس الثانى على الشعب من شرفة التجلى فى أبيدوس ‪ ,‬بينما تقف‬

‫الملكة نفرتارى خلفه ‪ .‬يسجل النقش المصاحب للمشهد قرار تعيين الملك رمسيس الثانى الكاهن‬

‫"نب ون اف" ليصبح الكاهن األكبر آلمون ‪.‬‬

‫‪- 177 -‬‬


‫الملك رمسيس الثانى يطل على الشعب من شرفة التجلى‬

‫(من عصر األسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫كان الملك صورة من الشمس ليس فقط فى عالقته بكبار الموظفين و بالمجتمع و لكن أيضا فى‬

‫عالقته بكل األحداث التى يمكن أن تقع ‪.‬‬

‫فى الفقرات السابقة من هذا الفصل تعرفنا على عالقة الملك بنجم الشعرى ‪ ,‬و فى الفصل السابق‬

‫استعرضنا رأى عالم الكيمياء ‪ Schwaller De Lubicz‬الذى قال فيه أن نجم الشعرى فى مصر‬

‫القديمة كان بمثابة الشمس المركزية لنظامنا الشمسى ‪.‬‬

‫ان شمسنا (جسد رع) التى تدور حولها أرضنا هى صورة مصغرة من نجم الشعرى ‪.‬‬

‫و ملك مصر ‪ -‬مثله مثل رع – هو أيضا صورة من نجم الشعرى على األرض ‪ .‬لذلك نجد هناك‬

‫‪- 178 -‬‬


‫نصوص مصرية قديمة تخاطب الملك قائلة ( أنت الشمس المشرقة التى تضئ األرضين بجمالها ) ‪,‬‬
‫أو ( أنت شمس االنسان التى تزيح الظلمة من أرض مصر ) ‪.‬‬

‫أليس من المتوقع اذن أن تكون فترة حكم كل ملك على األرض صورة مصغرة أو انعكاس لدورة‬

‫نجم الشعرى فى السماء ؟‬

‫و كما تعكس فترات حكم الملوك االتى سجلها قدماء المصريين فى قوائم الملوك ايقاع العالم‬

‫السماوى و دوراته ‪ ,‬كذلك كانت األحداث على األرض أثناء فترات حكم الملوك هى أيضا انعكاس‬

‫ألحداث تقع فى العالم االلهى ‪.‬‬

‫بعبارة أخرى ‪ ,‬لكى يكون التاريخ حقيقيا ‪ ,‬يجب أن يخضع لنظام ميثولوجى أسمى و أن يعكس ذلك‬

‫النظام ‪.‬‬

‫تدوين التاريخ على غرار األسطورة (أسطرة التاريخ) ‪-:‬‬

‫فى مصر القديمة ‪ ,‬كانت الدورات الملكية التى تقع فيها أحداث التاريخ تحت اشراف حورس ‪ ,‬ألن‬

‫حورس هو الكيان االلهى الذى يتجسد فى كل ملك يتبوأ عرش مصر ‪.‬‬

‫و العالم الروحى الذى ينتمى له ذلك الكيان االلهى (حورس) ال يخضع لحدود الزمن الذى نعرفه‪.‬‬

‫لذلك كان التاريخ أحيانا ما يتم تجاهله من جانب المؤرخ المصرى القديم و أحيان أخرى يتم دمجه‬

‫فى النماذج األولية‪/‬االلهية التى جاء ذكرها فى األساطير ‪.‬‬

‫فى عصر الدولة القديمة كان هناك ميل من جانب المؤرخين المصريين القدماء الى اغفال ذكر‬

‫بعض األحداث من السجالت الرسمية ‪ ,‬و قد فسر ذلك بأنه ندرة فى المعلومات المتاحة عن أنشطة‬

‫و انجازات ملوك الدولة القديمة ‪.‬‬

‫على سبيل المثال ‪ ,‬سجل حجر باليرمو أعمال العديد من ملوك الدولة القديمة و لكنه اعتبر أن هذه‬

‫األعمال جميعا هى منح و هبات من الكيانات االلهية تم تنفيذها من خالل الملك ‪ ,‬و هو صورة‬

‫حورس على األرض ‪.‬‬

‫فى حجر باليرمو ال نكاد نعثر على ذكر ألعمال مثل خوض حروب أو شق قنوات أو اقامة منشآت‬

‫‪- 179 -‬‬


‫أو احتفال بأعياد فى عصر األسرة الخامسه (و هو العصر الذى نقش فيه حجر باليرمو) ‪ .‬و يبدو‬

‫أن هذه األعمال كانت فى نظر المؤرخ المصرى زائلة و مؤقته لدرجة تجعلها غير جديرة بأن تدخل‬

‫السجالت التاريخية ‪.‬‬

‫ان النظرة المتأملة لسجالت و حوليات ملوك الدولة القديمة يكشف لنا أنها عبارة عن مذكرات ذات‬

‫طابع دينى ‪ ,‬تم فيها دمج شخص الملك فى عالم الصور األولية (عالم األسطورة) ‪.‬‬

‫و طبقا للنموذج االلهى الموجود فى عالم األسطورة ال تقتصر عالقة الملك بالكيانات االلهية على‬

‫الملك الحى الجالس على العرش ‪ ,‬و انما تمتد لتشمل أيضا الملك المتوفى و الذى ينظر له باعتباره‬

‫أحد الكيانات االلهية ‪ .‬فعند موت الملك يقال أنه قد "عاد الى كاواته" أو أنه اتحد ب "رع" أو أوزير‪.‬‬

‫ان أجداد الملك – أيا كانت هيئتهم – ال ينتمون الى الماضى الذى هو جزء من زمننا الدنيوى ‪,‬‬

‫و انما ينتمون الى الزمن األول ‪ .‬و لذلك فهم ما زالوا حاضرين ‪ ,‬و هم فى حالة حضور دائم و لكن‬

‫فى مستوى آخر من مستويات الوجود ‪ ,‬و هو العالم السماوى ‪.‬‬

‫و ألن العالم السماوى ليس منفصال عن عالم األرض و انما هو يتداخل معه و يتشابك ‪ ,‬لذلك فان‬

‫لهؤالء األجداد حضور فعال و مؤثر فى عالمنا ‪.‬‬

‫يصور المشهد التالى ملك مصر الحى الجالس على العرش الملك "منتوحتب الثانى" و هو يقدم‬

‫طقوس التبجيل لروح سلفه و جده الملك منتوحتب األول ‪.‬‬

‫‪- 180 -‬‬


‫الملك منتوحتب الثانى (حورس) يقدم طقوس التبجيل لروح جده الملك منتوحتب األول (أوزير)‬

‫(أسرة ‪ , 11‬دولة وسطى )‬

‫و نالحظ أن حجم الملك منتوحتب الثانى (الى اليمين – مرتديا غطاء النمس فوق رأسه الذى يعلوه‬

‫اسمه داخل خرطوش) ضئيل بالمقارنة بحجم الملك منتوحتب األول الذى يبدو فى منتهى الضخامة‬

‫و الذى تقدم له طقوس التبجيل ‪.‬‬

‫كان على كل ملك من ملوك مصر أن يقدم طقوس التبجيل ألرواح األجداد ‪ ,‬لكى تحل البركة على‬

‫أرض مصر ‪ ,‬ألن البركة و الخير و النماء ترتبط باقامة الجسور بين عالمنا و بين أرواح األجداد‬

‫المبجلين ‪.‬‬

‫من أهم سمات المجتمع المصرى القديم النظر الى أرواح الموتى الصالحين نظرة احترام و تبجيل ‪,‬‬

‫و االعتقاد بأن هذه األرواح باستطاعتها التأثير على عالم األحياء و التدخل فيه أحيانا ‪.‬‬

‫ان الموت الذى يعتبر فى نظر االنسان المعاصر أكبر دليل على ضعف االنسان و زواله أمام قوة‬

‫الزمن كان فى نظر المصرى القديم مجرد عتبة يخطوها االنسان فى طريقه الى عالم آخر أبدى يقع‬

‫‪- 181 -‬‬


‫فيما وراء التاريخ الذى يحكمه الزمن ‪.‬‬

‫فى مصر القديمة – و فى كل الحضارات القديمة – كان عالم الموتى يتداخل مع عالم األحياء‬

‫و يتشابك معه فى نسيج واحد ‪.‬‬

‫من وجهة نظر طقسية ‪ ,‬يعتبر الملك بوتقة تمتزج فيها القوى االلهية التى يمثلها الملك الحى الجالس‬

‫على العرش بالقوى الروحانية لسلفه المباشر (أبيه) و أيضا أجداد كل ملوك مصر الذين يندمجون‬

‫جميعا تحت عباءة أوزير ‪.‬‬

‫لمنصب الملكية وجهان ‪ ,‬فهو يجمع بين كل من حورس و أوزير فى عالقة متشابكه ‪.‬‬

‫يتعامل منصب الملكية مع عالم األسطورة أو بعبارة أخرى يعمل من خالله ‪.‬‬

‫عالم األسطورة الذى يقع خارج حدود التاريخ هو العالم الذى ينتمى له ملوك مصر ‪ ,‬و هو العالم‬

‫الذى تشير السجالت التاريخية المصرية اليه و الى تأثيره على عالمنا ‪.‬‬

‫كانت قوائم الملوك فى مصر القديمة ‪ -‬باستثناء قائمة تورين و قائمة مانيتون السمنودى ‪ -‬تدون‬

‫ألهداف طقسية ‪ .‬و فيها يأتى ذكر أسماء األجداد المبجلين الذين تقدم لهم القرابين على أيدى حورس‬

‫الجالس على عرش مصر ‪.‬‬

‫ان ما يبدو فى نظرنا ترتيبا تاريخيا صحيحا ألجداد ملك مصر لم يكن هو الهدف األساسى الذى‬

‫سعى المصرى القديم لتحقيقه من تدوين تلك القوائم ‪.‬‬

‫على سبيل المثال ‪ ,‬كان من المقبول فى بعض األحيان تسجيل أسماء ملوك بعض األسرات بترتيب‬

‫معكوس ‪.‬‬

‫فى قائمة سقارة (من مقبرة "تينرى" ‪ ,‬من عصر الملك رمسيس الثانى) على سبيل المثال قام‬

‫المصرى القديم بتدوين أسماء أكثر من ‪ 51‬ملك ‪ ,‬و من بين كل هذه األسماء ال نكاد نعثر على‬

‫ترتيب تاريخى صحيح اال فى أسماء ملوك األسرة الثانية عشرة ‪.‬‬

‫يصور المشهد التالى جزء من قائمة سقارة و فيه تظهر خراطيش بأسماء ملوك األسرة الخامسه‬

‫بترتيب معكوس ‪.‬‬

‫‪- 182 -‬‬


‫قائمة سقارة ‪ ,‬و هى احدى قوائم ملوك مصر القديمة‬

‫( من عصر األسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫بالنسبة للمؤرخ المصرى القديم ‪ ,‬لم يكن اكتمال قائمة الملوك يشكل أولوية ‪ .‬ففى الغالب كانت‬

‫القوائم تغفل ذكر أسماء بعض الملوك الذين يبدون أقل أهمية ‪ -‬لسبب ما ‪ -‬فى نظر المدون بالنسبة‬

‫للطقس الذى تدون من أجله القائمة ‪.‬‬

‫و حتى أكثر قوائم الملوك موضوعية و شمولية مثل قائمة تورين و قائمة مانيتون السمنودى لم تكن‬

‫مجرد سجالت تاريخية ‪.‬‬

‫علينا أن نعى هذه الحقيقة عند النظر لقوائم الملوك حتى ال نسقط فى فخ تأويل ذلك من منظور‬

‫الدعاية عندما نكتشف بها أحيانا ما ال يتطابق مع الحقائق التاريخية ‪.‬‬

‫عند النظر الى قوائم الملوك علينا أن نتذكر أن الحقائق التاريخية فى مصر القديمة لم تكن هى‬

‫الهدف األساسى ‪ ,‬و لذلك كان المدون المصرى يعيد صياغتها لخدمة الطقوس الدينية ‪.‬‬

‫و لذلك نجد أن السجالت و المعلومات التى وصلتنا عن الحروب التى خاضها بعض ملوك مصر‬

‫و عن انتصاراتهم و أفعالهم البطولية قد أعيد صياغتها لكى تتوافق مع بعض األحداث التى وردت‬

‫فى األساطير ‪.‬‬

‫‪- 183 -‬‬


‫من النادر ‪ -‬بل من غير المحتمل ‪ -‬أن يكون تدوين هذه القوائم لهدف تاريخى فقط ‪.‬‬

‫على سبيل المثال ‪ ,‬كيف لنا أن نفهم المشهد التالى ؟‬

‫فى المعبد الجنائزى للملك "ساحورع" من عصر األسرة الخامسه (دولة قديمة) هناك مشهد يصور‬

‫مجموعة من رؤساء القبائل الليبية و قد تم اقتيادهم كأسرى حرب مع ماشيتهم ‪.‬‬

‫و بعد حوالى مائتى عام ‪ ,‬قام الفنان المصرى المصرى القديم بنقل نسخة من نفس المشهد فى المعبد‬

‫الملحق بهرم الملك بيبى الثانى ‪ ,‬آخر ملوك األسرة السادسه ‪ .‬و حرص الفنان على اعادة نسخ‬

‫أسماء زعماء القبائل الليبية كما هى ‪.‬‬

‫و بعد حوالى ألفى عام ‪ ,‬أعيد نسخ نفس المشهد فى معبد شيده الملك طهارقا (حوالى عام ‪ 091‬قبل‬

‫الميالد) فى النوبة ‪.‬‬

‫نفس المشهد بنفس أسماء زعماء القبائل الليبية أعيد نسخه بعد ‪ 211‬عام ‪ ,‬و بعد ‪ 2111‬عام كما‬

‫هو ‪ .‬فهل من المعقول أن كل ملك من الملوك الذين نسخوا المشهد انتصر على نفس األشخاص‬

‫الذين عاصروا الملك "ساحورع" من عصر األسرة الخامسه ؟!‬

‫تعتبر هذه الحالة أحد أهم أمثلة أسطرة التاريخ ‪ ,‬أى كتابة التاريخ على غرار األسطورة ‪ ,‬و هى‬

‫ليست حالة فريدة ‪.‬‬

‫فالملك رمسيس الثالث – على سبيل المثال – قام بتدوين قائمة بحروبه فى آسيا و هى فى الحقيقة‬

‫منسوخة من قائمة دونها الملك رمسيس الثانى قبله بحوالى ‪ 011‬عام ‪ .‬وقائمة الملك رمسيس الثانى‬

‫بدورها منسوخة من قائمة دونها الملك تحتمس الثالث قبله بحوالى ‪ 111‬عام ‪.‬‬

‫ان الهدف من اعادة نسخ التفاصيل التاريخية هو نقلها من نطاق التاريخ الى نطاق األسطورة ‪,‬‬

‫و بدال من تدوينها باعتبارها حدث تاريخى وقع مرة واحدة فقط ‪ ,‬قام المؤرخ المصرى بتدوينها‬

‫و كأنها حدث أسطورى يعيد تكرار نفسه أكثر من مرة ‪ ,‬ألن من سمات األسطورة العودة و التكرار‬

‫األبدى ‪ ,‬بعكس التاريخ الذى يسير فى خط مستقيم ال تعود فيه األحداث مرة أخرى ‪.‬‬

‫فى نظر المصرى القديم ال يهم من هو العدو و ما هو اسمه ‪.‬‬

‫‪- 184 -‬‬


‫فى العالم المادى كان األثيوبيون (فى الجنوب) و الليبيون (فى الغرب) و اآلسيويون (فى الشرق)‬

‫هم العدو التقليدى الذى يجب على كل ملك من ملوك مصر أن ينتصر عليه ‪.‬‬

‫أما فى عالم األسطورة ‪ ,‬فالعدو هو "ست" ‪.‬‬

‫و أيا كان شكل او اسم العدو ‪ ,‬فهو دائما رمز عوامل الفوضى و الهدم فى الكون ‪.‬‬

‫و لذلك نجد أن النصوص التى وصفت اعداء مصر التقليديين قد أسقطت عليهم صفات "ست"‬

‫و شخصيته ‪.‬‬

‫على سبيل المثال ‪ ,‬كان ذكر اآلسيويين فى النصوص المصرية القديمة يأتى غالبا مسبوقا بأوصاف‬

‫مثل األشقياء أو أصحاب القلب الخسيس ‪.‬‬

‫و من أمثلة تلك النصوص هذا النص الذى يعود لعصر الدولة الوسطى و يطلق عليه تعاليم "مرى‬

‫كا رع" ‪-:‬‬

‫*** ان العامو (اآلسيوى من جنوب كنعان) بائس ‪ ...‬فهو أينما حل يحل البؤس ‪ ...‬و هو ما زال‬

‫يحارب منذ عصر حورس ‪ ...‬و هو ال يستقر فى مكان ***‬

‫و من نفس الفترة الزمنية (أى عصر الدولة الوسطى ) هناك نص آخر يصف األثيوبيين بهذه‬

‫العبارات ‪-:‬‬

‫*** اذا هجمت عليهم ولوا األدبار و فروا هاربين ‪ ...‬و اذا انسحبت يبدأون فى الهجوم ‪ ..‬هم جبناء‬

‫‪ ,‬و غير جديرين باالحترام ***‬

‫و فى المقابل نجد أن ملك مصر بطل ال يقهر ‪ ,‬و منذ بداية عصر األسرات تصوره المشاهد الفنية‬

‫و هو يضرب رؤوس األعداء األسطوريين (رمز قوى الفوضى الكونية) بيد واحدة ‪.‬‬

‫يصور المشهد التالى الملك مينا أول ملوك عصر األسرات فى الوضع التقليدى للمحارب الذى يقوم‬

‫بضرب العدو الذى أوقعه حظه العاثر فى قبضة الملك ‪.‬‬

‫‪- 185 -‬‬


‫الملك "مينا – نارمر" مؤسس األسرة األولى يضرب األعداء‬

‫( لوحة نارمر ‪ ,‬و هى تعود لحوالى ‪ 3122‬قبل الميالد ‪ ,‬المتحف المصرى بالقاهرة )‬

‫ظهر ملوك مصر فى أقدم المشاهد التى صورتهم فى وضع المحارب و هم يرتدون التاج األبيض ‪,‬‬

‫تاج مصر العليا (لصعيد) ‪.‬‬

‫على سبيل المثال يصور المشهد التالى الملك "سخم خت" (ثالث ملوك األسرة الثالثه) و هو يرتدى‬

‫التاج األبيض و يضرب رؤوس البدو فى سيناء ‪.‬‬

‫‪- 186 -‬‬


‫الملك "سخم خت" يضرب األعداء ‪ .‬من نقوش منطقة وادى مغارة بسيناء‬

‫( عصر األسرة الثالثه ‪ ,‬دولة قديمة )‬

‫و هنا نالحظ أن الملك يقف وحده و يقهر األعداء فيما يبدو بدون مجهود ‪ ,‬و هى السمات التى‬

‫تتكرر فى كل مشاهد االنتصار على األعداء ‪.‬‬

‫و ال شك أن هذه المشاهد تستند الى أحداث تاريخية ‪ ,‬اال أن المصرى القديم قام باسقاط األحداث‬

‫التاريخية داخل عالم األسطورة أو عالم الصور األولية الذى يتجلى فيه الملك كقوة كونيه رهيبة‬

‫تمسك بناصية العدو (رمز قوى الفوضى) الذى ال يستطيع فرارا ‪ ,‬و تسحقه ‪.‬‬

‫و تعتبر مشاهد االنتصار فى عصر الدولة الحديثه أكثر واقعية ألنها تصور الجيش المصرى و هو‬

‫يقوم بمساعدة الملك ‪ .‬و لكنها فى نفس الوقت ال تبتعد عن عالم األسطورة حيث يعزى االنتصار‬

‫دائما للملك باعتباره تجسيدا للقدرة االلهية على األرض ‪.‬‬

‫المشهد التالى من معبد هابو بالبر الغربى باألقصر ‪ ,‬و هو يصور انتصار الجيش المصرى على‬

‫‪- 187 -‬‬


‫شعوب البحر الذين هاجموا سواحل مصر الشمالية فى عصر الملك رمسيس الثالث (أسرة ‪, 21‬‬
‫دولة حديثه) ‪.‬‬

‫الملك رمسيس الثالث يهزم شعوب البحر‬

‫( من معبد هابو باألقصر ‪ ,‬أسرة ‪ , 22‬دولة حديثه )‬

‫و هنا نالحظ أن الجيش المصرى تم اختزاله فى مجموعة من الرماة تقف أمام الملك الذى يحمل هو‬

‫أيضا قوسا و يمطر األعداء بسهامه القاتلة ‪.‬‬

‫يبدو حجم الرماة من الجيش المصرى أصغر كثيرا من حجم الملك الذى يقف فوق أكوام من أشالء‬

‫القتلى من الغزاة ‪.‬‬

‫و فى مقابل النظام و االنضباط و الثقة بالنفس التى تهيمن على مشهد الجيش المصرى بقيادة الملك‬

‫رمسيس الثالث ‪ ,‬تهيمن العشوائية على جيش األعداء الذى يبدو فى حالة فوضى شاملة ‪ ,‬ألن جيش‬

‫العدو من شعوب البحر فى هذا السياق هم رمز قوى الفوضى ‪.‬‬

‫لهذه المشاهد مغزى ميثولوجى ‪ ,‬فهى تستخدم الحدث الدنيوى كبوابة لالنتقال الى الزمن األول ‪ ,‬الى‬

‫عالم الصور األولية الذى أنشأه "آتوم ‪ -‬رع" ‪.‬‬

‫‪- 188 -‬‬


‫و الملك هنا ال يظهر فقط فى صورة حورس الذى يواجه قوى الفوضى المتمثله فى "ست" ‪ ,‬و انما‬

‫هو أيضا "ابن رع" ( سا ‪ -‬رع ) ‪ ,‬الذى يعيد تكرار فعل الخلق األزلى الذى قام به "رع" فى الزمن‬

‫األول و الذى يتضمن االنتصار على قوى الفوضى الكونية بعد خوض صراع ضدها ‪.‬‬

‫وصف الملك تحتمس الثالث فى أنشودة تتناول انتصاره فى معرك "مجيدو" بأنه هو محبوب آمون‬

‫رع ‪ .‬ترجع األنشودة سبب االنتصار فى هذه المعركة الى "آمون ‪ -‬رع" الذى أسبغ قدرته االلهية‬

‫على الملك تحتمس الثالث و وهبه االنتصار على قوى الظالم فى البالد األجنبية التى تقع على حدود‬

‫العالم الذى يحكمه النظام و النور ‪.‬‬

‫بانتصاره على األعداء يكون الملك قد أقام الماعت مجددا ‪.‬‬

‫يقول عالم المصريات هنرى فرانكفورت ‪-:‬‬

‫*** ان مشاهد االنتصار فى مصر القديمة ليست مجرد استعراض للقوة ‪ ,‬و انما هى تعبر عن‬

‫مغزى يتعلق بقصة الخلق ‪ ,‬و هو اخضاع قوى الفوضى و الظالم للنظام الكونى ‪ .‬فالملك ال‬

‫يتصرف بعشوائية ‪ ,‬و انما هو يقوم بعمل صيانة للنظام الكونى (الذى تعتبر الماعت عنصرا‬

‫رئيسيا فيه) و حمايته من الهجوم المتكرر لقوى الفوضى ‪ .‬ان دور الملك فى صيانة النظام الكونى‬

‫و حمايته ليس جزءا من التاريخ ‪ ,‬و انما هو حقيقة أبدية ‪ .‬تلك الحقيقة هى الهدف الذى سعى الفنان‬

‫المصرى القديم للتعبير عنه فى كل مشاهد االنتصار ***‬

‫ان أفعال الملك فى مصر القديمة تنتمى لعالم األسطورة و ليس للتاريخ ‪.‬‬

‫و مهما كانت أوجه التشابه بين هذه المشاهد و بين أحداث أو ظروف تاريخية ‪ ,‬يظل المغزى‬

‫الميثولوجى (األسطورى) أبعد و أعمق من أى أحداث تاريخية ‪.‬‬

‫يعتبر الملك جسر أو همزة وصل تصل بين عالمنا و بين عالم الصور األولية (عالم األسطورة) ‪,‬‬

‫فهو يحيا بجسده فى عالمنا األرضى و فى نفس الوقت يحيا بوعيه فى عالم األسطورة و فى كل‬

‫أفعاله يقوم بوضع بصمة عالم األسطورة على األحداث التاريخية التى يشارك فيها ‪.‬‬

‫حين نقرأ أن الملك تحتمس الثالث أثناء حملته فى سوريا قم باصطياد سبعة أسود و اثنا عشر من‬

‫‪- 189 -‬‬


‫رأسا من الماشية البرية قبل االفطار ‪ ,‬و أن الملك أمنحتب الثانى قام وحده بالهجوم على مدينة‬

‫سورية و عاد و هو يقود ‪ 00‬أسيرا و ستين رأسا من الماشية فنحن هنا بصدد أحداث أسطورية‬

‫مغلفة بثوب شفاف من التاريخ ‪.‬‬

‫و األسطورة هنا ال تعنى أحداث خيالية و انما أحداث أزلية (وقعت عند نشأة الكون) تقوم باعادة‬

‫تكرار نفسها من خالل التاريخ ‪.‬‬

‫ان ما هو استثنائى و فوق العادة تصوره مشاهد االنتصار و كأنه حدث عادى ألن العالم الدنيوى‬

‫اندمج مع عالم األسطورة و هذا االندماج هو الذى رفع مستوى األحداث الدنيوية فجعلها أسطورية ‪.‬‬

‫من خالل الملك تتدفق الطاقة من عالم األسطورة الى عالمنا فتمكن الملك من االتيان بما هو فوق‬

‫قدرات البشر ‪.‬‬

‫من العبث أن نفسر هذه المشاهد باعتبارها مجرد دعاية سياسية للملك ‪.‬‬

‫ألن الملك ليس بشرا عاديا و انما هو تجسيد لالله على األرض ‪ ,‬و لذلك كان بمقدوره أن يأتى بما‬

‫ال يستطعه البشر ‪.‬‬

‫فى مصر القديمة ‪ ,‬كان الملك يحيا فى مستوى آخر من مستويات الوجود أسمى من المستوى الذى‬

‫يحيا فيه العامة ‪ .‬و من خالله يمكن لمستوى الوجود األدنى أن يتصل بالوجود األسمى‪/‬األقدس ‪.‬‬

‫ان المغزى من مشاهد االنتصار ليس األحداث التاريخية و انما المعانى الماورائية التى تعبر عنها‬

‫تلك المشاهد ‪.‬‬

‫معركة قادش ‪-:‬‬

‫تعتبر معركة قادش أحد أوضح األمثلة التى قام فيها المصرى القديم باسقاط أحداث ميثولوجية‬

‫(أسطورية) على الحدث التاريخى ‪ ,‬و ذلك من خالل شخص الملك ‪.‬‬

‫وقعت معركة قادش أثناء حملة الملك رمسيس الثانى فى منطقة الشرق األوسط ضد الحيثيين ‪ .‬وقد‬

‫سجل الفنان المصرى أحداث المعركة على جدران معبد رمسيس الثانى بأبيدوس ‪ ,‬و معبد األقصر‬

‫‪- 190 -‬‬


‫‪ ,‬و معبد أبو سمبل و معبد الرامسيوم ‪.‬‬

‫و فكرة تسجيل أحداث المعركة على جدران المعابد تكفى دليال على أن هذه المعركة لم تكن مجرد‬

‫حدث تاريخى فى نظر قدماء المصريين ‪ ,‬و انما هناك عالقة بين هذا الحدث و بين العالم االلهى أو‬

‫الزمن األول ‪.‬‬

‫هناك من األدلة األركيولوجية ما يكفى الثبات أن هذه المعركة حدثت بالفعل ‪ ,‬و لكن فى نفس الوقت‬

‫قد ينتهى األمر بالباحث الى اساءة فهم الرموز المتعلقة بتسجيل تلك المعركة الهامة اذا نظر الى‬

‫معركة قادش على أنها حدث تاريخى فقط ‪ ,‬و أغفل عالقتها بعالم األسطورة و أحداث نشأة الكون ‪.‬‬

‫فى مصر القديمة لم تكن أفعال الملك تنعكس فقط على حركة التاريخ ‪ .‬فاألحداث االتاريخية التى‬

‫يساهم الملك فى صنعها تنتمى أيضا الى عالم األسطورة ‪.‬‬

‫كل فعل يقوم به الملك يخاطب به عالمين فى نفس الوقت ‪ ,‬العالم المادى و عالم الروح ‪ .‬لذلك‬

‫كانت األحداث التاريخية هى فى نفس الوقت أحداثا ميثولوجية فى نظر المصرى القديم ‪.‬‬

‫تروى المصادر التاريخية المدونة على جدان المعابد عن توجه الملك رمسيس الثانى بجيشه المكون‬

‫من ‪ 4‬فرق الى قادش ‪ .‬و عند اقترابه من مدينة قادش التقى برجلين من البدو أخبراه بمعلومات‬

‫خاطئة عن موقع جيش الحيثيين ‪ .‬و قد اتضح فيما بعد ذلك أنهما من جواسيس الحيثيين و أنهما قاما‬

‫بتسريب معلومات خاطئة عن قصد ‪.‬‬

‫و بناء على تلك المعلومات المضللة التى تقول بأن جيش الحيثيين ما زال بعيدا عن قادش انفصل‬

‫الملك رمسيس الثانى عن قواته و قام بالتخييم على قمة أحد التالل ‪ ,‬و هناك "تبوأ عرشا من الذهب"‬

‫و بعد ذلك مباشرة أسر قادة الفرقة التى تصاحب الملك رمسيس الثانى اثنين من جيش الحيثيين ‪,‬‬

‫و بعد استجوابهما اتضح أن الجيش الحيثى يعسكر فى مكان قريب جدا شمال شرق قادش و أن‬

‫قواته التى تنتمى لتحالف من عدة دول الى جانب مملكة الحيثيين بها من المشاة و الفرسان ما هو‬

‫أكثر عددا من رمال الشاطئ ‪.‬‬

‫و هنا يرسل الملك رمسيس الثانى اشارة سريعة لباقى فرق الجيش لتأتى و تنضم اليه فى مواجهة‬

‫‪- 191 -‬‬


‫الحيثيين ‪ .‬و أثناء توجه فرق الجيش المصرى للحاق بالملك رمسيس الثانى تتعرض الفرق‬

‫المصرية للهجوم ‪ ,‬و يقوم األعداء بحصار الملك الذى أصبح وحيدا ‪.‬‬

‫وسط ذلك الخطر الرهيب ‪ ,‬ينتفض الملك رمسيس الثانى مثل أبيه "مونتو" (رب الحرب و القتال)‬

‫‪ ,‬و يمسك بسيفه و يرتدى درعه و يمتطى عربته و يبدأ الهجوم على األعداء ‪.‬‬

‫جاء فى أحد النصوص التى تصف معركة قادش على لسان الملك رمسيس الثانى ‪-:‬‬

‫*** كنت وحدى و ال موجود معى ‪ ...‬ال ضابط و ال عربة ‪ ,‬و ال جندى و ال حامل درع ‪...‬‬

‫انهارت أمامى قوات المشاة و العربات ‪ ...‬لم يعد منهم أحد ليحارب معى ***‬

‫فى ذلك الموقف الرهيب وقف الملك رمسيس الثانى وحده و قد تخلت عنه قواته ‪ ,‬و هنا يبدأ الملك‬

‫فى ترتيل صالة طويلة ألبيه آمون يسأله المدد ‪.‬‬

‫تنتهى الصالة بهذه العبارات ‪-:‬‬

‫*** بك أستغيث يا أبى آمون ‪ ...‬فقد أحاط بى األعداء ‪ ...‬كل الدول تحالفت ضدى ‪ ...‬صرت‬

‫وحدى ‪ ,‬و ال رفيق لى ‪ ...‬تخلت عنى كل قواتى ‪ ...‬لم يبقى معى أى فارس من فرسان العربات‬

‫ليبحث عنى ‪ ...‬و أنا أصرخ و أصيح مناديا اياهم ‪ ,‬و لكن ال مجيب ‪ ...‬ال أحد يسمع ندائى سوى‬

‫آمون ‪ ...‬ان قدرة آمون و عونه لى أفضل من مليون فرقة ‪ ,‬و من مائة ألف قائد عربة و أفضل من‬

‫عشرة آالف أخ و ابن مجتمعين معا على قلب رجل واحد ‪ ...‬ان قدرة البشر مهما بلغ عددهم هى‬

‫الشئ أمام قدرة آمون ***‬

‫و هنا يسمع آمون دعاء ابنه رمسيس الثانى و يخاطبه مباشرة و كأنه قريب منه قائال ‪-:‬‬

‫*** الى األمام أيها الملك ‪ ,‬فأنا معك ‪ ...‬يدى فوق يدك ‪ ,‬ألنى أنا أبوك ‪ ...‬أن مددى أقوى من‬

‫معونة مائة ألف رجل ‪ ...‬أنا رب النصر ‪ ,‬أهبه للشجاع ***‬

‫و هنا تتنزل على الملك رمسيس الثانى قوة الهية خارقة تتقمصه و تتجلى من خالله ‪ ,‬فيصير مثل‬

‫"ست" رب العنف و القسوة فيقتل كل من يقترب منه ‪.‬‬

‫و عندما يكتشف زعيم القوات الحيثيه أن الملك رمسيس الثانى وحده ‪ ,‬يجمع ألف عربة من قواته‬

‫‪- 192 -‬‬


‫و يرسلهم جميعا لينقضوا عليه ‪ .‬و هنا يزداد الموقف تأزما ‪.‬‬

‫تقول نصوص معركة قادش على لسان الملك رمسيس الثانى ‪-:‬‬

‫*** اتجهت كل عرباتهم التى يبلغ عددها ألفا نحوى ‪ ...‬و لكنى قذفتهم بالسهام بقوة و شراسه مثل‬

‫"مونتو" ‪ ...‬و فى لحظة واحدة أذقتهم بأس و قوة يدى ‪ ...‬فقتلت منهم و سقطوا فى ساحة المعركة‬

‫‪ ...‬و أخذوا يتصايحون قائلين ‪ :‬ان ذلك الرجل ليس بشرا و انما هو "ست" شديد البأس ‪ ,‬بل هو‬

‫"بعل" نفسه ‪ ,‬ان هذه ليست أفعال بشر ‪ ,‬و انما هى أفعال كائن فريد ليس له مثيل ‪ ,‬يحارب جيش‬

‫مكون من مائة ألف بدون أى مساعدة من جنود أو عربات ‪ ,‬أسرعوا بالهرب من أمامه لننجو‬

‫بحياتنا ***‬

‫يهزم الملك رمسيس الثانى األعداء وحده و يمأل سهل قادش بالضحايا من جيش الحيثيين ‪ ,‬فال يعد‬

‫هناك موطئ قدم فى السهل من كثرة الجثث ‪.‬‬

‫يصرع الملك رمسيس الثانى مئات االالف من األعداء بقوة ذراعه ‪ ,‬بينما تتخلى عنه قواته التى‬

‫تأخرت فى اللحاق به ‪.‬‬

‫ثم تصف نصوص معركة قادش مرحلة أخرى من المعركة و هى المرحلة التى تلحق فيها قوات‬

‫الجيش المصرى بالملك رمسيس الثانى الذى يسير وسط جنوده مع طلوع الفجر و يستكمل المعركة‪.‬‬

‫تتزامن هذه المرحلة األخيرة و الحاسمه فى المعركة مع لحظة شروق الشمس ‪.‬‬

‫يقول النص على لسان الملك رمسيس الثانى ‪-:‬‬

‫*** كنت مثل "رع" حين يشرق عند الفجر ‪ ...‬و قد حرقت أشعة نورى أجساد أعدائى ‪ ...‬و أخذوا‬

‫يتصايحون أن انتبهوا و ال تقتربوا منه ‪ ,‬و اال ستحرقكم ناره ‪ ...‬و هنا لم يجرؤ أحد منهم على‬

‫االقتراب و توقفوا بعيدا يقبلون األرض بين يدي ***‬

‫يتضح مغزى القصيدة حين نقرأها فى ضوء المشاهد المصاحبة لها ‪ ,‬و منها النقوش التى صورها‬

‫الفنان المصرى القديم فوق الجدران الخارجية لصرح معبد األقصر ‪.‬‬

‫‪- 193 -‬‬


‫من مشاهد معركة قادش ‪ :‬الملك رمسيس الثانى يصوب سهامه نحو الغرب‬

‫( معبد األقصر ‪ ,‬الصرح الغربى )‬

‫ففى الجانب الغربى من الصرح يظهر الملك رمسيس الثانى و هو يجلس فوق عرش من ذهب‬

‫و يولى وجهه شطر الغرب ‪ .‬و الذهب هو المعدن الذى يرمز للشمس ‪.‬‬

‫أن يتبوأ الملك رمسيس الثانى عرشا من ذهب قبل اندالع المعركة فان ذلك يعبر عن كونه تجسيدا‬

‫للشمس على األرض ‪.‬‬

‫و على يمين ذلك المشهد هناك مشهد آخر يصور الملك فوق عربته و هو يصوب سهامه نحو‬

‫الغرب ‪ ,‬فى اتجاه الليل و الظلمة التى بدأت تزحف على العالم ‪.‬‬

‫و بين مشهد الملك فوق عرشه و مشهد الملك فوق عجلته الحربية هناك ست عجالت حربية أخرى‬

‫تنتمى للجيش المصرى تتجه نحو الغرب و تصعد الى أعلى بالتدريج حيث تقابل العجالت الحربية‬

‫الحيثيه فى قمة المشهد فوق الموضع الذى يقف فيه الملك فوق عربته ‪.‬‬

‫‪- 194 -‬‬


‫فى مصر القديمة تبدأ ساعات الليل فى الساعة السادسه مساءا ‪ ,‬و كأن هذه العربات الستة التى‬

‫تصعد بالتدريج الى أعلى تأخذنا خطوة بخطوة من لحظة غروب الشمس الى الساعة التى ينتصف‬

‫فيها الليل ‪ .‬يبدو أن هذه العربات الستة تمثل المراحل األولى للمعركة ‪.‬‬

‫اعتقد المصرى القديم أن الشمس بعد أن تغرب يجب عليها أن تقطع العالم السفلى و ترتحل فى كل‬

‫مناطقه لكى تولد من جديد فى األفق الشرقى فى صباح اليوم التالى ‪.‬‬

‫و فى تلك الرحلة الباطنية تتزامن كل مرحلة رئيسية من مراحل الرحلة مع ساعة من ساعات الليل‬

‫و لما كان الملك هو صورة الشمس على األرض ‪ ,‬فان ارتحاله فوق عربته فى اتجاه الغرب يرمز‬

‫الرتحاله الى العالم السفلى ‪.‬‬

‫و لذلك فان معركة قادش تقع فى زمن األسطورة كما تقع أيضا فى الزمن الدنيوى ‪ ,‬أو بعبارة‬

‫أخرى ان أحداث معركة قادش هى تجسيد لرموز تنتمى لعالم األسطورة ‪.‬‬

‫و على نفس الجانب من الصرح الغربى بمعبد األقصر يظهر الملك رمسيس الثانى مرة أخرى‬

‫كما فى الشكل التالى ‪ ,‬حيث نالحظ وجود اضافة أو تعديل على المشهد األساسى ‪.‬‬

‫من مشاهد معركة قادش ‪ :‬الملك رمسيس الثانى يتحول الى الشرق فى لحظة فارقة أثناء المعركة‬

‫( معبد األقصر ‪ ,‬الصرح الغربى )‬

‫‪- 195 -‬‬


‫قام الفنان المصرى القديم باضافة صورة أخرى للملك رمسيس الثانى فوق صورة سابقة ‪.‬‬

‫و نالحظ أن حجم الصورة الثانية هو تقريبا ضعف حجم الصورة األولى ‪ ,‬و أن الملك فى الصورة‬

‫الثانية ينظر فى اتجاه الشرق بدال من الغرب ‪.‬‬

‫ما الذى ترمز له الصورة الثانية ؟‬

‫هناك من يرجع السبب فى ذلك الى تعديل أضافه الفنان المصرى القديم الذى غير رأيه أثناء العمل ‪,‬‬

‫و هى بالطبع اجابة سهلة توفر علينا عناء البحث ‪ ,‬و لكنها تجعلنا نفقد المغزى الذى يعبر عنه‬

‫المشهد ‪.‬‬

‫اذا تأملنا المشهد فى ضوء نظرة قدماء المصريين للملك باعتباره صورة "رع" و أن توجهه نحو‬

‫الغرب يعنى بداية ارتحاله فى العالم السفلى مثل "رع" ‪ ,‬فمن المتوقع أن يغير الملك وجهته بعد‬

‫نزوله الى العالم السفلى و يتجه نحو الشرق ألن األفق الشرقى هو المكان الذى سيولد منه مجددا‬

‫عند الفجر ‪.‬‬

‫ان تغير وجهة الملك يتزامن أيضا مع اللحظة الحاسمة فى المعركة حين أدرك الملك أنه منعزل عن‬

‫جيشه و أنه محاصر من كل اتجاه باألعداء ‪ .‬و أسفل عرش الملك صور الفنان المصرى القديم قادة‬

‫قوة االستطالع فى جيش الحيثيين أثناء استجوابهم ‪.‬‬

‫و تلك هى اللحظة التى يجب على الملك رمسيس الثانى أن يتجه فيها بالدعاء و الصالة آلمون ‪.‬‬

‫فى كتاب "وصف ما هو كائن فى العالم االخر" (أمدوات) و الذى دون فى عصر الدولة الحديثه ‪,‬‬

‫نجد وصفا تفصيليا لرحلة الشمس فى العالم السفلى أثناء ساعات الليل االثنى عشر ‪.‬‬

‫و الساعة السابعة (أى منتصف الليل ) هى الساعة التى يتعرض فيها قارب رع لهجوم ثعبان‬

‫الفوضى و الظالم "عبيب" (أبوفيس) الذى يحاول عرقلة سير القارب و منعه من الوصول الى غاية‬

‫الرحلة و منتهاها و هى األفق الشرقى ‪ ,‬حيث يولد رع من جديد ‪.‬‬

‫و تلك هى الساعة التى حوصر فيها الملك رمسيس الثانى من األعداء الذين يمثلون قوى الفوضى‬

‫و الظالم ‪ .‬و عند ذلك المنعطف تنتقل المشاهد الى الجانب الشرقى من الصرح ‪ ,‬و هو الموضع‬

‫‪- 196 -‬‬


‫الذى سجل فيه ابتهال الملك رمسيس الثانى آلمون ‪ ,‬متبوعا بمشهد للملك و هو واقف فوق عربته‬

‫يسدد سهامه نحو الشرق حيث تولد الشمس من جديد منتصرة على قوى الظالم ‪ .‬و هنا يتساقط‬

‫األعداء أمام سهام الملك ‪.‬‬

‫من مشاهد معركة قادش ‪ :‬الملك رمسيس الثانى يسدد سهامه نحو األعداء‬

‫( معبد األقصر ‪ ,‬الصرح الشرقى )‬

‫فى نفس اللحظة التى يقوم فيها "رع" بذبح ثعبان الظالم و الفوضى أبوفيس ‪ ,‬يقوم الملك رمسيس‬

‫الثانى بذبح األعداء من الحيثيين الذين يجسدون قوى الفوضى الكونية على األرض ‪.‬‬

‫فى رحلة "رع" الباطنية الى العالم السفلى يتغير مجرى األحداث تماما بعد هزيمة أبوفيس و تتحول‬

‫عرقلة سير قارب "رع" الى دعم و مساعدة له ‪.‬‬

‫و فوق سهل قادش الذى امتأل بجثث األعداء الذين لقوا مصرعهم على يد الملك رمسيس الثانى ‪,‬‬

‫يبدأ الملك فى السير مع قوات جيشه مع طلوع الفجر ‪ ,‬بينما يقبل األعداء األرض بين يديه ‪.‬‬

‫يقول عالم الكيمياء الفرنسى ‪ Schwaller De Lubicz‬أن كل أحداث معركة قادش تقع أثناء الليل‬

‫‪- 197 -‬‬


‫حين تكون الشمس فى العالم السفلى (تحت األرض أو فى باطن األرض) ‪.‬‬

‫قد تكون األحداث التاريخية الفعلية وقعت بالنهار ‪ ,‬و لكن ذلك ال يهم ‪.‬‬

‫لن نستطيع أن نفهم سجالت معركة قادش اال اذا ذهبنا فيما وراء الوقائع التاريخية الحقيقية لنصل‬

‫الى المغزى األسطورى الذى يفرض نفسه على أحداث المعركة ‪.‬‬

‫تعبر مشاهد معركة قادش ‪ -‬بما فى ذلك ابتهال الملك رمسيس الثانى آلمون – عن مغزى كونى‬

‫و ليس تاريخى ‪.‬‬

‫أما سجالت معبد أبو سمبل التى تناولت معركة قادش فقد أنهت سردها لألحداث بذكر معاهدة السالم‬

‫التى تم توقيعها بين الملك رمسيس الثانى و بين ملك الحيثيين و ذلك بعد انتهاء المعركة بخمسة‬

‫عشر عام ‪ .‬نقشت بنود معاهدة السالم فوق لوح من الفضة و قام ملك الحيثيين بالتوقيع عليها ‪,‬‬

‫و أعقب ذلك مراسم زواج الملك رمسيس الثانى من ابنة ملك الحيثيين ‪ ,‬الذى قدم أيضا العديد من‬

‫الهدايا للملك رمسيس الثانى ‪.‬‬

‫قام الملك رمسيس الثانى بتخليد حدث زواجه بابنة ملك الحيثيين على لوحة بمعبد ابو سمبل تعرف‬

‫باسم لوحة الزواج ‪ ,‬و فيها تم اطالق اسم مصرى جديد على األميرة الحيثية ‪.‬‬

‫أطلق الملك رمسيس الثانى على زوجته الجديدة لقب "التى ترى حسن رع" ‪ ,‬و هو نفس اللقب‬

‫الذى أطلقه قدماء المصريين على الساعة األخيرة من ساعات الليل ‪ -‬كما جاء فى كتاب األمدوات‬

‫(وصف ما هو كائن فى العالم اآلخر) – و هى الساعة التى يولد فيها "رع" من جديد ‪.‬‬

‫يقول عالم الكيمياء الفرنسى ‪ Schwaller De Lubicz‬أن زوجة الملك الجديدة ترمز للقمر الذى بلغ‬

‫أوج اكتماله بعد رحلة زيادته التى تنقسم الى ‪ 05‬مرحلة‪/‬يوم (و التى رمز لها المصرى القديم‬

‫بمرور ‪ 05‬عام على معركة قادش) ‪ .‬لذلك فان زواج الملك رمسيس الثانى باألميرة الحيثية ال يرمز‬

‫فقط للتصالح السياسى بين قوتين متعارضتين ‪ ,‬و انما يرمز أيضا لتصالح قوى كونية ‪ ,‬و لالتحاد‬

‫بين الشمس و القمر ‪.‬‬

‫ان سجالت معركة قادش تعتبر مثال حى لما يعرف ب "التاريخ األسطورى" ‪.‬‬

‫‪- 198 -‬‬


‫يميل انسان العصر الحديث لفصل الوقائع التاريخية عن االطار األسطورى ‪.‬‬

‫و اذا أردنا أن نفهم تاريخ مصر القديمة كما دونه قدماء المصريين أنفسهم علينا أوال أن نتخلص من‬

‫األحكام المسبقة و من تصوراتنا الشخصية التى تستند لمعايير ثقافتنا و التى نطلق من خاللها‬

‫األحكام فنقول أن هذا حقيقى و ذاك خيالى ‪ ,‬أو أن هذا واقع و ذاك زيف ‪.‬‬

‫فقط عندما نتخلص من تلك األحكام المسبقة سيتضح لنا أن عالم األسطورة و عالم التاريخ‬

‫ينصهران معا فى وحدة واحدة ‪.‬‬

‫و هنا أود أن أكرر مرة أخرى ما قاله عالم األنثروبولوجى ميرسيا ايلياد عن تعريف األسطورة ‪-:‬‬

‫*** األسطورة هى نواة علم الوجود عند انسان الحضارات القديمة ‪ ,‬فهى تتحدث عن حقيقة‬

‫مطلقة ***‬

‫ان األسطورة فى نظر قدماء المصريين ال تتناول فقط أحداث حقيقية و انما هى تتحدث عن عالم‬

‫أسمى و تكشف عن الوجود األقدس ‪.‬‬

‫تدور أحداث األسطورة فى عالم الروح و هو العالم السببى الذى توجد فيه الصور األولية ‪ /‬األصلية‬

‫لكل الظواهر الطبيعية التى تنعكس فى عالمنا المادى ‪.‬‬

‫فكل األشياء المادية التى نراها بحواسنا ما هى اال ظل أو انعكاس لجوهر أو أصل موجود فى العالم‬

‫السببى ‪ ,‬حيث تدور أحداث األساطير ‪.‬‬

‫ان التاريخ المنفصل عن عالم األسطورة هو تاريخ مبتور ‪ ,‬منفصل عن جذوره ‪.‬‬

‫و هذا الوصف ينطبق تماما على تاريخنا المعاصر الذى أصبح تاريخا مبتورا ال جذور له ‪.‬‬

‫و لكن نظرة قدماء المصريين للتاريخ تختلف تماما عن نظرتنا له ‪.‬‬

‫لذلك حرص المصرى القديم دائما على أن يضع األحداث التاريخية داخل اطار األسطورة ‪ ,‬و على‬

‫أن يصل كل حدث منها على حدة بأصله و جذوره فى عالم الروح ‪.‬‬

‫هذا الوصل بين األصل و الصورة لم يكن يحدث بعد انتهاء الحدث التاريخى و انما يبدأ مع بداية‬

‫الحدث و يساهم فى تطوره و فى تشكيل النتائج التى سيسفر عنها ‪.‬‬

‫‪- 199 -‬‬


‫بعبارة أخرى ‪ ,‬كان قدماء المصريين يقومون بتوجيه دفة الحدث التاريخى باسقاطه داخل سياق‬

‫األسطورة ‪.‬‬

‫كان تطور أحداث معركة قادش و النتيجة التى أسفرت عنها و هى انتصار الجيش المصرى شيئا‬

‫محسوما بفضل دور الملك و ارتباطه الوثيق بعالم األسطورة باعتباره صورة "رع" على األرض ‪.‬‬

‫ما الذى حدث فى معركة قادش على وجه الدقة ؟‬

‫ال يمكننا االجابة على ذلك السؤال بفصل الوقائع التاريخية عن األحداث األسطورية ‪.‬‬

‫و بدال من أن نحاول تفسير الرموز الفنية المصرية باستخدام معايير ثقافتنا و نحاول فرض أحكامنا‬

‫المسبقة على تلك المشاهد ‪ ,‬يجدر بنا أن نعيد تقييم المعايير التى نحكم من خاللها على األشياء بأنها‬

‫حقيقية أو غير حقيقية ‪.‬‬

‫منذ القرن السابع عشر بدأت نظرة االنسان األوروبى للعالم تأخذ طابعا أكثر مادية ‪ ,‬بحيث أصبحت‬

‫كلمة حقيقى تطلق على كل ما يمكن ادراكه بالحواس المادية فقط ‪.‬‬

‫أصبحت كلمة حقيقة فى نظر انسان العصر الحديث تعنى ما يمكن تقديم دليل مادى ملموس على‬

‫وجوده ‪.‬‬

‫من وجهة نظر قدماء المصريين يعتبر فصل الواقع المادى عن عالم األسطورة نوع من أنواع‬

‫الرؤية المشوشة و المشوهة للحقيقة ‪ ,‬ألنها نظرة تستبعد أهم العناصر التى تشكل أى حدث فى‬

‫الوجود ‪ ,‬و هذه العناصر هى الكيانات االلهية التى تحيا فى عالم األسطورة ‪.‬‬

‫ان محاولتنا قراءة األحداث التاريخية بمعزل عن األسطورة يعنى أن لدينا حكم مسبق يفترض أن‬

‫ما له وجود حقيقى هو فقط ما يمكن ادراكه بالحواس المادية ‪.‬‬

‫و بناء على ذلك الحكم المسبق يخرج الباحث المعاصر بنظرة للتاريخ تختلف تماما عن نظرة قدماء‬

‫المصريين له ‪.‬‬

‫األسطورة فى نظر المصرى القديم ليست خرافة ‪.‬‬

‫األحداث الدرامية و األفعال التى تقوم بها الكيانات االلهية فى األسطورة ليست خرافة و انما هى‬

‫‪- 200 -‬‬


‫الصور األولية أو األصل لكل ما هو موجود فى عالمنا من نسخ و ظالل ‪.‬‬

‫لم تكن أحداث األسطورة أحداثا خيالية فى نظر المصرى القديمة و انما العكس ‪.‬‬

‫فعالم األسطورة حقيقى أكثر من العالم المادى الذى نعيش فيه ‪ ,‬ألن عالمنا يستمد وجوده من عالم‬

‫األسطورة و ليس العكس ‪.‬‬

‫و ما حدث فى قادش هو تزامن أو امتزاج بين عالم األسطورة و بين التاريخ ‪.‬‬

‫و هو شئ ليس جديدا على الفكر المصرى ‪.‬‬

‫ذلك التزامن ال يحدث صدفة و انما هو مقصود ‪.‬‬

‫اعتاد المصرى القديم بناء الجسور التى تصل بين عالم األسطورة و العالم المادى ‪ ,‬و تلك الجسور‬

‫هى األساس الذى قام عليه الفن و العلم الذى برع فيه قدماء المصريين و الذى نطلق عليه اسم‬

‫السحر ‪ ,‬و هو الموضوع الذى سنناقشه فى الفصل التالى ‪.‬‬

‫‪- 201 -‬‬


‫الفصل السادس‬
‫السحر و الدين‬

‫السحر و الدين ‪-:‬‬

‫هناك عدة عقبات تواجهنا عندما نحاول البحث فى علم السحر كما عرف فى مصر القديمة ‪.‬‬

‫و أول هذه العقبات هى التراث الدينى المسيحى الذى جعل االنسان األوروبى ينظر للسحر نظرة‬

‫شك و ارتياب ‪.‬‬

‫كان موقف الكنيسة دائما ‪ -‬و ال يزال ‪ -‬يتسم بالعداء و االدانة ‪ ,‬حيث يوصم السحر بأنه ضد الدين ‪.‬‬

‫فى بداية القرن العشرين قامت موسوعة الكنيسه الكاثوليكية بتعريف السحر بأنه ( فن ممارسة‬

‫أعمال خارقة تتخطى حدود قدرة االنسان العادى و ذلك باالستعانة بقوى غير الهية ) ‪.‬‬

‫و هكذا أدانت الكنيسة الكاثوليكية أى محاولة لممارسة السحر و وصفتها بأنها خطيئة كبرى‬

‫و مخالفة للدين ألن كل الممارسات السحرية تقوم على االستعانة بقوى شيطانية أو بأرواح ضالة ‪.‬‬

‫و الكنيسة هنا تتحدث باسم المجتمع كله ‪ ,‬و ال يوجد ما يشير الى تغير فى هذا الموقف السلبى من‬

‫الكنيسه و المجتمع حتى نهاية القرن العشرين ‪.‬‬

‫لقرون عديدة ظل االتصال بعالم الروح خارج اطار الدين الرسمى للمجتمع الغربى و هو المسيحية‬

‫شئ غير مقبول ‪.‬‬

‫و هكذا وصم السحر ‪ -‬و كل العلوم الباطنية بوجه عام – بأنه خروج على أسس االيمان و العبادة‬

‫الصحيحة التى وضعتها الكنيسة ‪.‬‬

‫و ما ينطبق على الديانة المسيحية فيما يخص السحر ينطبق أيضا على األديان الكتابية األخرى‬

‫(اليهوية و االسالم) ‪ .‬فكلمة "دين" أصبحت تقتصر فى ذهن انسان العصر الحديث على الطقوس‬

‫‪- 202 -‬‬


‫التى تمارس داخل كنيسة أو معبد يهودى أو جامع ‪ ,‬و أى اتصال بعالم الروح خارج هذه المؤسسات‬
‫الدينية الثالثة غير مقبول ‪.‬‬

‫هناك دائما شعور عام باألمان يكتنف الممارسات التى ترعاها هذ المؤسسات الدينية التقليدية ‪,‬‬

‫بعكس السحر الذى يثير فى نفس االنسان المعاصر شعورا عاما بعدم األمان ‪.‬‬

‫يبدو السحر فى نظر االنسان المعاصر عالما ال يمكن فيه التمييز بين النور و الظالم ‪ ,‬بين الخير‬

‫و الشر ‪ ,‬بل ان تعريف الكنيسه للسحر يقول بأنه يتضمن استحضار الشياطين ‪.‬‬

‫يعود فصل السحر عن الدين الى تغير فى عالقة االنسان المعاصر بعالم الروح ‪ ,‬و هى عالقة‬

‫تختلف تماما عن عالقة انسان الحضارات القديمة به ‪.‬‬

‫ظل فصل السحر عن الدين من سمات الثقافة الغربية طوال األلفيتين األخيرتين ‪ ,‬و هنا علينا أن‬

‫ننتبه الى أن تلك الفجوة و التناقض بين المعرفة الباطنية و بين الممارسات الدينية الشكلية (برعاية‬

‫الكنيسه) لم يظهر فى التاريخ الغربى اال فى األلفيتين األخيرتين من تاريخ أوروبا ‪ ,‬أى مع بداية‬

‫ظهور المسيحية ‪ .‬فالفكر الدينى فى أوروبا قبل العصر اليونانى الرومانى (و أيضا خالله) لم يكن‬

‫يفصل الدين عن الممارسات التى يتم فيها االتصال بقوى روحانية أثناء تجارب باطنية مثل الخروج‬

‫من الجسد و االرتحال النجمى و الطرح الروحى و الموت الطقسى ‪.‬‬

‫لم يكن السحر فى نظر انسان الحضارات القديمة شيئا منفصال عن الدين ‪.‬‬

‫فى الحضارات القديمة كان السحر ينطوى تحت مظلة الدين ‪ ,‬أو بعبارة أخرى كان الدين سحريا‬

‫(اذا جاز التعبير) ‪.‬‬

‫يمكننا تتبع انفصال السحر و المعرفة الباطنية عن الدين بشكل تدريجى عبر المراحل التاريخية بدءا‬

‫من نهاية العصر اليونانى الرومانى وصوال الى عصرنا الحاضر ‪.‬‬

‫تعود جذور ذلك االنفصال الى القرن األول الميالدى الذى بدأ فيه أفول نجم العرافة و الممارسات‬

‫الباطنية حيث وصف المؤرخ اليونانى بلوتارك ذلك فى كتاباته ‪.‬‬

‫ثم أعقب ذلك تأسيس المسيحية كديانة رسمية لالمبراطورية الرومانية ‪ ,‬ثم الحمالت التبشيرية‬

‫الكنسية فى العصور الوسطى المظلمة فى أنحاء أوروبا ‪ ,‬و هى حمالت استهدفت القضاء على ما‬

‫‪- 203 -‬‬


‫تبقى من الممارسات الدينية القديمة التى كانت سائدة فى أوروبا قبل المسيحية ‪.‬‬

‫و فى تلك الحمالت تمت مالحقة كل من يمارس أى طقوس روحانية خارج اطار الكنيسه بتهمة‬

‫الهرطقة و تم احراق ماليين من النساء بتهمة ممارسة السحر ‪ .‬و هكذا تم حظر المعرفة الباطنية‬

‫و تحولت الى علوم سرية تمارس فى الخفاء تحت قناع من الرموز المبهمة التى يصعب فك‬

‫شفرتها كما فى بعض مدارس العلوم الباطنية مثل الخيمياء و جماعة الصليب الوردى ‪.‬‬

‫تحولت العلوم الباطنية الروحانية الى علوم سرية ترعاها جماعات صغيرة غير معلنة تعرف باسم‬

‫مدارس العلوم الباطنية ‪.‬‬

‫احتجبت تلك العلوم عن العامة ‪ ,‬و لكنها لم تمت و لم تندثر بشكل تام ‪.‬‬

‫عادت العلوم الباطنية للظهور العلنى مرة أخرى فى عصرالنهضة برغم مخاطر التعرض لبطش‬

‫الكنيسه ‪ ,‬فى صورة احياء لتعاليم و ممارسات تعود جذورها لما قبل الحضارة اليونانية ؛ للحضارة‬

‫المصرية على وجه التحديد ‪.‬‬

‫فى أواخر القرن الخامس عشر قام االيطالى "مارسيليو فيتشينو" بترجمة متون هرمس ‪ ,‬و هى‬

‫مجموعة من النصوص اليونانية القديمة تدور حول تعاليم باطنية نقلها الفالسفة اليونانيون عن‬

‫حكماء الحضارات القديمة و منها الحضارة المصرية و الفارسية ‪.‬‬

‫فى عصر النهضة ظهر العديد من المفكرين الذين قاموا بمحاوالت لرأب الصدع بين الدين الرسمى‬

‫الذى ترعاه الكنيسه و بين السحر ‪ .‬و من هؤالء الفيلسوف "بيكو ديلال ميراندوال"‬

‫(‪ )Pico della Mirandola‬و "جوردانو برونو" (‪ , )Giordano Bruno‬حيث دعا االثنان البابا‬

‫الى أن يعيد الصلة بين الدين األورثوذكسى الرسمى للدولة و بين التقاليد الباطنية السحرية القديمة‬

‫و تعاليم هرمس ‪ .‬و قد صرح الفيلسوف األلمانى "جاكوب بويم" (‪ )Jacob Boehme‬الذى عاش‬

‫فى القرن السادس عشر بجرأة أن ( السحر هو أفضل دين ‪ ,‬ففيه يمكن للمرء أن يجد االيمان‬

‫الحقيقى ‪ .‬و األحمق هو من يدين السحر فقط ألنه ال يعرفه ‪ .‬فمن يفعل ذلك ليس برجل دين‬

‫حقيقى ) ‪.‬‬

‫‪- 204 -‬‬


‫و مؤخرا بدأ اهتمام االنسان الغربى بالمعرفة الباطنية بوجه عام يزداد ‪ ,‬و أصبح هناك تنوع كبير‬

‫فى المصادر التى صارت متاحة بشكل أكبر للعامة ‪ ,‬مما يشير الى وجود اتجاه عام نحو التصالح‬
‫بين الدين و السحر ‪.‬‬

‫تعريف السحر ‪-:‬‬

‫اذا بحثنا فى أصل كلمة "ماجيك" (‪ )magic‬نجد أنها مشتقة من الكلمة اليونانية "ماجوس"‬

‫(‪ , )magos‬و هى عبارة عن مصطلح أطلقه اليونانيون على الكهنة و العرافين القادمين من‬

‫منطقة فارس و ما بين النهرين ‪.‬‬

‫و كلمة "ماجى" (‪ – )magi‬باليونانية "ماجوى" (‪ - )magoi‬التى وردت فى انجيل متى تشير الى‬

‫أولئك العرافين الذين ينتمون لمدرسة روحانية على خالف مع المدرسة اليونانية و المدرسة‬

‫"اليهودية ‪ -‬المسيحية" ‪.‬‬

‫كان االغريق يخشون هؤالء الكهنة و العرافين القادمين من فارس و ما بين النهرين و يطلقون‬

‫عليهم "ماجوس" ‪ ,‬ألنهم كانوا على اتصال بقوى روحانية ال يستطيع االغريق ادراكها أو فهم‬

‫طبيعتها ‪ ,‬و هو الخوف الذى انتقل الينا فصارت كلمة سحر تثير فى نفوسنا مشاعر الخوف‬

‫و االرتياب ‪.‬‬

‫أما كلمة (‪ )magos‬اليونانية ‪ ,‬فهى بدورها مشتقة من الكلمة الفارسية القديمة التى جذرها‬

‫(‪ , )mog , megh , magh‬و تعنى كاهن ‪ ,‬أو حكيم ‪ ,‬أو بارع ‪ ,‬أو خارق ‪.‬‬

‫و من ذلك الجذر الفارسى القديم جاءت الكلمة الكدانية "ماجديم" (‪ )maghdim‬و هى مصطلح‬

‫يعنى "الفلسفه المقدسه" ‪ ,‬أو "جوهر الحكمة" ‪.‬‬

‫عندما نقرأ تعريف الفيلسوف السويسرى "باراسيلسوس" (الذى عاش فى القرن السادس عشر)‬

‫للسحر نجده يعكس تلك المفاهيم األصيلة ‪ ,‬حيث يقول "باراسيلسوس" ‪-:‬‬

‫*** ان السحر هو جوهر الحكمة ‪ .‬فهو العلم بقوى ما وراء الطبيعة ‪ .‬ذلك العلم الذى يكتسبه‬

‫‪- 205 -‬‬


‫االنسان عن طريق المعرفة الروحانية ‪ ,‬و تدريب قدراته على رؤية "كائنات ‪ /‬كيانات" خارج حدود‬

‫التجسد و االتصال بها ***‬

‫ان الفلسفة االغريقية ما هى اال ظل باهت للحكمة و المعرفة الباطنية التى كانت لدى انسان‬

‫الحضارات القديمة السابقة على الحضارة االغريقية ‪.‬‬

‫يقول الفيلسوف االغريقى أفالطون أن قدماء المصريين كانوا يصفون االغريق بأنهم أطفال ‪ ,‬و ذلك‬

‫بسبب معرفتهم المحدودة جدا بالعلوم الروحانية ‪.‬‬

‫مات السحر (بمعنى علوم ما وراء الطبيعة) فى الحضارة االغريقية ‪ ,‬و حاربته الثقافة االسرائيلية‬

‫و قامت بفصله عن الدين ‪ ,‬كما حاربته المسيحية أيضا طوال تاريخها ‪.‬‬

‫و ما كان يعتبر اتصاال بعالم الروح فى الحضارات القديمة ‪ ,‬أصبح فى العصر الحديث محظورا‬

‫و ممنوعا ‪.‬‬

‫و برغم ادانة المسيحية للسحر و ازدراءها للسحرة "ماجى" (‪ )magi‬فقد ذكرت األناجيل ظهورهم‬

‫لحظة ميالد المسيح ‪ ,‬و ربما كان ذلك رمزا ألفول نجمهم و بداية اندثار علومهم و افساحها الطريق‬

‫لعصر جديد تغيب فيه شمس ذلك العلم ‪.‬‬

‫و ما كان مقبوال فى عصر من العصور كوسيلة لالتصال بعالم الروح أصبح غير مقبول فى عصر‬

‫آخر ‪.‬‬

‫شهدت األلفيتان األخيرتان من تاريخ أوروبا تطور الوعى المادى القائم على المالحظة العلمية‬

‫للطبيعة و المنطق العقالنى المنفصل تماما عن قوى ما وراء الطبيعة ‪.‬‬

‫و لكن باقترابنا من نهاية األلفية الثانية ‪ ,‬عاد االهتمام بدراسة السحر و علوم ما وراء الطبيعة‬

‫مرة أخرى ‪.‬‬

‫‪----------‬‬

‫لم تعرف اللغة المصرية القديمة كلمة "دين" (‪ )religion‬التى نعرفها حاليا ‪ .‬و أقرب لفظ مصرى‬

‫الى كلمة "دين" هو لفظ "حكا" (‪ , )Heka‬و الذى يترجم عادة بمعنى "السحر" ‪.‬‬

‫‪- 206 -‬‬


‫كتب عالم المصريات "آالن جارندر" يقول ‪-:‬‬

‫*** فى مصر القديمة لم يكن هناك كلمة تعادل كلمة "دين" فى لغاتنا الحديثه ‪ ,‬و انما كان هناك‬

‫"حكا" ‪ ,‬و أقرب لفظ فى اللغة االنجليزية لمفهوم ال "حكا" هو لفظ " القوى السحرية" ***‬

‫"حكا" – مثله فى ذلك مثل ماعت – هو أحد المفاهيم الكونية ‪ ,‬و قد صوره الفنان المصرى القديم‬

‫فى هيئة "كيان الهى" ‪.‬‬

‫و من األشياء التى تستحق التأمل أن قدماء المصريين كانوا ينظرون الى "حكا" على أنه "كيان‬

‫الهى" و ليس علما (‪ , )science‬بمعنى أنه لكى يعرف االنسان ال"حكا" ‪ ,‬عليه أن يدخل فى‬

‫عالقة معه ‪ ,‬و يقوم باالتصال به اتصاال مباشرا ‪.‬‬

‫فى متون التوابيت يقول "حكا" عن نفسه أن وجوده يكمن فى كلمة آتوم األزلية الخالقة ‪ ,‬التى أتت‬

‫ب "النترو" (الكيانات االلهية) للوجود ‪ ,‬و يصف نفسه بأنه الطاقة االلهية التى تحتوى كل شئ انبثق‬

‫من العقل األسمى ‪.‬‬

‫يقوم "حكا" بدور القدرة االلهية الكامنة فى كلمة الخلق ‪ ,‬و بذلك يهب الحياه لكل ال "نترو"‬

‫(الكيانات االلهية) و يهيمن عليها ‪.‬‬

‫جاء فى أحد النصوص المصرية القديم هذه العبارات على لسان حكا ‪-:‬‬

‫*** أنا من يهب الحياة للجمع االلهى (التاسوع) ‪ ...‬أنا من فعل كل ما اقتضت مشيئته ‪ ...‬أنا أب كل‬

‫ال "نترو" (الكيانات االلهية) ‪ ...‬كل األشياء كانت بداخلى ‪ ,‬قبل أن تأتى ال "نترو" للوجود ‪ ...‬كل‬

‫ال "نترو" أتت للوجود بعدى ‪ ,‬ألنى أنا "حكا" ***‬

‫ان "حكا" ال يعتبر فقط األب و األصل لكل ال "نترو" ‪ ,‬و لكنه أيضا األب لكل ما يأتى الى الوجود‪.‬‬

‫حكا هو القوة االلهية التى تتخلل كل مستويات الوجود ‪ ,‬المادية و الماورائية ‪.‬‬

‫صور الفنان المصرى القديم "حكا" على شكل رجل يقبض على ثعبانين يتقاطعان فوق صدره ‪.‬‬

‫و فوق رأسه عالمة هيروغليفية على شكل الساق الخلفية ألسد رابض محمول فوق عامود مرتفع ‪.‬‬

‫و منذ عصر األسرة العشرين بدأت هذه العالمة الهيروغليفية تحل محل االسم الكامل ل "حكا" ‪,‬‬

‫‪- 207 -‬‬


‫و هى عالمة تعادل القيمة الصوتية ل "بى" (‪ )pe‬أو "بحتى" (‪ , )pehety‬و تعنى الكلمة الخالقة‬

‫أو كلمة الخلق ‪.‬‬

‫"حكا" ( السحر األزلى ‪ /‬الكونى )‬

‫( من بردية "خونسو رنب" ‪ ,‬دولة حديثه )‬

‫تحمل العالمة الهيروغليفية التى يكتب بها اسم "حكا" بوجه عام دالالت تتعلق بالقوة و القدرة‬

‫و هى الصفات التى يتميز بها "حكا" ‪.‬‬

‫فى الفصل الثالث رأينا مشهد ظهر فيه "حكا" و هو يحمل جسد "نوت" (السماء) و يفصلها عن‬

‫"جب" (األرض) ‪ .‬و هو بذلك يقوم بالدور الذى اعتاد أن يقوم به "شو" (الهواء) ‪.‬‬

‫يقول النص المصاحب لذلك المشهد ‪" ( :‬حكا" ‪ ,‬االله العظيم ‪ ,‬رب السماء ) ‪.‬‬

‫‪- 208 -‬‬


‫من خالل فصل السماء عن األرض ‪ ,‬تستطيع الموجودات ذات الطبيعة الروحانية أن تتجسد فى‬

‫عالم الماده ‪.‬‬

‫"حكا" هو القوة الكونية التى تستطيع من خاللها الكيانات التى تتواجد وجودا باطنيا أن تتجسد فى‬

‫جسد مادى ‪.‬‬

‫"حكا" – بصحبة شو و تحوت – هو القدرة االلهية التى يتحول بها ما هو باطنى‪/‬روحى الى كيان‬

‫ظاهر‪/‬متجسد ‪.‬‬

‫"حكا" هو همزة الوصل بين العقل األسمى "آتوم" و بين كل ما ينبثق من ذلك العقل األسمى ‪.‬‬

‫و لكى نفهم "حكا" علينا أن نتذكر دائما أن له صفتان متالزمتان ‪:‬‬

‫أوال ‪ :‬أن "حكا" هو القوة االلهية الخالقة التى تتخلل كل الموجودات فى عالم الروح و أيضا فى‬

‫عالم الماده ‪.‬‬

‫ثانيا ‪ :‬أن "حكا" هو همزة الوصل التى من خاللها تستطيع كل المستويات الروحانية و المادية فى‬

‫الوجود أن تقيم اتصاال مباشرا مع بعضها البعض ‪ .‬و هو المركبة التى تنتقل عن طريقها‬

‫الموجودات بين مستويات الوجود المختلفة (الروحانية و المادية) ‪.‬‬

‫يقول الباحث الفرنسى "كريستيان جاك" فى دراسة قام بها عن السحر فى مصر القديمة ‪-:‬‬

‫*** يمكن تعريف السحر بأنه الطاقة الكونية األزلية التى تحيط بكل أبعاد الكون المختلفة سواء‬

‫األبعاد الروحانية التى تسكنها ال "نترو" (الكيانات االلهية) أو األبعاد المادية التى تسكنها مخلوقات‬

‫متجسده مثل االنسان ‪ .‬لقد نسجت الروح و المادة من أصل واحد فى األزل ‪ .‬و أهم شئ فى ممارسة‬

‫السحر هو أن يدرك الساحر ذلك الخيط الرفيع الذى يربط كل أبعاد الكون و يقوم بتوحيد كل‬

‫المخلوقات و ربطها فى سلسلة كونية واحده ***‬

‫ان التمكن من علم السحر يتوقف على فهم طاقة ال "حكا" فهما عميقا ‪ ,‬و التناغم معها ‪ ,‬و تفعيل‬

‫تلك الطاقة الخفية فى األوقات المناسبة ‪.‬‬

‫و لكى يستطيع المرء تحقيق ذلك ‪ ,‬عليه أن يبحث عن المعرفة الباطنية و يقوم بتطوير قدراته‬

‫‪- 209 -‬‬


‫الروحانية ‪ ,‬ليتمكن من استخدام القوى السحرية الكونية ‪.‬‬

‫ال يمكن للشخصانية و ال "أنا" (‪ )ego‬البشرية أن تتحكم فى ال "نترو" (الكيانات االلهية)‬

‫أو تأمرهم ‪ .‬فقط "حكا" هو الذى يستطيع أن يهيمن على ال "نترو" ‪ ,‬و يصدر لهم األوامر ‪.‬‬

‫و الساحر هو ذلك االنسان الذى استطاع أن يجعل من نفسه قناه تسرى من خاللها طاقة "حكا"‬

‫السحرية ‪.‬‬

‫و نجد مثاال لذلك فى متون األهرام حيث جاء على لسان الملك بيبى ‪-:‬‬

‫( لست أنا الذى ألقى اليكم هذه الكلمات أيها ال "نترو" ‪ ,‬و انما هو "حكا" الذى يلقيها اليكم ) ‪.‬‬

‫أى أن الملك نفسه قد تحول الى "حكا" ‪ ,‬و تلك هى الطريقة الوحيدة التى يستطيع بها أن يهيمن‬

‫على ال "نترو" ‪.‬‬

‫كان تعبير "ابتالع الحكا" فى اللغة المصرية القديمة كناية عن معرفة االنسان و خبرته العميقة‬

‫بطاقة السحر ‪ ,‬بحيث يتحول االنسان الى قناة تسرى من خاللها تلك الطاقة الكونية ‪.‬‬

‫استخدمت اللغة المصرية القديمة تعبيرات مثل ابتالع االنسان للحكا ‪ ,‬بل و هضمه بحيث يستقر بعد‬

‫عملية الهضم فى البطن ‪.‬‬

‫فى متون األهرام ‪ -‬و تحديدا فى النص المعروف باسم نص التهام األضحية (‪)Cannibal Hymn‬‬

‫– يقول الملك الذى يقوم بدور الساحر أنه يلتهم سحر (حكا) الكيانات االلهية فتنتقل اليه طاقتهم‬

‫السحرية بعد أن يبتلع تلك الطاقة و تستقر فى بطنه ‪.‬‬

‫فقط عن طريق ابتالع طاقة الحكا يستطيع الملك أن يشق طريقه أثناء رحلته فى العالم اآلخر ‪.‬‬

‫جاء فى متون األهرام على لسان ملك مصر و هو يصف رحلته الى السماء قائال ( هاأنذا أصعد الى‬

‫السموات ‪ ,‬و فى بطنى ال "حكا" ) ‪.‬‬

‫و نجد فى كتاب الخروج الى النهار أن امتالك القدرات السحرية و المهارة فى استخدام الكلمات‬

‫السحرية يعتبر من أهم المواهب التى يجب على االنسان أن يكتسبها لكى يتمكن من اجتياز العقبات‬

‫التى تقابله أثناء رحلته فى ال "دوات" ( العالم السفلى ) ‪.‬‬

‫‪- 210 -‬‬


‫فى الفصل رقم ‪ 24‬من كتاب الخروج الى النهار يقوم المرتحل فى العالم السفلى باستحضار طاقة‬

‫ال "حكا" باستخدام النص السحرى التالى ‪-:‬‬

‫*** أنا أجمع السحر من كل مكان ‪ ,‬و من كل كائن يمتلك طاقة السحر ‪ ,‬بسرعة كلب الصيد ‪ ,‬بل‬

‫بسرعة الضوء ‪ ...‬السحر الذى يخلق الصور و األشكال و الذى ينبثق من رحم األم (الكونية) ‪...‬‬

‫و السحر الذى يستدعى الحضور االلهى ‪ ,‬و الذى ينبثق من الصمت ‪ ...‬هذا السحر يأتينى من كل‬

‫مكان ‪ ,‬و من كل كائن يمتلكه ‪ ,‬بسرعة كلب الصيد ‪ ,‬بل بسرعة الضوء ***‬

‫يتوقف نجاح رحلة الروح فى العالم السفلى على المام المرتحل بفن السحر باعتباره علما "باطنيا ‪/‬‬

‫روحانيا" ‪.‬‬

‫باستخدام السحر يمكن لروح المتوفى أن تمر من بوابات العالم السفلى و تجتاز العقبات و تتغلب‬

‫على قوى الفوضى و الظالم التى تظهر فى صورة وحوش مخيفة ‪.‬‬

‫و لكى يجمع االنسان السحر ‪ -‬أى يلم بفن السحر ‪ -‬عليه أن يستخدم شبكة كشبكة الصياد يتم بها‬

‫استحضار طاقة "حكا" و توجيهها لتصبح فى متناول الساحر ‪.‬‬

‫‪- 211 -‬‬


‫جمع طاقة ال "حكا" بشبكات الصيد ‪ ,‬الفصل التاسع من كتاب البوابات‬

‫( من مقبرة الملك رمسيس السادس ‪ ,‬أسرة ‪ , 22‬دولة حديثه )‬

‫كان قدماء المصريين يستخدمون طاقة الحكا فى التغلب على ثعبان أبوفيس الذى يعترض رحلة‬

‫الروح فى العالم اآلخر فى الساعة التاسعة أو البوابة التاسعة كما جاء فى كتاب البوابات ‪.‬‬

‫و يختلف سياق كتاب الخروج الى النهار عن سياق متون األهرام فيما يتعلق بالقوى السحرية ‪.‬‬

‫ففى حين يركز كتاب الخروج الى النهار على تفعيل طاقة الحكا للوصول الى التحول الباطنى‬

‫(‪ )transformation‬قبل انتقال االنسان للعالم اآلخر ‪ ,‬نجد فى متون األهرام أن االنسان يكتسب‬

‫طاقة الحكا بتلقائية بمجرد انتقاله للعالم اآلخر ‪ ,‬و يحدث التحول الباطنى لروحه و نفسه بشكل‬

‫تلقائى ‪.‬‬

‫ان العقبات التى تعترض طريق االنسان أثناء رحلته فى العالم االخر و القوى الماورائية التى‬

‫يصادفها هى قوى ذات طبيعة سيكولوجية ‪ ,‬و على االنسان أن يكتسب العلم الذى يؤهله للهيمنة‬

‫‪- 212 -‬‬


‫على تلك القوى قبل انتقاله للعالم اآلخر ‪ ,‬و ليس بعد االنتقال اليه ‪ .‬و هو الموضوع األساسى الذى‬

‫يهتم به كتاب الخروج الى النهار ‪.‬‬

‫فى حين نجد أن ملوك متون األهرام يتمتعون بالموهبة البارعة فى استخدام طاقة الحكا بمجرد‬

‫انتقالهم الى السماء ‪.‬‬

‫هذا الفارق بين الكتابين فيما يتعلق بالسحر يبدو فارقا طفيفا و غير ملحوظ ‪ ,‬و لكنه يوضح لنا أنه‬

‫بقدوم عصر الدولة الحديثة أصبح من الضرورى لالنسان اكتساب المعرفة الباطنية بقوى السحر‬

‫الكونية من أجل الوصول الى حالة التحول الباطنى (‪ )transformation‬التى تخرج االنسان من‬

‫سجن الوعى المادى الى رحابة الوعى الكونى ‪ ,‬و بالتالى يستطيع االنتقال الى العالم السماوى ‪.‬‬

‫حكا هو القوة االلهية األزلية التى استخدمها "خبرى آتوم" بمهارة و اقتدار فى الزمن األول ‪ ,‬و هى‬

‫التى أتت بالمخلوقات للوجود ‪ .‬و عن طريق "حكا" يستطيع االنسان أن يستحضر تلك الطاقة االلهية‬

‫األزلية ل "خبرى آتوم" و التى ال تستطيع أى قوة أخرى أن تضاهيها فى قدرتها ‪.‬‬

‫السحر اذن هو قوة الهية غامضة تتجلى فى كل الموجودات سواء فى عالم الروح أو فى عالم المادة‬

‫‪ ,‬و هى قوة تتخلل كل مستويات الوجود و تصل بعضها ببعض ‪ ,‬من أعلى المستويات الروحانية‬

‫الى أدنى المستويات المادية ‪.‬‬

‫و السحر هو أيضا الوسيلة التى يستطيع بها االنسان (و كذلك كل المخلوقات) أن يعود مرة أخرى‬

‫الى العقل األسمى ‪ ,‬الى "األصل ‪ /‬المنبع" الذى انبثقت منه كل الموجودات ‪.‬‬

‫و هذا الجانب من جوانب السحر يعبر بشكل خاص عن رؤية قدماء المصريين لعلم السحر و دوره‬

‫فى منظومة الخلق ‪.‬‬

‫و فى كل من التعريفين لقوة السحر ‪ ,‬نجد أنه يرتبط ارتباطا وثيقا بالماعت ‪.‬‬

‫و الماعت عند قدماء المصريين هى النظام األسمى للكون الذى أرساه االله فى الزمن األول ‪ ,‬و هذا‬

‫النظام الكونى هو المعيار الذى يجب على االنسانية أن تضبط به الحياة السياسية و االجتماعية‬

‫و األخالقية ‪ ,‬لكى تحمى نفسها من السقوط فى هاوية الفوضى ‪.‬‬

‫‪- 213 -‬‬


‫و نرى فى كثير من مشاهد الفن المصرى القديم "ماعت" و "حكا" يقفان على يمين و يسار "رع –‬

‫حور – آختى" ‪ ,‬و قد صورهما الفنان المصرى و كأنهما أخ و أخت يقومان بنفس الحركة و هى‬

‫التحية و التبجيل ل "رع ‪ -‬حور ‪ -‬آختى" ‪.‬‬

‫"ماعت" و "حكا" على يمين و يسار "رع – حور – آختى"‬

‫( من بردية "خونسو مس" ‪ ,‬دولة حديثه )‬

‫كان تفعيل طاقة ال "حكا" عند قدماء المصريين ضروريا من أجل ضبط ايقاع العالم المادى ليصبح‬

‫انعكاسا لعالم الروح ‪ ,‬و لكى تصبح األرض صورة من السماء ‪.‬‬

‫هذا التفعيل لطاقة الحكا يعنى أن يحيا االنسان فى الماعت ‪ ,‬أى يحيا فى تناغم مع النظام الكونى ‪.‬‬

‫"حكا" هو القوة االلهية التى تشكل البنية التحتية و األساس لكل الطاقات التى نشأ بها الكون ‪.‬‬

‫كان قدماء المصريين ينظرون الى المرض على أنه اختالل فى التوازن بين جسد االنسان‬

‫‪- 214 -‬‬


‫و روحه ‪ .‬لذلك فليس من العجيب أن نكتشف أن قدماء المصريين كانوا يستخدمون الحكا (السحر)‬
‫كأحد وسائل االستشفاء ‪.‬‬

‫تفعيل طاقة السحر ‪-:‬‬

‫لكى يتم تفعيل طاقة ال "حكا" ‪ ,‬هناك أربعة عناصر رئيسية يجب توافرها ‪ ,‬و هى ‪-:‬‬

‫(‪ )1‬الساحر‬

‫(‪ )2‬الصور المقدسه‬

‫(‪ )3‬الكلمات المقدسه‬

‫(‪ )4‬األفعال الطقسية‬

‫سنبحث فى كل عنصر من هذه العناصر على حدة ‪ ,‬و بعد ذلك سننتقل فى الفصل التالى الى‬

‫ممارسة السحر فى مصر القديمة ‪.‬‬

‫الساحر ‪-:‬‬

‫برغم أن السحر كان من العلوم الباطنية (السرية) ‪ ,‬اال انه كان يحظى باحترام كبير فى المجتمع‬

‫المصرى القديم ‪ .‬و بعكس نظرة انسان العصر الحديث لمن يمارس السحر ‪ ,‬كان السحرة فى مصر‬

‫القديمة يتمتعون باالحترام و التقدير ‪ .‬فمعظم السحرة (و ليس جميعهم) هم فى األصل كهنة يشغلون‬

‫وظائف بالمعابد ‪.‬‬

‫كان السحرة ينتظمون داخل مؤسسات علمية معروفة و كان لهم تأثير على جميع نواحى الحياه‬

‫االجتماعية و السياسية و ادارة شئون الدولة و المعمار و الزراعة و الطب ‪.‬‬

‫و بوجه عام يمكننا القول أنه كان على المرء أن يصبح ساحرا لكى يحظى بمكانة مرموقة فى الدولة‬

‫و السبب فى ذلك أن الدولة المصرية كانت تضع على قائمة أولوياتها اقامة الماعت على األرض ‪,‬‬

‫أى ضبط المجتمع المصرى لكى يصبح صورة من النظام الكونى ‪ ,‬و ضمان سريان الطاقة الكونية‬

‫‪- 215 -‬‬


‫بتوازن تام بين مستويات الوجود المختلفه ‪ ,‬المادى منها و الروحى و هو ما ينعكس على الصحة‬

‫العامة و السالم االجتماعى ‪.‬‬

‫و لكى يصبح المرء وزيرا أو مسئوال فى مصر القديمة كان عليه أن يكون مرتبطا بشكل من‬

‫األشكال بطاقة ال "حكا" ‪ ,‬و عليه فهمها و استيعابها و تعلم كيفية استخدامها ‪.‬‬

‫فالتوازن المنشود فى الطاقة و الذى كان على رأس أولويات الدولة المصرية يتحقق فقط عن طريق‬

‫المهارة فى التعامل مع تلك الطاقة السحرية ‪.‬‬

‫كان تدريب السحرة يتم فى جامعات و مدارس العلم المقدس الملحقه بالمعابد الكبرى و التى يطلق‬

‫عليها فى مصر القديمة "بر ‪ -‬عنخ" أى "بيت الحياه" ‪ ,‬و هى تشبه ‪ -‬الى حد ما – المدارس‬

‫الملحقة بالكاتدرائيات فى أوروبا فى العصور الوسطى ‪.‬‬

‫و بيت الحياة هو المكان الذى يتم فيه نسخ و حفظ الكتب ‪ ,‬أى أن بيت الحياة هو الجامعة و المكتبة‬

‫فى نفس الوقت ‪.‬‬

‫يصور المشهد التالى شعار بيت الحياة كما جاء فى بردية تعرف باسم بردية سولت‬

‫(‪ , )Papyrus Salt 825‬فى سياق طقس سحرى يهدف لحماية بيت الحياة ‪.‬‬

‫‪- 216 -‬‬


‫شعار بيت الحياة "بر ‪ -‬عنخ"‬

‫( من بردية "سولت ‪ , "127‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫و الشعار عبارة عن مكعب ‪ ,‬فى وسطه تمثال ألوزير على هيئة مومياء و هو يولى وجهه نحو‬

‫مفتاح الحياة "عنخ" على الجانب األيمن (من األعلى) ‪.‬‬

‫و اسم بيت الحياة باللغة المصرية القديمة هو "بر‪ -‬عنخ" ‪ ,‬حيث بر = بيت ‪ ,‬و عنخ = حياة ‪.‬‬

‫"بر ‪ -‬عنخ" هو بيت الحياة بالمعنى الحرفى للكلمة ‪ ,‬و أوزير هو مفتاح فهم المغزى من وجود تلك‬

‫المؤسسه العلمية فى مصر القديمة ‪.‬‬

‫و حول المربع الذى يقف فيه أوزير هناك عالمات هيروغليفية تشير ألسماء بعض الكيانات االلهية‬

‫مثل تحوت و ايزيس و نفتيس ‪ ,‬ثم مربع آخر أكبر تحيط به أربعة عالمات تشير ألركان الكون‬

‫األربعة ‪.‬‬

‫‪- 217 -‬‬


‫و الكلمة المصرية التى تستخدم لوصف الساحر معناها األصلى هو "كاتب بيت الحياه" ‪.‬‬

‫و برغم الكم الهائل من الكتب التى كان يحتفظ بها كتبة بيت الحياه فى مكتباتهم ‪ ,‬اال أن العلم الذى‬

‫كانوا يتدارسونه لم يكن فى األساس علما نظريا يتم تحصيله بالقراءة فقط ‪ ,‬و انما هو علم يعتمد‬

‫على اكتساب االنسان قدرات روحانية من خالل التدريب العملى و تحت حماية و ارشاد الكيانات‬

‫االلهية ‪.‬‬

‫و تكتمل الدراسة العملية بقراءة النصوص المقدسه ‪ ,‬حيث ذكر الملك رمسيس الرابع أنه قرأ كل‬

‫النصوص المقدسه فى مدرسة بيت الحياه لكى تكشف له أسرار العوالم الخفية التى تسكنها ال‬

‫"نترو" (الكيانات االلهية) ‪.‬‬

‫تلك األسرار ال يمكن كشفها عن طريق التأمل العقلى وحده ‪ ,‬بل يحتاج االنسان أن يتصل بتلك‬

‫العوالم اتصاال مباشرا ‪ ,‬بل و يسافر اليها بنفسه ‪ ,‬و ذلك عن طريق ما يعرف ب "تجارب خارج‬

‫الجسد" (‪ , )out of body experience‬أو الطرح الروحى ‪.‬‬

‫يمكننا القول أن التعليم فى مدارس بيت الحياه كان يتضمن كال من التعليم النظرى (عن طريق‬

‫القراءة) ‪ ,‬و أيضا التدريب العملى ‪ .‬و من أساسيات ذلك التدريب العملى تعليم الساحر (أو كاتب‬

‫بيت الحياه) كيفية استحضار الطاقة من عالم الروح ‪ ,‬و اعادة بثها فى العالم المادى من أجل تحقيق‬

‫التوازن و التناغم المنشود بين الجسد و الروح ‪ .‬و لكى يتمكن الساحر من القيام باستحضار الطاقة‬

‫الروحية ‪ ,‬عليه أن يكون مدركا ألبعاد الكون المختلفة ‪ ,‬بما فيها العالم المادى ‪ ,‬و العالم السفلى‬

‫(الدوات) الذى يقع فيما وراء العالم المادى ‪ ,‬و عالم الروح الذى يقع فيما وراء العالم السفلى ‪.‬‬

‫يقول آالن جاردنر أن كتاب "الخروج الى النهار" (كتاب الموتى) هو نتاج عمل كتبة مدارس بيت‬

‫الحياه ‪ ,‬فهم الذين قاموا بصياغته و تدوينه بتلك الصورة ‪.‬‬

‫و كتاب الخروج الى النهار يعتبر دليال للساحر فى كيفية التعامل مع القوى الكونية ذات الطبيعة‬

‫السيكولوجية التى تسكن ال "دوات" (العالم السفلى) ‪ ,‬و هو عالم ملئ بالخداع و به العديد من‬

‫الكيانات التى تشكل خطرا على االنسان و تعتبر فخاخا قد يقع فيها الساحر اذا لم يعرف كيف‬

‫‪- 218 -‬‬


‫يتعامل معها ‪.‬‬

‫و كانت مدارس بيت الحياه هى أيضا المكان الذى يتم فيه تدوين الكتب الدينية و الطبية ‪ ,‬ذلك أن‬

‫الطب و الدين لم يكونا منفصلين فى مصر القديمة ‪ ,‬ألن الصحة أو المرض ما هى اال انعكاس‬

‫لتأثير القوى الكونية على جسم االنسان و روحه ‪ .‬و كانت قدرة الساحر على عالج األمراض‬

‫تتوقف على قدرته على رؤية الطاقات السلبية التى تسببت فى المرض ‪ ,‬و أيضا قدرته على التحكم‬

‫فى تلك الطاقات عن طريق اتصاله بالكيانات الماورائية التى تتحكم فيها و استدعاء كيانات بعينها‬

‫لتساعده فى التغلب على مسببات المرض ‪.‬‬

‫و لكى ينجح الساحر فى ذلك ‪ ,‬عليه أيضا أن يعرف القوى التى تنتمى للعوالم المظلمة و لألعماق‬

‫السحيقة من العقل الباطن و التى قد تتسبب فى األمراض النفسية و الجسمانية ‪.‬‬

‫نظر انسان الحضارات القديمة لهذه القوى النفسية المدمرة باعتبارها شياطين أو أرواح شريرة ‪.‬‬

‫و العلوم التى يدرسها الساحر فى بيت الحياة هى علوم باطنية يتلقاها الساحر عن طريق التمرين‬

‫العملى ‪.‬‬

‫على الساحر أن يتدرب على ادراك العوالم الغير مرئية و االتصال بأبعاد الكون الخفية عن طريق‬

‫تحفيز قدراته الروحانية ‪.‬‬

‫يتضمن برنامج تدريب الساحر زيارة العالم السفلى (الدوات) ‪ ,‬لكى يرى بنفسه ذلك العالم و يتعرف‬

‫على سكانه من القوى الكونية ‪ ,‬و بذلك يختبر كيفية التعامل مع تلك القوى و يكتشف تأثيراتها على‬

‫االنسان ‪.‬‬

‫تعرف تلك الزيارة لل "دوات" باسم "الموت الطقسى" ‪ ,‬حيث يرتحل الساحر المتدرب بجسمه‬

‫األثيرى‪/‬النجمى الى العالم السفلى و يسلك نفس الطريق الذى تسلكه الروح عند موتها ‪ ,‬و يعود مرة‬

‫أخرى الى جسمه المادى ‪.‬‬

‫أى أن بيوت الحياة كانت مراكز تدريب تمارس فيها مختلف درجات الموت الطقسى فى تجارب‬

‫خارج الجسد ‪ .‬لذلك تقف صورة أوزير فى قلب الشعار المميز لبيت الحياة ‪ ,‬ألن أوزير هو رب ال‬

‫‪- 219 -‬‬


‫"دوات" (العالم السفلى) الذى تكمن فيه أسباب المرض و أيضا أسباب الشفاء ‪.‬‬

‫على الساحر أن يمر بتجربة الموت الطقسى حيث يترك جسده المادى و يولد من جديد والدة‬

‫روحانية ‪ ,‬و بدون تلك التجربة الباطنية ال يكون للساحر تأثير فى عالم الكيانات االلهية ‪.‬‬

‫على الساحر أن ينزل للمناطق المظلمة فى العالم السفلى ليقتلع الطاقات السلبية المسببة للمرض‬

‫و يحولها الى طاقة ايجابية تتناغم مع العالم المادى ‪.‬‬

‫و يبدو أن النصوص التى يصنفها األثريون على أنها "نصوص جنائزية" مثل كتاب الخروج الى‬

‫النهار و كتاب األمدوات لم تكن نصوصا موجهة فقط ألرواح الموتى و انما كانت أيضا دليال‬

‫للطالب الساحر يستخدمه أثناء تدريبه على القيام بتجربة الموت الطقسى التى يقوم فيها بزيارة العالم‬

‫السفلى (الدوات) و يعود بعدها الى العالم المادى مرة أخرى ‪.‬‬

‫لذلك نجد فى فى كتاب الخروج الى النهار نصوصا معينة مصحوبة بعناوين أو تعليقات توضح أن‬

‫تلك النصوص تهدف لمساعدة أولئك "الذين ما زالوا على األرض" ‪ ,‬و هى عبارة تكررت أيضا فى‬

‫كتاب ال "أمدوات" (وصف ما هو كائن فى العالم اآلخر) ‪.‬‬

‫و بعد أن عرفنا أهمية بيت الحياه و طبيعة العلوم التى كانت تدرس فيه و الهدف منها و أهميتها‬

‫بالنسبة للمجتمع المصرى القديم ‪ ,‬يصبح من اليسير علينا فهم السبب وراء سعى كبار رجال الدولة‬

‫فى مصر القديمة الى تحصيل العلوم الروحانية ‪.‬‬

‫فعند دراسة ألقاب العديد من كبار رجال الدولة فى مصر القديمة نجد أنها لم تكن مجرد ألقاب‬

‫لموظفين حكوميين أو رجال سياسة ‪.‬‬

‫على سبيل المثال ‪ ,‬نجد فى الدولة القديمة الوزير "تى" الذى كان مشرفا على أهرامات و معابد أبو‬

‫صير يحمل لقب "المطلع على األسرار" ‪.‬‬

‫و معظم الكتب األثرية تتجاهل ذكر مثل هذه األلقاب أو تقوم بتأويلها ‪.‬‬

‫يقول الباحث األمريكى "جون أنتونى ويست" أن األثريين عادة ما يفسرون مثل هذه األلقاب بأنها‬

‫نوع من التفاخر بأن المتوفى كان يتمتع بثقة الملك ‪ ,‬و لكن الحقيقة أن هذه األلقاب تعبر عن امتالك‬

‫‪- 220 -‬‬


‫صاحبها لدرجة عالية من المعرفة بالعوالم الماورائية ‪ ,‬حيث كل لقب يصف الدرجة التى بلغها‬

‫صاحبه ‪.‬‬

‫و فى عصر الدولة الوسطى كان وزير الملك سنوسرت األول "منتو حتب" هو كاتم أسراره و أمين‬

‫خزائنه ‪ ,‬و كان يحمل لقب ( الذى ال يوجد له شبيه ‪ ,‬المطلع على األسرار الخفية ) ‪.‬‬

‫و فى عصر الدولة الحديثة كان وزير الملك تحتمس الثالث "رخمى ‪ -‬رع" يوصف بهذا الوصف‬

‫الفريد ‪ ( :‬ال يوجد شئ فى األرض و ال فى السموات ‪ ,‬و ال فيما وراءهما اال و قد اطلع عليه‬

‫"رخمى ‪ -‬رع" و كشفت له أسراره ) ‪.‬‬

‫لم تكن تلك األلقاب لمجرد الدعاية ‪ ,‬و انما هى تكشف عن أهمية اكتساب العلم المقدس لكى يصبح‬

‫الشخص مسئوال ‪ ,‬و بالتالى يستطيع أن ينفذ الهدف األساسى للدولة و هو اقامة الماعت (النظام ‪/‬‬

‫االتزان ‪ /‬العدل) على األرض ‪.‬‬

‫و برغم أن السحرة فى مصر القديمة كانوا يشكلون طبقة اجتماعية متفردة ‪ ,‬ألن حياتهم كانت تقوم‬

‫على االتصال بالعوالم األخرى التى تسكنها ال "نترو" (الكيانات االلهية) و بالتالى يحتاجون الى‬

‫العزلة ‪ ,‬اال أنهم كانوا يحظون بمراكز مرموقة فى الحياه االجتماعية و السياسة ‪.‬‬

‫كان المجتمع المصرى القديم يعتمد على السحرة فى الحفاظ على التوازن و التناغم بين العالم المادى‬

‫و عالم الروح ‪ .‬و بالرغم من أن معظم السحرة كانوا ينتظمون داخل اطار مؤسسى معروف و هو‬

‫بيت الحياه التابع للمعبد ‪ ,‬اال انه كان هناك أيضا بعض السحرة الغير تابعين ألى مؤسسة و كانوا‬

‫يعيشون حياه مستقلة تماما عن حياة المعبد و هؤالء هم من يطلق عليهم "شامانز" (‪. )Shamans‬‬

‫و من أشهر هؤالء السحرة الشامانز ‪ ,‬ذلك الساحر الذى جاء ذكره فى بردية ويستكار فى قصة‬

‫خوفو و السحرة ‪ ,‬و الذى قيل عنه أن باستطاعته اعادة الحيوانات الى الحياه بعد ذبحها و تقطيعها‬

‫الى أجزاء ‪ ,‬و باستطاعته أيضا ترويض األسود الشرسه ‪ ,‬و التنبؤ بالمستقبل ‪.‬‬

‫الصور المقدسه ‪-:‬‬

‫‪- 221 -‬‬


‫لكى نتمكن من استيعاب مغزى الصور المقدسه فى مصر القديمة ‪ ,‬علينا أوال أن ندرك أن العقل‬

‫الغربى ما زال أسير الفكر االسرائيلى ‪ ,‬و أعنى تحديدا الوصية الثانية من الوصايا العشر التى يقول‬

‫فيها اله االسرائيليين ‪-:‬‬

‫*** ( ال تقم بصنع أى صورة ألى شئ فى السماء أو األرض ‪ ,‬و ال تنحنى أمامها ‪ ,‬ألنى أنا الهك‬

‫"يهوه" اله غيور ) ***‬

‫كان لهذا النص التوراتى – و مال زال – تأثير كبير على عقل االنسان الغربى و على معيار القيم‬

‫لديه ‪.‬‬

‫ظهرت "الوثنية" (بالمفهوم االسرائيليى) للوجود فى مراحل حديثة من تطور الوعى االنسانى ‪,‬‬

‫و بالتحديد بعد الحدث المعروف باسم الخروج (‪ , )Exodus‬أى خروج االسرائيليين من مصر ‪.‬‬

‫هذا الحدث المصحوب بظهور الوصايا العشر عند االسرائيليين ‪.‬‬

‫ان فكرة اخراج االله لشعبه المفضل و المختار من مصر هى فكرة تعبر عن عالقة جديدة "زائفة"‬

‫بين االنسان و االله ‪ ,‬و بين االنسان و الطبيعة بشكل عام ‪.‬‬

‫فاله االسرائيليين "الغيور" هو اله ال يمكن وصف طبيعته عن طريق الرمز التصويرى ‪.‬‬

‫و على النقيض من ذلك ‪ ,‬نجد أن قدماء المصريين رأوا فى الصور المقدسه لل "نترو" انعكاسا‬

‫للتجليات االلهية ‪ ,‬و كانت تلك الصور فى نظرهم مفعمة بالحضور االلهى ‪.‬‬

‫لم يكن المصرى القديم يرى حدودا بين عالم الروح و عالم الماده ‪ .‬فالطبيعة كلها تعبر عن الحضور‬

‫االلهى ‪ .‬ال يوجد شئ فى الطبيعة ال تسكنه قوة الهية ‪ .‬فالنجوم و الشمس و القمر و الرياح‬

‫و األرض ‪ ,‬كلها هى "االله" ‪ ,‬بمعنى أن كل منها هو صورة من صور تجلى األلوهية فى العالم‬

‫المادى ‪ .‬و كانت الحيوانات و النباتات و األشجار و الحيات عند قدماء المصريين بمثابة وسيط أو‬

‫جسر يصل عالمنا بالعالم االلهى و ينقل الينا الطاقة من عالم الروح ‪.‬‬

‫فاالله حاضر فى كل شئ فى الطبيعة ‪ .‬و لكن هناك أشكال معينة (و مواد معينة) تتمير بقدرتها‬

‫الفائقة على أن تصبح وسيطا أو قناة تنتقل عن طريقها القوى االلهية من عالم الروح ‪ ,‬و تأتى‬

‫‪- 222 -‬‬


‫لتتجسد فى العالم المادى ‪.‬‬

‫أما االسرائيليين فبعد عبورهم البحر األحمر ‪ ,‬أصبح ادراكهم للعالم ادراكا ماديا صرفا ‪.‬‬

‫فهم يرون األشياء حولهم على أنها مجرد مادة معتمة مظلمة ‪ ,‬خالية من الروح ‪ ,‬خالية من الحضور‬

‫االلهى ‪.‬‬

‫االسرائيليون هم من جعل عالم الروح بعيدا ‪ ,‬بعد أن كان قريبا عند انسان الحضارات القديمة ‪.‬‬

‫كان ذلك هو أول ظهور لفكرة "األوثان ‪ /‬األصنام " ‪.‬‬

‫لم يعرف قدماء المصريين طوال تاريخهم فكرة "عبادة األوثان" ‪ ,‬و لم يكن للوثنية أى وجود فى‬

‫تاريخ مصر القديم ‪ .‬لسبب بسيط ‪ ,‬و هو أن الوثن أو الصنم هو شئ مادى معتم ‪ /‬مظلم خالى من‬

‫الروح ‪ .‬لم يكن لمثل هذه األفكار وجود فى مصر القديمة ‪ ,‬ألن العقل المصرى لم يكن يفكر بهذه‬

‫الطريقة المادية البحته ‪.‬‬

‫ان فكرة "األوثان ‪ /‬األصنام" هى نتاج العقل االسرائيلى ‪ ,‬و نجد شرح لفكرة األوثان فى أحد‬

‫مزامير االسرائيليين و التى جاء فيها أن األوثان هى ‪-:‬‬

‫*** من صنع االنسان ‪ ...‬لها فم و لكنها ال تتكلم ‪ ...‬لها أعين و لكنها ال ترى ‪ ...‬لها آذان و لكنها‬

‫ال تسمع ‪ ...‬لها أنف و لكنها ال تشم ‪ ...‬لها أيدى و لكنها ال تلمس ‪ ...‬لها أرجل و لكنها ال تمشى‬

‫‪ ...‬و ال تخرج أى أصوات من حنجرتها ***‬

‫يقول الفيلسوف و الشاعر االنجليزى "أوين بارفيلد" (‪ – )Owen Barfield‬الذى توفى عام ‪0997‬‬

‫ميالدية – أن "األوثان ‪ /‬األصنام" فى الفكر االسرائيلى هى مجرد صور خالية من أى محتوى أو‬

‫طاقة روحانية ‪ ,‬هى صور ميته ‪ ,‬خالية من الحياه ‪ .‬و مثل هذه الصور الميته لم تكن موجوده فى‬

‫مصر القديمة ‪.‬‬

‫لم تكن الصور عند قدماء المصريين مجرد شئ مادى ‪ ,‬و انما كانت عبارة عن مركبة تنتقل عن‬

‫طريقها القوى الكونية من أبعاد الكون الخفية (و هى أبعاد خارج حدود التجسد) و تأتى لكى‬

‫تتجسد و تحيا معنا فى عالمنا المادى ‪.‬‬

‫‪- 223 -‬‬


‫كانت الصور المقدسه عند قدماء المصريين صورا حية ‪ ,‬تحوى بداخلها طاقات روحانية ‪ ,‬لديها‬

‫القدرة على أن ترى و تسمع ‪ ,‬بل و "تتكلم" كما كان يفعل تمثاال ممنون حتى العصر الرومانى ‪.‬‬

‫فقط االسرائيليون لم يكن باستطاعتهم أن يروا أو يسمعوا ما بداخل الصور المقدسه من حضور‬

‫الهى ‪.‬‬

‫كان الكون فى نظر قدماء المصريين كونا حيا ‪ ,‬ال يوجد فيه جماد ‪ .‬كل شئ فى الكون ينبض‬

‫بالحياه ‪ .‬و كان المصرى القديم يرى ال "نترو" (الكيانات االلهية) فى كل شئ حوله ‪.‬‬

‫فى مصر القديمة لم يكن قد ظهر بعد ذلك الحجاب الذى يفصل بين عالم الروح و عالم الماده ‪,‬‬

‫و الذى يمنع انسان العصر الحديث من رؤية العوالم الماورائية ‪.‬‬

‫و نجد مثاال على ذلك فى مقبرة الكاهن "أمون مس" الذى عاش فى عصر الملك أمنحتب األول‬

‫و الذى رفعه الشعب الى مصاف الكيانات االلهية (و هى مكانة أشبه بمكانة األولياء و القديسين)‬

‫بعد موته ‪ .‬يصور المشهد التالى موكب يخرج من المعبد يحمل تمثال الملك المتوفى أمنحتب األول‬

‫‪ ,‬و أمام الموكب يقف اثنان من أفراد الشعب المصرى بينهما نزاع (المتخاصمان ال يظهران فى‬

‫الصورة) و يطلبان من روح الملك أمنحتب األول أن تتدخل و تقضى بينهما ‪ .‬و همزة الوصل التى‬

‫يتم من خاللها االتصال بروح الملك هى صورته المقدسة ‪ ,‬أى تمثاله ‪.‬‬

‫‪- 224 -‬‬


‫روح الملك أمنحتب األول تقضى بين الناس من خالل تمثاله‬

‫( من مقبرة "آمون مس" ‪ ,‬دولة حديثه )‬

‫يقوم الكاهن "آمون مس" بعرض القضية أمام تمثال الملك المتوفى و يطلب من روحه أن تقضى‬

‫بينهما و تحل ذلك النزاع ‪ .‬و تجيب الصورة المقدسة لروح الملك بطريقة خاصة جدا يشعر بها‬

‫الكهنة الذين يحملون تمثاله و ذلك عن طريق حركة مفاجئة اما لألمام أو للخلف ‪ ,‬و هى حركة‬

‫الارادية ال يستطيع الكهنة التحكم فيها ‪.‬و الحركة األمامية تعنى نعم ‪ ,‬أما الحركة التراجعية فتعنى‬

‫ال ‪ .‬بهذه الطريقة يمكن للروح أن تتصل بعالم البشر و تقضى بينهم من خالل الصورة المقدسة ‪.‬‬

‫قد يتبادر الى ذهن البعض أن األمر ينطوى على حيلة أو خدعة ‪ .‬و لكن قبل اصدار األحكام النابعة‬

‫من معايير ثقافتنا المعاصرة علينا أن نتذكر أن العالم فى نظر قدماء المصريين يختلف عن العالم‬

‫كما نراه نحن ‪ .‬لم يكن هناك جماد فى نظر قدماء المصريين ‪.‬‬

‫فكل شئ فى هذا العالم بداخله حياة ‪ ,‬بما فى ذلك الحجر ‪ .‬الكون كله حى منذ بدء الخليقة ‪.‬‬

‫و لكن ذلك ال يعنى أن قدماء المصريين كانوا يسقطون نظرتهم الذاتية و تخيالتهم السيكولوجية على‬

‫العالم المحيط بهم ‪ .‬و انما يعنى أنهم كانوا على وعى بوجود قوى روحانية تنتمى للعالم السببى‬

‫‪- 225 -‬‬


‫(الروحى) و هو عالم يقع فيما وراء العالم السيكولوجى (الدوات ‪ /‬العالم السفلى‪/‬العقل الباطن)‬

‫و وجوده سابق على وجود العالم السيكولوجى ‪.‬‬

‫يقول عالم النفس السويسرى كارل يونج فى كتابه "علم النفس و الدين" أن االنسان األول قام باسقاط‬

‫الصور األولية الموجودة داخل نفسه على كل ما حوله فى صورة كيانات الهية أو أرواح طبيعة‬

‫و شياطين ‪ ,‬و لكن هذا الطرح من جانب كارل يونج يتجاهل وجود عالم باطنى آخر فيما وراء‬

‫العقل الباطن ‪ .‬هذا العالم هو عالم الروح ‪ ,‬و هو الذى ينبع منه العالم السيكولوجى أو العقل الباطن‬

‫و كل ما يصدر عنه من اسقاطات نفسية ‪.‬‬

‫ان حركة التاريخ ال تتحكم فيها النوازع النفسية لالنسان ‪ ,‬ألن العقل الباطن النسان الحضارات‬

‫القديمة كان لديه القدرة على االتصال بقوى روحانية تشكل ركيزة أساسية فى علم الوجود عند تلك‬

‫الحضارات ‪.‬‬

‫فالقوى الروحانية ال تنتمى للنفس (العقل الباطن ‪ /‬العالم السفلى ‪ /‬الدوات) و انما هى تنتمى للعالم‬

‫الروحى‪/‬السببى ‪ ,‬و هو عالم قائم بذاته ال يستمد وجوده من النفس ‪ ,‬ألن وجود الروح سابق على‬

‫وجود النفس ‪.‬‬

‫ان سكان الحضارات القديمة لم يقوموا باسقاط الكيانات االلهية من عقلهم الباطن على الطبيعة ‪,‬‬

‫و انما عرفوا الكيانات االلهية من خالل الطبيعة ‪.‬‬

‫فى تلك األزمنة القديمة ‪ ,‬لم يكن هناك حجاب يفصل بين العوالم الباطنية و بين الطبيعة ‪ .‬لم تكن‬

‫النفس االنسانية قد انفصلت بعد عن روح الطبيعة و أصبح كل انسان ال يرى اال ذاته ‪.‬‬

‫من وجهة النظر المصرية كان من الممكن حدوث اندماج بين الصورة المقدسه و بين القوة الكونية‬

‫التى تعبر عنها ‪ .‬فتمثال "سخمت" – على سبيل المثال – ليس مجرد رمز مادى للتعبير عن‬

‫"سخمت" ‪.‬‬

‫فى مصر القديمة كانت تماثيل ال "نترو" تصنع بعناية فائقه من حيث النسب الهندسية و من حيث‬

‫المادة الخام التى يصنع منها التمثال (مثل حجر الديوريت األسود) و من حيث مالمح التمثال‬

‫‪- 226 -‬‬


‫و وضعيته ‪ ,‬و أثناء و بعد نحت التمثال كانت هناك طقوسا معينة تعرف باسم طقوس فتح الفم تقام‬

‫من أجل استحضار تلك الطاقة الكونية التى تحمل اسم "سخمت" الى عالمنا المادى و جعلها تسكن‬

‫فى تلك الصورة المقدسة ‪.‬‬

‫تمثال ل "سخمت" من حجر الديوريت األسود‬

‫( من معبد موت بالكرنك ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫عند اعداد الصور المقدسة يتم مزج المهارة الفنية مع الطقوس السحرية ‪ ,‬و بذلك يصبح التمثال‬

‫بمثابة مركبة تنتقل عن طريقها القوى الكونية من عالم الروح (الذى يقع خارج حدود التجسد) الى‬

‫عالم الماده ‪.‬‬

‫ال يمكننا أن نطلق على ذلك "وثنية" ‪ ,‬و انما هو استحضار للقوى االلهية باستخدام صورة مادية‬

‫يتم اعدادها بطريقة معينة بحيث ال تعد مجرد صورة مادية و انما تكتسب بعدا باطنيا و تصبح‬

‫‪- 227 -‬‬


‫وعاءا لطاقة روحانية ‪.‬‬

‫كان هذا هو مفهوم الصور المقدسه فى كل حضارات العالم القديم باستثناء الثقافة االسرائيلية و من‬

‫بعدها المسيحية ‪.‬‬

‫فى متون هرمس هناك نقاش حول طبيعة الكيانات االلهية و العالقة بينها و بين صورها المقدسة‬

‫و هى صور مفعمة بالحياة و الوعى يمكنها أن تقوم بأفعال خارقة ‪.‬‬

‫تعبر النصوص القديمة مثل متون هرمس عن وعى يختلف تماما عن وعى االنسان المعاصر ‪.‬‬

‫فى الحضارات القديمة لم يكن هناك فرق بين الكيان االلهى و بين صورته المقدسه أو تمثاله ‪.‬‬

‫فالعالقة بين االثنين أشبه بعالقة االنسان بجسده ‪.‬‬

‫ان جسد االنسان ال يعتبر شيئا منفصال عنه ‪ ,‬ألن الجسد المادى هو الوعاء الذى تسكن فيه الروح‬

‫‪ ,‬و هو المركبة التى تستخدمها الروح لتعبر عن نفسها و تعلن عن حضورها فى العالم المادى ‪.‬‬

‫و بنفس الطريقة ‪ ,‬يمكن للكيانات االلهية أن تتجسد فى عالمنا من خالل الصور المقدسة لتعبر‬

‫عن نفسها و عن حضورها فى عالمنا ‪.‬‬

‫يقوم انسان العصر الحديث ببساطه برفض مفهوم الكون الحى عند الحضارت القديمة ‪ ,‬و ينكر فكرة‬

‫العالم الذى تنظمه قوى سحرية و يصفها بأنها شعوذه و خرافات و أفكار بدائية طفولية ال يجدر‬

‫باالنسان المتحضر أن يتبناها ألنه وصل اآلن لمرحلة أرقى من النضج و التحضر ‪ .‬و لكن ذلك‬

‫االنسان المتحضر الناضج فقد القدرة على ادراك الماورائيات و االحساس بأرواح الطبيعة و رؤية‬

‫أبعاد الكون الخفية (التى تقع خارج حدود التجسد) ‪ ,‬كما كان يفعل انسان الحضارات القديمة ‪.‬‬

‫اننا نتخيل أننا نعرف أكثر من الحضارات القديمة ‪ ,‬و لكن الحقيقة أننا نعرف أقل منهم بكثير ‪.‬‬

‫كتب الفيلسوف أفلوطين ‪ -‬الذى عاش فى القرن الثانى الميالدى ‪ -‬يقول أن الحكماء فى العالم القديم‬

‫كانوا يقومون بتعزيز وجود ال "نترو" (الكيانات االلهية ‪ /‬القوى الكونية) فى عالمنا عن طريق‬

‫الصور المقدسه و التماثيل و المقاصير ‪ ,‬و كانوا قادرين على رؤية "باطن ‪/‬جوهر" كل شئ ‪.‬‬

‫و يكمل أفلوطين حديثه عن حكماء الحضارات القديمة قائال ‪:‬‬

‫‪- 228 -‬‬


‫*** أدرك حكماء العالم القديم أن عالم الروح ليس منفصال عن عالمنا ‪ ,‬ألن الروح سكبت نفسها فى‬

‫جميع الخالئق ‪ .‬فالكون كائن حى ‪ ,‬و الوجود كله مفعم بالحضور االلهى ‪ .‬و فى نفس الوقت يمكن‬

‫لالنسان أن يعزز ذلك الحضور عن طريق مستقبالت خاصة ‪ ,‬مثل صور مقدسه أو مكان خاص‬

‫(مقصورة أو معبد) يصمم بطريقة خاصة تجعله قادرا على استقبال جانب من جوانب القدرة االلهية‬

‫و أن يقوم باعادة بثها مرة أخرى ‪ ,‬مثل المرآه التى تعكس صورة الشئ الذى يقابلها ***‬

‫لم يكن دور الصور المقدسة (سواء جداريات أو تماثيل) يقتصر على توفير الجسد الذى تتجلى من‬

‫خالله القوى الكونية فى عالمنا ‪ ,‬و لكنها كانت أيضا تجسيدا "ألفكار" يتم استقبالها من أبعاد كونية‬

‫أخرى ‪ ,‬أو هى بوابات تربط بين عالمنا و العوالم األخرى ‪ .‬و من أمثلة ذلك اللوحات الجنائزية‬

‫و الصور المحفورة بالنقش البارز أو الغائر على جدران المقابر و النصوص المدونة على برديات ‪,‬‬

‫و التى كان الهدف منها مخاطبة مثيلها فى العالم اآلخر ‪ ,‬فكل شئ مادى فى عالمنا يوجد منه نسخة‬

‫أثيرية فى عالم الصور األولية ‪ /‬الجوهر ‪ ,‬أو بمعنى أصح ان األشياء المادية هى انعكاس لألصل‬

‫الموجود فى عالم الجوهر ‪.‬‬

‫كانت صور موائد القرابين فى الفن المصرى القديم تهدف الستحضار و مخاطبة الصور المماثلة‬

‫لها فى عالم الروح ‪ ,‬و منها المشهد التالى على سبيل المثال ‪.‬‬

‫‪- 229 -‬‬


‫مشهد مائدة قرابين من عصر الدولة القديمة‬

‫و ما نجده على موائد القرابين من صور خبز و خضروات و فواكه و لحوم و طيور كان الهدف‬

‫منه هو صنع بوابة أو جسر بين عالمين أو بعدين من أبعاد الكون أحدهما مادى و اآلخر روحى ‪.‬‬

‫كانت صور القرابين تقوم باستحضار جوهر الشئ الذى يظهر فيها ‪ ,‬حيث يقوم الكهنة بتحويلها من‬

‫خالل الطقوس السحرية لتصبح وعاء يسكنه الجوهر الروحى لكل ما يوضع فوق مائدة القرابين ‪.‬‬

‫و فى نفس الوقت يتم اسقاط الصورة المادية داخل الجوهر الروحى الذى تعبر عنه و بذلك تتحول‬

‫الصورة الى جسر يصل عالمنا بالعالم اآلخر ‪.‬‬

‫ان مشاهد تقديم القرابين فى الحضارة المصرية و فى كل الحضارات القديمة ‪ ,‬كانت تعبر عن فكر‬

‫االنسان فى ذلك الزمن ‪ ,‬و الذى كان يرى امكانية حدوث اندماج بين الصور المقدسه فى مشاهد‬

‫تقديم القرابين و بين الطاقات الكونية أو الكيانات االلهية التى تنتمى الى أبعاد الكون الخفية و التى‬

‫تقع خارج حدود التجسد ‪.‬‬

‫فى المشهد التالى يظهر الملك سيتى األول و هو يقوم بتقديم قرابين عبارة عن وعائين من الحليب‬

‫ل "سخمت" ‪.‬‬

‫‪- 230 -‬‬


‫الملك سيتى األول يقدم قرابين من اللبن ل "سخمت"‬

‫( معبد الملك سيتى األول بأبيدوس ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫ال يمكننا فهم هذا المشهد الذى يتم فيه تقديم الطعام الى كيان ماورائى غير متجسد اال اذا أدركنا أوال‬

‫أن قدماء المصريين فهموا أن الطعام (و كذلك كل شئ فى عالمنا) له طبيعتان ‪ :‬طبيعة مادية‬

‫و طبيعة روحانية ‪ .‬فكل شئ فى الطبيعة هو انعكاس صورة مرآه لألصل أو الصورة األولية‬

‫الموجودة فى عالم الروح ‪.‬‬

‫عالم الروح هو العالم الحقيقى ‪ /‬األصلى ‪ ,‬و هو العالم الذى كانت كل الممارسات السحرية فى‬

‫مصر القديمة تعنى بمخاطبته و االتصال به ‪.‬‬

‫هناك مثال آخر شهير جدا للصور المقدسه فى مصر القديمة ‪ ,‬أال و هو تماثيل "األوشابتى ‪/‬‬

‫‪- 231 -‬‬


‫الشوابتى" و معناها ( المرددين ‪ /‬المجيبين ) ‪ ,‬و هى تماثيل كانت توضع مع األثاث الجنائزى منذ‬
‫عصر الدولة الوسطى ‪.‬‬

‫تمثال أوشابتى ‪ ,‬من عصر الدولة الحديثه‬

‫اعتقد قدماء المصريين (أو هكذا يفترض) أن تدب الحياه فى هذه التماثيل فى العالم اآلخر ‪ ,‬لكى‬

‫تقوم بأداء مهام معينة بدال من صاحب المقبرة ‪.‬‬

‫بالتأكيد لم يكن من المفترض أن تحيا هذه التماثيل على المستوى المادى ‪ ,‬و انما المفترض أنها تقوم‬

‫بالرد على صاحب المقبرة و اجابته ‪ ,‬لكى تنوب عنه فى أداء مهام معينة يطلب منه أداءها فى العالم‬

‫اآلخر ‪ .‬لذلك كان قدماء المصريين يقومون بتزويد تماثيل "الشوابتى ‪ /‬األوشابتى" بأدوات الزراعة‬

‫‪- 232 -‬‬


‫‪ ,‬و ينقشون فوقها نصوصا معينة ‪ ,‬و منها على سبيل المثال هذا النص الذى يقول فيه صاحب‬

‫المقبرة ‪-:‬‬

‫*** أيتها التماثيل (األوشابتى) ‪ ....‬اذا نودى على و طلب منى أداء أعمال فى العالم اآلخر ‪,‬‬

‫فلتتطوعوا باالجابة بالنيابة عنى ‪ ...‬و لتقوموا بزراعة األرض و مأل القنوات بالماء و نقل رمال‬

‫البر الشرقى الى البر الغربى ‪ ...‬و اذا نوديتم فلتجيبوا دائما ‪" ...‬هأنذا" ***‬

‫يتضح من المثال السابق أن تماثيل األوشابتى هى الصورة المادية لصورة أخرى روحانية موجودة‬

‫فى عالم الجوهر ‪ .‬و هذه الصورة تؤدى عملها كجسر و همزة وصل بين العالم المادى و عالم‬

‫الروح من خالل الشكل و أيضا من خالل الكلمات السحرية المدونة فوق التمثال ‪.‬‬

‫تعمل تماثيل "األوشابتى ‪ /‬الشوابتى" على استحضار أشكال من الطاقة موجودة على مستوى الروح‬

‫فكل صورة مادية فى عالمنا لديها القدرة على استحضار صورتها األولية أو جوهرها األصلى فى‬

‫عالم الروح ‪.‬‬

‫و من وجهة نظر علم السحر ‪ ,‬كل فعل طقسى يقوم به االنسان فى العالم المادى ‪ ,‬و كل شكل مادى‬

‫يقوم بتكوينه ‪ ,‬و كل كلمة سحرية ينطقها كانت تعمل كمغناطيس يجتذب الصورة األولية أو الجوهر‬

‫الروحى المقابل للصورة الماديه ‪.‬‬

‫الكلمات المقدسه ‪-:‬‬

‫لكى نفهم قدسية الكلمة عند قدماء المصريين علينا أوال أن نناقش بعض األفكار الحديثه عن طبيعة‬

‫اللغة ‪.‬‬

‫نشأت تلك األفكار و سيطرت على العقل األوروبى فى العصور الوسطى ‪ ,‬فى وقت احتدم فيه‬

‫النقاش حول الطبيعة الميتافيزيقية للغة ‪ ,‬أو البعد الروحى للغة ‪ .‬دار النقاش بين مدرستين احداهما‬

‫هى المدرسة الواقعية (‪ )Realists‬و األخرى هى المدرسة االسمية‪/‬المثالية ‪/‬الالواقعية‬

‫(‪. )Nominalists‬‬

‫‪- 233 -‬‬


‫ترى المدرسة الواقعية أن الكلمة التى تستخدم لالشارة الى شئ ما انما هى تعبر عن جوهر ذلك‬

‫الشئ ‪ ,‬و هذا الجوهر له طبيعة روحية ‪ .‬و الكلمة فى األصل تعبر عن ذلك الجوهر الروحى ‪,‬‬

‫و ليس فقط المظهر المادى ‪ .‬ترى المدرسة الواقعية أن لكل شئ مادى جذور فى عالم الروح ‪,‬‬

‫و أن عقل االنسان عندما يستدعى األسماء انما يستدعى جوهرها فى عالم الروح و ليس فقط‬

‫صورتها المادية ‪.‬‬

‫أما المدرسة االسمية فهى على النقيض من ذلك ‪ .‬ترى المدرسة االسمية أن الكلمة مجرد صوت ال‬

‫عالقة له بأى جوهر روحى ‪ ,‬و أن األسماء تطلق على األشياء كوسيلة عملية لتنظيم حياة االنسان ‪.‬‬

‫و أن انتقاء الكلمات التى تستخدم لالشارة الى أشياء معينة انما يتوقف بشكل أساسى على فهم‬

‫االنسان لألشياء و عالقة االسم بالمسمى و هى عالقة عقالنية و ليس لها أى عالقة بعالم الروح ‪.‬‬

‫و هذه المدرسه االسمية هى المدرسه المهيمنة على الفكر الغربى حتى يومنا هذا ‪ .‬أما المدرسة‬

‫الواقعية فهى األقرب الى فهم الحضارات القديمة لقدسية اللغة ‪.‬‬

‫يمكننا أن نلمس نظرة انسان الحضارات القديمة للغة فى احدى محاورات أفالطون و يطلق عليها‬

‫"كراتيلوس" (‪ ,(Cratylus‬و هى تدور حول العالقة بين الكلمة و الجوهر الروحى ‪.‬‬

‫جاء فى هذه المحاورة أن القيمة الصوتية ألجزاء الكلمة سواء حروف متحركه أو ساكنه أو صامته‬

‫تعبر فى األصل عن مبادئ كونية و طاقات روحانية لها انعكاس فى العالم المادى ‪.‬‬

‫و الطبيعة كلها عبارة عن "صوت متجسد" ‪ ,‬فكل كائن مادى له نظيره الروحى الذى يتكون من‬

‫ذبذبات صوتيه ‪ ,‬تلك الذبذبات هى التى تحتويها الكلمة التى تستخدم فى االشارة الى ذلك الكائن ‪.‬‬

‫هناك اذن عالقة مباشرة بين األصوات التى ننطقها و بين األشياء التى تعبر عنها تلك األصوات ‪.‬‬

‫فاللغة فى األصل مقدسه ‪ ,‬و القيم الصوتية التى تحتويها الكلمة تعبر عن القوة االلهية الخالقة‬

‫الكامنة فى الصوت منذ األزل ‪ ,‬و التى أخرجت الكون للوجود بقوة الكلمة ‪ /‬الصوت ‪.‬‬

‫و أفكار أفالطون عن قدسية الكلمة هى األقرب الى فكر قدماء المصريين ‪.‬‬

‫كان قدماء المصريين يؤمنون ايمانا قويا بقدسية الكلمة و القوة االلهية الخالقة الكامنة فيها منذ األزل‬

‫‪- 234 -‬‬


‫فالكون أتى للوجود بقوة الكلمة التى نطق بها االله فى األزل ‪.‬‬

‫جاء فى نظرية منف لنشأة الكون أن الخلق تجلى بقدرة الصوت األزلى الذى نطقته قوى التاسوع ‪,‬‬

‫و الذين كانوا بمثابة الشفاه و األسنان فى الفم الذى نادى األشياء بأسمائها ‪ ,‬فأتت للوجود ‪.‬‬

‫رأى قدماء المصريين فى الصوت المادة الخام التى صنع منها الكون ‪.‬‬

‫لم تكن تلك مجرد تأمالت فلسفية ‪ ,‬و انما كانت حقيقة يعيشها قدماء المصريين و يعبرون عنها فى‬

‫طقوسهم السحرية ‪.‬‬

‫ان كل اسم أو فعل أو صفة اذا نطق بطريقة طقسية و بالترتيل الصحيح ‪ ,‬فانه يكتسب طاقة‬

‫روحانية ‪ .‬و اللغة المصرية القديمة هى لغة مقدسة ألنها تعكس التناغم التام بين التركيبة الصوتية‬

‫لكل كلمة و بين الجوهر الروحى الذى تعبر عنه ‪ ,‬بحيث يمكننا القول أن الكلمة كانت تستخدم‬

‫كوسيلة الستحضار القدرة االلهية التى خلقت بقوة الكلمة ‪.‬‬

‫و نحن ال نعرف فى العصر الحاضر على وجه اليقين كيف كان قدماء المصريين ينطقون لغتهم‬

‫المقدسه ‪ ,‬و خصوصا الحروف المتحركة ‪.‬‬

‫يقول الفيلسوف اليونانى "ايامبليكوس" (‪ – )Iamblichus‬وهو ليس الوحيد الذى أثار االنتباه لهذه‬

‫الحقيقة ‪ -‬أن اللغة المصرية القديمة كانت تخاطب المستوى الروحى للوجود ‪ ,‬و كانت تستحضر‬

‫القوى الكونية ألنها تخاطبهم بنفس لغتهم المقدسه ‪.‬‬

‫كان "ايامبليكوس" (‪ )Iamblichus‬يرى أن اللغة المصرية القديمة هى اللغة األلهية األصلية –‬

‫أى أنها أقرب الى العالم االلهى ‪ -‬أكثر من لغته األم "اليونانية" ‪.‬‬

‫بتأمل آراء "ايمبليكوس" حول اللغة المقدسة يتضح لنا الى أى مدى كانت نظرة انسان الحضارات‬

‫القديمة للغة تختلف عن نظرة انسان العصر الحديث لها ‪.‬‬

‫اذا كانت اللغة المصرية القديمة تستحضر جوهر األشياء – كما يقول ايمبليكوس – فمن المتوقع أن‬

‫تكون هى األساس الذى قامت عليه التعاويذ و الرقى و األكواد السحرية ‪ ,‬و اذا ما قام بترتيلها من‬

‫يمتلك "صوت الحق" ترتيال سليما ‪ ,‬فانها تقوم باستحضار القوى الروحانية التى تقع فيما وراء عالم‬
‫التجسد ‪.‬‬

‫‪- 235 -‬‬


‫و هناك العديد من القصص التى تحكى عن أفعال خارقة قام بها السحرة فى مصر القديمة ‪.‬‬

‫قد تبدو هذه الحكايات فى نظر الكثيرين مجرد حكايات خيالية ‪ .‬و لكن خلف األحداث الخيالية يكمن‬

‫المغزى العميق للقصص و الذى يعبر عن أحد المبادئ الكونية األساسية ‪ ,‬أال و هو القدرة الخالقة‬

‫الكامنة فى الصوت ‪.‬‬

‫كان تأهيل الساحر (كاتب بيت الحياه) فى مؤسسة بيت الحياه التابعة للمعبد يتضمن تدريبات صوتية‬

‫على كيفية ترتيل الكلمات ترتيال سليما ‪ ,‬بحيث يصبح صوت الساحر هو "صوت الحق" ‪ ,‬و هو‬

‫لقب ال يعطى اال لمن يمتلك مهارة فائقة فى الترتيل ‪ ,‬و هى مهارة ال تكتسب اال عن طريق‬

‫المعرفة العميقة بالقدرة االلهية الكامنة فى الصوت ‪.‬‬

‫كان على الساحر أن يعرف األسماء الحقيقية لألشياء ‪ ,‬و هى األسماء التى أطلقها ال "نترو"‬

‫(الكيانات االلهية ) على الموجودات فى األزل ‪ .‬و كانت معرفة االسم الحقيقى ضرورية من أجل‬

‫تفعيل طاقة الحكا (السحر) ‪.‬‬

‫على الساحر أن يغوص فى جوهر اللغة ‪ ,‬ذلك الجوهر االلهى ‪ ,‬و يحيط علما بالقوة االلهية‬

‫الغامضة الكامنة فى الصوت ‪.‬‬

‫لم يكن تحوت عند قدماء المصريين هو فقط مخترع الكلمة المكتوبة ‪ ,‬و لكنه هو أيضا رب الكلمة‬

‫المنطوقة ‪.‬‬

‫تحوت هو الذى نطق الصوت األزلى الذى تجسد فأصبح هو العالم المادى ‪ ,‬و هو الذى اخترع‬

‫الكتابة ‪.‬‬

‫فى مصر القديمة كانت هناك عالقة وثيقة بين الكلمة المكتوبة و الكلمة المنطوقة ‪.‬‬

‫فالشكل المكتوب يعبر بطريقة أخرى عن نفس القيمة الصوتية التى تحتويها الكلمة المنطوقة ‪.‬‬

‫لذلك فالكتابة المصرية القديمة "الهيروغليفية" (‪ )Hiero-glyph‬معناها النقش "المقدس ‪ /‬االلهى" ‪.‬‬

‫أن تصبح ماهرا فى الكتابة المقدسه "الهيروغليفية" معناه أن تطلع على أسرار العالقة بين‬

‫الشكل و الصوت و أن تعرف المغزى الذى يعبر عنه كل رمز هيروغليفى ‪.‬‬

‫‪- 236 -‬‬


‫و يقول عالم الكيمياء الفرنسى (‪ )Schwaller De Lubicz‬أن الكتابة الهيروغليفية هى الكتابة‬

‫األكثر قدرة على التعبير عن األلوهية و عن عالم الروح بما تحويه من أشكال و رموز ‪ ,‬يتوقف‬

‫ذلك على كيفية استخدام تلك الرموز و أوضاعها و كذلك ألوانها ‪.‬‬

‫و نجد مثاال على ذلك فى متون األهرام ‪ ,‬اذ نقرأ فى أحد النصوص التى نقشت فوق أحد حوائط‬

‫أهرامات األسرة السادسه ‪-:‬‬

‫*** أيها التاسوع العظيم الذى يسكن "ايونو" (هليوبوليس) ‪ ...‬آتوم ‪ ,‬و شو ‪ ,‬و تقنوت ‪ ,‬و جب ‪,‬‬

‫و نوت ‪ ,‬و أوزير ‪ ,‬و أيزيس ‪ ,‬و ست ‪ ,‬و نفتيس ‪ .....‬يا من خلقكم آتوم من ذاته ‪ ,‬بأن أتى للوجود‬

‫بذاته ‪ ...‬يا من أتى بكم آتوم للوجود بمشيئه قلبه ‪ ...‬يا من تحملون اسم "التاسوع" ‪ ...‬ال أحد‬

‫منكم بمعزل عن آتوم ***‬

‫مقتطف من نصوص األهرام (أسرة سادسه ‪ ,‬دولة قديمة)‬

‫اذا نظرت الى النص السابق و هو مكتوب بالهيروغليفية ‪ ,‬ثم تأملت الترجمة المقابلة له ‪ ,‬ستشعر أن‬

‫الترجمة "بلغتنا الحديثه" ساعدت فى نقل جزء من محتوى النص ‪ .‬و لكننا فى نفس الوقت نشعر أن‬

‫هناك معانى أخرى "خفية ‪ /‬باطنية" لم تستطع لغة الحروف األبجدية الحديثه نقلها الى عقولنا ‪.‬‬

‫ان النص المترجم الى لغتنا الحديثة يبدو نصا "ميتا" بالمقارنة بالنص الهيروغليفى األصلى ‪.‬‬

‫‪- 237 -‬‬


‫و مهما حاولنا تنميق ترجمتنا باستخدام ألفاظ شاعرية و تعبيرات أدبية فى محاوله لنقل المحتوى‬

‫الروحى الذى يتضمنه النص الهيروغليفى ‪ ,‬تظل ترجمتنا الحديثة خالية من الحياه ‪.‬‬

‫ان الترجمة الحديثة للنص الهيروغليفى هى نتاج عقلية تختلف تماما عن عقلية القدماء ‪ ,‬و هى‬

‫ترجمة تعنى بالظاهر و تخلو من الرمز و ال تحمل فى باطنها أسرارا ‪ ,‬و ال ينبعث منها ذلك‬

‫"الجالل" الذى ينبعث من النص الهيروغليفى ‪.‬‬

‫كانت الهيروغليفية تحظى بتبجيل قدماء المصريين ‪ ,‬و كانت فى نظرهم "لغة الهية‪/‬مقدسه" ؛ من‬

‫يطلع على أسرارها فقد اطلع على أسرار الكون ‪.‬‬

‫و نجد مثاال لذلك فى عبارة جاءت على لسان "أمنحتب ابن حابو" الذى عاش فى عصر الملك‬

‫أمنحتب الثالث (أسرة ‪ , 03‬دولة حديثه) ‪.‬‬

‫نقشت هذه العبارة على أحد تماثيل "أمنحتب ابن حابو" ‪ ,‬و يقول فيها ‪-:‬‬

‫*** أوتيت علم الكتاب االلهى ‪ ,‬و اطلعت على أسرار لغة تحوت (الهيروغليفية) ‪ ...‬و كشف لى‬

‫كل ما خفى من رموزها ***‬

‫و الكلمة المكتوبة لها نفس القوة السحرية للكلمة المنطوقة من حيث القدرة على استحضار القوى‬

‫الكونية التى تخاطبها الكلمة ‪.‬‬

‫الكلمة المكتوبة فى نظر قدماء المصريين هى كائن حي ‪ ,‬بل انها كانت تعامل معاملة الكائن الذى‬

‫تتحدث عنه ‪ ,‬فمثال عند قراءة بعض النصوص التى جاء فيها ذكر أسماء أعداء (و التى تصور على‬

‫شكل حيوانات خطرة) ‪ ,‬نجد أن اسم العدو قد رسم مبتورا أو وضع فوق صورته سكينا يقوم‬

‫بتقطيعه ‪.‬‬

‫فى الشكل التالى نرى مجموعة من الرموز الهيروغليفية التى تصور حيوانات خطرة و قد ظهرت‬

‫مبتورة أو مطعونة بخنجر أو مشطورة الى نصفين ‪ ,‬و الهدف من ذلك هو تجريدها من خطورتها ‪.‬‬

‫‪- 238 -‬‬


‫رموز هيروغليفية ألسماء أعداء على شكل حيوانات خطرة و قد نقشت األسماء مبتورة أو‬
‫مطعونة بالخناجر‬

‫هذا األسلوب فى التعبير يدل على أن المصرى القديم كان يرى فى الرمز صورة حية ‪.‬‬

‫رأى المصرى القديم فى الكلمة المكتوبة "كائن حى" ‪ ,‬ألنها تقوم باستحضار جوهر الشئ الذى‬

‫تتحدث عنه ‪ .‬لذلك كان من المعتقدات الشائعة فى مصر القديمة أن أى شخص يكون بحوزته نص‬

‫مقدس فانه يكتسب الطاقة الروحانية لألشياء التى يتحدث عنها النص ‪ ,‬حتى و ان كان غير قادر‬

‫على قراءة ما فيه من كلمات و ادراكها ادراكا عقليا ‪.‬‬

‫ذلك أن الكلمات المنقوشة فى المخطوط تقوم بالفعل باستحضار جوهر الشئ الذى يتحدث عنه النص‬

‫المقدس ‪ ,‬و تجعل من بحوزته المخطوط فى حالة اتصال مباشر بالجوهر الذى تحتويه الكلمات‬

‫المكتوبه ‪.‬‬

‫الطقوس المقدسه ‪-:‬‬

‫باالضافة الى الصور المقدسه ‪ ,‬و الكلمات المقدسه ‪ ,‬يحتاج تفعيل طاقة ال "حكا" (السحر) أيضا‬

‫الى "الطقوس المقدسه" ‪.‬‬

‫ان ما يجعل أى فعل يقوم به االنسان فعال مقدسا (أى طقسا مقدسا) هو أن يكون محتواه روحانيا ‪.‬‬

‫و كما تقوم الصور المقدسه و الكلمات المقدسه باستحضار الطاقة من عالم الروح ‪ ,‬كذلك يمكن‬

‫لالنسان أن يقوم بذلك عن طريق حركات و ايماءات معينة ‪.‬‬

‫‪- 239 -‬‬


‫تقوم الحركات الطقسية فى تلك الحالة بدور الوسيط أو القناه لنقل الطاقة بين عالمين أو بعدين من‬

‫أبعاد الكون ‪.‬‬

‫و الحركات أو االيماءات المقدسه هى الحركات التى يقوم بها االنسان بطريقة طقسية ‪.‬‬

‫و هنا يبرز سؤال مهم ‪ :‬ما الذى يجعل حركة أو ايماءة معينة دون غيرها تتحول الى طقس أو‬

‫شعيرة مقدسه ؟‬

‫ان ما يجعل الحركة أو االيماءة التى يقوم بها االنسان طقسا أو شعيرة مقدسه هو أن تكون تلك‬

‫الحركة أو االيماءة خالية تماما من األنا و الشخصانية (‪. )ego‬‬

‫فالطقس المقدس ليس هدفه التعبير عن شخصية من يقوم به ‪.‬‬

‫و عند تأمل حركة أو سلسلة من الحركات و االيماءات الطقسية فى الفن المصرى القديم نجد أن من‬

‫يقوم بها ال يعبر عن شخصيته أثناء القيام بتلك الطقوس ‪ ,‬و انما يتحول بجسده الى قناه أو مركبة يتم‬

‫من خاللها تفعيل طاقة ال "حكا" (السحر) ‪.‬‬

‫‪- 240 -‬‬


‫مجموعة من الحركات و االيماءات الطقسية ‪ ,‬كل منها يحمل مغزى يختلف عن اآلخر ‪ ,‬و هى‬
‫بالترتيب ‪-:‬‬

‫الصف األعلى (من اليمين لليسار) ‪ :‬تقدمة‪/‬قربان ‪ ,‬ابتهاج القلب ‪ ,‬الخشوع و التسليم‬

‫الصف األسفل (من اليمين لليسار) ‪ :‬تقدمة‪/‬قربان ‪ ,‬تبجيل‪/‬تقديس ‪ ,‬التحيات‬

‫عندما يقوم "الكاهن ‪ -‬الساحر" بطقس ما ‪ ,‬فهو فى الحقيقة يجعل من جسده عالمة هيروغليفية تعمل‬

‫على استحضار الطاقة من عالم الروح ‪.‬‬

‫و الفن المصرى القديم ملئ بالمشاهد التى تصور العديد من الحركات الطقسية التى كان يقوم بها‬

‫الكهنة الستحضار طاقة ال "حكا" ‪ ,‬و عند تأمل تلك المشاهد علينا أن ندرك أن السر يكمن فى أن‬

‫تلك الحركات ال تعبر عن شخصية من يقوم بها ‪ ,‬و انما العكس هو الصحيح ‪ .‬ففى تلك الطقوس‬

‫‪- 241 -‬‬


‫تسقط شخصية الكاهن الذى يقوم بالطقس و ال يعد لها وجود ‪.‬‬

‫فى الطقوس و الشعائر يتحول الكاهن نفسه الى قناه أو صورة مقدسة "أيقونه" مفعمة بالرموز ‪.‬‬

‫و لما كان الملك فى مصر القديمة يقف على قمة هرم المعرفة الروحانية و هو كبير الكهنة‬

‫و السحرة لذلك كانت كل تفاصيل حياة الملك اليومية هى عبارة عن سلسلة من الطقوس المقدسه ‪.‬‬

‫يقول "ديودور الصقلى" أن حياة الملك فى مصر القديمة كانت تتبع نظاما صارما ‪ ,‬فال تكاد تخلو‬

‫ساعة من ساعات الليل أو النهار من طقس من الطقوس المقدسه التى كان يجب على الملك القيام بها‬

‫‪ ,‬و هى من واجبات عمله كملك و ال يمكنه أبدا اهمالها ‪ .‬لم يكن هناك شئ فى حياة الملك ال يخضع‬

‫لذلك النظام الصارم للطقوس بما فى ذلك حريته فى أن يتنزه أو أن يغتسل أو حتى يعاشر زوجته ‪.‬‬

‫و برغم أن ما يقوله ديودور الصقلى قد يكون صحيحا فى زمنه ‪ ,‬اال أنه ال يعبر عن موقف قدماء‬

‫المصريين الحقيقى من الطقوس الدينية ‪.‬‬

‫فأى فعل ال يؤدى طقسيا هو مجرد عمل بشرى دنيوى ‪ ,‬أما عند القيام بالطقوس فاالنسان يتحول‬

‫من مجرد شخص الى وسيط أو قناه للقوى االلهية ‪.‬‬

‫ان الهدف من الطقوس و الشعائر هو استحضار تلك القوى االلهية ‪ ,‬لذلك فان الطقس المقدس يؤدى‬

‫فى الحقيقة على المستوى المادى ‪ ,‬و فى نفس الوقت على المستوى الروحى أيضا ‪.‬‬

‫تحدث الطقوس المقدسه فى عالم الروح و هو عالم ال "نترو" (الكيانات االلهية) ‪ ,‬لذلك البد أن‬

‫تكون ال "نترو" شاهدة على تلك الطقوس و مشاركة فيها أيضا ألن تلك المشاركة هى ما يجعل‬

‫الطقوس "مقدسه"‪.‬‬

‫لذلك كان قدماء المصريين و غيرهم من شعوب العالم القديم يعتقدون أن ما يقومون به من طقوس‬

‫مقدسه لم يكن هدفه خير شعبهم أو أمتهم فقط ‪ ,‬و انما هدفه خير االنسانية كلها ‪ ,‬بل و الكون كله ‪.‬‬

‫و ما زال شعب قبائل الكوجى (‪ )Coggi‬بشمال كولومبيا الى يومنا هذا يحتفظ بذلك الموروث‬

‫الثقافى ‪ ,‬و هو االعتقاد بأنهم يقومون بالطقوس المقدسه من أجل االنسانية كلها ‪ ,‬و ليس لخير شعب‬

‫أو أمة واحدة فقط دون باقى األمم ‪.‬‬

‫‪- 242 -‬‬


‫على سبيل المثال ‪ ,‬كانت طقوس تتويج ملك مصر من الطقوس المقدسه التى تعبر عن مفاهيم كونية‬

‫و ليس عن شخصية الملك ‪ .‬و نجد مثاال لذلك فى أنشودة كتبت احتفاال باعتالء الملك مرنبتاح عرش‬

‫مصر ‪ ,‬و قد وصفت حال العالم بعد ذلك الحدث بالوصف اآلتى ‪-:‬‬

‫** أصبح الماء وفيرا‬

‫** و ارتفع منسوب الفيضان‬

‫** أصبح اليوم أطول (انتصر النور على الظالم)‬

‫** و أصبح لليل ساعات‬

‫** صارت الشهور تأتى فى مواعيدها‬

‫** ابتهجت ال "نترو" (الكيانات االلهية) و قرت أعينها‬

‫** صارت الحياه مليئة بالبهجة و السعاده‬

‫يقول هنرى فرانكفورت أن مثل هذه الطقوس الخاصة بتتويج الملك و غيرها (مثل طقوس اقامة‬

‫عامود الجد) ليست مجرد طقوس رمزية ‪ ,‬و انما هى طقوس عملية ترتبط بأحداث كونية يشارك‬

‫فيها االنسان مشاركة فعالة ‪ .‬فالطقوس المقدسه هى الدور الذى يقوم به االنسان فى أحداث كونية‬

‫هامة ‪.‬‬

‫اعتقد انسان الحضارات القديمة أن لالنسان دور هام فى أحداث الكون ‪ ,‬و هو دور ال يقل عن دور‬

‫ال "نترو" ‪ .‬و هو ما يفسر لنا بعض النصوص التى يخاطب فيها الساحر ال "نترو" خطابا يتسم‬

‫بالندية أحيانا و بجنون العظمة أحيان أخرى ‪ ,‬بل و قد يصل األمر الى تهديد ال "نترو" اذا لم‬

‫تستجب للساحر ‪.‬‬

‫كان الساحر فى مصر القديمة على دراية بالعالقة المتشابكة و بالتداخل بين عالم الروح (العالم‬

‫االلهى) و بين العالم المادى الذى يعيش فيه االنسان ‪ .‬فلم يكن القدماء يرونهما عالمين منفصلين كما‬

‫نفعل نحن فى العصر الحاضر ‪.‬‬

‫و دور الساحر هو أن يكون فى حالة "اتصال ‪ /‬صلة ‪ /‬صاله" دائمة بالعالم االلهى ‪ /‬عالم الروح‬

‫‪- 243 -‬‬


‫و يجعل من نفسه قناه تنتقل عن طريقها القوى االلهية الى عالمنا ‪.‬‬

‫ان العالم الذى يحيا فيه الساحر هو عالم روحى فى المقام األول ‪ , ,‬ثم يليه فى المرتبة عالم الماده ‪.‬‬

‫و وظيفة الساحر هى أن يخاطب عالم الروح بالطقوس السحرية و يستحضره ليقيم دائما الجسر‬

‫و الصله بين الروح و الماده ‪.‬‬

‫‪- 244 -‬‬


‫الفصل السابع‬
‫ممارسة السحر‬

‫هناك العديد من التقنيات و األساليب التى كان قدماء المصريين يتبعونها لتفعيل طاقة ال "حكا"‬

‫(السحر) ‪ ,‬كما جاء فى النصوص المصرية القديمة ‪.‬‬

‫سنناقش فى هذا الفصل خمسه من أهم تلك الساليب ‪ ,‬و من خاللها سيتضح لنا كيف كان قدماء‬

‫المصريين يوظفون العناصر التى تحدثنا عنها فى الفصل السابق لتفعيل طاقة السحر ‪.‬‬

‫استدعاء الزمن األول ‪-:‬‬

‫يقف استدعاء الزمن األول فى بؤرة الممارسات السحرية فى مصر القديمة ‪.‬‬

‫و الزمن األول فى الفلسفة المصرية هو العالم األزلى الذى تسكنه الكيانات االلهية و التى تشكل‬

‫أفعالها "الصور األولية ‪ /‬األصل ‪ /‬الجوهر" لكل ما يتجسد فى عالمنا ‪.‬‬

‫الزمن األول هو عالم األسطورة ‪ ,‬و هو عالم الجوهر الروحى األقوى و األسمى من كل ما هو‬

‫مادى ‪.‬‬

‫و عند مزج حدث دنيوى بحدث وقع فى الزمن األول ‪ ,‬يصبح للحدث الدنيوى مغزى أسمى ‪.‬‬

‫يحدث ذلك من خالل طقس استحضار يتم فيه استدعاء عالم الصور األولية األسمى الى عالمنا‬

‫المادى ليغمره بالطاقة الروحانية ‪.‬‬

‫أو بعبارة أخرى ‪ ,‬يتم اسقاط العالم الدنيوى داخل عالم الصور األولية ليمتزج الحدث الدنيوى الزائل‬

‫بالحقيقة الروحانية الخالدة ‪.‬‬

‫و ايا كانت طريقة تعريفنا لذلك الطقس ‪ ,‬فنحن هنا أمام نفس الطقس السحرى ‪ ,‬أال و هو وصل‬

‫العالم السماوى بالعالم األرضى ‪.‬‬

‫‪- 245 -‬‬


‫و هناك العديد من األمثلة على طقس استحضار الزمن األول فى الشعائر الملكية ‪.‬‬

‫و الملك فى مصر القديمة هو كيان الهى متجسد ‪ ,‬و بالتالى فهو يحيا فى عالمين فى نفس الوقت ‪,‬‬

‫فى العالم السماوى و فى العالم األرضى ‪ .‬و لذلك يتوقع منه الشعب أن تاتى أفعاله تعبيرا عن‬

‫االمتزاج و التداخل بين العالمين ‪.‬‬

‫و كما رأينا فى الفصل الخامس ‪ ,‬كان ظهور الملك فى المراسم و المناسبات الدينية يوصف بأنه‬

‫"تجلى" أو "اشراق" ‪ ,‬و هو نفس الفعل الذى يستخدم لوصف تجلى "رع" فوق التل األزلى عند بدء‬

‫الخليقة ‪ .‬أى أن تجلى الملك قد اندمج رمزيا مع ميالد "رع" و تجليه فى الزمن األول ‪.‬‬

‫فى المشهد التالى صور الفنان المصرى القديم تجلى الملك توت عنخ آمون فوق عرشه أمام "حوى"‬

‫حاكم أثيوبيا الذى وقف أمامه و قد غض طرفه و نظر لألرض و كأنه أمام شمس ساطعة ‪.‬‬

‫‪- 246 -‬‬


‫تجلى الملك "توت عنخ آمون" ‪ ,‬كما يتجلى "رع"‬

‫( من مقبرة "حوى" ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه)‬

‫و كما تحمى حية الكوبرا قرص الشمس الذى يحمله "رع" فوق رأسه ‪ ,‬كذلك تحمى الكوبرا جبين‬

‫ملوك مصر ‪.‬‬

‫و كما تحمل الكيانات االلهية مفتاح الحياة "عنغ" لتنقل به الطاقة من عالم الروح للعالم المادى ‪,‬‬

‫كذلك يمسك الملك فى يده اليمنى بمفتاح الحياة ‪.‬‬

‫‪- 247 -‬‬


‫يجلس الملك فى مقصورته التى يعلوها صف من حيات الكوبرا ‪ ,‬و تحت عرشه طائر ال "ريخيت"‬
‫الذى يرمز للرعية ‪.‬‬

‫و أمام الملك ألقابه ‪" :‬ملك مصر العليا و السفلى" ‪" ,‬رع ‪ ,‬رب كل شئ" ‪" ,‬ابن رع" ‪.‬‬

‫و الملك فى هذا المشهد هو صورة "رع" على األرض ‪.‬‬

‫و فى بردية "أناستازى" (‪ )Anastasi‬التى تعود لعصر الرعامسه (دولة حديثة) نقرأ عبارات‬

‫موجهة للملك و نالحظ أنها تخاطبه باعتباره شمس االنسانية ‪-:‬‬

‫*** أدر وجهك نحوى أيها الملك ‪ ...‬أيها الشمس المشرقة التى تنير األرضين بجمالها ‪ ...‬يا شمس‬

‫االنسانية التى تزيح الظلمة من أرض مصر ***‬

‫و النص السابق ليس مجاملة أو تملق ‪ ,‬و انما هو كود يخدم هدفا معينا و يؤدى وظيفة سحرية ‪.‬‬

‫عند قراءة النصوص المصرية القديمة نالحظ أن هناك دائما مزج بين فكرة الخلق و الشروق‬

‫األزلى للشمس (خلق النور) و بين دور الملك ‪.‬‬

‫هناك دائما صلة وثيقة بين الملك و بين عالم الكيانات االلهية األزلى و خصوصا رب الشمس‪/‬النور‬

‫"رع" الذى تنبثق منه طاقة الحياة ‪ .‬و لكى يقوم الملك بدور "رع" على األرض كان عليه القيام‬

‫بطقوس معينة ‪.‬‬

‫يبدأ الملك يومه بطقس يطلق عليه طقس االغتسال أو التطهر ‪ .‬يستيقظ الملك قبل الفجر و يغتسل‬

‫و يطلق حوله البخور ‪ ,‬ثم يضع فى فمه بعض حبات من ملح النطرون لتطهيره ‪.‬‬

‫و كل هذ األفعال هى جزء من الطقوس السحرية ‪ ,‬ألنها تتزامن مع حدث ميثولوجى كونى و هو‬

‫ميالد "رع" مجددا ‪ .‬فحين يغمر جسد الملك بالماء داخل البحيرة المقدسة فهو بذلك يحاكى "رع"‬

‫قبل خروجه مباشرة من مياه األزل "نون" ‪ .‬و عند اطالق البخور حول الملك يتحول فى تلك‬

‫اللحظة الى "حور آختى" ‪ ,‬أى حورس األفق ‪.‬‬

‫و فى اللحظة التى يطهر فيها فمه بملح النطرون يولد من جديد فى العالم السماوى ‪.‬‬

‫ثم يعقب ذلك صعود الملك لدرجات سلم "بيت الصباح" فى نفس لحظة شروق أبيه "رع" فى السماء‬

‫و كما تتطهر الشمس و تولد من جديد كل صباح فى المعبد السماوى (آخت) الذى يقع تحت خط‬

‫‪- 248 -‬‬


‫األفق الشرقى ثم تصعد الى السماء ‪ ,‬كذلك يمر الملك بنفس التحوالت كل يوم ‪ ,‬و ذلك من خالل‬

‫الطقوس ‪.‬‬

‫كان اغتسال الملك و تطهره كل صباح طقس مقدس ينقله الى الزمن األول ‪ ,‬و بذلك يتصل العالم‬

‫الدنيوى بالعالم االلهى الخالد من خالل دور الملك الذى يعتبر انعكاس لصورة "رع" على األرض ‪.‬‬

‫لم يكن طقس االغتسال اليومى هو الطقس الوحيد الذى يقوم به الملك من أجل وصل العالم المادى‬

‫بعالم الروح ‪ ,‬فهناك العديد من الطقوس األخرى التى يقوم فيها الملك بمحاكاة أحداث كونية أو‬

‫سماوية على األرض لكى يصير العالم األرضى صوة مرآه من العالم السماوى "كما فوق ‪ ,‬كما‬

‫تحت" ‪.‬‬

‫بممارسة تلك الطقوس يكتسب منصب الملكية قوته االستثنائية ‪.‬‬

‫كان ذلك النوع من الطقوس السحرية التى يقوم فيها االنسان بأفعال تحاكى أحداثا أسطورية شرطا‬

‫أساسيا لنجاح منصب الملكية فى القيام بدوره ‪.‬‬

‫يمكننا أن نصف تلك الممارسات السحرية بأنها "سحر الدولة" أى ممارسة السحر كجزء من تدبير‬

‫شئون الدولة ‪.‬‬

‫احتل السحر أهمية كبرى فى ادارة شئون الدولة فى مصر القديمة ‪ ,‬و التى لم تكن تقتصر فقط على‬

‫االدارة السياسية و االقتصادية و انما تهدف فى المقام األول القامة الماعت (النظام) على األرض ‪.‬‬

‫كان تعريف الملك بأنه رع أو ابن رع أو صورة رع على األرض أحد أهم األمثلة على ممارسة‬

‫سحر الدولة ‪.‬‬

‫و أثناء الحروب كان الكهنة فى مصر القديمة ينهمكون فى ممارسة طقوس سحرية ‪.‬‬

‫فى هذه الطقوس يتعامل الكهنة مع العدو باعتباره "عبيب" (أبوفيس) ‪ ,‬ثعبان الظالم و الفوضى ‪,‬‬

‫و هو العدو األول ل "رع" فى العالم السفلى ‪.‬‬

‫و ليس من المستبعد أن الكهنة قاموا بمثل تلك الطقوس أثناء معركة قادش التى خاضها الملك‬

‫رمسيس الثانى ‪.‬‬

‫‪- 249 -‬‬


‫يمثل أبوفيس قوى الفوضى الكونية و عوامل الهدم و التحلل التى يزيحها "رع" أثناء ارتحاله فى‬

‫العالم السفلى بشكل دورى ‪.‬‬

‫ان انتصار "رع" على "أبوفيس" هو حدث ميثولوجى (أسطورى) ‪ ,‬أو بعبارة أخرى هو حقيقة‬

‫أزلية تنتمى للزمن األول ‪ ,‬الزمن الذى خلقت فيه الصور األولية لكل ما سيتجسد فى العالم المادى ‪.‬‬

‫يقوم الكهنة بربط أعداء مصر بأبوفيس بطريقة سحرية و بذلك تصبح هزيمتهم على يد ملك مصر‬

‫حتمية ‪ ,‬ألن أبوفيس ال ينجح أبدا فى مسعاه لتقويض النظام الكونى و انما يهزم على يد "رع" بشكل‬

‫دورى ‪.‬‬

‫عند قراءة النصوص العديدة التى تناولت معركة قادش ال نعثر على ذكر صريح لممارسة طقوس‬

‫سحرية ‪ .‬و لكن بوجه عام كانت المشاهد و النصوص التى تناولت المعركة تهدف لدمج الحدث‬

‫التاريخى و هو معركة قادش فى أحداث الزمن األول أو بعبارة أخرى كانت تهدف ألسطرة التاريخ‬

‫(أى تحويل التاريخ الى أسطورة) ‪ ,‬و لكى يحدث ذلك االندماج بين العالم الدنيوى و الزمن األول‬

‫كان على الكهنة القيام بسلسلة من الطقوس السحرية ‪ ,‬و منها تشكيل تمثال ألبوفيس أو صنع صورة‬

‫تمثله و فى نفس الوقت تمثل أعداء مصر ‪ .‬ثم يقوم الكهنة بضرب التمثال و طعنه بالخناجر‬

‫و البصق عليه ثم حرقه أثناء ترتيل نص سحرى يطلق عليه "نص ازاحة ثعبان أبوفيس" ‪ ,‬و فيه‬

‫نقرأ هذه العبارات ‪-:‬‬

‫*** الى الخلف أيها العدو ‪ ...‬ان نور "رع" يخترق الظلمة ‪ ...‬لقد بدد "رع" كلماتك (قوتك) ‪...‬‬

‫و ضربتك الكيانات االلهية فسقطت مكبا على وجهك ‪ ...‬لقد مزق النمر قلبك ‪ ...‬و قيدك العقرب‬

‫باألغالل ‪ ...‬ان الماعت غصة فى حلقك و هى سبب آالمك ‪ ...‬اسقط يا أبوفيس يا عدو "رع"‬

‫و ابتعد عن طريقه ***‬

‫فى كتاب ال "أمدوات" (وصف ما هو كائن فى العالم اآلخر) هناك مشهد يعبر عن فحوى ذلك‬

‫الطقس السحرى ‪ .‬و فيه نرى "سلكيت" (الربة العقرب) و هى تقوم بتكبيل أبوفيس باألغالل فى‬

‫العالم السفلى و تساعدها ربة أخرى تمسك بذيله لتتحكم فى حركته ‪.‬‬

‫‪- 250 -‬‬


‫تقوم "سلكيت" بطعن أبوفيس بالخناجر فى ستة مواضع من جسده و بذلك تفقده قوته ‪.‬‬

‫ثعبان الفوضى و الظالم "أبوفيس" مقيدا باألغالل و مطعونا بالخناجر‬

‫الفصل السابع من كتاب ال "أمدوات" (وصف ما هو كائن فى العالم اآلخر)‬

‫( من مقبرة الملك رمسيس السادس ‪ ,‬أسرة ‪ , 22‬دولة حديثه )‬

‫لم يقتصر استدعاء الزمن األول على سحر الدولة فقط ‪ ,‬انما كان جزءا أساسيا من الممارسات‬

‫السحرية بوجه عام ‪ ,‬و منها على سبيل المثال الطقوس السحرية الطبية ‪.‬‬

‫جاء فى األسطورة أن حورس جرح جرحا خطيرا أثناء صراعه مع ست و لكنه شفى بفضل سحر‬

‫أمه ايزيس ‪ .‬و هذ الحدث األسطورى هو الصورة األولية أو النموذج االلهى الذى يستخدمه الطبيب‬

‫الساحر لشفاء المريض المصاب بجراح مثل جراح حورس ‪.‬‬

‫يقوم الساحر بتضميد الجراح لفترة ‪ ,‬و أثناء فك الضمادات يخاطب "الطبيب – الساحر" المريض‬

‫باعتباره حورس و يرتل نصوصا سحرية تعيد سرد ما وقع لحورس فى الزمن األول ‪ ,‬و منها على‬

‫سبيل المثال هذا النص الذى يقول ‪-:‬‬

‫*** ها هو حورس ‪ ,‬و قد فكت ضماداته على يد أمه ايزيس ‪ ...‬لقد شفى حورس من كل ما فعله به‬

‫ست ‪ ,‬الذى قتل أباه أوزير ***‬

‫و بعد ذلك يبدأ المريض فى االبتهال اليزيس العظيمة فى السحر (ويريت ‪ -‬حكاو) قائال ‪-:‬‬

‫‪- 251 -‬‬


‫*** يا ايزيس ‪ ,‬يا عظيمة السحر ‪ ...‬انزعى عنى الضمادات ‪ ...‬و طهرى جسدى من الشر و من‬

‫األشياء الحمراء ( رمز المرض ) ‪ ...‬اشفى جسدى من كل مرض ذكرا كان أو أنثى ‪ ...‬و من‬

‫الموت ذكرا كان أو أنثى ‪ ...‬و احرسينى من كل عدو يهاجمنى ذكرا كان أم أنثى ***‬

‫و فى هذا االبتهال يتقمص المريض دور حورس و يخاطب ايزيس باعتبارها أمه ‪.‬‬

‫و هناك مثال آخر على استدعاء الزمن األول فى الممارسات السحرية الطبية ‪.‬‬

‫جاء فى األسطورة أيضا أن ايزيس تركت ابنها حورس الطفل وحده فى البيت فى يوم ما و خرجت‬

‫و عند عودتها وجدت البيت يحترق و قد تعرض الطفل حورس لحروق شديدة فى جسده ‪.‬‬

‫لم تجد ايزيس ماء لتطفئ به النار فأطفأتها باللبن الذى فى صدرها ‪ .‬لذلك كان الطبيب الساحر فى‬

‫مصر القديمة يستدعى ذلك الحدث األسطورى عند قيامه بعالج الحروق ‪.‬‬

‫لم يكن األطباء يكتفون فقط بسرد الحدث األسطورى و انما كانوا يقومون باستخدام لبن أم وضعت‬

‫طفال ذكرا فى تركيب مستحضرات طبية لعالج الحروق ‪.‬‬

‫يصور المشهد التالى وعاء فخار على هيئة سيدة تحمل طفال و ترضعه من ثدى بينما تضغط بيدها‬

‫على الثدى اآلخر لتجمع منه قدرا من اللبن ‪ .‬صمم هذا الوعاء لحفظ لبن السيدات الستخدامه فى‬

‫أغراض طبية و على رأسها عالج الحروق ‪.‬‬

‫‪- 252 -‬‬


‫وعاء على شكل سيدة ترضع طفال‬

‫و مثل هذه األوعية كانت تستخدم لحفظ لبن األمهات الستخدامه فى أغراض طبية‬

‫(متحف اللوفر ‪ ,‬باريس)‬

‫و هناك العديد من األمثلة األخرى التى توضح لنا كيفية استدعاء أحداث الزمن األول و مزجها‬

‫باألحداث الدنيوية من أجل خير االنسانية ‪.‬‬

‫يكمن سر فاعلية مثل هذه الطقوس و الممارسات فى استيعاب حقيقة هامة و هى أن عالم األسطورة‬

‫هو عالم الجوهر ‪ .‬الزمن األول هو المستودع الذى تكمن فيه أسباب و جذور كل ما يحدث فى‬

‫عالمنا الدنيوى الزائل ‪ .‬باقامة جسور الصلة بين العالم المادى و عالم األسطورة (من خالل الطقوس‬

‫السحرية) يحدث تحول للعالم األدنى و يرتقى ليصير مفعما بالحضور الروحى ‪.‬‬

‫‪- 253 -‬‬


‫تقمص شخصية الكيانات االلهية ‪-:‬‬

‫و هناك تقنية أخرى ترتبط ارتباطا وثيقا باستحضار الزمن األول ‪ ,‬و هى تقمص شخصية أحد‬

‫الكيانات االلهية التى تنتمى للزمن األول ‪.‬‬

‫و كما رأينا فى طقس ازاحة ثعبان أبوفيس ‪ ,‬كان نجاح الطقس يعتمد على تقمص األعداء شخصية‬

‫أبوفيس و على تقمص الملك شخصية "رع" الذى ينتصر دائما على أبوفيس أثناء ارتحاله فى العالم‬

‫السفلى ‪.‬‬

‫و اذا لم يحدث التقمص بالشكل السليم كما تقتضى الطقوس السحرية فان استدعاء حدث انتصار‬

‫"رع" على أبوفيس سيكون بال جدوى ‪.‬‬

‫و باالضافة الى سحر الدولة ‪ ,‬نجد أن تقنية تقمص شخصية الكيانات االلهية كانت ضرورية لكل‬

‫ساحر يرغب فى استحضار الطاقة الروحانية من أحد ال "نترو" ‪.‬‬

‫تترجم كلمة "نتر" (و جمعها "نترو") عادة بمعنى اله ‪ ,‬و هى فى الحقيقة ترجمة غير دقيقة ألن هذه‬

‫الكلمة تحمل معانى أعمق و أعقد من كلمة اله فى ثقافات أخرى مثل آلهة اليونان و الرومان على‬

‫سبيل المثال ‪.‬‬

‫و أقرب ترجمة للمعنى الحقيقى لكلمة "نتر" فى مصر القديمة هى كلمة "مبدأ كونى" أو "كيان‪/‬تجلى‬

‫الهى" ‪.‬‬

‫فى الشكل التالى نرى أنوبيس رب التحنيط و هو ينحنى فوق مومياء أثناء اشرافه على تحنيطها ‪,‬‬

‫و قد تكرر هذا المشهد فى العديد البرديات و النقوش المصرية القديمة و خصوصا فى عصر الدولة‬

‫الحديثه ‪ ,‬لدرجة أنه صار من أشهر المشاهد ‪.‬‬

‫‪- 254 -‬‬


‫أنوبيس ينحنى فوق مومياء أثناء تحنيطها‬

‫( من احدى برديات عصر الدولة الحديثه )‬

‫أصبح المشهد يتكرر دائما مصحوبا بتعليق يقول أن أنوبيس يميل فوق المومياء أثناء تحنيطها ‪.‬‬

‫و لكننا اذا تأملنا المشهد لوهلة سندرك أن من يقوم بعملية التحنيط هو فى الحقيقة كاهن ‪ ,‬و ليس‬

‫الكيان االلهى أنوبيس ‪ .‬أو ربما يكون هو الكيان االلهى أنوبيس ؟!‬

‫فى مراحل معينة من التحنيط كان كهنة أنوبيس يرتدون قناعا على شكل "ابن آوى" ‪ ,‬و هو الحيوان‬

‫الذى اتخذه قدماء المصريين رمزا ألنوبيس ‪ .‬و قد عثر علماء اآلثار على أحد تلك األقنعة ‪ ,‬و هو‬

‫يعود لعصر األسرة ‪ , 20‬دولة حديثه ‪.‬‬

‫و لكن تقاليد ارتداء قناع أنوبيس لم تنشأ فى عصر الدولة الحديثه و انما هى تعود الى أقدم من ذلك‬

‫بكثير ‪.‬‬

‫فى المشهد التالى (من العصر المتأخر) يظهر أحد الكهنة و هو يرتدى قناع أنوبيس و يقوم بدور‬

‫المرشد لكاهن آخر ‪.‬‬

‫‪- 255 -‬‬


‫كاهن يرتدى قناع أنوبيس و يقوم بدور المرشد لكاهن آخر (من العصر المتأخر)‬

‫كان ارتداء قناع ابن آوى يهدف لمساعدة الكاهن على تقمص شخصية أنوبيس بشكل أعمق ‪.‬‬

‫حين ننظر الى مشاهد الطقوس الجنائزية فى مصر القديمة و نرى صورة أنوبيس علينا أن نتذكر‬

‫أننا فى الغالب أمام كاهن يتقمص شخصية أنوبيس و يعزز ذلك التقمص بارتداء قناع ابن آوى ‪.‬‬

‫على سبيل المثال ‪ ,‬يصور المشهد التالى أحد أهم الطقوس الجنائزية و هو طقس فتح الفم ‪ ,‬و فيه‬

‫تقف المومياء فى وضع رأسى و هى تستند على أذرع رجل برأس ابن آوى ‪.‬‬

‫‪- 256 -‬‬


‫كاهن يرتدى قناع أنوبيس و يقوم بدوره فى طقوس فتح الفم‬

‫( من بردية "حو نفر" ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫يمكننا أن ننظر الى ذلك الشخص الذى يقف وراء المومياء باعتباره أنوبيس متجسدا فى هيئة بشرية‬

‫بعبارة أخرى ان الكاهن قد مر بتغيرات خيميائية سحرية حولته من انسان الى الكيان االلهى أنوبيس‬

‫و فى هذه الحالة ليس هناك فرق كبير بين أن نقول أن ذلك الشخص الواقف خلف المومياء هو‬

‫كاهن يرتدى قناع أنوبيس أو أن نقول أنه هو أنوبيس نفسه ‪ ,‬ألن الكاهن عند تقمصه شخصية أحد‬

‫الكيانات االلهية يصبح صورة من ذلك الكيان االلهى ‪.‬‬

‫و هذا المثال يجعلنا نتساءل اذا كانت الكيانات االلهية التى تظهر فى الفن المصرى القديم فى صورة‬

‫بشرية أو نصف بشرية (بجسم انسان و رأس حيوان) هم فى الحقيقة بشر تقمصوا شخصية كيانات‬

‫الهية و مروا بتغيرات سحرية حولتهم الى الكيانات االلهية التى نراها فى تلك المشاهد !‬

‫و لكنى هنا ال أعنى أن كل مشاهد الكيانات االلهية فى الفن المصرى القديم كانت لبشر يرتدون‬

‫أقنعة ‪.‬‬

‫‪- 257 -‬‬


‫فبرغم أن ارتداء األقنعة كان جزءا من تقنية تقمص شخصية الكيانات االلهية ‪ ,‬اال أن ارتداء القناع‬

‫لم يكن هو الوسيلة الوحيدة لالتصال بالقدرة االلهية التى تتجلى فى كيان ما من الكيانات االلهية ‪.‬‬

‫رأينا فى الفصل السادس أن قدماء المصريين كانوا ينظرون للغتهم المقدسه باعتبارها وسيط أو‬

‫همزة وصل بالقوى االلهية ‪ .‬تعبر هذه القوى االلهية عن نفسها من خالل الصوت و الصورة‬

‫الرمزية لكل حرف من الحروف الهيروغليفية ‪.‬‬

‫فبمجرد نطق اسم أحد الكيانات االلهية أو اطالقه بطريقة طقسية على شخص ما ‪ ,‬يصبح ذلك‬

‫الشخص داخل مجال طاقة ذلك الكيان االلهى ‪.‬‬

‫على سبيل المثال ‪ ,‬هناك مشاهد بمعبد آمون رع بطيبة تصور ايزيس و نفتيس أثناء انشاد ابتهاالت‬

‫ل "رع" ‪ .‬و من يقوم باالنشاد بالفعل فى طقوس المعبد ليس ايزيس و نفتيس و انما كاهنتان ترتديان‬

‫الشعر المستعار و تمسكان بالدفوف ‪ ,‬و قد نقش اسم ايزيس و نفتيس فوق كتفيهما ‪.‬‬

‫يتم اختيار الكاهنتين من الفتيات العذراوات لتقمن بدور ايزس و نفتيس ‪ .‬تتقمص الكاهنتان دور‬

‫ايزيس و نفتيس ليس فقط من خالل الدور الذى تلعبانه فى االنشاد و انما أيضا من خالل قوة االسم‪.‬‬

‫فى كتاب الخروج الى النهار هناك سلسلة من الفصول تعرف باسم فصول التحوالت ‪ ,‬و فيها تقوم‬

‫روح المتوفى بقراءة تعاويذ و أكواد سحرية أثناء ارتحالها فى العالم السفلى لتمر بتغيرات سحرية‬

‫تحولها الى الحيوانات المقدسة التى ترمز لبعض ال "نترو" ‪ ,‬و منها على سبيل المثال طائر‬

‫السنونو (أحد رموز حتحور) ‪ ,‬و الصقر (رمز حورس) ‪ ,‬و التمساح (رمز سوبك) ‪ ,‬و طائر‬

‫البلشون أو مالك الحزين (أحد رموز أوزير) ‪ ,‬الخ ‪.‬‬

‫كل فصل من هذه الفصول يحوى صورة الحيوان المقدس مصحوبا بنصوص تعبر عن تحوالت‬

‫ميتافيزيقية مع اشارات ألحداث ميثولوجية ‪.‬‬

‫و كأن االنسان بمقدوره أن يصير داخل مجال طاقة أحد ال "نترو" و أن يمتزج به و يتقمص‬

‫شخصيته من خالل مزيج من تخيل صورة الحيوان المقدس و انهماك الشخص فى حالة تأمل‬

‫للمغزى الماورائى و الميثولوجى للنص المصاحب للصورة ‪.‬‬

‫‪- 258 -‬‬


‫و من تلك الفصول التى تتناول تحول روح المرتحل فى العالم السفلى و تقمصها شخصية ال "نترو"‬

‫الفصل رقم ‪ 30‬من كتاب الخروج الى النهار ‪.‬‬

‫و قد اقتطفت منه هذا المشهد الذى يصور طائر السنونو يقف فوق تل ‪.‬‬

‫أحد المشاهد المصاحبة للفصل رقم ‪ 18‬من كتاب الخروج الى النهار‬

‫و هو يتناول التحول الى طائر سنونو ‪ ,‬أحد رموز حتحور‬

‫( من بردية "آنى" ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫يتناول هذا الفصل تحول روح المرتحل فى العالم السفلى الى طائر سنونو (أحد رموز حتحور) ‪.‬‬

‫يبدأ الفصل بهذا النص ‪-:‬‬

‫*** أنا طائر السنونو ‪ ...‬أنا طائر السنونو ‪ ...‬أنا العقربة ‪ ,‬ابنة رع ***‬

‫و العقربة (األنثى) هى رمز "سلكيت" ‪ ,‬التى صادفناها من قبل و هى تقوم بتقييد ثعبان الفوضى‬

‫أبوفيس باألغالل و تطعنه بالخناجر ‪.‬‬

‫يصف النص شوق المرتحل فى العالم السفلى للوصول الى جزيرة اللهيب ‪ ,‬و هى األرض األولى‬

‫التى تجلى فوقها "رع" فى الزمن األول ‪.‬‬

‫‪- 259 -‬‬


‫و فى هذا السياق ترمز جزيرة اللهيب الى حالة من حاالت الوعى ينعم فيها االنسان بالنشوة‬

‫الروحية ‪.‬‬

‫و لكى يصل المرتحل فى العالم السفلى الى تلك الجزيرة عليه أن يمر من بوابات و أن يجتاز‬

‫اختبارات حراس البوابات التى تغلق الطريق الى الجزيرة المنشودة ‪.‬‬

‫و لتحقيق ذلك الهدف يقدم النص العديد من التعاويذ ‪ ,‬و على المرتحل فى العالم السفلى أن يقوم‬

‫بترتيلها ‪.‬‬

‫و من أهم شروط العبور من بوابات العالم السفلى الطهارة و نقاء القلب ‪ .‬كما يتطلب النجاح فى‬

‫اجتياز البوابات أيضا مستوى عالى من المعرفة الباطنية ‪ /‬الروحانية ‪.‬‬

‫كانت تلك جميعا شروط و مؤهالت تحول االنسان الى طائر سنونو ‪ ,‬أو بعبارة أخرى شروط‬

‫دخول االنسان فى مجال طاقة حتحور ليصير جزءا منها ‪.‬‬

‫و كذلك يمكن للملك أن يستدعى أو أن تستدعيه طاقة كونية مثل طاقة ست على سبيل المثال ‪,‬‬

‫بحيث يصير مشحونا بتلك الطاقة الهائلة التى يمكنها أن تدمر أى شئ أمامها ‪.‬‬

‫فى نصوص معركة قادش ‪ ,‬يوصف الملك رمسيس الثانى بأنه صار مثل "مونتو" (رب الحرب‬

‫و القتال) و أنه ظهر فى أعين األعداء فى صورة "ست القوى" و فى صورة بعل أيضا ‪ ,‬و هو ما‬

‫جعل األعداء يقولون "ان هذه ليست أفعال بشر" ‪.‬‬

‫و كذلك الملك تحتمس الثالث – و هو من أعظم القادة العسكريين – وصفته النصوص المصرية‬

‫القديمة بأنه يخوض المعارك و قد تقمصته قدرة "ست" و تخللت كل أعضاء جسده ‪.‬‬

‫أن يسعى االنسان لتقمص شخصية أحد ال "نترو" فان ذلك يعنى أن نفسه تلبستها قوة الهية‬

‫و اعتراها تحول خيميائى اما لفترة مؤقته أو بشكل دائم ‪.‬‬

‫فى األلفيتين األخيرتين سقطت االنسانية فى حالة فقدان ذاكرة جماعى و انقطعت صالتها بالقوى‬

‫الروحانية التى كان قدماء المصريين على دراية عميقة بها ‪ .‬و لكن فى العقود األخيرة بدأ الوعى‬

‫بتلك القوى الروحانية يعود تدريجيا ‪.‬‬

‫‪- 260 -‬‬


‫ال شك أن الفترة الزمنية الطويلة التى استمر فيها نسيان القوى الروحانية و الجهل بها كانت تجربة‬

‫حتمية ‪ .‬كان من الضرورى أن تمر االنسانية بتلك التجربة لتختبر نوعا من الوعى يتمركز حول‬

‫األنا ‪ ,‬و هو وعى يختلف تماما عن وعى قدماء المصريين ‪.‬‬

‫حين يكون الوعى متمركزا حول األنا يعتقد الشخص أن المشاعر و الميول و األفكار و دوافع النفس‬

‫نابعة من الشخص نفسه و ليست مستمدة من أى كيان روحى أو قوة كونية تمتزج بروح االنسان أو‬

‫تتلبسها ‪ .‬يعتقد انسان العصر الحديث أن مكونات الوعى هى مكونات ذاتية بمعنى أنها تنبع من‬

‫الشخص الذى يمر بتجربة الوعى ‪ .‬و هذا االعتقاد هو نتاج تغيرات مر بها االنسان منذ أفول شمس‬

‫الحضارة المصرية و حتى اآلن ‪.‬‬

‫و من نتائج ذلك التغير فى الوعى فكرة الحرية التى صارت تنطبق على الحياة الباطنية ‪ /‬الروحانية‬

‫ان الشعار الذى يردده انسان العصر الحاضر بكل حماس و الذى يقول أن المرء حر فى اختيار‬

‫أفعاله و بالتالى فهو مسئول عن تلك األفعال هو شعار نابع من وعى يختلف عن وعى قدماء‬

‫المصريين ‪ .‬فقد بدأت هذه الفكرة فى الظهور على يد أرسطو فى القرن الرابع قبل الميالد ‪.‬‬

‫و ألن وعينا مر بتغيرات و تحوالت كبرى و صار يختلف عن وعى قدماء المصريين ‪ ,‬لذلك ليس‬

‫من السهل علينا أن نستوعب تقنيات السحر المصرى ‪.‬‬

‫و ألن وعينا غير مدرك لعالم الروح لذلك فنحن نميل بشكل عام لوصم الممارسات السحرية‬

‫بالخرافة ‪.‬‬

‫و األحرى بنا بدال من أن نصم الممارسات السحرية بالخرافة أن نحاول تطوير قدراتنا على‬

‫االتصال بالعوالم الماورائية التى تسكنها القوى الروحانية ‪.‬‬

‫باالضافة الى تقنية تقمص شخصية "نتر" (كيان الهى) من أجل انجاز شئ خارق يفوق قدرات‬

‫البشر ‪ ,‬كانت هناك أيضا بعض الممارسات السحرية التى يقوم فيها الساحر بتقمص شخصية العديد‬

‫من ال "نترو" بحيث يكون كل نتر على حدة فى مقابل أحد أجزاء جسم الساحر ‪.‬‬

‫على سبيل المثال ‪ ,‬رأس الساحر قد يتلبسه حورس ‪ ,‬و ذراعاه و ساقاه قد يتلبسهم أبناء حورس‬

‫‪- 261 -‬‬


‫األربعة ‪ ,‬و باقى أعضاء جسمه قد يتلبسهم شو و تفنوت ‪ ,‬الخ ‪.‬‬

‫فى كتاب الخروج الى النهار (فصل رقم ‪ )42‬نقرأ هذه التعويدة التى دونت بأسلوب رائع فيه مقابلة‬

‫بين كل جزء من أجزاء جسم الساحر على حدة و بين أحد ال "نترو" ‪ ,‬بمعنى أن كل عضو من‬

‫أعضاء جسم الساحر قد تلبسته تلك الطاقة الروحانية التى يعبر عنها كل "نتر" ‪ .‬يقول النص ‪-:‬‬

‫*** شعرى هو نون (مياه األزل) ‪ ...‬و وجهى هو رع ‪ ...‬و عيناى هما حتحور ‪ ...‬و أذناى هما‬

‫"ويبواويت" (فاتح الطرق) ‪ ...‬و شفتاى هما أنوبيس ‪ ...‬و أضراسى هى "سلكيت" (الربة العقرب)‬

‫‪ ...‬و أسنانى هى ايزيس ‪ ...‬و أذرعى هى الحمل ‪ ,‬رب منديس ‪ ...‬و صدرى هو "نيت" ‪ ,‬ربة‬

‫سايس ‪ ...‬و ظهرى هو ست ‪ ...‬و عضوى الذكرى هو أوزير ‪ ...‬و قفصى الصدرى هو "رب‬

‫الجالل" ‪ ...‬و بطنى و عامودى الفقرى هما سخمت ‪ ...‬و أردافى هى عين حورس ‪ ...‬و فخذى‬

‫و ساقى هما نوت ‪ ...‬و أقدامى هى بتاح ‪ ...‬و أصابع قدمى هى صقور حية ‪ ...‬ال يوجد عضو فى‬

‫جسدى يخلو من الحضور االلهى ‪ ...‬و تحوت هو الذى يحرس كل كيانى ***‬

‫يصور الشكل التالى الكيانات االلهية السبعة األولى التى ورد ذكرها فى النص السابق ‪.‬‬

‫و هم بالترتيب من اليمين الى اليسار ‪ :‬ايزيس ‪ ,‬سلكيت ‪ ,‬أنوبيس ‪ ,‬ويبواويت ‪ ,‬حتحور ‪ ,‬رع ‪ ,‬نون‬

‫ال "نترو" (الكيانات االلهية) التى تتحول اليها أعضاء جسم االنسان‬

‫( من بردية آنى ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫‪- 262 -‬‬


‫ليس من الصعب تخيل كم سيكون استحضار هذه الكوكبة من القوى الروحانية مؤثرا سواء فى‬

‫المرض أو فى الصحة ‪ .‬ان مجرد تخيل حضور كل هؤالء و امتزاجهم بكيان االنسان كفيل بمنحه‬

‫قوة هائلة ‪.‬‬

‫مواجهة األرواح الشريرة و استحضار الكيانات االلهية طلبا للمساعدة ‪-:‬‬

‫كان وعى قدماء المصريين منفتحا على العوالم الباطنية و تأثيراتها التى تتخلل العالم المادى ‪ ,‬و هو‬

‫ما يعنى أن االنسان يمكن أن تتلبسه قوة روحانية ماورائية ‪ ,‬و من الممكن للمرء أن يكتسب صفات‬

‫أحد الكيانات االلهية أو صفات العديد منهم مجتمعة ‪.‬‬

‫و فى نفس الوقت يمكن للمرء أيضا أن تتلبسه قوة ماورائية معادية تنتمى لعوالم الفوضى و الظالم‬

‫و هى ما يطلق عليه "األرواح الشريرة" ‪.‬‬

‫اعتقد المصرى القديم أن االنسان اذا تلبسته روح شريرة فمن المتوقع أن يسقط فريسه للمرض ‪.‬‬

‫و فى هذه الحالة فان أفضل وسيلة لمعالجة المرض هى مخاطبة الروح أو القوة الماورائية التى‬

‫تسببت فيه ‪.‬‬

‫تلك كانت نظرة قدماء المصريين للمرض و هى نظرة تختلف تماما عن نظرة االنسان المعاصر‬

‫الذى يرجع المرض ألسباب مادية مثل الفيروسات أو الجراثيم ‪.‬‬

‫ان األسباب فى الفكر الدينى المصرى ال يمكنها أن تنبع من العالم المادى ‪ ,‬ألن عالم المادة بكل ما‬

‫فيه هو نتيجة أو انعكاس لعالم آخر ماورائى تكمن فيه أسباب كل شئ ‪.‬‬

‫اذا مرض شخص ما فان ذلك اشارة الى وقوع حدث ما فى عالم الباطن ‪.‬‬

‫كان المرض فى نظر قدماء المصريين عبارة عن روح شريرة اخترقت جسم االنسان ‪.‬‬

‫و الطريقة المثلى لعالج المرض من جذوره هى مواجهة تلك الروح الشريرة و طردها خارج‬

‫الجسد الذى تلبسته ‪.‬‬

‫ان مهارة الطبيب فى مصر القديمة ال تعتمد على قدرته على تحضير الجرعات الدوائية بقدر ما‬

‫‪- 263 -‬‬


‫تعتمد على قدرته على أن يصرف الروح الشريرة من جسد المريض ‪.‬‬

‫و لكن ذلك ال يعنى أن المستحضرات الطبية لم يكن لها دور فى الطب المصرى القديم ‪ ,‬بالعكس ‪.‬‬

‫فقد كان لألدوية دور هام و مكمل فى شفاء الجسد و الروح ‪.‬‬

‫تكمن فاعلية الدواء فى القوة الروحانية التى بداخله ‪ .‬كتب عالم المصريات األلمانى "ألفريد‬

‫فايدمانن" (‪ – )Alfred Weidemann‬الذى توفى عام ‪ 0910‬ميالدية ‪ -‬يقول ‪-:‬‬

‫*** كانت المستحضرات الطبية فى مصر القديمة تكتسب فعاليتها من التعاويذ أو الرقى أو‬

‫النصوص السحرية التى تتلى عليها أثناء اعدادها ‪ .‬و الشفاء ال يأتى من المستحضر الطبى نفسه‬

‫و انما يأتى من قوة النصوص و الرموز السحرية التى تخضع بقوتها األرواح الشريرة التى‬

‫اخترقت جسم االنسان و تسببت فى مرضه ‪ .‬و بصرف الروح الشريرة من الجسم يذهب المرض‬

‫و يأتى الشفاء ***‬

‫ان الفعل األساسى الذى يقوم به الطبيب يحدث على مستوى الروح و ليس على مستوى المادة ‪.‬‬

‫و أول شئ يفعله الطبيب حين يستدعى لعالج مريض هو أن يقوم بتحديد هوية الروح الشريرة التى‬

‫تسببت فى المرض ‪ .‬ثم يقوم بتحضير الدواء المناسب و يكسبه قوة سحرية عن طريق تالوة‬

‫التعويذة أو الرقية المناسبة عليه أثناء تجهيزه ‪.‬‬

‫و الهدف من ذلك هو هو جعل جسم المريض بيئة صعبة و غير مريحة بالنسبة للروح الشريرة التى‬

‫اخترقته و فى نفس الوقت مساعدة الجسم الذى أنهكه المرض على أن يستعيد قوته مرة أخرى ‪.‬‬

‫و لكن قبل تحضير الدواء كان على الطبيب أوال أن يقوم بصرف الروح الشريرة من جسم المريض‬

‫اذا تخيلنا على سبيل المثال أن هناك طبيبا يعالج مريضا أصيب بنزلة برد ‪ ,‬فى هذه الحالة كان على‬

‫الطبيب أوال أن يتحدث الى نزلة البرد أو بمعنى أصح الى الروح الشريرة التى اخترقت جسم‬

‫المريض و أصابته بنزلة البرد ‪.‬‬

‫على الطبيب أن يواجه تلك الروح الشريرة و يتحدث اليها و يخبرها أنه ال مكان لها فى جسم‬

‫المريض و يهددها بأنها ستصاب بمكروه اذا استمر وجودها بداخله و لذلك فعليها أن تغادره فورا‬

‫‪- 264 -‬‬


‫و تبحث لنفسها عن مكان آخر ‪.‬‬

‫يخبر الطبيب الروح الشريرة انها ليس لها هيمنة أو سلطة على جسم المريض ‪ ,‬و أنها فى الحقيقة‬

‫روح ضعيفة قليلة الحيلة و ال تمتلك أى قوة على االطالق ‪.‬‬

‫يقوم الطبيب بما يشبه التنويم المغناطيسى للروح الشريرة و يخدعها و يجعلها عاجزة عن الحركة‬

‫و عن الدفاع عن نفسها ‪ .‬و عندما تفقد الروح الشريرة قدرتها ‪ ,‬يفاجئها الطبيب من حيث ال تتوقع‬

‫و يصيح فيها بقوة و بلهجة آمرة ‪-:‬‬

‫*** اذهب أيها المرض (نزلة البرد على سبيل المثال) ‪ ,‬يا ابن المرض ‪ ...‬يا من تكسر العظام ‪...‬‬

‫و تفلق الرأس ‪ ...‬و تخترق الدماغ ‪ ...‬اذهب أيها المرض ‪ ,‬يا من تحتل فتحات الرأس السبعة‬

‫(العينين ‪ +‬األذنين ‪ +‬فتحتى األنف ‪ +‬فتحة الفم) ‪ ...‬اذهب عن تلك الفتحات ألنها هى التى تبجل‬

‫"رع" ‪ ,‬و هى التى تنشد االبتهاالت لتحوت ‪ ...‬أنظر ‪ ,‬لقد أحضرت الدواء الذى سينتزعك من ذلك‬

‫الجسد ***‬

‫ثم يعيد الطبيب مخاطبة الروح الشريرة عدة مرات قبل أن يصف الدواء المناسب ‪.‬‬

‫تبدأ مواجهة الروح الشريرة أوال باستدراجها بنعومة ثم تجريدها من الثقة بالنفس ‪ ,‬ثم مخاطبتها‬

‫بعنف ‪.‬‬

‫هذا السيل المتواصل من الهجوم على الروح الشريرة يجعلها تشعر بعدم االرتياح و باالضطراب ‪.‬‬

‫و فى تلك اللحظة يبدأ الطبيب باعطاء المريض جرعات الدواء ‪ ,‬و قد يطلب الطبيب من المريض‬

‫أحيانا ترتيل كلمات معينة قبل تناول الدواء ‪ ,‬منها على سبيل المثال ‪-:‬‬

‫*** مرحبا أيها الدواء ‪ ,‬مرحبا ‪ ...‬يا من تزيل التعب الذى أصاب قلبى ‪ ...‬و األلم الذى انتاب‬

‫أعضاء جسدى ‪ ...‬انه سحر حورس ‪ ,‬الذى ينتصر من خالل الدواء ***‬

‫و من خالل الدواء يبدأ حورس فى مصارعة الروح الشريرة التى تسببت فى المرض ‪.‬‬

‫و هو ما يعنى أن المصرى القديم كان يرى المرض كأحد جوانب "ست" ‪ ,‬و بذلك يسقط المرض‬

‫داخل الزمن األول ‪ ,‬فتكون هزيمته حتمية ‪.‬‬

‫‪- 265 -‬‬


‫فى مصر القديمة كان لحورس قدرة خاصة على شفاء األمراض الناتجة من لدغة الحيات‬

‫و العقارب و من عضة الحيوانات الخطيرة ‪.‬‬

‫فى العصر المتأخر ظهر ما يعرف بلوحات حورس الطفل ‪ ,‬و فيها يظهر حورس فى صورة طفل‬

‫يطأ بقدميه التماسيح و يمسك بيديه الحيات السامة و العقارب و الوحوش الضارية ‪.‬‬

‫يسيطر حورس بقوة سحره على تلك الحيوانات الخطرة و يجعلها جميعا فى قبضة يده ال تستطيع‬

‫فرارا ‪.‬‬

‫فى الشكل التالى نرى أحد أمثلة ألواح حورس الطفل ‪ ,‬و فيها يظهر حورس فى وضعه المعتاد ‪,‬‬

‫تحت قدميه تمساح يرقد مستسلما ‪ ,‬و فى قبضة يده حيات و عقارب و غزال و أسد ‪ .‬و فوق رأس‬

‫حورس قناع "بس" الذى يقوم بحماية العائلة و خصوصا األمهات و األطفال ‪.‬‬

‫حورس الطفل يهيمن على قوى الفوضى المسببة للمرض فى صورة حيوانات متوحشه و سامة‬

‫‪- 266 -‬‬


‫( لوحة "مترنيتش" ‪ ,‬أسرة ‪) 32‬‬

‫على يسار حورس الطفل يقف "رع – حور‪ -‬آختى" فوق ثعبان يتلوى على هيئة زجزاج ‪ ,‬و على‬

‫يمينه زهرة لوتس تعلوها ريشتان ترمزان النتصار قوى البناء و الحياة على قوى الهدم و الموت ‪.‬‬

‫عند عالج التسمم الناتج عن عضات الحيات و العقارب ‪ ,‬يقوم الطبيب بطقوس مشابهة لما أوردناه‬

‫فى الفقرة السابقة عن عالج نزلة البرد ‪.‬‬

‫فى حاالت التسمم يقوم الطبيب باستحضار حورس بأن يصنع له صورة مقدسة على لوح من‬

‫الخشب ‪ ,‬و عادة ما يظهر حورس على تلك اللوحات فى هيئة صقر تعلو رأسه ريشتان ‪.‬‬

‫و بعد االنتهاء من صنع الصورة المقدسة يقوم الطبيب بطقس فتح الفم لها و يتلو عليها كلمات‬

‫سحرية معينة و بذلك تتحول الصورة المقدسه الى كيان حى ‪ ,‬أى تحل فيها روح حورس ‪.‬‬

‫ثم تجرى للصورة كل الطقوس السحرية اليومية التى تجرى لتماثيل ال "نترو" (الكيانات االلهية) ‪,‬‬

‫حيث يتم تعطيرها بالبخور و بالزيوت العطرية و تقدم لها القرابين من الخبز و الجعة و غيرها من‬

‫أنواع القرابين ‪.‬‬

‫و هذه الطقوس السحرية هى التى تضمن الحضور الدائم (الحضرة) لحورس من خالل الصورة‬

‫المقدسة ‪ .‬و بعد احياء الصورة المقدسة بالطقوس السحرية توضع فوق وجه المريض المصاب‬

‫بلدغة الحية أو العقرب أو فوق الموضع الذى تعرض للدغ ‪ .‬ثم يرتل الطبيب الكلمات السحرية‬

‫التالية بصوت قوى ‪-:‬‬

‫*** أيها السم ‪ ,‬أخرج من الجسد ‪ ...‬تدفق الى خارج الجسد و انسكب على األرض ‪ ...‬ان حورس‬

‫يلعنك و يزيحك ‪ ,‬و يسحقك بقدميه ‪ ...‬أنت ضعيف و ال تملك حيلة ‪ ,‬و ال تستطيع أن تقاتل ‪ ...‬أنت‬

‫أعمى ‪ ,‬فاقد الرؤية ‪ ...‬ان رأسك تتدلى فوق كتفك ‪ ,‬و ال يمكنك أن ترفع وجهك ألعلى ‪ ...‬لقد أدير‬

‫وجهك للخلف ‪ ...‬و ال يمكنك أن تبصر طريقك ‪ ...‬قلبك ملئ بالحزن و ال تعرف البهجة ‪ ...‬هاأنت‬

‫تولى األدبار هربا ‪ ...‬و تختفى تماما عن األنظار ‪ ...‬تلك كلمات حورس ‪ ,‬العظيم السحر ***‬

‫‪- 267 -‬‬


‫لم تكن المواجهة المباشرة مع األرواح الشريرة تقتصر فقط على عالج األمراض ‪.‬‬

‫ففى كتاب الخروج الى النهار هناك عدة أمثلة على تلك المواجهات السيكولوجية ‪.‬‬

‫عند انتقال روح المتوفى الى العالم السفلى و ارتحالها فيه تصادف قوى ماورائية "معادية" (تنتمى‬

‫لعوالم الفوضى و الظالم) ‪ ,‬و على المرتحل أن يقوم بالتعرف على هوية تلك القوى الماورائية‬

‫و مخاطبتها بأسمائها و هى مهمة ليست سهلة ‪ ,‬و عليه أن يرتل كلمات سحرية معينة لكى يتغلب‬

‫على تلك القوى التى تعترض طريقه ‪.‬‬

‫و التقنية المستخدمة فى صرف األرواح أو القوى الشريرة عكس التقنية المستخدمة فى استحضار‬

‫ال "نترو" (الكيانات االلهية) أو األرواح النورانية ‪.‬‬

‫و بدال من السعى لتقمص شخصية ال "نترو" و االندماج داخل مجال طاقتها الروحانية ‪ ,‬يسعى‬

‫طقس صرف األرواح الشريرة الى تحرير االنسان من تلك األرواح و ابعاده عن تأثير مجال طاقتها‬

‫و لذلك على الطبيب أو المعالج أن يقوم أوال بتحديد هوية تلك الروح الشريرة و تحويلها الى كيان‬

‫مستقل بذاته و تمييزها عن جسد المريض الذى اتخذته مسكنا لها و تلبسته ‪ ,‬و بعد ذلك يقوم بطردها‬

‫من المجال النفسى للمريض ‪ ,‬أو باألحرى طرد المريض من المجال النفسى لتلك القوى الشريرة ‪.‬‬

‫و لكى يتحقق ذلك ‪ ,‬يستحضر الطبيب الساحر األرواح النورانية و ال "نترو" ذات القدرات الخارقة‬

‫التى يمكنها أن تتغلب على أى تأثير سلبى لألرواح الشريرة ‪.‬‬

‫فقوى الظالم و الفوضى مهما بلغت قوتها ال تستطيع الصمود أمام قوة النور ‪.‬‬

‫تهديد ال "نترو" (الكيانات االلهية) ‪-:‬‬

‫لم يكن اتصال السحرة فى مصر القديم بال "نترو" دائما مصحوبا باالبتهال و التضرع ‪.‬‬

‫فمن أهم مؤهالت الساحر البارع امتالك الخبرة فى التعامل مع "حكا" ‪ ,‬و هو الكيان االلهى المهيمن‬

‫على كل القوى الروحانية ‪.‬‬

‫كان تقمص شخصية "حكا" أحد أهم الوسائل التى يلجأ لها الساحر لكى يستطيع الهيمنة على القوى‬

‫‪- 268 -‬‬


‫الروحانية و األرواح الشريرة ‪.‬‬

‫يعرف الكاتب الفرنسى كريستيان جاك "حكا" بأنه المسيطر على كل القوى الكونية ‪.‬‬

‫فى متون األهرام يقوم الملك بدور الساحر الخبير فى التعامل مع القوى الكونية و تصفه النصوص‬

‫بأن له قدرة خارقة على أن يخضع أرواح الطبيعة ‪.‬‬

‫و من تلك النصوص التى صورت القدرة الخارقة لملك مصر النص المعروف لدى علماء اآلثار‬

‫باسم "نص التهام لحم األضحية" (‪ , )Cannibal Hymn‬و هو أحد نصوص األهرام ‪.‬‬

‫يصور النص الملك و كأنه وحش رهيب ‪ .‬و فيه نقرأ العبارات التالية ‪-:‬‬

‫*** السماء ملبدة بالغيوم ‪ ...‬و قد هوت النجوم ‪ ,‬و تناثرت المجموعات النجمية ‪ ...‬و ارتجفت‬

‫عظام رب األرض ‪ ,‬حين تجلى الملك ككيان الهى حى ‪ ,‬يتغذى على آبائه و يقتات على أمهاته‬

‫‪ ...‬هو الذى يحيا على التهام سحر البشر و ال "نترو" (الكيانات االلهية) ‪ ...‬هو الذى يلتهم طاقتهم‬

‫السحرية ‪ ,‬و يبتلع نورهم ‪ ...‬يتناول أكبرهم فى االفطار ‪ ,‬و أوسطهم فى العشاء ‪ ,‬و أصغرهم فى‬

‫الغداء ***‬

‫استخدم قدماء المصريين مصطلح ابتالع السحر للتعبير عن اكتساب الساحر لقوة السحر "حكا"‬

‫و كأنه قد ابتلعها و هضمها و أصبحت جزءا من طاقته الحيوية التى تمنح جسده القوة ‪.‬‬

‫كان بمقدور الساحر البارع فى مصر القديمة أن يضع نفسه فى قلب عالم ال "نترو" (الكيانات‬

‫االلهية) و أن يستحضر طاقتهم و يمتصها ‪ .‬و بذلك تنتقل قدرات ال "نترو" الخارقة اليه ‪.‬‬

‫و اذا عرف القارئ أن الساحر قد يلجأ أحيانا الى استخدام أسلوب التهديد فى مخاطبته للنترو ‪ ,‬قد‬

‫يتبادر الى ذهنه ألول وهلة أن ذلك شئ مشين ‪.‬‬

‫و لكنه يصبح مقبوال و مفهوما اذا عرف القارئ أن "حكا" هو ال "نتر" (الكيان االلهى) الذى تعتمد‬

‫عليه حياة كل ال "نترو" و أن الساحر المصرى كان بمقدوره أن يعمل من خالل "حكا" و أن‬

‫يتقمص شخصيته و يستحضر طاقته ‪.‬‬

‫و من أمثلة تقنية تهديد ال "نترو" فى السحر المصرى ما ورد فى نصوص لوحة "مترنيتش" ‪.‬‬

‫‪- 269 -‬‬


‫تحكى نصوص لوحة مترنيتش عن حدث أسطورى وقع فى الزمن األول ‪ ,‬و فيه تعرض الطفل‬

‫حورس للدغة عقرب حين تركته أمه وحده وسط أحراش و مستنقعات البردى فى الدلتا ‪ .‬جزعت‬

‫ايزيس الصابة ابنها و أطلقت صرخة ألم شقت السماء ‪ ,‬و أوقفت مالحى قارب رع فى مسارهم ‪.‬‬

‫أوقفت صرخة ايزيس و التى كانت تلقب ب "ويريت ‪ -‬حكاو" (العظيمة فى السحر) الشمس فى‬

‫مسارها ‪ ,‬و هددت ايزيس بأنها لن تسمح لموكب "رع" باستكمال رحلته اال بعد أن يشفى حورس ‪.‬‬

‫و هنا يتدخل "رع" و يرسل "تحوت" و معه طاقة الشفاء لحورس ‪ .‬يقول تحوت مخاطبا ايزيس ‪-:‬‬

‫*** أيتها الربة العظيمة ايزيس ‪ ...‬يا من تعرفين كيف تستخدمين فمك (سحر الكلمة) ‪ ...‬لن يستطيع‬

‫أى مكروه أن يصيب الطفل حورس ‪ ...‬ألن قارب "رع" هو الذى يحرسه ***‬

‫ثم ينطق تحوت بكلمات سحرية تعيد الحياة لحورس و تشفيه من لدغة العقرب ‪.‬‬

‫و من هذا المثال يتبين لنا أن كل ما يحتاجه الساحر هو أن يمتلك شيئا من طاقة ال "حكا" الخارقة‬

‫التى تجعله قادرا على احداث خلل فى النظام الكونى ( أو مجرد التهديد به ) لكى تستجيب القوى‬

‫الكونية له و تنفذ ما يطلبه منها ‪.‬‬

‫فى المثال السابق تستخدم ايزيس معرفتها بكيفية استخدام الكلمات (الصوت) لكى تجبر "رع" على‬

‫أن يبعث برسوله تحوت و معه الدواء الشافى لحورس ‪.‬‬

‫و هكذا يتضح لنا كيفية استخدام طاقة ال "حكا" فى الهيمنة على ال "نترو" و اجبارها على تنفيذ ما‬

‫يطلبه الساحر ‪.‬‬

‫تصور القصة العالقة بين ايزيس و حورس و رع و تحوت ‪ ,‬و تدور حول حدث وقع فى الزمن‬

‫األول و هو ما يعنى أن ذلك الحدث هو الصورة األولية أو األصل الذى ينعكس فى عالمنا فى‬

‫حاالت التعرض للدغ الزواحف السامة ‪.‬‬

‫تلك الصورة األولية التى تنتمى للزمن األول هى الوسيلة التى يستخدمها الطبيب الساحر و يقوم‬

‫بتفعيلها بأن يتقمص شخصية ايزيس و يقوم بدورها ‪.‬‬

‫و لكى نفهم مغزى تهديد ال "نترو" علينا أن نعى أوال أن مبدأ وحدة الوجود كان مهيمنا على الفكر‬

‫‪- 270 -‬‬


‫الدينى فى مصر القديمة ‪ .‬هناك دائما تشابك و تداخل بين الطبيعة و ما وراء الطبيعة ‪.‬‬

‫فالطبيعة فى نظر المصرى القديم مفعمة بالحضور االلهى ‪.‬‬

‫فى الطبيعة ال يوجد جماد ‪ ,‬و ال يوجد شئ ال تسكنه قوة الهية ‪.‬‬

‫و وسط هذا الطبيعة االلهية ‪ ,‬يتخذ االنسان موقعا وسطا ‪ ,‬فهو ليس منفصال عنها و انما هو أيضا‬

‫يندمج معها فى وحدة واحدة ‪.‬‬

‫لم تكن طقوس المعابد فى مصر القديمة تدور حول "عبادة" ال "نترو" (الكيانات االلهية) ‪,‬‬

‫و انما هى طقوس تهدف فى المقام األول الى صيانة النظام الكونى و حمايته من قوى الفوضى‬

‫و الهدم ‪.‬‬

‫فشروق الشمس كل صباح و تتابع الفصول و المواسم و فيضان النيل و غيرها من مظاهر الطبيعة‬

‫تعتمد فى انضباطها و توازنها على الطقوس المقدسة التى تقام فى المعابد فى أوقات و مناسبات‬

‫معينة ‪.‬‬

‫يقول عالم المصريات هنرى فرانكفورت ‪-:‬‬

‫*** لم تكن طقوس المعابد فى مصر القديمة تكن طقوسا رمزية ‪ ,‬و انما هى جزء من األحداث‬

‫الكونية ‪ .‬من خالل الطقوس المقدسة يشارك االنسان فى األحداث الكونية جنبا الى جنب مع ال‬

‫"نترو" (الكيانات اللهية) ***‬

‫و لذلك كان السحر ركنا أساسيا فى الديانة المصرية القديمة ‪ ,‬و هو علم يرتبط ارتباطا وثيقا بعلم‬

‫الفيزياء الكونية ‪.‬‬

‫السحر هو العلم الذى يتيح لالنسان المشاركة فى الصيانة الدورية للنظام الكونى و حمايته من‬

‫عوامل الهدم و التحلل ‪.‬‬

‫فى نظر قدماء المصريين ‪ ,‬كان انسحاب االنسان من األحداث الكونية يشكل كارثه كبرى للطبيعة‬

‫و أيضا للعوالم الماورائية التى تسكنها ال "نترو" ‪.‬‬

‫يوضح لنا المثال التالى أهمية طقوس المعابد بالنسبة لل "نترو" ‪ .‬و النص يتضمن تهديدا لل "نترو"‬

‫‪- 271 -‬‬


‫الجبارها على التدخل و شفاء أحد المرضى تعرض للدغة حيوان و أوشك على الموت ‪.‬‬

‫يقول النص على لسان الطبيب الساحر ‪-:‬‬

‫*** اذا انتشر السم فى جسد المريض ‪ ...‬و اذا وصل الى أى عضو من أعضاء الجسد ‪ ,‬فلن يوضع‬

‫أى قربان على موائد القرابين فى المعابد ‪ ...‬و لكن يسكب الماء المقدس فوق المذابح ‪ ...‬و لن يتم‬

‫اشعال النار المضيئة فى أى غرفة فى المعبد ‪ ...‬و لن تساق أى أضحية لمائدة األضاحى ‪ ...‬و لن‬

‫تقدم أى قطعة لحم كقربان ‪ ...‬أما اذا خرج السم من جسد المريض و سال على األرض ‪ ,‬فستبتهج‬

‫المعابد و ستمتلئ بالقرابين ‪ ...‬و ستبتهج ال "نترو" (الكيانات االلهية) فى مقاصيرها ***‬

‫قد يتبادر الى ذهننا أن البشر فقط هم من سيتأثر سلبيا بهذه التهديدات و بالقطيعة بين عالم البشر‬

‫و عالم ال "نترو" ‪ ,‬و لكن فى علم السحر المصرى نجد أن هناك تشابك و تداخل بين العالمين‬

‫بحيث ال يمكن تأثر أحد العالمين فقط دون اآلخر ‪.‬‬

‫فأفعال االنسان لها تأثيرات كونية ‪ ,‬و خصوصا األفعال الطقسية التى يقوم بها الكهنة فى المعابد ‪.‬‬

‫يعتمد عالم ال "نترو" الماورائى الى حد كبير على االنسان و على ما يقوم به من طقوس دينية‬

‫سحرية تتضمن استحضار طاقة ال "حكا" و توظيفها فى تجديد الطاقة الحيوية و حفظ النظام‬

‫الكونى ‪.‬‬

‫ان تقنية تهديد ال "نترو" أثناء الممارسات السحرية ال يمكن فهمها اال من خالل ذلك المنظور‬

‫الدينى األوسع و األشمل للطقوس الدينية ‪.‬‬

‫اذا هدد الطبيب الساحر بأن السماء ستقع على األرض و أن النور سيختفى من العالم اذا لم تساعد‬

‫ال "نترو" فى شفاء مريضه ‪ ,‬فان ذلك يعبر عن الفلسفة الدينية للمصرى القديم الذى كان يرى موقع‬

‫االنسان فى قلب الكون ‪.‬‬

‫فى مصر القديمة ‪ ,‬لم يكن االنسان ينظر للكون من الخارج و كأنه ال ينتمى اليه ‪ ,‬كما يفعل االنسان‬

‫المعاصر) ‪ .‬فاالنسان جزء ال يتجزأ من الكون ‪ ,‬يتأثر به و أيضا يؤثر فيه تأثيرا خارقا ‪.‬‬

‫‪- 272 -‬‬


‫اعادة النظام و االتزان للطبيعة ‪-:‬‬

‫فى هذه الفقرة األخيرة سنبحث فى أحد الممارسات السحرية المصرية القديمة التى ينتج عنها ظواهر‬

‫تبدو و كأنها تتعارض مع قوانين الطبيعة ‪.‬‬

‫و عند البحث فى هذا النوع من السحر علينا أن نتذكر أن فكرة قوانين الطبيعة التى ال تخترق لم‬

‫تكن موجودة عند انسان الحضارات القديمة ‪.‬‬

‫ان فكرة وجود قوانين معينة تتبعها الطبيعة بطريقة آلية هى فكرة حديثه تعبر عن عالقة انسان‬

‫العصر الحديث بالكون ‪ .‬فنحن نرى الطبيعة خارج أنفسنا ‪ ,‬كما نرى كل مظهر من مظاهر‬

‫الطبيعة منفصال عن غيره ‪.‬‬

‫الطبيعة التى يتحدث عنها العلم الحديث هى طبيعة ليس لها أى بعد باطنى ‪ .‬هى مجرد جسد مادى‬

‫ليس به روح ‪.‬‬

‫كل ما يحدث فى الطبيعة يفسره الفيزيائيون على أنه طاعة عمياء لمجموعة من القوانين وصفها‬

‫علماء القرن السابع عشر بأنها أوامر فرضها االله على كل شئ فى الكون ‪.‬‬

‫و بدال من أن يحرك االله الكون من الداخل و يسكن فيه يعتقد انسان العصر الحديث أن االله خلق‬

‫القوانين و فرضها على الطبيعة ثم انفصل عن العالم و تركه يسير وفقا لتلك القوانين ‪.‬‬

‫يرى االنسان المعاصر أن عالم الروح ال يسكن عالمنا المادى المحسوس و انما هو يسكن بعد آخر‬

‫منفصل من أبعاد الكون ‪ .‬لذلك لجأ االنسان المعاصر لتفسير حركة الطبيعة بمصطلحات تعبر عن‬

‫ذلك االنفصال بين العالم االلهى و بين عالمنا و لذلك صيغت قوانين الطبيعة بلغة موضوعية ‪.‬‬

‫أما فى مصر القديمة فقد كانت العالقة بين الطبيعة و االله عكس ذلك تماما ‪ .‬فالشمس ال ترتحل‬

‫فى السماء وفقا لقوانين آلية ‪ ,‬و انما تفعل ذلك لتعبر عن وجود كيان الهى حى ‪.‬‬

‫ان ارتحال الشمس فى السماء و فى العالم السفلى يعبر عن حياة رب الشمس الذى يمر بمراحل‬

‫تحول وصيرورة بشكل دورى من خبرى الى رع الى آتوم ‪ ,‬ثم يعيد تكرار دورة الميالد و النضج‬

‫و األفول الى ما ال نهاية ‪.‬‬

‫‪- 273 -‬‬


‫كانت الشمس فى نظر قدماء المصريين هى وجه االله ‪ .‬فالجسم المادى للشمس يعكس صفات‬

‫االله و قدراته و يعبر عن طبيعته النورانية ‪ ,‬تماما كما يعبر وجه االنسان عما يدور بداخله ‪.‬‬

‫و كما أن عين االنسان هى مرآة روحه ‪ ,‬كذلك عين الشمس هى مرآة الروح األسمى ‪.‬‬

‫و ما ينطبق على الشمس ينطبق على كل مظاهر الطبيعة ‪.‬‬

‫فى نظر قدماء المصريين لم يكن هناك شئ فى الطبيعة يخلو من الحياة ‪.‬‬

‫كل ما فى الطبيعة حى ‪ .‬الكون كله حى ‪.‬‬

‫وسط هذه الطبيعة الحية ال مكان لقوانين آلية ‪ ,‬فكل مظهر من مظاهر الطبيعة يحركه كيان الهى أو‬

‫قوة روحانية تحل فيه و تسكنه ‪ ,‬كما تسكن الروح جسم االنسان و تحركه من الداخل و ليس من‬

‫الخارج ‪.‬‬

‫ان عالقة رب الشمس بالشمس ليست عالقة السيد اآلمر بالخادم أو الرئيس بمرؤسه ‪ ,‬و انما هى‬

‫عالقة أشبه بالعالقة بين روح االنسان و جسده ‪ ,‬حيث تعبر الروح عن نفسها من خالل الجسد ‪.‬‬

‫فالروح تتجلى للوجود من خالل الجسد المادى ‪.‬‬

‫ان الروح ال تلقى باألوامر الى الجسد و ال تفرض عليه قوانين عمياء ‪ ,‬و انما هى تعبر عن‬

‫وجودها بالجسد المادى و من خالله ‪.‬‬

‫على سبيل المثال ‪ ,‬اعتقد قدماء المصريين أن الرياح التى تهب من الجهات األربعة هى أرواح ‪,‬‬

‫و صور كل منها فى صورة كيان الهى ‪.‬‬

‫و الشكل التالى يجمع صور الرياح األربعة كما عبر عنها الفنان المصرى القديم ‪ .‬حيث تظهر رياح‬

‫الشمال بأربعة رؤوس كباش ‪ ,‬و رياح الجنوب برأس أسد ‪ ,‬و رياح الغرب برأس حية ‪ ,‬و رياح‬

‫الشرق برأس كبش واحد ‪ .‬و كل روح منها تمتلك أربعة أجنحة ‪.‬‬

‫‪- 274 -‬‬


‫أرواح الرياح األربعة‬

‫و كما رأينا فى الفقرة السابقة كيف يواجه الساحر األرواح الشريرة المسببة للمرض ‪ ,‬يمكن للساحر‬

‫أيضا أن يواجه أرواح الطبيعة و منها أرواح الرياح األربعة ‪.‬‬

‫من بين كل مظاهر الطبيعة تعتبر الرياح هى األكثر قربا من عالم الروح ألنها خفية و ال تدرك‬

‫اال بتأثيراتها على عالم المادة ‪ ,‬و لذلك كان االتصال بأرواح الرياح مباشرة فى متناول من هو على‬

‫خبرة و دراية بعالم الروح ‪.‬‬

‫و المسيحيون يعرفون جيدا قصة المسيح حين أوقف العاصفة التى هبت على بحر الجليل ‪.‬‬

‫فى انجيل متى نقرأ كيف وقف المسيح و واجه الرياح فهدأت و ساد السكون ‪.‬‬

‫‪- 275 -‬‬


‫و بالطبع ال يمكن القول بأن المسيح خرق قوانين الطبيعة ‪ .‬فما فعله المسيح هو أنه واجه الرياح‬

‫و البحر و كأنه يواجه أرواح أو كيانات حية ‪ .‬و هم بالفعل كذلك ‪.‬‬

‫و لكن انسان العصر الحديث عاجز عن االتصال بأرواح الطبيعة اتصاال مباشرا ‪.‬‬

‫ان حدث بحر الجليل ال يعتبر حدثا فريدا من نوعه ‪ ,‬فهناك أحداث أخرى مماثله وقعت فى العصر‬

‫الرومانى ‪ .‬فأثناء حمالت القائد الرومانى "ماركوس أوريليوس" استطاع ساحر مصرى يدعى‬

‫"حارنوفيس" أن ينقذ الجيش الرومانى من الموت عطشا بأن خاطب الرياح الممطرة فهبت‬

‫و أمطرت السماء و سقت الجيش الذى اوشك على الهالك ‪.‬‬

‫و فى عصر االمبراطور قسطنطين تم اعدام احد السحرة بعد اتهامه بأنه قام بحبس الرياح بقوة‬

‫سحره فمنع السفن التى تحمل الغالل من مصر و سوريا من الوصول الى القسطنطينية ‪.‬‬

‫كانت الهيمنة على عناصر الطبيعة من خالل االتصال المباشر بأرواح الطبيعة جزءا هاما من‬

‫الممارسات السحرية فى الحضارات القديمة بوجه عام ‪ ,‬و فى الحضارة المصرية على وجه‬

‫الخصوص ‪.‬‬

‫و تعتبر روح النيل أو رب النيل أحد القوى الماورائية التى يمكن لالنسان أن يتصل بها اتصاال‬

‫مباشرا ‪.‬‬

‫فى مصر القديمة كانت مهمة الملك الرئيسية هى أن يتصل بروح النيل أو رب النيل ليضمن أن‬

‫يأتى الفيضان فى موعده و أن يصل منسوبه الى المستوى المناسب الذى يوفر الماء الكافى للموسم‬

‫الزراعى التالى ‪.‬‬

‫ينعكس ذلك فى كل من النصوص و الطقوس الدينية المصرية القديمة ‪.‬‬

‫هناك على سبيل المثال هناك نص ذكر أن ارتفاع الفيضان تزامن مع اعتالء الملك مرنبتاح (دولة‬

‫حديثه) العرش ‪ .‬أما الملك أمنمحات األول من عصر الدولة الوسطى فهناك نص سجل عبارة على‬

‫لسانه قال فيها ( ان النيل يستجيب لى فى تدفقه ) ‪.‬‬

‫و فى عصر األسرة العشرين كانت هناك طقوس سحرية خاصة تقام لتعزيز احترام النيل‬

‫‪- 276 -‬‬


‫و استجابته لملك مصر حين يدعوه للفيضان ‪.‬‬

‫تقام هذه الطقوس فى منطقة جبل السلسلة (و تقع على بعد ‪ 05‬كم شمال أسوان) ‪ ,‬و فيها ينوب أحد‬

‫الكهنة عن الملك و يقوم بتقديم أضاحى من الثيران و األوز ‪ ,‬و يعقب ذلك القاء مرسوم ملكى‬

‫مختوم موجه من الملك للنيل يأمره أن يفيض فى موعده و بالقدر المناسب ‪.‬‬

‫يحمل ذلك المرسوم الملكى عنوان (الكتاب الذى يجعل النيل ينبعث من منابعه ) ‪.‬‬

‫فى الشكل التالى نرى رب النيل "حابى" فى كهفه الذى ينبع منه النيل و هو كهف تلتف حوله حية‬

‫الكوبرا لتحميه ‪.‬‬

‫"حابى" رب النيل داخل كهفه فى العالم السفلى‬

‫( معبد فيلة ‪ ,‬عصر بطلمى)‬

‫‪- 277 -‬‬


‫و حتى فى العصر الحديث الذى أخذ االنسان يهيمن فيه على حركة النهر بالسدود و باستخدام‬

‫التكنولوجيا الحديثه ‪ ,‬ما زال لهذا المشهد الذى يصور رب النيل راكعا فى كهفه فى العالم السفلى‬

‫يتلقى من هناك القرابين و المراسيل الملكية تأثيرا عميقا فى نفس من يراه ‪.‬‬

‫لقد ساهم العقل الغربى بدون وعى فى ازاحة أرواح الطبيعة شيئا فشيئا الى خارج عالمنا ‪ ,‬حتى‬

‫صرنا نتساءل بخجل ‪ :‬ما الذى فعلناه ‪ ,‬و ما الذى صرنا اليه ؟‬

‫هناك اشارات فى العهد القديم لفكرة الهيمنة على أرواح الرياح و الماء فى قصة خروج بنى‬

‫اسرائيل من مصر ‪.‬‬

‫فى سفر الخروج (‪ )04‬نقرأ أن موسى استطاع أن يشق البحر عندما رفع عصاه فى اتجاه البحر‬

‫األحمر ‪ ,‬و يطلق عليه باللغة العبرية "يام سوف" (‪ , )yam suph‬و هى كلمة تعنى حرفيا بحر‬

‫البوص أو المستنقعات ‪ ,‬و قد يكون اشارة الى أحراش الدلتا ‪.‬‬

‫يقول النص فى سفر الخروج ‪-:‬‬

‫*** مد موسى يده بالعصا فى اتجاه البحر ‪ ,‬فأزاح يهوه المياه برياح شرقية قوية هبت فظهر قاع‬

‫البحر جافا ‪ .‬انشق الماء و عبر بنو اسرائيل فوق األرض الجافة يحيط بهم حائطان من المياه من‬

‫اليمين و من اليسار ***‬

‫لم تكن الهيمنة على عناصر الطبيعة باستخدام طاقة السحر معجزة حصرية لموسى و اله‬

‫االسرئيليين ‪ ,‬و انما هى جزء من الممارسات السحرية فى مصر القديمة و فى كل الحضارات‬

‫القديمة ‪.‬‬

‫و هنا علينا أن نتذكر أن موسى ولد فى مصر و تربى فى القصر الملكى ( حسب ما جاء فى‬

‫المصادر التوراتية ) و هو ما يعنى أنه تلقى بعض التدريبات على علم السحر كجزء من منهج‬

‫تعليمه على يد كهنة مصر ‪.‬‬

‫ان القدرة على شق الماء هى جزء من المهارات التى كان السحرة فى مصر القديمة يمارسونها منذ‬

‫‪- 278 -‬‬


‫عصر الدولة القديمة ‪ .‬و قد دون قدماء المصريين ذلك فى احدى البرديات التى تعود لعصر الدولة‬

‫و القديمة و يطلق عليها بردية وستكار ‪.‬‬

‫تروى البردية مجموعة من القصص التى تدور حول القدرات الخارقة للسحرة فى مصر القديمة ‪.‬‬

‫جاء فى احدى هذه القصص أن الملك سنفرو ‪ -‬من عصر األسرة الرابعة (و هو أبو الملك خوفو)‬

‫– ذهب فى يوم ما فى نزهة بالقارب فوق احدى البحيرات بصحبة عشرين فتاة جميلة ‪.‬‬

‫و أثناء قيام الفتيات بالتجديف بالقارب الملكى سقطت قالدة احدى الفتيات فى الماء ‪ ,‬فحزنت الفتاة‬

‫لفقدان قالدتها الفيروزية و توقفت عن التجديف فتوقف القارب ‪.‬‬

‫حاول الملك سنفرو أن يخفف من حزن الفتاة فوعدها بأن يعوضها عن قالدتها بأخرى مثلها و لكن‬

‫ذلك لم يغير من الموقف شيئا و ظلت الفتاة حزينة و ظل القارب متوقفا ‪ .‬و هنا أرسل الملك فى‬

‫طلب وزيره و الذى كان يمتلك قدرات سحرية خارقة ‪.‬‬

‫وصل الساحر و طمأن الملك أن كل شئ سيكون على ما يرام ‪ ,‬و وقف فوق مقدمة القارب و بدأ فى‬

‫نطلق كلمات سحرية على الماء فانشق الى نصفين ‪.‬‬

‫و هنا طوى الساحر نصف ماء البحيرة فوق النصف اآلخر ‪ ,‬و بعد أن كان ارتفاع الماء ‪ 02‬ذراعا‬

‫أصبح ارتفاعه ‪ 24‬ذراعا ‪ .‬صار الماء مثل حائط هائل فى جانب واحد من البحيرة بينما انكشف‬

‫قاع البحيرة فى الجانب اآلخر حيث يقف القارب فظهرت القالدة و رآها الجميع و هى ترقد فوق‬

‫قاع البحيرة ‪ .‬مد الساحر يده و التقط القالدة الفيروزية و أعطاها للفتاة فعادت لها البهجة ‪.‬‬

‫ثم قرأ الساحر كلمات سحرية فوق الماء فعاد كما كان ‪.‬‬

‫ينظر االنسان المعاصر للماء على أنه مادة خالية من الحياة تتبع قوانين فيزيائية صماء ال تتغير أبدا‬

‫‪ ,‬و لذلك فانه يبادر بوصف قصة الملك سنفرو بأنها خرافة ‪.‬‬

‫أما بالنسبة لقدماء المصريين فقد كان لهذه القصة مصداقية ‪ .‬فالعقل المصرى القديم يقبل قصص‬

‫السحر ألنه يرى أن كل شئ فى الطبيعة تسكنه روح و يمكن لالنسان أن يخاطب هذه الروح‬

‫و يقنعها بأن تحدث تغييرا ما فى العالم المادى ‪.‬‬

‫‪- 279 -‬‬


‫كان التداخل و التشابك بين عالم البشر و عالم الطبيعة فى مصر القديمة أبعد و أعمق مما يتصور‬

‫انسان العصر الحديث ‪ ,‬و كان بمقدور الساحر المصرى أن يدخل فى عالقة مباشرة مع أرواح‬

‫الطبيعة و من خالل تلك العالقة الروحانية يمكنه أن يحدث تغييرا فى الطبيعة المادية لألشياء ‪.‬‬

‫ان السؤال حول ما اذا كانت أحداث قصة انشقاق الماء التى وردت فى بردية وستكار قد حدثت‬

‫بالفعل أم ال ليس هو بيت القصيد هنا ‪ .‬فاألهم بالنسبة لنا هو كيف نفهم أحداث هذه القصة داخل‬

‫سياق الفكر الدينى لقدماء المصريين ‪.‬‬

‫ان أحداث قصة انشقاق الماء على يد الساحر المصرى ال يمكن فهمها من منظور العلم الحديث ‪,‬‬

‫و لذلك يرفضها عقل االنسان المعاصر ‪.‬‬

‫أما من وجهة النظر المصرية القديمة التى ترى أن كل شئ فى الكون حى ‪ ,‬فهى مفهومة و مقبولة ‪.‬‬

‫اذا كانت هناك ظواهر معينة يصعب قبولها و تفسيرها من منظور ما ‪ ,‬و لكنها مقبولة من منظور‬

‫آخر ‪ ,‬فاألحرى بنا أن نعيد النظر فى جدوى المنظور الغير قادر على ايجاد تفسير لتلك الظواهر‬

‫بدال من التشكيك فى امكانية حدوث الظواهر ‪.‬‬

‫و لنتأمل معا مثاال آخر من قصة الصراع بين المصريين و االسرائيليين كما وردت فى المصادر‬

‫التوراتية ‪ .‬جاء فى سفر الخروج (‪ )7‬أن يهوه يخاطب موسى قائال ‪-:‬‬

‫*** اذا طلب منك فرعون أن تقوم بمعجزة ‪ ,‬فاأمر هارون أن يأخذ عصاه و يلقيها أمام فرعون‬

‫و يجعلها تتحول الى ثعبان ***‬

‫ثم يطلب فرعون من موسى و هارون أن يصنعا معجزة ‪ ,‬فيأخذ هارون عصاه ويلقيها فتتحول‬

‫الى ثعبان ‪ .‬و يكمل سفر الخروج القصة قائال ‪-:‬‬

‫*** و هنا دعا فرعون حكماء و سحرة مصر ‪ ,‬و ألقى كل منهم عصاه فتحولت الى ثعبان ***‬

‫و يبدو أن تحويل العصا الى حية كان شيئا عاديا بالنسبة لقدرات السحرة فى مصر القديمة ‪.‬‬

‫و لكن الفكرة األساسية التى تدور حولها القصة التوراتية ليست تحويل العصا الى حية ‪.‬‬

‫ف القصة التوراتية ال تدور فى األساس حول فكرة التحول و الصيرورة من عصا الى حية ‪ ,‬و انما‬

‫‪- 280 -‬‬


‫هى تركز بشكل خاص على فكرة ابتالع حية هارون لحيات السحرة المصريين ‪ ,‬و تستخدم هذا‬

‫الرمز للتعبير عن استعالء اله اليهود "يهوه" على اله المصريين ‪.‬‬

‫مشهد تخيلى ألحد فنانى العصر الحديث يصور مشهد تحويل العصا الى حية كما ورد فى المصادر‬

‫التوراتية‬

‫تشير العديد من األدلة األثرية الى أن تحويل شئ يبدوا جامدا خاليا من الحياة الى شئ تسكنه‬

‫الروح كان جزءا رئيسيا من الممارسات السحرية فى مصر القديمة ‪.‬‬

‫كان ذلك جزءا من منهج تدريب الكاهن الساحر و كان يمارس بشكل يومى ‪.‬‬

‫على سبيل المثال ‪ ,‬كانت صور ال "نترو" المحفورة على جدران المعابد تتحول الى صور حية‬

‫‪- 281 -‬‬


‫(مشحونة بالطاقة الروحانية) من خالل الطقوس السحرية اليومية التى يقوم بها الكهنة ‪.‬‬

‫استعرضا فى الفصل السادس الفكرة الماورائية التى تقوم عليها طقوس احياء الصور المقدسه ‪,‬‬

‫و سنكمل اآلن هذا الموضوع ‪.‬‬

‫ان فكرة تحويل العصا الى حية تستند الى نفس المبدأ الذى تستند اليه فكرة احياء الصور المقدسة ‪,‬‬

‫مع الفارق ‪ ,‬و هو أن احياء الصور المقدسة فى مصر القديمة كان جزءا من علم السحر و هو ركن‬

‫أساسى فى الفكر الدينى المصرى و من المعرفة االلهية ‪ ,‬بعكس قصة تحول العصا الى حية فى‬

‫المصادر التوراتية و التى تدور حول وصم علم السحر و تصوره على أنه نقيض الدين و نقيض‬

‫المعرفة االلهية ‪.‬‬

‫و هناك قصة رواها الشاعر الرومانى ‪ -‬السورى المولد ‪" -‬لوسيان" الذى عاش فى القرن الثانى‬

‫الميالدى تدور أحداثها حول شاب يونانى يدعى "ايوقراتيس" سافر الى مصر ليتلقى العلم على يد‬

‫كهنتها ‪.‬‬

‫وصل "ايوقراتيس" فى رحلته الصوفية الى مدينة طيبة (األقصر) ‪ ,‬و هناك جلس تحت تمثالى‬

‫ممنون فى حالة من التأمل و االسترخاء فهبط عليه االلهام و الوحى بأبيات من الشعر ‪ .‬و بعد أن‬

‫انتهى من زيارة طيبة ركب قاربا قاصدا مدينة منف ‪ ,‬و هناك تعرف على مسافر آخر قاصدا نفس‬

‫الوجهة ‪.‬‬

‫و من حديث ايوقراتيس مع ذلك المسافر عرف أنه ساحر مصرى و أنه أمضى ثالثة و عشرين‬

‫عاما فى قبو تحت األرض يتعلم السحر من ايزيس ربة السحر ‪.‬‬

‫كان بمقدور ذلك الساحر أن يروض التماسيح و يمتطيها و كانت لديه قدرات هائلة على التحكم فى‬

‫عناصر الطبيعة و خاصة عنصر الماء ‪.‬‬

‫توطدت الصداقة بين ايوقراتيس و بين الساحر المصرى أثناء رحلة القارب من طيبة الى منف ‪,‬‬

‫و هنا عرض الساحر المصرى على ايوقراتيس أن يستضيفه فى بيته فى منف ‪ ,‬فقبل ايوقراتيس‬

‫الدعوة بشغف ‪.‬‬

‫‪- 282 -‬‬


‫اندهش ايوقراتيس عندما الحظ أن بيت الساحر ال يوجد فيه أى خادم ‪ .‬و بلغت دهشته ذروتها عندما‬

‫رأى الساحر يأتى بمكنسه و يلبسها ثوبا من الكتان و يقرأ عليها كلمات سحرية ‪ ,‬فتدب فيها الحياة‬

‫و تتحول الى خادم مطيع و تنفذ أوامر الساحر و تقوم بكل أعمال الخدمة فى البيت كالطهى‬

‫و الكنس و غسل المالبس ‪ .‬و بعد انتهاء األعمال المنزلية يقرأ الساحر كلمات أخرى فتتوقف‬

‫المكنسة عن الحركة و تعود الى حالتها األولى ‪.‬‬

‫الحظ ايوقراتيس أن الساحر بمقدوره أيضا أن يحول أشياء مادية أخرى الى كائنات حية ‪ ,‬مثل‬

‫مغاليق األبواب و الهاون الذى يستخدم لطحن الحبوب ‪.‬‬

‫و كلنا بالطبع نعرف بقية القصة كما اقتبسها "والت ديزنى" و قدمها فى فيلم الرسوم المتحركة‬

‫الشهير فانتازيا المقتبس عن قصة الساحر التلميذ للشاعر األلمانى جوته ‪ ,‬و التى اقتبسها بدوره عن‬

‫قصة الشاعر الرومانى السورى األصل لوسيان ‪.‬‬

‫كان ايوقراتيس شغوفا جدا بالسحر ‪ ,‬و قد راودته الرغبة فى أن يجرب بنفسه و يحاول أن يأتى‬

‫بمثل ما يفعله الساحر المصرى ‪.‬‬

‫أسترق ايوقراتيس السمع و أنصت جيدا الى الساحر و هو يلقى بالكلمات السحرية التى تحول‬

‫المكنسة الى خادم و استطاع أن يحفظ هذه الكلمات جيدا ‪.‬‬

‫و عند خروج الساحر المصرى من البيت ‪ ,‬أراد ايوقراتيس أن يمارس السحر بنفسه فأتى بمكنسه‬

‫و قرأ عليها الكلمات السحرية التى سمعها من الساحر المصرى ‪ ,‬و ياللعجب ‪ ,‬فقد دبت فيها الحياة‬

‫و تحولت الى خادم وقف أمامه ينتظر األوامر ليبدأ العمل ‪.‬‬

‫و هنا أصدر ايوقراتيس أوامره للمكنسه الخادم بأن تذهب و تحضر الماء له من النهر لكى يغتسل ‪.‬‬

‫و امتثلت المكنسه لألوامر و بدأت فى تنفيذها و جلبت الماء و سكبته فى الصهريج ‪ ,‬ثم عادت‬

‫و جلبت المزيد من الماء ‪ ,‬و عادت و جلبت المزيد ‪ ,‬ثم أعادت الكرة بدون توقف ‪.‬‬

‫و هنا بدأ ايوقراتيس يدرك أنه فى مأزق ‪ ,‬فهو لم يتعلم كيف يوقف المكنسه ‪.‬‬

‫استمرت المكنسه الخادم فى جلب الماء بدون توقف و أوشك الماء أن يتحول الى طوفان يغرق بيت‬

‫‪- 283 -‬‬


‫الساحر ‪ .‬و ياله من مأزق ‪ ,‬فماذا سيقول ايوقراتيس للساحر عندما يرى بيته غارقا فى الماء ‪.‬‬

‫حاول ايوقراتيس أن يقف فى طريق المكنسه الخادم و يمنعها من جلب الماء فلم يستطع ‪ ,‬و وسط‬

‫حالة اليأس و الهلع التى انتابته قام بكسر المكنسه فانشطرت الى نصفين ‪ ,‬و لكن ذلك لم يوقف‬

‫الكارثه و انما ضاعف حجمها ‪ ,‬ألن المكنسه الواحدة تحولت اآلن الى مكنستين فأصبح هناك‬

‫خادمان يجلبان الماء مما يعجل باغراق البيت ‪.‬‬

‫و لكن عودة الساحر المصرى للبيت منعت الكارثه فى الوقت المناسب ‪ .‬فبمجرد وصول الساحر‬

‫بدأ فى قراءة التعويذة السحرية الخاصة بايقاف المكنسه فتوقفت عن جلب الماء ‪ ,‬ثم قرأ تعويذة‬

‫أخرى فعاد كل شئ فى البيت الى أصله ‪.‬‬

‫كان لوسيان كاتبا ساخرا ‪ ,‬و لكن قصصه لم تكن كلها محض خيال ‪ ,‬فهناك شئ من الحقيقة فى هذه‬

‫القصص ‪.‬‬

‫يمكننا أن نصف القصة بأنها خيالية ‪ ,‬و لكننا فى نفس الوقت يجب أن نتذكر أنها تنتمى الى نفس‬

‫نوعية القصة التوراتية التى تحولت فيها عصا هارون الى حية ‪.‬‬

‫هل يجدر بنا أن ننظر الى مثل هذه النوعية من القصص على أنها مجرد حكايات تروى للتسلية ؟‬

‫اذا قرأنا قصص السحر فى مصر القديمة داخل سياق الفكر الدينى المصرى الذى يرى أن لكل شئ‬

‫روح – حتى الجماد – و أن بمقدور االنسان أن يتصل بأرواح األشياء ‪ ,‬فان ذلك سيجعلنا نتمهل‬

‫قليال قبل أن نبادر بتصنيف قصص السحر المصرية على أنها خيالية ‪.‬‬

‫و اذا فرضنا جدال أن قصة عصا هارون حقيقية و أن هناك جماعة من الناس رأوا العصا و هى‬

‫تتحول الى حية ‪ ,‬فهل يعنى ذلك ان العصا تحولت بالفعل الى حية ؟‬

‫و اذا قبلنا جدال أن مثل تلك المواجهة بين هارون و موسى من ناحية و بين فرعون من ناحية‬

‫أخرى وقعت ‪ ,‬فلماذا تشكل واقعة تحول العصا الى حية تحديا لعقل انسان العصر الحديث ؟‬

‫و السبب هو أن االنسان المعاصر اعتاد على رؤية الطبيعة من منظور يرفض تماما وقوع مثل هذه‬

‫األحداث ‪.‬‬

‫‪- 284 -‬‬


‫صارت الطبيعة فى نظر االنسان خالية من الحياة ‪ ,‬و تحولت الى ما يشبه اآللة التى تتحرك وفقا لما‬

‫يعرف بقوانين الطبيعة ‪.‬‬

‫ان مصطلح قانون الطبيعة نشأ فى زمن قريب نسبيا ‪ ,‬و هو مصطلح يعبر عن نظرة االنسان‬

‫المعاصر للطبيعة الجامدة ‪.‬‬

‫فنحن ننظر للطبيعة على أنها "هناك" خارجنا ‪ ,‬و أنها شئ منفصل تماما عن كياننا الروحى ‪.‬‬

‫و من هنا جاء تفسيرنا للظواهر الطبيعية على أنها تتبع قوانين مجردة موضوعية ‪ ,‬وذلك على‬

‫عكس نظرة انسان الحضارات القديمة التى ترى أن الكيانات االلهية هى المحرك لمظاهر الطبيعة ‪.‬‬

‫تلك النظرة الخارجية للطبيعة هى جزء من وعى االنسان المعاصر الذى يدور فى فلك األنا‬

‫و الشخصانية ‪ ,‬حيث يحرص االنسان دائما على أن يفصل بين ما ينتمى لشخصه و ذاته و بين ما‬

‫يقع خارج ذاته من مظاهر الطبيعة ‪.‬‬

‫و هكذا ننظر الى األشياء التى تحدث خارجنا باعتبارها تقع فى عالم خارج حدود أفكارنا‬

‫و مشاعرنا و رغباتنا و االلهامات التى تأتينا ‪.‬‬

‫هذا المستوى من الوعى الذى يفصل بين العالم الباطنى الذاتى و بين العالم الخارجى الموضوعى‬

‫هو تجربة جديدة على االنسان نشأت و تطورت منذ حوالى ‪ 2111‬عام و تطورت عبر التاريخ الى‬

‫أن انتهت مؤخرا بنظرة للطبيعة تختلف تماما عن نظرة انسان الحضارات القديمة ‪.‬‬

‫ان وعى االنسان لم يستمر كما هو طوال التاريخ و انما مر بعملية تحول وصيرورة ‪.‬‬

‫فانسان الحضارات القديمة كان يرى الطبيعة حية ‪ .‬كل شئ فى الطبيعة تسكنه روح ‪.‬‬

‫كل مظهر من مظاهر الطبيعة تحركه قوة كونية لها وعى و ذكاء ‪ .‬للطبيعة وجود باطنى ‪ ,‬أو‬

‫بعبارة أخرى للطبيعة نفس و روح ‪.‬‬

‫فالنفس و الروح ليست حكرا على االنسان ‪ ,‬و انما كل شئ فى الطبيعة له نفس و روح و هى‬

‫ليست منفصلة عن نفس االنسان وروحه ‪.‬‬

‫ان فكرة الطبيعة الحية قد ال تقدم لنا تفسيرا شامال للممارسات السحرية فى مصر القديمة ‪ ,‬و لكنها‬

‫‪- 285 -‬‬


‫تعتبر األساس الذى يمكن من خالله استيعاب تلك الممارسات ‪.‬‬

‫اذا فهمنا أن النفس االنسانية هى امتداد لنفس الطبيعة و الكون ‪ ,‬و أن بمقدور االنسان أن يتصل‬

‫بالنفس الكونية و بأرواح الطبيعة و يتفاعل معها و أن مظاهر الطبيعة ليست مجرد أشياء مادية‬

‫تتحرك كاآللة و أنما هى كائنات حية لها نفس و روح ‪ ,‬عندها سنكون قد وصلنا الى األصل الذى‬

‫قامت عليه نظرية المعرفة فى الحضارات القديمة و عندها يمكننا استيعاب المعجزات و الخوارق‬

‫السحرية فى مصر القديمة ‪.‬‬

‫ان فكرة وجود نفس للطبيعة باالضافة الى الجسم أو المظهر المادى يعنى ضمنيا أن هناك عالقة‬

‫تداخل و تشابك بين النفس و الجسم أو المظهر المادى ‪ .‬و هنا بيت القصيد ‪.‬‬

‫فا النسان يمكنه أن يشعر بالتغيرات النفسية فى الطبيعة بنفس القوة التى يالحظ بها التغيرات‬

‫الفيزيائية ‪.‬‬

‫و كما رأينا فى الفقرات السابقة ‪ ,‬كان قدماء المصريين يخاطبون األرواح الشريرة و يخاطبون‬

‫الكيانات االلهية و أرواح الموتى من خالل الصور المقدسه (التماثيل) ‪.‬‬

‫كانت أرواح الطبيعة بالنسبة لقدماء المصريين حقيقة ‪ ,‬و هى حقيقة لم تفرض عليهم عن طريق‬

‫االعتقاد العقلى و انما هى حقيقة اكتشفها المصرى القديم من خالل المعايشة اليومية و االتصال‬

‫المباشر بتلك األرواح ‪.‬‬

‫تكمن مهارة الساحر و براعته فى قدرته على أن يصل ما هو مادى بما هو روحى و يدمجهما معا‬

‫فى وحدة واحدة ‪.‬‬

‫و السحر ال يعمل فقط على المستوى المادى وحده ‪ ,‬أو المستوى النفسى وحده أو المستوى الروحى‬

‫وحده و انما هو يعمل على المستويات الثالثة معا فى نفس الوقت ‪.‬‬

‫للممارسات السحرية بعد نفسى و روحى (يشمل العالقة بالكيانات االلهية ) باالضافة الى البعد‬

‫المادى ‪ .‬فمثل هذه الممارسات السحرية تحدث من خالل عالقة التداخل و التشابك بين مستويات‬

‫الوجود الثالثة (المادى و النفسى و الروحى) فى سلسلة من األحداث يصعب فيها تمييز هذه‬

‫‪- 286 -‬‬


‫المستويات التى تنصهر معا أثناء الطقس السحري ‪.‬‬

‫قد يميل البعض لتفسير الممارسات السحرية باعتبارها ظواهر نفسية أو نوع من الهلوسه الجماعية‬

‫التى أصابت من شهدوها ‪.‬‬

‫و لكن هل من الحكمة تفسير مثل تلك الظواهر انطالقا من وعينا الذى يرى الكون من منظور‬

‫مختلف عن منظور الحضارات القديمة ؟‬

‫ان هذه الظواهر تعتبر حقيقة بالنسبة لمن عاصروها فى األزمنة القديمة ‪ .‬و اذا افترضنا جدال أن‬

‫أحد البشر المعاصرين ركب آلة الزمن و عاد لزمن قدماء المصريين و شهد احدى الممارسات‬

‫السحرية ‪ ,‬فقد تكون تجربته و رؤيته للموقف مختلفة تماما عن رؤية غيره من الحاضرين ‪.‬‬

‫قدم عالم األنثروبولوجى "تيودور روزاك" (‪ )Theodore Roszak‬أحد األمثلة على االشكالية التى‬

‫يواجهها عقل االنسان المعاصر فى فهم األصل الذى تستند اليه الظواهر السحرية و الشامانية ‪.‬‬

‫يحكى "تيودور روزاك" عن تجربة عالم أنثروبولوجى ذهب فى بعثه كندية لدراسة احدى قبائل‬

‫االسكيمو (ما بين عامى ‪ 0901‬و ‪ )0903‬عرفت باسم "اسكيمو النحاس" (‪, )Copper Eskimo‬‬

‫و هناك شهد عالم األنثروبولوجى تجربة شامانية فريدة ‪ ,‬اذ قام أحد الشامانز (السحرة) فى القبيلة‬

‫بطقس سحرى تحول فيها الى دب قطبى أمام أعين كل أفراد القبيلة و أمام أعين عالم‬

‫األنثروبولوجى الكندى ‪ .‬أكد أفراد القبيلة الذين حضروا الواقعة أنها حقيقة ال تقبل الجدال و أن‬

‫الشامان تحول بالفعل الى دب قطبى ‪ ,‬فى حين فسر عالم األنثروبولوجى الظاهرة التى رآها بعينيه‬

‫بأنها هلوسة جماعية ‪.‬‬

‫و قد كتب "تيودور روزاك" تعليقا على تلك الواقعة ساخرا ‪-:‬‬

‫*** ألن سكان االسكيمو أدرى بالدببة القطبية منا ‪ ,‬لذلك فأنا أستنتج أن تفسيره خاطئ ***‬

‫ان ما نختبره يتوقف على مستوى وعينا ‪.‬‬

‫فحكمنا على األشياء و تصنيفها الى حقيقى أو غير حقيقى هو نتاج وعينا الذى يرى فى الحواس‬

‫المادية معيارا للحقيقة ‪.‬‬

‫‪- 287 -‬‬


‫يوصف وعى االنسان المعاصر بأنه نظرة علمية موضوعية قائمة على المالحظة و هى نظرة‬

‫تتميز بالفصل بين ما هو داخل االنسان و بين الطبيعة التى تحيط به ‪.‬‬

‫يقوم انسان العصر الحديث بتعريف نفسه عن طريق الفصل بين ما هو داخله و بين ما هو خارجه ‪,‬‬

‫أو بعبارة أخرى التمييز بين الذاتى و الموضوعى ‪.‬‬

‫و هكذا يبدو لنا أننا نعرف من أين نبدأ و أين ننتهى ‪ ,‬و يصبح لدينا احساس باألنا فى مواجهة‬

‫اآلخر ‪.‬‬

‫لم يعرف قدماء المصريين مثل ذلك الوعى ‪ ,‬ألنه لم يكن قد تطور بعد ‪.‬‬

‫فى مصر القديمة كان المعيار الذى يستند اليه االنسان فى الحكم على ما هو حقيقى و ما هو‬

‫غير حقيقى مختلفا ‪.‬‬

‫كانت الحدود بين العوالم الباطنية و العوالم الخارجية أشبه بستار خفيف ‪ ,‬لم يكن قد تحول بعد الى‬

‫أسوار و حواجز ‪.‬‬

‫و لذلك كانت نظرة االنسان القديم للعالم المادى أعمق بكثير من نظرتنا ‪ .‬فالعالم المادى فى نظره‬

‫كان مفعما بالروح ‪.‬‬

‫و فى نفس الوقت كان عالم الروح أقرب للعالم المادى ‪ ,‬و أقرب للموضوعية ‪ ,‬بمعنى أن خبرة‬

‫االنسان بعالم الروح لم تكن تجربة ذاتية لكل انسان على حادة و انما هى تجربة مشتركة بين كل‬

‫أفراد المجتمع القديم ‪.‬‬

‫اعتاد انسان العصر الحديث أن ينظر للتجارب الروحانية باعتبارها خبرة ذاتية و ليست موضوعية‬

‫‪ ,‬أما فى مصر القديمة ‪ ,‬فقد كانت التجارب الروحانية جماعية ‪.‬‬

‫كان هناك ما يمكن أن نطلق عليه "الخيال الجمعى" ‪ ,‬و هو حياة باطنية جماعية تبدو فيها أحداث‬

‫معينة و كانها خبرة مشتركة بين العديد من األفراد و ليس شخصا واحدا فقط ‪.‬‬

‫ان عالم األنثروبولوجى الذى حضر واقعة تحول الشامان الى دب قطبى لم يستطع أن يرى ما رآه‬

‫باقى أفراد القبيلة التى كانت معه فى نفس الموقف و بالتالى رفض الظاهرة السحرية و قام بتفسيرها‬

‫‪- 288 -‬‬


‫على أنها هلوسة جماعية ‪.‬‬

‫و اذا فرضنا أننا ركبنا معا آلة زمن و انتقلنا للماضى و شهدنا واقعة تحول عصا هارون الى حية‬

‫فان موقفنا سيكون مشابها لموقف عالم األنثروبولوجى ‪.‬‬

‫و اذا افترضنا أننا وقفنا أمام البحر عندما قام موسى بشقه بعصاه ‪ ,‬فهل كنا سنرى أى شئ غريب‬

‫يطرأ على مظهر ماء البحر أم أننا كنا سنرى البحر كما هو بدون تغير ‪ ,‬و ستقتصر رؤية المعجزة‬

‫على أتباع موسى فقط ؟‬

‫ان بناء الواقع و رؤية الحقيقة ال تنفصل عن وعى من ينظر اليها ‪ ,‬أو بعبارة أخرى ان وعى‬

‫االنسان هو الذى يصنع الحقيقة ‪.‬‬

‫يقودنا ذلك الى البحث فى رؤية قدماء المصريين للنفس االنسانية ‪ ,‬و هو ما سنناقشه فى الفصل‬

‫التالى ‪.‬‬

‫‪- 289 -‬‬


‫الفصل الثامن‬
‫الروح المتجسدة‬

‫ال "نترو" (الكيانات االلهية) و النفس االنسانية ‪-:‬‬

‫لكى نفهم وعى المصرى القديم ‪ ,‬علينا أن نتحرر أوال من األحكام المسبقة و من نظرتنا الحديثه‬

‫للوعى و للعالقة بين وعى الفرد و بين العالم المتجسد من حوله ‪.‬‬

‫فاألحداث التى ينظر لها انسان العصر الحديث باعتبارها تجارب باطنية ذاتية لفرد واحد أو عدة‬

‫أفراد ‪ ,‬كانت تكتسب فى نظر االنسان القديم واقعية و مصداقية ال تقل عن مصداقية األحداث التى‬

‫تقع داخل نطاق الحواس المادية ‪.‬‬

‫ان العالقة بين الظاهر و الباطن هى عالقة متبادلة ‪ ,‬فكما أن لألحداث المادية بعدا باطنيا ‪ ,‬كذلك‬

‫األحداث الباطنية التى ينظر لها على أنها تقع داخل النفس يمكن أن تصبح واقعية و يختبرها االنسان‬

‫و كأنها أحداث خارجية تدرك بواسطة الحواس ‪.‬‬

‫فى مصر القديمة لم يكن الفرق بين الظاهر و الباطن قد بلغ حد التناقض كما فى العصر الحديث ‪.‬‬

‫فى ذلك الزمن كان للشعب "مخيلة جماعية" ‪.‬‬

‫تلك المخيلة الجماعية هى الرحم الذى خرجت منه التجارب الباطنية التى لم يعد لها وجود فى نفس‬

‫االنسان المعاصر ‪.‬‬

‫فى المخيلة الجماعية يمكن للشعب أن يمر بتجارب باطنية جماعية ال تنتمى لنفس انسانية واحدة أو‬

‫لفرد واحد و انما تعتبر جزء من التجارب النفسية لألمة كلها ‪ ,‬مع أنها تجارب ال تدخل فى نطاق‬

‫الحواس المادية ‪ .‬فالحواس المادية ليست هى الشئ الوحيد المشترك بين البشر جميعا ‪ ,‬فهناك‬

‫أيضا خيط آخر يربط بينهم جميعا على المستوى النفسى ‪.‬‬

‫‪- 290 -‬‬


‫فى نظر انسان العصر الحديث تعتبر التجارب الباطنية تجارب ذاتية (أى تنتمى لشخص واحد )‪,‬‬

‫أما فى نظر انسان الحضارات القديمة فالتجارب الباطنية يمكن أن تتحول الى شئ موضوعى عام‬

‫يشترك فيه كل أفراد الشعب ‪.‬‬

‫فى بعض الممارسات السحرية قد تتلبس االنسان قوة كونية أو كيان الهى بحيث تختفى شخصيته‬

‫و تذوب فى ذلك الكيان االلهى ‪ ,‬و يتحول الشخص فى تلك الحالة الى ذلك الكيان االلهى ‪.‬‬

‫هذا الشعور بالتحول الى كيان الهى ال يقتصر على الساحر فقط بل يمكن لمن حوله أن يالحظوا‬

‫ذلك و يدركوا حدوثه ‪.‬‬

‫من خالل تقمص شخصية الكيانات االلهية يمكن للساحر أن يأتى بأفعال فوق قدرات البشر العاديين‬

‫كانت القدرة على تقمص شخصية الكيانات االلهية من أهم مؤهالت الساحر و هى الدليل على‬

‫درايته العميقة بأسرار ذلك العلم ‪.‬‬

‫و بعيدا عن الممارسات السحرية ‪ ,‬نالحظ أن عالقة االنسان بالكيانات االلهية بوجه عام كانت تشكل‬

‫جزءا هاما من حياة الناس اليومية فى مصر القديمة ‪.‬‬

‫تأمل المصرى القديم الطبيعة حوله فأدرك حضور كيانات الهية تسكن كل شئ فيها ‪.‬‬

‫ال يوجد شئ فى الطبيعة ال تسكنه قوة كونية أو كيان الهى ‪.‬‬

‫لم تكن الكيانات االلهية فى نظر قدماء المصريين تسكن عالما منفصال عنا ‪ ,‬و انما هى تحيط بنا من‬

‫كل اتجاه و هى المحرك وراء كل مظاهر الطبيعة التى يتفاعل معها االنسان فى حياته اليومية ‪.‬‬

‫و هنا علينا أن ننتبه الى أن الكيانات االلهية ال تنعكس فقط فى مظاهر الطبيعة و انما تنعكس أيضا‬

‫داخل النفس االنسانية و التى تعتبر امتدادا لنفس واحدة هى "النفس الكونية" ‪.‬‬

‫على سبيل المثال ينعكس "ست" فى العديد من مظاهر الطبيعة مثل الصحراء و العواصف‬

‫و األعاصير ‪ ,‬كما ينعكس أيضا فى النفس االنسانية ‪ .‬فكل مظاهر العنف و القسوة و الوحشية‬

‫و الشهوة و الشراهة و االنفالت و السكر ‪ ,‬تعتبر انعكاس لصفات "ست" ‪.‬‬

‫و هنا علينا أن ننتبه الى أن المصرى القديم لم يكن ينظر الى هذه الصفات على أنها شر مطلق ‪.‬‬

‫‪- 291 -‬‬


‫فالعنف على سبيل المثال يمكن أن يتحول من شر الى خير اذا تم توظيفه لخدمة النظام الكونى ‪.‬‬

‫و اذا أخذنا مثال آخر ‪ ,‬و ليكن تحوت ‪ ,‬نجد أنه يتجلى فى الطبيعة فى دورة حياة القمر ‪ ,‬كما يتجلى‬

‫فى النفس االنسانية (و هى امتداد للنفس الكونية) فى القدرة على التعلم و التفكير و التصرف بحكمة‬

‫و نفس المبدأ الذى ينطبق على ست و تحوت ينطبق على كل ال "نترو" (الكيانات االلهية) ‪ ,‬فكل‬

‫كيان الهى له انعكاس فى الطبيعة و أيضا فى النفس االنسانية ‪.‬‬

‫و حتى اذا لم يتم استحضار الكيانات االلهية بطقوس سحرية و اذا لم يحدث تقمص طقسى لشخصية‬

‫أحد الكيانات االلهية ‪ ,‬كان لدى عامة الشعب المصرى شعور عام بأن الكيانات االلهية حاضرة‬

‫بشكل دائم فى كل مظاهر الطبيعة و داخل نفس االنسان ‪.‬‬

‫تختلف درجة معرفة قدماء المصريين بالكيانات االلهية من الكهنة الى عامة الشعب ‪ ,‬اال أن الوعى‬

‫بوجود هذه الكيانات كان شيئا متاحا للجميع حيث المجتمع المصرى كله يدرك وجودها بشكل أو‬

‫بآخر ‪.‬‬

‫من بين كل أفراد المجتمع كان على الساحر أن يقوم بتعزيز صلته بالكيانات االلهية و معرفتها‬

‫بشكل أكثر عمقا و تعقيدا من العامة و ذلك داخل اطار العلوم الباطنية و التدريبات الروحانية التى‬

‫يتم تدريسها فى بيت الحياة ‪ .‬هذا الحرص على تعزيز الصلة بالكيانات االلهية يبين لنا عالقة‬

‫التداخل و التشابك بين الكيانات االلهية و بين النفس االسانية ‪.‬‬

‫أثناء التجارب النفسية يشعر معظم الناس بأن هناك قوة الهية قد تلبسته و لمست روحه و أنه انصهر‬

‫فيها ‪.‬‬

‫و يعتبر تحوت و ست من أبرز األمثلة على ذلك ‪ ,‬اال أن الجمع االلهى فى مصر القديمة يحوى‬

‫عددا هائال من الكيانات االلهية ‪.‬‬

‫ان ما يصفه االنسان المعاصر بأنه قدرات نفسية نابعة من ذات االنسان و شخصيته كانت فى نظر‬

‫انسان الحضارات القديمة انعكاس لقوة الهية ‪.‬‬

‫من الخطأ أن نفسر ذلك االنعكاس بشكل سطحى فنقول على سبيل المثال أن االنسان يكتسب العنف‬

‫‪- 292 -‬‬


‫من ست و يكتسب الحكمة من تحوت ‪.‬‬

‫من الممكن أن يدخل االنسان فى عالقة خاصة جدا مع أحد الكيانات االلهية بحيث يتلقى من ذلك‬

‫الكيان االلهى وحيا أو الهاما بمجموعة من األفكار و المشاعر و الرغبات ‪.‬‬

‫و فى المقابل يمكن لالنسان أيضا تستبد به مشاعر معينة تبلغ من القوة و العنفوان قدرا هائال بحيث‬

‫تنتقل طاقتها لعالم الكيانات االلهية ‪.‬‬

‫لذلك علينا أن نكون حذرين عندما نحاول تصنيف الصفات السيكولوجية التى ترتبط بكل كيان الهى‬

‫فاألحرى بنا أن ننظر لكل كيان الهى على أنه مجال من الطاقة تتحرك النفس االنسانية داخله أو‬

‫خارجه ‪.‬‬

‫و يمكننا تبين مالمح مجال الطاقة الخاص بكل كيان الهى عن طريق تأمل الصور و النصوص‬

‫و الطقوس الدينية التى ترتبط بذلك الكيان ‪ ,‬و هى مهمة صعبة تحتاج الى بحث مستقل ‪.‬‬

‫و اذا أردنا أن نفهم وعى قدماء المصريين علينا أن ندرك أوال أن الكيانات االلهية فى نظرهم كانت‬

‫تدخل فى تشكيل بنية النفس االنسانية ‪ ,‬و علينا بعد ذلك أن نحاول تدريب أنفسنا على الشعور بوجود‬

‫تلك الكيانات كما كان قدماء المصريين يشعرون بها ‪.‬‬

‫و اليك عزيزى القارئ هذا المثال الذى يساعد على تقريب الصورة ‪.‬‬

‫عرفت حتحور فى مصر القديمة بأنها ربة الحب و الموسقى و الغناء و الرقص ‪ ,‬و كان قدماء‬

‫المصريين يقومون باستحضارها فى أعيادها بعزف الموسيقى و انشاد األغانى و الرقص و شرب‬

‫كميات كبيرة من النبيذ للوصول الى حالة من النشوة ‪.‬‬

‫فى المشهد التالى نرى موكبا من مريدى حتحور ‪ ,‬على اليسار نرى رجال يعزف على ناى مزدوج‬

‫من البوص ‪ ,‬و أمامه سيدة ترفع ثوبها و تضرب على فخذها مع ايقاع الموسيقى ‪ ,‬و أمامها سيدة‬

‫ترتدى ثوبا طويال و تمسك بزوج من الصفاقات و ترقص بحماس ‪ ,‬و أمامها رجل يعزف على‬

‫قيثاره ‪.‬‬

‫‪- 293 -‬‬


‫موكب من مريدى حتحور فى حالة نشوة من الموسيقى و الغناء و الرقص‬

‫( المشهد مسجل فوق اناء من الحجر الصابونى من مدينة قفط ‪ ,‬يعود الى ‪ 822‬عام قبل الميالد )‬

‫و كل أفراد الموكب يضعون فوق رؤوسهم زهرة لوتس ‪ ,‬رمز الميالد من جديد والدة روحانية ‪.‬‬

‫يتحرك الموكب فى اتجاه مقصورة لحتحور (المقصورة ال تظهر فى هذا المشهد) و هم جميعا فى‬

‫حالة من البهجة التى أخرجتهم من ذواتهم ‪.‬‬

‫ارتبطت تلك الحالة من البهجة بشكل خاص بمواكب و أعياد حتحور حيث يتم استحضارها من‬

‫خالل الموسيقى و الغناء و الرقص و شرب النبيذ و ممارسة الحب ‪.‬‬

‫و لكن ذلك ال يعنى أن حتحور تحضر بشكل آلى بمجرد ممارسة أى من تلك األنشطة ‪.‬‬

‫فشرب النبيذ على سبيل المثال اذا زاد عن حده و ارتبط باالسراف تحول من شئ جميل الى شئ‬

‫قبيح و فى هذه الحالة قد يستحضر "ست" بدال من حتحور ‪.‬‬

‫حين يشعر االنسان بالشراهة و الشهوة فهو أقرب الى "ست" ‪ ,‬أما حين يشعر بخفة الروح‬

‫و االنتشاء االيجابى فهو أقرب الى حتحور ‪.‬‬

‫ان االحتفال بحتحور فى مصر القديمة هو فى الحقيقة استحضار لها ‪.‬‬

‫و فى تلك ال "حضرة" تمتزج أرواح المريدين بروح حتحور ‪ ,‬أو بعبارة أخرى ان روح‬

‫‪- 294 -‬‬


‫المشاركين فى الحضرة ترتقى الى حالة من حاالت الوجد الصوفى بحيث يشعر المريد أن روح‬
‫حتحور قد حلت فيه ‪.‬‬

‫كان لكل كيان الهى فى مصر القديمة طريقة معينة الستحضاره ‪ ,‬و هى طرق تختلف من كيان الهى‬

‫الى آخر و ليس بالضرورة أن تكون بنفس الطريقة المتبعة الستحضار حتحور ‪.‬‬

‫فكل كيان الهى له تأثير قوى على النفس ‪.‬‬

‫تقوم فكرة استحضار الكيانات االلهية أو ال "حضرة االلهية" على الخروج من وعى األنا السفلية ‪.‬‬

‫فالكيانات االلهية هى قوى كونية أبعد من مستوى الشخصانية و األنا ‪ ,‬و لذلك على من يرغب فى‬

‫االتصال بهذه الكيانات أو استحضارها أن يلجأ الى تقزيم شعوره باألنا و الشخصانية ‪.‬‬

‫و يبدو أن الحياة الروحية لقدماء المصريين كانت أعمق بكثير من حياتنا ‪.‬‬

‫فالوعى الجمعى لقدماء المصريين كان لديه القدرة على االتصال بسهولة بنوازع النفس و ما فيها‬

‫من صور أولية و التى يصفها علم النفس الحديث بأنها الالوعى الجمعى ‪.‬‬

‫كان وعى المصرى القديم باألنا و الشخصانية أقل حدة من وعى االنسان المعاصر بها ‪ ,‬و كان أكثر‬

‫تفتحا و تجاوبا مع القوى الكونية ‪.‬‬

‫و بمرور الزمن بدأ هذا التفتح فى الوعى فى الضمور ‪ ,‬و كلما قل الوعى الجمعى بالقوى الكونية‬

‫كلما ازداد الوعى باألنا و الشخصانية ‪.‬‬

‫و اذا تأملنا النصوص و المشاهد التى تصور الكيانات االلهية فى مصر القديمة ‪ ,‬سنخرج من ذلك‬

‫بخريطة سيكولوجية للنفس االنسانية ‪ ,‬و هى خريطة تختلف تماما عن الخرائط السيكولوجية‬

‫الفرويدية (نسبة الى عالم النفس سيجموند فرويد) و اليونجية (نسبة الى عالم النفس كارل يونج) ‪.‬‬

‫الروح و الجسد ‪-:‬‬

‫من أهم سمات األدب المصرى (بما فى ذلك النصوص الدينية) أن صفات االنسان تنعكس فى‬

‫مختلف أجزاء جسده ‪.‬‬

‫فاألطراف األربعة و أعضاء الحس و األحشاء و حتى األسنان و العظام كانت فى نظر المصرى‬

‫‪- 295 -‬‬


‫القديم مسكنا لصفات الروح و نوازع النفس ‪ ,‬حيث كل منها يحمل صفة من صفات االنسان ‪.‬‬

‫على سبيل المثال اذا أراد المصرى القديم أن يعبر عن رغبة أو فكرة أو نية فانه يعبر عن ذلك‬

‫و كأن الرغبات و األفكار تنبع من جزء محدد من أجزاء الجسد ‪.‬‬

‫ارتبطت االرادة دائما فى األدب المصرى باألطراف األربعة ‪ ,‬حيث األرجل القوية و األذرع القوية‬

‫دائما ما تستخدم كتعبير مجازى عن قوة االرادة و عن قدرة المرء على تحقيق أمنياته و رغباته ‪.‬‬

‫و هناك فصل فى كتاب الخروج الى النهار يحمل عنوان "اكتساب القوة فى األقدام" و من السياق‬

‫نستنتج أن نصوصه تدور حول اكتساب الروح قوة االرادة و التى رأى قدماء المصريين أن محلها‬

‫األقدام ‪.‬‬

‫جاء فى أحد نصوص فصل "اكتساب القوة فى األقدام" من كتاب الخروج الى النهار العبارات التالية‬

‫على لسان المرتحل فى العالم السفلى ‪-:‬‬

‫*** صارت خطواتى عريضة ‪ ...‬و ارتفعت سيقانى ‪ ...‬لقد عبرت الصراط العظيم ‪ ,‬ألن أقدامى‬

‫قوية ***‬

‫ان ورود النص السابق فى سياق رحلة الروح فى العالم السفلى بعد الموت يؤكد أن العبارة ال يجب‬

‫أن تؤخذ بالمعنى الحرفى ‪ .‬و حتى المشاهد المصاحبة للنص تصور روح المتوفى على هيئة طائر‬

‫ال "با" (طائر اللقلق) و هى تخرج من المقبرة مستخدمة جناحيها كوسيلة للتنقل و ليس األقدام ‪.‬‬

‫يصور المشهد التالى من بردية "خا ‪ -‬رع" خروج الروح من المقبرة على هيئة طائر ال "با" و هو‬

‫مشهد تكرر فى أكثر من بردية من البرديات التى تسجل رحلة الروح فى العالم السفلى ‪.‬‬

‫‪- 296 -‬‬


‫ال "با" (الروح) التى اكتسبت قوة فى األقدام و هى على هيئة طائر‬

‫( من بردية "خا ‪ -‬رع" ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫و كما تشير عبارة "اكتساب القوة فى األقدام" الى صفة سيكولوجية ‪ ,‬هناك عبارات أخرى تعبر عن‬

‫صفات سيكولوجية مثل امتالك ساعدين ‪.‬‬

‫جاء فى أحد النصوص التى تصف الملك سنوسرت األول ‪-:‬‬

‫*** البراعة و الحرص من صفات صاحب الهمة ‪ ...‬كل األعمال ينجزها من هو مدرب ‪ ,‬و الفعال‬

‫(الفاعل) هو من يمتلك ساعدين ***‬

‫ان امتالك ساعدين يعنى أن يكرس االنسان جهده النجاز مهمة ما ‪.‬‬

‫أما األقدام فهى التى تحمل االرادة ‪ ,‬و أما األيدى فهى تعبر عن عالقة المرء بغيره ‪.‬‬

‫أن تمد يدك لشخص ما كان ذلك فى مصر القديمة تعبيرا عن ثقتك فى ذلك الشخص ‪.‬‬

‫و فى كتاب الخروج الى النهار هناك مصطلحات استخدمت اليد كوسيلة للتعبير مثل عبارة "أن‬

‫تمتلئ يد شخص ما بالنزاهة" ‪.‬‬

‫يمكننا أن ننظر الى هذه الوسائل من التعبير على أنها عرف أو عادة أدبية مستوحاة من طريقة‬

‫الكتابة الهيروغليفية ‪ .‬بل يمكننا أن نقول أن قدماء المصريين كانوا منحصرين داخل النظام‬

‫‪- 297 -‬‬


‫الهيروغليفى الذى يعبر عن المعانى المجردة برموز من العالم المادى ‪.‬‬

‫فاللغة ليست فقط المركبة التى يستخدمها العقل للتعبير عن نفسه و انما هى العقل نفسه أثناء تعبيره‬

‫عن ذاته ‪ .‬ان التركيبات اللغوية هى ألفاظ العقل ‪.‬‬

‫علينا أن ننتبه الى أن المصرى القديم لم يكن يفكر بنفس الطريقة التى نفكر بها فى عصرنا الحديث‬

‫‪ ,‬و انما كان يفكر بطريقة أقرب الى روح الكتابة الهيروغليفية ‪.‬‬

‫فالنظام الهيروغليفى هو األقدر على التعبير عن عقلية قدماء المصريين ‪.‬‬

‫و برغم استخدام الهيروغليفية لرموز مادية اال اننا ال نستطيع أن نصفها بالبدائية أو السطحية ‪ ,‬فهى‬

‫تعبر بطريقة رمزية راقية عن رؤية المصرى القديم للعقل و عالقته بالمستوى المادى و النفسى‬

‫للوجود ‪ ,‬و هما فى الحقيقة ال ينفصالن عن بعضهما البعض كما نعتقد نحن ‪.‬‬

‫و قد طرحنا هذه الفكرة فى الفقرة السابقة و بقى أن ننتقل اآلن الى فكرة أخرى مكملة لما سبق‬

‫و هى فكرة ارتباط الصفات النفسية بأجزاء الجسم المادى ‪.‬‬

‫ان الطبيعة التصويرية للهيروغليفية جعلت من السهل علينا أن نترجم المعانى المرتبطة بالصفات‬

‫النفسية الى لغاتنا الحديثه ‪.‬‬

‫و ألن الهيروغليفية تستخدم الصور كرموز فهى ليست كأنظمة الكتابة الحديثه التى تفصل بين ما‬

‫هو مادى و ما هو معنوى ‪ ,‬أو بعبارة أخرى ان الهيروغليفية ال تفصل بين الباطن و الظاهر ‪.‬‬

‫و هى ال تفعل ذلك ألن عقلية قدماء المصريين لم تكن تفصل بين االثنين ‪.‬‬

‫عند قراءة النصوص المصرية القديمة تقابلنا العديد من التعبيرات التى تشير الى أن شعور المصرى‬

‫القديم بذاته كان موزعا بين مختلف أجزاء جسده ‪.‬‬

‫فأعضاء الحس و األطراف األربعة و األحشاء ‪ ,‬الخ كانت تبدو فى النصوص المصرية القديمة‬

‫و كأن كل منها كائن حى قائم بذاته له شخصية و صفات تميزه عن غيره ‪.‬‬

‫على سبيل المثال ‪ ,‬األنف هى التى تتنفس و الفم هو الذى يتكلم و األذن هى التى تسمع ‪.‬‬

‫فى أحد نصوص الحكمة فى مصر القديمة و المعروف باسم حكمة "مرى كا رع" نقرأ أن االله خلق‬
‫الهواء لكى تحيا به أنوف البشر ‪.‬‬

‫‪- 298 -‬‬


‫و كان من عادة قدماء المصريين وصف الكيانات االلهية بأنها تمنح أنفاس الحياة لألنف بل و‬
‫تصويرها و هى تقوم بذلك باستخدام مفتاح الحياة "عنخ" ‪ ,‬و كأن األنف تمثل ذات االنسان ‪.‬‬

‫ال "نترو" (الكيانات االلهية) تمنح أنفاس الحياة ألنف الملك تحتمس الرابع باستخدام مفتاح‬

‫الحياة "عنخ ( من مقبرة الملك تحتمس الرابع ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫جاء فى لوحة "سحتب" (‪ )Sehetep‬أحد التعبيرات التى استخدمت األنف ‪ ,‬اذ يقول أحد نصوص‬

‫اللوحة أن "األنوف تتجمد من البرد" حين يكون الملك فى حالة غضب ‪ .‬و هو تعبير مفعم بالحيوية‬

‫يصور تأثير الخوف و الرهبة على الناس اذ يجعلهم يتجمدون ‪.‬‬

‫تحتل األنف موقعا هاما فى التركيب السيكولوجى لالنسان باعتبارها الوسيط الذى ينقل له الهواء‬

‫الذى يحمل معه سر الحياة ‪.‬‬

‫أن ينحنى شخص ما أمام أحد الكيانات االلهية أو أمام انسان ذو مكانة رفيعة بحيث تلمس أنفه‬

‫األرض كان ذلك تعبيرا عن أن حياة ذلك الشخص تعتمد على من ينحنى أمامه ‪.‬‬

‫‪- 299 -‬‬


‫و كذلك الفم يستخدم فى العديد من التعبيرات حيث يرتبط بالكالم فيقال أن الفم يتكلم أو ال يتكلم ‪.‬‬

‫و كان وصف شخص ما بأن "شفاهه مستقيمة" يعنى أن ذلك الشخص صادق ‪ ,‬و هو من التعبيرات‬

‫الشائعة فى مصر القديمة ‪.‬‬

‫كان الفم بالنسبة لقدماء المصريين هو الموضع الذى تدخل منه طاقة الحياة لجسم االنسان و هو‬

‫أيضا الموضع الذى تخرج منه ‪ .‬فالطقس السحرى الذى يهدف الحياء التماثيل و الصور المقدسه‬

‫(أى شحنها بالطاقة الروحانية) يطلق عليه طقس فتح الفم ‪ .‬و كذلك الطقس الذى يهدف لتحرير ال‬

‫"با" (الروح) من الجسد بعد الموت يطلق عليه طقس فتح الفم ‪.‬‬

‫فى بردية "نب سنى" صور الفنان المصرى القديم طقس فتح الفم على يد حارس التوازن الذى يشير‬

‫الى فم "نب سنى" بيده ‪.‬‬

‫كاهن "سم" (حارس التوازن) يقوم بفتح فم "نب ‪ -‬سنى"‬

‫( من بردية "نب ‪ -‬سنى" ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫‪- 300 -‬‬


‫و فى طقوس فتح الفم يستخدم الكهنة أداة من الحديد على شكل قادوم يتم رفعه الى فم المومياء بعد‬

‫االنتهاء من تحنيطها ‪ ,‬و أثناء الطقس يرتل الكاهن عبارات ‪ ,‬منها على سبيل المثال ‪-:‬‬

‫*** لقد فتحت فمك بقادوم أنوبيس ‪ ...‬لقد فتحت فمك بالقادوم الحديدى الذى فتحت به أفواه ال‬

‫"نترو" (الكيانات االلهية) ***‬

‫فى المشهد التالى صور الفنان المصرى القديم أحد الكهنة و هو يقوم برفع القادوم الحديدى الى فم‬

‫المومياء أثناء طقس فتح الفم ‪.‬‬

‫طقس فتح الفم باستخدام القادوم الحديدى‬

‫( من مقبرة "با تا آمون آبت" ‪ ,‬دولة حديثه )‬

‫و هذا الطقس يشمل أجزاء أخرى من الجسد (مثل فتح العين) ‪ ,‬و لكن يظل الفم هو الجزء األهم ‪.‬‬

‫و هناك عدة فصول من كتاب الخروج الى النهار مخصصة لطقس فتح الفم أو بتعبير آخر ( منح‬

‫المتوفى فما لكى يتكلم به فى العالم السفلى ) ‪.‬‬

‫كان للفم اذن صفات خاصة فى نظر قدماء المصريين ‪ .‬فهو يعتبر الوسيط بين البعد المادى و البعد‬

‫النفسى ‪ ,‬و هو همزة الوصل بين الحياة و الموت ‪ ,‬و بين الموت و البعث أو الميالد من جديد ‪.‬‬

‫‪- 301 -‬‬


‫كان طقس فتح الفم يتضمن أيضا فتح العين ‪ ,‬لذلك يطلق عليه أحيانا طقس فتح الفم و العين ‪.‬‬

‫و العين فى نظر قدماء المصريين هى مركز الصحة و القوة النفسية ‪.‬‬

‫جاء فى متون األهرام (نص رقم ‪-: )121‬‬

‫*** ان الملجأ و المالذ للملك ونيس هو عينه ‪ ...‬ففيها تكمن القوة التى ال تقهر ‪ ...‬فى عين الملك‬

‫ونيس تكمن قدرته ***‬

‫العين هى مصدر الرؤية ‪ ,‬و هى مصدر القوة الداخلية ‪ ,‬ففيها تسكن الشجاعة أو عكسها (أى‬

‫الجبن و الخوف) ‪.‬‬

‫لذلك نقرأ فى متون األهرام تعبيرات تصف الملك بأنه يضع الخوف فى أعين األرواح التى تنظر‬

‫اليه و فى عين كل من يسمع اسمه ‪.‬‬

‫و فى قصة سنوحى (و هى من عصر الدولة الوسطى) جاء هذا الوصف للملك على لسان سنوحى‬

‫( ان العين التى تراك لن يراودها الخوف ) ‪.‬‬

‫فى مصر القديمة كان للعين صفات نفسية و سحرية ‪ ,‬و كان ذكرها فى بعض التعبيرات و الصيغ‬

‫هو اشارة للصفات التى ترمز لها العين ‪ .‬فامتالك البشر للعين يعنى امتالكهم لقدرات العين مثل‬

‫القدرة على االبصار أو القدرة على بث الرعب فى القلوب ‪.‬‬

‫و العين فى نظر المصرى القديم هى كيان قائم بذاته له وعى و ذكاء يتواجد فى عالم الصور األولية‬

‫أو عالم الجوهر ‪ /‬الروح ‪ .‬و فى تلك الحالة يطلق عليها "وادجت" ‪ ,‬و هى رمز القدرة االلهية على‬

‫خلق حياة جديدة و فى نفس الوقت على هدمها ‪ .‬و قد اتخذها المصرى القديم رمزا للحماية ‪.‬‬

‫صور الفنان المصرى القديم عين ال "وادجت" بأجنحة فى بعض األحيان ‪ ,‬و فى أحيان أخرى‬

‫صورها بأذرع كتعبير عن وجودها المستقل ‪.‬‬

‫فى المشهد التالى و هو من احدى مقابر الدولة الحديثه صور الفنان المصرى العين و هى تمد‬

‫ذراعها و تقدم البخور قربانا ألوزير ‪ ,‬و تحت العين يجلس صاحب المقبرة "باشدو" رافعا ذراعيه‬

‫ألعلى فى وضع التبجيل ‪.‬‬

‫‪- 302 -‬‬


‫عين ال "وادجت" تقدم قربان البخور ألوزير‬

‫( من مقبرة "با شدو" بدير المدينة ‪ ,‬دولة حديثه )‬

‫قد يبدو المشهد غريبا أمام أعين القارئ ‪ ,‬و لكنه يؤكد لنا أن العين فى نظر المصرى القديم كان‬

‫لها شخصية مستقلة و اال ما كان لرمز ال "وادجت" مثل هذه الحيوية التى تنعكس فى الفن ‪.‬‬

‫و من الجدير بالتأمل أن األذن لم تحظى فى مصر القديمة بنفس استقاللية العين ‪.‬‬

‫فالصورة األولية للعين هى فى األصل صورة كونية ‪ ,‬أى أن العين وجدت أوال كمبدأ كونى أو كيان‬

‫الهى ثم تجلت العين الكونية بعد ذلك فى أكثر من هيئة ‪ .‬فالشمس و القمر هما أعين حورس ‪ ,‬رب‬

‫السماء ‪ .‬و "وادجت" ترمز لكل من الشمس و القمر ‪.‬‬

‫أما األذن فلم يكن لها مثل هذه الشخصية الكونية ‪.‬‬

‫و لكنها على أية حال كانت ترمز لصفات نفسية مثلها مثل العين ‪.‬‬

‫‪- 303 -‬‬


‫األذن هى العضو الذى من خالله يمكن للعقل أن يوجه انتباهه نحو العالم ‪ ,‬و بوجه خاص الى‬
‫نظامه الروحى ‪.‬‬

‫فى مصر القديمة ‪ ,‬كان لفعل اصغاء السمع معنى أعمق من المعنى الذى ندركه فى عصرنا الحديث‬

‫فوعى االنسان (و حكمته) تكون حيث تكون أذنه ‪.‬‬

‫لذلك قال الحكيم "بتاح حتب" ‪ ,‬الذى عاش فى عصر الدولة القديمة ‪-:‬‬

‫*** من يحسن السمع يحبه االله ‪ ....‬و من ال يحسن السمع يمقته االله ***‬

‫فى مصر القديمة كانت موهبة اصغاء السمع شرطا أساسيا الدراك عالم الروح ‪.‬‬

‫و ألن الكون أتى للوجود من خالل كلمة الخلق التى نطقها االله فى األزل ‪ ,‬لذلك فان السمع هو‬

‫الحاسه التى تفتح وعى االنسان الدراك أعمق مستويات الوجود ‪.‬‬

‫و ألن بتاح هو االله الذى نطق كلمة الخلق األزلية ‪ ,‬لذلك كان هو االله السميع ‪.‬‬

‫و لكن صفة السميع لم تكن حصرية لبتاح فقط ‪ ,‬و انما هناك العديد من الكيانات االلهية التى وصفت‬

‫بأن "كلها آذان صاغية" مثل تحوت و ايزيس و حورس ‪ ,‬و هى عبارة تدل على أن هذه الكيانات‬

‫االلهية حكيمة و رحيمة ‪ ,‬ألنها تستمع الى رجاء االنسان و ابتهاله و تستمع فى نفس الوقت الى‬

‫أصوات العالم السماوى الذى يهيمن عليه التناغم ‪.‬‬

‫و مفهوم االله السميع هو األصل تستند اليه فكرة ألواح األذن و هى ألواح كان قدماء المصريين‬

‫ينقشون فوقها صورا آلذان مصحوبة بعبارات ابتهال و دعاء للكيانات االلهية ‪ ,‬ألن من صفات‬

‫االله أنه سميع ‪.‬‬

‫‪- 304 -‬‬


‫أحد نماذج ألواح األذن و قد نقش الفنان المصرى القديم فوقها ابتهاال ل "بتاح"‬

‫( من عصر الدولة الحديثه )‬

‫و الى جانب األطراف األربعة و أعضاء الحس كانت األحشاء أيضا فى نظر قدماء المصريين‬

‫مركزا لصفات نفسية ‪.‬‬

‫جاء فى تعاليم الحكيم "بتاح حتب" الذى عاش فى عصر الدولة القديمة أن البطن هى الموضع‬

‫الذى تكمن فيه الرغبات و الشهوات ‪.‬‬

‫توصف البطن أحيانا بأنها باردة أو ساخنه ‪ .‬على سبيل المثال توصف الغيبة و النميمة بأنها قئ‬

‫شخص ذو بطن ساخنة ‪ ,‬أما الشخص الودود فيوصف بأنه ذو بطن باردة ‪.‬‬

‫و فى تعاليم الحكيم "كاجمنى" من عصر الدولة القديمة وصفت البطن و كأن لها شخصية‬

‫سيكولوجية مستقلة ‪ .‬و فى تلك التعاليم نقرأ على سبيل المثال ‪-:‬‬

‫*** الوضيع هو من تشتهى بطنه الطعام بعد أن يفرغ من تناول وجبته ***‬

‫و يقول الحكيم "بتاح حتب" أيضا ‪-:‬‬

‫‪- 305 -‬‬


‫*** ان الرجل الذى ال يطلق العنان لشهوات بطنه و رغباتها هو رجل محل ثقه ***‬

‫فى مصر القديمة كانت البطن هى موطن الشهوات و فى نفس الوقت هى أيضا الموضع الذى تكمن‬

‫فيه قوة االنسان ‪.‬‬

‫فى الفصل السابق رأينا كيف يقوم السحرة باستحضار طاقة ال "حكا" (السحر) و ابتالعها‬

‫و تخزينها فى بطونهم ‪.‬‬

‫جاء فى أحد نصوص األهرام على لسان الملك ‪-:‬‬

‫*** سأعرج الى السماء ‪ ,‬بقوة ال "حكا" (السحر) المختزن فى بطنى ***‬

‫فى مصر القديمة يوصف الرجال األقوياء بأنهم أصحاب بطون كبيرة ‪.‬‬

‫و الطريقة التقليدية التى عبر بها قدماء المصريين عن المكانة الرفيعة و الهيبة التى يتمتع بها رجال‬

‫المجتمع هى تصويرهم فى وضع الوقوف مع مد الساق اليسرى خطوة واحدة لألمام ‪ ,‬و االمساك‬

‫بعصا طويلة فى اليد اليسرى ‪ ,‬و وضع صولجان فى اليد اليمنى ‪.‬‬

‫و المشهد التالى لواحد من أهم و أشهر تماثيل عصر الدولة القديمة و يعرف باسم تمثال شيخ البلد‬

‫و هو للكاهن المرتل "كا عبر" الذى يقف فى هذا الوضع التقليدى ‪ ,‬فى يده اليسرى عصا طويلة‬

‫و فى يده اليمنى صولجان (ربما كان مفتح الحياة) ‪ -‬و لكن الصولجان لم يعد موجودا ‪.‬‬

‫‪- 306 -‬‬


‫الكاهن المرتل "كا عبر" من أهم شخصيات المجتمع المصرى‬

‫( أسرة رابعة ‪ ,‬دولة قديمة )‬

‫كان الكاهن "كا عبر" من أهم شخصيات المجتمع المصرى فى عصر األسرة الرابعة ‪ ,‬دولة قديمة ‪,‬‬

‫و كان يتمتع بالهيبة و االحترام ‪ ,‬و قد حرص الفنان المصرى القديم على ابراز البطن الكبير للكاهن‬

‫كتعبير عن مكانته الرفيعة فى المجتمع ‪.‬‬

‫ان ما يختزنه االنسان فى بطنه من صفات و قدرات يصبح جزءا من تكوينه السيكولوجى و يشكل‬

‫عاداته و غرائزه و دوافع عقله الباطن ‪ .‬و ما يختزن فى البطن يبقى لألبد ‪.‬‬

‫عندما أراد الحكيم "بتاح حتب" التعبير عن فكرة دوام الحب الى األبد ‪ ,‬وصف الحب بأنه يبقى فى‬

‫البطون ‪ .‬كما فى هذه العبارة التى تقول ‪-:‬‬

‫‪- 307 -‬‬


‫*** ان حبك يبقى لألبد فى بطون من يحبونك ***‬

‫كانت البطن فى نظر قدماء المصريين هى البوتقة التى تنصهر فيها صفات االنسان و قدراته‬

‫و مشاعره و أفكاره و تندمج جميعا لتشكل شخصيته ‪.‬‬

‫فى عصر الدولة الحديثه وصف الحكيم "أمنموبى" البطن بأنها التابوت الذى يدفن فيه االنسان ‪.‬‬

‫فالجانب السلبى للبطن يعتبر هو المقابل للقلب ‪ .‬يقول الحكيم أمنموبى ‪-:‬‬

‫*** ال تدع قلبك يتبع معدتك ‪ ...‬فمن يفعل ذلك يستبدل الحب بالغرائز ‪ ,‬و يصير قلبه فارغا ‪,‬‬

‫و جسده مدنسا ‪ ,‬غير ممسوح بالزيت العطرى ‪ ...‬ان اتساع القلب من أعظم عطايا االله ‪...‬‬

‫و لكن من يتبع معدته فقد اكتسب عدوا ***‬

‫يمكن للمعدة أن تؤثر تأثيرا سلبيا على القلب و تضلله ‪.‬‬

‫هناك دائما ازدواجية فيما يخص البطن ‪ .‬فهى موضع القدرات الروحانية لالنسان ‪ ,‬و فى نفس‬

‫الوقت هى موضع الشهوات و الغرائز الدنيئة ‪.‬‬

‫و عند ذكر البطن فى مقابل القلب يكون المعنى المقصود فى الغالب هو المعنى السلبى ‪.‬‬

‫فالقلب فوق البطن من الناحية التشريحية و أيضا من الناحية السيكولوجية ‪.‬‬

‫القلب هو المركز الروحى لالنسان ‪ ,‬و هو الموضع الذى يقترب فيه االنسان من كائه (نسخته‬

‫األثيرية التى تختزن فيها الطاقة الحيوية) ‪.‬‬

‫يقول الحكيم "بتاح حتب" ‪-:‬‬

‫*** اتبع قلبك ما دمت حيا ‪ ...‬ال تهمل قلبك ‪ ,‬ألن ذلك يضعف ال "كا" ***‬

‫فى المشهد التالى من كتاب الخروج الى النهار للكاتب "آنى" من عصر الدولة الحديثه يظهر "آنى"‬

‫و هو يرفع كفيه بالتحية و التبجيل و أمامه صورة ترمز لقلبه الذى وضع فوق عامود مرتفع أمام‬

‫أربعة من ال "نترو" فى وضع الجلوس فوق منصة ترمز للماعت (النظام الكونى ‪ /‬االتزان) ‪.‬‬

‫‪- 308 -‬‬


‫آنى يبتهل الى قلبه‬

‫( من بردية "آنى" ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫و فى أحد فصول الكتاب يتحدث "آنى" الى قلبه قائال ‪-:‬‬

‫*** أنت ال "كا" التى تسكن جسدى ‪ ,‬و التى تشكل أعضاءه و تمنحه طاقة الحياة ***‬

‫و ال "كا" فى نظر قدماء المصريين هى مصدر الطاقة الحيوية و العنفوان ‪ .‬لذلك فان تعبير غسل‬

‫القلب فى اللغة المصرية القديمة يحمل دالالت تتعلق بالعنفوان و أحيانا بالنشوة ‪.‬‬

‫على سبيل المثال يقال عن الشخص الذى يبتهج قلبه أثناء ممارسة رياضة الصيد أنه يغسل قلبه ‪.‬‬

‫كما يقال أحيانا عن الشخص الذى ينفجر فى نوبة غضب أنه يغسل قلبه ‪.‬‬

‫و القلب فى الفكر الدينى المصرى هو ذلك العضو الذى به يتأمل االنسان ‪ .‬يقول الحكيم "بتاح‬

‫حتب" ( ان القلب هو الذى يعلم صاحبه أن يصغى السمع أو ال يصغى ) ‪.‬‬

‫القلب هو الموضع الذى تتبوأ فيه الروح مكانا للسمع ‪.‬‬

‫فى القلب و من خالله يمكن لالنسان أن يفهم الحياة بشكل أعمق و يحيا فى تناغم معها ‪.‬‬

‫فى القلب ينفتح وعى االنسان على الماعت ‪.‬‬

‫جاء فى أحد النصوص المصرية القديمة و يطلق عليه لوحة "آنتف" (من عصر الدولة الوسطى) ‪-:‬‬

‫*** أنا من ينصت السمع الى الماعت ‪ ,‬و يتأملها بقلبه ***‬

‫القلب هو أيضا مركز الذاكرة الروحية و هو محل النية و القصد و العزم ‪.‬‬

‫‪- 309 -‬‬


‫و للتعبير عن األمل أو الرجاء الذى ال يخيب كان المصرى القديم يستخدم عبارات مثل القلب الذى‬

‫ال يعوقه شئ ‪.‬‬

‫و الفرق بين رغبات القلب و رغبات البطن ‪ ,‬أن رغبات البطن تنبع من الذات الدنيا (األنا السفلية)‬

‫و تعبر عن الشهوة و لذلك فهى مخالفة للماعت ‪ ,‬بعكس رغبات القلب التى تنبع من الروح (األنا‬

‫العليا) و تعبر عن الماعت و تتوافق معها ‪ ,‬أو هكذا يجب أن تكون ‪.‬‬

‫القلب هو أكثر أعضاء الجسد قربا للروح و هو فى األصل نقى ‪ /‬طاهر ‪ /‬سليم ‪ ,‬الى أن تلوثه‬

‫الرغبات النابعة من األنا السفلية ‪.‬‬

‫لذلك كان من الضرورى تطهير القلب أوال بأول من الرغبات الدنيا ‪.‬‬

‫لذلك نقرأ فى النصوص المصرية القديمة أحيانا تحذيرات من أن يختم االله على قلب المرء ‪ ,‬أو أن‬

‫يختفى القلب أو بمعنى أدق يذهب نقاؤه ‪.‬‬

‫الطهارة و النقاء هما فطرة القلب ‪ ,‬و لذلك قيل أن القلب هو األصل و السبب فى وجود االنسان ‪.‬‬

‫فى الفصل رقم ‪ 11‬من كتاب الخروج الى النهار نقرأ العبارة التالية ألحد المرتحلين فى العالم‬

‫السفلى حيث يخاطب قلبه و كأنه أمه ‪ .‬يقول النص ‪-:‬‬

‫*** يا قلبى ‪ ,‬يا أمى ‪ ....‬أنت السبب فى مجيئى للوجود ***‬

‫و العبارة السابقة يتبعها دعاء أو ابتهال روح المتوفى لقلبه راجيا اياه أن ال يكون شاهدا ضده يوم‬

‫الحساب ‪ ,‬و كأن القلب شخص آخر أو كيان مستقل بذاته عن صاحبه ‪.‬‬

‫و فى عصر الدولة الحديثه تصادفنا نصوص أخرى تصف القلب بأنه محراب االله الذى يدخله‬

‫االنسان حين تأتيه الحكمة ‪.‬‬

‫القلب اذن هو ذلك الجزء من كيان االنسان الذى ينتمى للعالم االلهى الذى تحكمه الماعت ‪ ,‬و لذلك‬

‫فهو ليس محل أى رغبة أو فكرة أو نية ال تتوافق مع الماعت ‪.‬‬

‫القلب هو البذرة النقية الطاهرة الغير قابلة للفساد ‪ ,‬لذلك كان القلب هو الشاهد الذى تسمع كلمته‬

‫فى قاعة أوزير يوم الحساب ‪.‬‬

‫‪- 310 -‬‬


‫جاء فى كتاب الخروج الى النهار (فصل رقم ‪ )20‬على لسان الروح المرتحلة فى العالم السفلى ‪-:‬‬

‫*** يا قلبى ‪ ,‬كان فى صفى و ال تشهد ضدى ‪...‬كن فى سالم و تناغم معى ***‬

‫و النص السابق ورد فى بردية "نب ‪ -‬سنى" و قد سجله قدماء المصريين مصحوبا بمشهد تصويرى‬

‫يقوم فيه أنوبيس باعادة قلب "نب ‪ -‬سنى" اليه ‪.‬‬

‫أنوبيس يعيد قلب "نب ‪ -‬سنى" اليه‬

‫( من بردية "نب ‪ -‬سنى" ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫يقوم أنوبيس بمنح "نب ‪ -‬سنى" القلب و كأنه يمنحه كنزا عظيما ‪ ,‬و يتسلم "نب ‪ -‬سنى" القلب‬

‫بمنتهى التبجيل و الخشوع ‪.‬‬

‫و كان للرأس أيضا مغزى عميق فى الفكر الدينى المصرى ‪ .‬فمن بين كل أعضاء الجسد كانت‬

‫الرأس هى األكثر قدرة على التعبير عن كيان االنسان بأكمله ‪.‬‬

‫فى الكتابة الهيروغليفية كانت رأس االنسان وحدها تكفى للداللة على االنسان بوجه عام ‪ ,‬و كذلك‬

‫رأس الحيوان ‪ ,‬أو رأس أى من الكيانات االلهية ‪.‬‬

‫تقول أسطورة ايزيس و أوزيريس أن رأس أوزير دفنت فى أبيدوس و هو ما يعنى ضمنيا أن‬

‫‪- 311 -‬‬


‫أبيدوس هى مكان دفن جسد أوزير بالكامل و ليس الرأس فقط ‪ .‬ألن الرأس تحمل مالمح وجه كل‬

‫شخص و تبرز تفرده عن غيره ‪ ,‬لذلك كانت هى أكثر األعضاء قدرة على التعبير عن الكيان‬

‫االنسانى ككل و هى ليست كأعضاء الجسد األخرى التى يمكن لكل منها أن يبدو كشخصية‬

‫سيكولوجية مستقلة ‪.‬‬

‫و من األشياء الجديرة بالتأمل أن الفنان المصرى القديم كان يصور ال "با" (الروح) بعد تحررها‬

‫من الجسد (أى بعد الموت) على هيئة طائر برأس انسان يحمل مالمح وجه الشخص المتوفى ‪.‬‬

‫الشكل التالى هو جزء من كتاب الخروج الى النهار من بردية "نب ‪ -‬سنى" و قد صوره الفنان‬

‫المصرى فى صورة طائر برأس آدمى يحمل مالمح وجه "نب سنى" ليعبر بذلك عن ال "با"‬

‫(الروح) بعد تحررها من الجسد ‪.‬‬

‫ال "با" (الروح) على هيئة طائر برأس آدمى يحمل مالمح وجه "نب ‪ -‬سنى"‬

‫( من بردية "نب ‪ -‬سنى" ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫كان من الضرورى للمرتحل فى العالم السفلى (دوات) فى هيئة ال "با" أن يستعيد رأسه (كينونته) ‪.‬‬

‫لذلك نقرأ فى كتاب الخروج الى النهار العبارات التالية على لسان الكاتب "آنى" أثناء ارتحاله فى‬

‫‪- 312 -‬‬


‫العالم السفلى ‪-:‬‬

‫*** ان رأس أوزير لم تنفصل عنه ‪ ...‬ان رأس "أوزير – آنى" لن تنفصل عنه ‪ ...‬لقد أعدت جمع‬

‫أوصالى ‪ ,‬و استجمعت كيانى كامال ‪ ...‬و عدت شابا ‪ ...‬أنا أوزير ‪ ,‬رب ال "جد" (األبدية) ***‬

‫من كل ما سبق يمكننا أن نستخلص أن ال "كا" أقرب الى القلب بينما ال "با" أقرب الى الرأس ‪.‬‬

‫حين نتأمل النصوص المصرية القديمة التى تشير الى الجسد ككيان كامل بدال من تقسيمه الى‬

‫أعضاء يبدو لنا أن الجسد كان فى نظر قدماء المصريين شيئا خامال هامدا ‪.‬‬

‫فى الفلسفة المصرية القديمة كانت أعضاء الجسد هى المسكونة بالروح ‪ ,‬و هى التى تحمل صفات‬

‫حيوية و نفسية مميزة ‪ .‬أما الجسد ككل فهو يفتقد تلك الحيوية ‪.‬‬

‫و من أكثر الكلمات المستخدمة فى مصر القديمة للتعبير عن الجسد المادى كلمة "خات" ‪.‬‬

‫يقول عالم المصريات االنجليزى "والس بدج" فى تفسير كلمة "خات" ‪-:‬‬

‫*** عبر المصرى القديم عن الجسد المادى ككل بكلمة "خات" ‪ ,‬و هى تعبر عن شئ قابل للعطب‬

‫و التفكك ‪ .‬تستخدم هذه الكلمة للداللة على الجسد الحى و أيضا على الجسد المحنط و المدفون فى‬

‫المقبرة ‪ .‬و لذلك نصادف فى كتاب الخروج الى النهار تعبيرات على لسان المتوفى يقول فيها ان‬

‫جسدى "خات" مدفون ***‬

‫لذلك فان أقرب ترجمة لكلمة "خات" هى جثه أو جثمان ‪.‬‬

‫و هناك كلمة أخرى تعبر عن الجسد ‪ ,‬و هى كلمة "شا" أو "شات" و تكتب بالهيروغليفية باستخدام‬

‫مخصص على شكل قطعة لحم ‪ .‬و نالحظ أن هذا المخصص يعبر عن فكرة العطب و التحلل (أى‬

‫الموت) أكثر مما يعبر عن الحياة ‪.‬‬

‫جاء فى متون األهرام (نص رقم ‪-: )474‬‬

‫*** ان الروح (با) للسماء ‪ ,‬و الجسد (شا) لألرض***‬

‫و مثل هذا التعبير ينطبق على الجسد ككل ‪ ,‬و ال ينطبق على كل عضو من أعضائه على حده ‪,‬‬

‫مثل األذرع أو السيقان أو األحشاء ‪ ,‬أو القلب ‪.‬‬

‫‪- 313 -‬‬


‫ان أعضاء الجسد المفعمة بالروح و الوعى ليست لألرض ‪.‬‬

‫فى مصر القديمة كان الجسد بوجه عام هو الذى يعود لألرض بينما تذهب أعضاء الجسد (أو بمعنى‬

‫أدق تذهب صفاتها النفسية على هيئة نسخة أثيرية) الى العالم السفلى ألن كل عضو على حدة يحمل‬

‫صفات سيكولوجية و روحية ‪.‬‬

‫هذه الصفات تبقى حية فى العالم السفلى حتى بعد انفصالها عن الجسد المادى الذى تتركه على‬

‫األرض عند الموت ‪.‬‬

‫رأى المصرى القديم أن هذه الصفات النفسية‪/‬الروحية ال تنتمى للجسد المادى ككل ‪ ,‬و انما تنتمى‬

‫لكل عضو من األعضاء التى تشكل الجسد و تهبه طاقة الحياة ‪.‬‬

‫و عند النظر للجسد ككل نالحظ أنه مستقبل لطاقة الحياة و ليس واهبا لها ‪.‬‬

‫لذلك فان أقرب ترجمة لكلمة "خات" أو "شات" هى جثه أو جثمان ‪.‬‬

‫تجاوز مرحلة تمزق النفس ‪-:‬‬

‫كل ما سبق يشير الى أن العالقة بين الجسد و النفس و الروح فى مصر القديمة كانت مختلفة عما‬

‫يعرفه انسان العصر الحديث ‪ .‬حيث وجود األعضاء المختلفة التى يتكون منها الجسد سابق على‬

‫وجود الجسد ككل ‪.‬‬

‫فى النصوص المصرية القديمة تصادفنا عبارات تصف أعضاء الجسد ككيانات حية مستقلة بذاتها ‪.‬‬

‫هناك أيادى و أذرع و أرجل و بطون و قلوب حية ‪ ,‬و لكن حين يصادفنا الجسد الكامل نجد اللغة‬

‫المصرية القديمة تتحدث عنه و كأنه جثه هامدة تخلو من الحياة ‪.‬‬

‫و هنا نالحظ وجود تشابه بين نظرة قدماء المصريين للجسد الحى باعتباره مجموع أعضاء أو‬

‫جوارح و بين ما جاء فى األدب االغريقى القديم ‪.‬‬

‫فالشاعر االغريقى هوميروس استخدم كلمة "سوما" بمعنى جثه أو جثمان ‪ ,‬و هى الكلمة التى‬

‫صارت تستخدم فى عصور الحقة بمعنى جسد حى ‪.‬‬

‫‪- 314 -‬‬


‫أما الجسد الحى فقد عبر عنه أقدم شعراء االغريق بكلمات فى صيغة الجمع مثل كلمة (‪ )guia‬أو‬

‫كلمة (‪ , )melea‬و كل منهما تعنى حرفيا "أعضاء الجسد" ‪.‬‬

‫نفس الفكرة تنطبق أيضا على حضارة ما بين النهرين التى رأت فى كل عضو من أعضاء الجسد‬

‫على حدة (كالكبد و القلب و الرأس) مركزا لصفات نفسية و روحية ‪.‬‬

‫لذلك نقرأ فى أدب حضارة ما بين النهرين تعبيرات تصف الكبد على سبيل المثال بأنه يبتهج أو يهدأ‬

‫‪ ,‬و تصف القلب بأنه يلين أو يقوى و تصف األحالم بأنه تحدث فى الرأس ‪.‬‬

‫و لكن ذلك ال يعنى أن سكان الحضارات القديمة كانوا مصابين بالشيزوفرينيا ‪.‬‬

‫ان وعى االنسان القديم لم يكن منفصما ‪ ,‬و انما هو صحيح ‪ ,‬و لكننا غير قادرين على فهمه ألن‬

‫رؤية االنسان القديم للحياة و الروح كانت تختلف عن رؤيتنا لها ‪.‬‬

‫فى الحضارات القديمة كان االنسان يختبر حياة الروح من خالل الوجود المادى ‪ ,‬و كان الباطن‬

‫يتجلى من خالل الظاهر ‪ .‬فى ذلك الزمن لم يكن وعى االنسان يفصل بين الروح و الجسد ‪ ,‬أو بين‬

‫الباطن و الظاهر ‪.‬‬

‫كل عضو من أعضاء الجسد هو وعاء يحمل صفات و قدرات نفسية معينه ‪.‬‬

‫ال يوجد عضو من أعضاء جسم االنسان ليس له وجود باطنى الى جانب وجوده المادى الظاهر ‪.‬‬

‫و كذلك ال يوجد شئ فى الطبيعة ليس له وجود باطنى الى جانب وجوده المادى الظاهر ‪.‬‬

‫كانت الروح فى نظر قدماء المصريين عبارة عن وحدة تجمع بين قدرات و وظائف نفسية متعددة‬

‫ذات شخصية مستقلة موزعة على مختلف أعضاء الجسم المادى ‪.‬‬

‫لذلك يشار الى الجسد فى كثير من األحيان بكلمات فى صيغة الجمع مثل كلمة "هاو" (و تعنى‬

‫أعضاء) ‪ ,‬بينما تعبر الكلمة التى تشير للجسد ككل عن الموت و تترجم الى جثه أو جسد هامد ‪.‬‬

‫كل عضو من أعضاء الجسد هو وعاء يحوى صفة من صفات الروح ‪.‬‬

‫فقط عند الموت أو أثناء تجارب خارج الجسد يكتسب االنسان وعيا بالذات ككيان متوحد ‪ ,‬و هو‬

‫شعور يرتبط برؤية الجسد من الخارج ‪ ,‬لذلك نجد فى الفن المصرى صورا للروح (با) و هى تنظر‬

‫‪- 315 -‬‬


‫للجسد الراقد أمامها جثه هامدة و هى تحلق فوقه ‪.‬‬

‫كان المصرى القديم يكتسب ذلك الوعى الباطنى بالذات ككيان متوحد (حى) فى مقابل الجسد‬

‫المادى (الميت) أثناء تجارب خارج الجسد أو عند الموت ‪.‬‬

‫على المصرى القديم أن يمر بتجربة االنفصال العنيف و الصادم عن الوعى المادى ‪ -‬النفسى لكى‬

‫يختبر الوعى بالذات الكلية ‪.‬‬

‫و كان الخروج من وعى الجسد هو الهدف الذى تقام من أجله طقوس الوالدة الروحانية فى مصر‬

‫القديمة و هى السياق الذى يمكننا من خالله فهم المصطلحات النفسية و الروحية فى مصر القديمة‬

‫مثل "كا" ‪" ,‬با" ‪" ,‬آخ" ‪.‬‬

‫على سبيل المثال كلمة "با" تترجم عادة بلغاتنا الحديثه الى روح ‪ ,‬و لكنها تعنى على وجه الدقة‬

‫الروح الغير متجسده ‪ ,‬أو "الروح حال مغادرتها الجسد" ‪.‬‬

‫و بعد أن أدركنا أن النفس فى نظر المصرى القديم كانت موزعة على مراكز نفسية متفرقة مستقلة‬

‫بذاتها تتخذ من أعضاء الجسد وعاءا لها علينا أن ننتبه أيضا الى أن المصرى القديم فى حياته‬

‫اليومية العادية لم يكن يعى ذاته بنفس الطريقة التى يعى بها انسان العصر الحديث ذاته و كيانه ‪.‬‬

‫فالمصرى القديم كان يفتقد الشعور بمركزية النفس ‪ ,‬أو بعبارة أخرى ان وعيه لم يكن يتمركز حول‬

‫األنا ‪.‬‬

‫اذا كانت األنا فى نظرنا هى المركز الذى يحتضن قدرات و وظائف متعددة مثل التفكير و الشعور‬

‫و الرغبة و النية ‪ ,‬فان المصرى القديم لم يكن لديه مفهوم مساوى لهذه األنا المركزية ‪.‬‬

‫كان المصرى القديم يعزى هذه القدرات و الوظائف النفسة و الروحية مثل التفكير و الشعور‬

‫و الرغبة الى أعضاء الجسد المتفرقة التى يتخذ كل منها شخصية مستقلة ‪ ,‬بل انه فى كثير من‬

‫األحيان كان يرى أن هذه القدرات النفسية ال تنبع من النفس االنسانية و انما تنبع من ال "نترو"‬

‫(الكيانات االلهية) التى تشكل جذور النفس االنسانية ‪.‬‬

‫من ذلك المنظور يمكننا أن نفهم النصوص المصرية القديمة التى تبتهل ألعضاء جسد االنسان‬

‫‪- 316 -‬‬


‫و تبجلها باعتبارها كيانات الهية ‪ ,‬و هى فى الحقيقة وسيلة للحفاظ على وحدة النفس الموزعة بين‬

‫مختلف أعضاء الجسد ‪ .‬و من تلك النصوص ما ذكرناه فى السابق ( شعرى هو نون ‪ ,‬و جهى هو‬

‫رع ‪ ,‬و عينى هى حتحور ‪ ,‬و أذنى هى ويبواويت ‪ ....‬و هكذا الى أن نصل للقدمين ) ‪ ,‬و ينتهى‬

‫النص بالتأكيد على أنه ال يوجد عضو من أعضاء الجسد ال يسكنه كيان الهى ‪.‬‬

‫كان على كل عضو من أعضاء الجسد على حدة أن يكون داخل مجال القدرات النفسية و الروحية‬

‫ألحد ال "نترو" (الكيانات االلهة) ‪.‬‬

‫ان حضور الكيانات االلهية ال ينعكس فقط فى مظاهر الطبيعة كاألنهار و الصحارى و النباتات‬

‫و الحيوانات و انما ينعكس أيضا فى النفس االنسانية من خالل أعضاء الجسد كالشعر و الوجه‬

‫و العين و األيدى ‪ .‬بادخال الكيانات االلهية الى داخل النفس استطاع المصرى القديم اكتساب شعور‬

‫أقوى بوحدة الذات ‪.‬‬

‫فى مصر القديمة لم تكن التجربة النفسية تنبع من ذات كل انسان على حدة و هو ما يعنى أن شعور‬

‫قدماء المصريين باألنا (الذات المنفصلة عن اآلخر) كان أضعف من شعور انسان العصر الحديث ‪.‬‬

‫فى طقوس الوالدة الروحانية التى كانت تجرى فى مصر القديمة (من خالل تجارب خارج الجسد)‬

‫كان على االنسان أن يمر بتجربة التمزق الكامل للنفس لكى يعيد بناءها من جديد بشكل أقوى ‪.‬‬

‫ان فكرة تمزق الجسد المادى التى ذكرت فى أسطورة موت أوزير يتضح معناها حين ننظر لها فى‬

‫هذا السياق ‪ .‬حيث يرمز تمزق جسد أوزير و أيضا تمزق جسد من يقوم بتجربة الموت الطقسى‬

‫لتمزق النفس التى تموت ثم تبعث من جديد و هو ما يعرف بالوالدة الروحانية أو الوالدة الثانية ‪.‬‬

‫فى مصر القديمة كان تمزق جسد أوزير هو الصورة األولية للتمزق النفسى الذى يختبره من يقوم‬

‫بتجارب خارج الجسد و خاصة تجربة الموت الطقسى ‪.‬‬

‫هذا التمزق النفسى هو البوابة التى يعبر من خاللها االنسان الى حالة من الوحدة النفسية تتجاوز‬

‫النفس الممزقة ‪.‬‬

‫تعبر فكرة تجميع أجزاء جسد أوزير الممزق عن وعى جديد يقوم على عالقة جديدة بين االنسان‬

‫‪- 317 -‬‬


‫و بين أعضاء جسده ‪ ,‬حيث يمتلك االنسان تلك األعضاء بدال من أن تمتلكه هى ‪.‬‬

‫جاء فى متون األهرام ( نص رقم ‪-: ) 104‬‬

‫*** يا أوزير ‪ ,‬كما تمتلك قلبك و كما تمتلك قدميك ‪ ,‬و كما تمتلك ذراعيك ‪ ...‬كذلك صار قلبى‬

‫ملكى ‪ ,‬و صارت قدماى ملكى ‪ ,‬و صار ذراعاى ملكى ‪ ...‬لقد وضع لى معراجا كى أصعد فوقه‬

‫للسماء ‪ ..‬هأنذا أصعد للسماء وسط عطر البخور المتصاعد من المبخرة ***‬

‫تعبر فكرة امتالك االنسان ألعضاء جسده عن مستوى جديد من الوعى تندمج فيه مختلف الصفات‬

‫و القدرات النفسية التى تسكن أعضاء الجسد فى مركز واحد للوعى ‪ .‬هذا المركز ال يقع فى الجسم‬

‫المادى و انما يتجاوزه الى الجسم الروحى ‪/‬السببى ‪.‬‬

‫جاء فى متون األهرام على لسان الملك ونيس ‪-:‬‬

‫*** لقد صارت أعضاء جسدى متوحدة بعد أن كانت خفية ‪ ...‬لقد انبعثت اليوم من جديد فى صورة‬

‫حقيقية ‪ ,‬فى صورة روح حية ***‬

‫و صورة الروح الحية هى الصورة الجديدة التى اكتسبها الملك ونيس بعد اعادة جمع أعضاء جسده‬

‫ان النص السابق يعنى ضمنيا أن تجربة تمزق جسد الملك ونيس جعلته يصل الى شعور بوحدة‬

‫الذات و اكتمالها و الى شعور قوى بأنه صار روح حية ذات شخصية مكتملة مستقلة ‪.‬‬

‫و بعبارة أخرى ان تجربة تمزق الجسد هى العقبة التى يجب على االنسان اجتيازها لكى يصل الى‬

‫الوعى المكتمل بالذات و الذى يظل بعيد المنال للنفس الممزقة ‪.‬‬

‫هناك درجات متفاوته من الوعى المكتمل بالذات الذى سعى المصرى القديم الكتسابه عن طريق‬

‫تجارب خارج الجسد ‪ ,‬و هو الموضوع الذى سنناقشه فى الفصل التالى ‪.‬‬

‫‪- 318 -‬‬


‫الفصل التاسع‬
‫الروح الغير متجسدة‬

‫بحثنا فى الفصل السابق فى مفهوم الروح المتجسده ‪ ,‬و أصبح بمقدورنا اآلن أن نبحث فى علم‬

‫النفس و الروح عند قدماء المصريين ‪ ,‬و هو العلم الذى استمد منه قدماء المصريين كل ما جاء‬

‫فى كتب العالم اآلخر ‪.‬‬

‫يصف األدب الدينى فى مصر القديمة حاالت من الوعى لم يكن االنسان يصل اليها فى حاالت‬

‫اليقظة العادية ‪.‬‬

‫فى ذلك الزمن كان االنسان يصل الى تلك الحاالت من الوعى أثناء سعيه لتطوير قدراته الروحانية‬

‫و بلوغ االشراق و ذلك من خالل تدريبات نفسية و روحانية تعرف باسم تجارب خارج الجسد ‪.‬‬

‫فى عصر الدولة القديمة كانت تلك التدريبات الروحانية تقتصر على الملك و على عدد محدود من‬

‫النخبة المتعلمة من الكهنة ‪.‬‬

‫و بقدوم عصر الدولة الحديثه أصبح طريق التطور الروحى مفتوحا أمام عدد أكبر من أفراد الشعب‬

‫و لكن ظل ذلك العدد قليل بالنسبة لعدد السكان بوجه عام ‪.‬‬

‫يمكننا أن نصف ما سنطرحه فى هذا الفصل بأنه الطريق الباطنى (السرى) للوصول الى التطور‬

‫الروحى و بلوغ االشراق ‪ ,‬و هو طريق يختلف عن طريق العامة الذى تتكفل به الطبيعة ‪.‬‬

‫ال "كا" (‪-: )Ka‬‬

‫أول خطوة على طريق التطور الروحى هى مقابلة ال "كا" ‪.‬‬

‫ال "كا" هى المصدر الذى يمد االنسان بالطاقة الحيوية ‪ ,‬و فى سياق العديد من كتب العالم اآلخر‬

‫المصرية يمكن ترجمة ال "كا" بمعنى الطاقة الحيوية ‪.‬‬

‫‪- 319 -‬‬


‫اعتقد المصرى القديم أن هذه الطاقة ال تنبع من ذاته و انما توهب له من مصدر خارجى هو األجداد‬

‫أو األسالف الذين انتقلوا لعالم الروح و صاروا بمثابة ينبوع تتدفق منه هذه الطاقة التى يطلق عليها‬

‫"كا" و التى تعتمد عليها حياة الكائنات فى العالم المادى ‪.‬‬

‫و أرواح األجداد و األسالف هى التى توجه تلك الطاقة نحو العالم المادى فتهب الحياة ليس لالنسان‬

‫فقط و انما للحيوانات و المحاصيل ‪.‬‬

‫يقول عالم المصريات االنجليزى "راندل كالرك" ‪-:‬‬

‫*** كان األجداد و األسالف فى نظر قدماء المصريين هم حراس ينبوع الحياة ‪ ,‬و هم مستودع‬

‫الطاقة التى تعتمد عليها حياتنا و نمونا ‪ .‬األجداد ليسوا مجرد أرواح رحلت عن عالمنا ‪ ,‬فانتقال‬

‫األجداد و األسالف لعالم الروح ال يعنى انفصالهم عنا ‪ ,‬و انما يستمر دورهم مؤثرا على حياتنا ‪.‬‬

‫فهم حراس طاقة الحياة و النماء ‪ .‬األجداد هم ينبوع الحياة و مصدر كل ما نحن فيه سواء خير أو‬

‫شر ‪ .‬ان تفتح براعم النبات و نمو قطعان الماشية و خصوبة البشر و قدرتهم على التناسل و نجاح‬

‫رحالت الصيد أو االنتصار فى الحرب ‪ ,‬كل ذلك هو تجسيد و تجلى للطاقة و البركة التى توهب لنا‬

‫من لدنهم ***‬

‫هذا هو السبب الرئيسى أن المقبرة أو الجبانة بوجه عام كانت تحتل أهمية كبرى فى حياة قدماء‬

‫المصريين ‪ ,‬و لذلك كانت زيارة المقابر – وال تزال – من الواجبات الدينية التى يحرص عليها‬

‫المصريون أشد الحرص ‪.‬‬

‫ففى المقبرة (أو من خاللها) يحدث تبادل الطاقة بين عالم الموتى و عالم األحياء ‪.‬‬

‫ان الطقوس التى تمارس أثناء زيارة المقابر مثل تقديم القرابين و االبتهاالت و الدعاء ألرواح‬

‫الراحلين ليست مجرد وفاء لذكرى األجداد و اعتراف بما قدموه فى حياتهم الدنيا ‪ ,‬و انما هو‬

‫باألحرى اعتراف بدورهم الحالى (أى بعد الموت) كحراس و قنوات لنقل طاقة ال "كا" ‪.‬‬

‫أطلق قدماء المصريين على المقبرة اسم "بر كا" ‪ ,‬أى بيت ال "كا" ‪.‬‬

‫و عند وفاة شخص ما يقال عنه أنه "ذهب الى كائه" ‪ ,‬و أحيانا توضع كلمة "كا" فى صيغة الجمع‬

‫‪- 320 -‬‬


‫فيقال أن فالن قد عاد الى "كاواته" ‪ ,‬أى التحق بأجداده و أسالفه ‪.‬‬

‫تتقبل أرواح األجداد القرابين و االبتهاالت و الدعاء و تقوم برده مرة أخرى الى عالم األحياء على‬

‫هيئة طاقة حيوية "كا" ‪.‬‬

‫بالنسبة لعامة الشعب فى مصر القديمة كان تعبير "العودة الى ال كا" (أى الموت) يعنى أن ينتقل‬

‫االنسان لعالم األجداد و تنصهر شخصيته فى ذلك العالم و يتم امتصاصها هناك بطريقة أقرب الى‬

‫مفهوم اعادة تدوير المواد الخام فى الصناعة ‪.‬‬

‫ان االتصال المباشر بالينبوع الذى تنبثق منه طاقة ال "كا" ال يعزز الشعور بالتفرد و الشخصانية‬

‫و انما يضعف ذلك الشعور ‪.‬‬

‫و لكن هذا المبدأ ال ينطبق على الملك و النخبة من الحكماء و المستنيرين ‪.‬‬

‫فالملك يعود الى كائه أو الى كاواته و هو فى حالة من الوعى تمكنه من أن يمتص هذه الطاقة‬

‫و يهضمها بدال من أن تمتصه هى و تهضمه و تعيد تدويره من جديد ليصير طاقة حيوية ‪.‬‬

‫عند مقابلة ال "كا" أو العودة اليها يحتفظ الملك بوعيه بذاته الى جانب وعيه بال "كا" كمفهوم‬

‫مطلق ‪ .‬هذا الوعى بالذات هو السبب فى الشعور بال "كا" و كأنها قرين روحى أو نسخة أثيرية من‬

‫الجسم المادى ‪.‬‬

‫جاء فى متون األهرام (نص رقم ‪-: )03‬‬

‫*** أيها الملك ونيس ‪ ...‬ان ذراع كاءك أمامك ‪ ,‬و خلفك ‪ ...‬أيها الملك ونيس ‪ ,‬ان أقدام كاءك‬

‫أمامك ‪ ,‬و خلفك ***‬

‫و هكذا يتم استحضار "كا" الملك عضوا وراء عضو ‪.‬‬

‫يتضمن هذا االستحضار تعزيز الشعور بالطاقة الحيوية أو األثيرية التى تتخلل كل عضو من‬

‫أعضاء الجسد ‪.‬‬

‫وصفت بعض النصوص المصرية القديم ال "كا" بأن لها لحم (ايوف) كالجسم المادى ‪.‬‬

‫كان الفنان المصرى القديم يصور "كا" الملك و كأنها نسخة طبق األصل من الجسم المادى ‪.‬‬

‫‪- 321 -‬‬


‫فى المشهد التالى يظهر "خنوم" (المصور) و هو يشكل جسم الملك و "كاءه" معا فى نفس اللحظة‬

‫على عجلته التى تشبه عجلة الفخرانى ‪.‬‬

‫"خنوم" (المصور) يشكل جسم الملك و كاءه فى نفس اللحظة على عجلة الفخرانى‬

‫( من معبد األقصر ‪ ,‬دولة حديثه )‬

‫فى بعض األحيان نجد مشاهد تصور الملك و هو يقوم بتقديم قرابين بصحبة كائه التى تقف الى‬

‫جواره أو تسير خلفه ‪.‬‬

‫فى المشهد التالى نرى الملكة حتشبسوت فى هيئة رجل (حيث تضع الدقن الملكية) و هى تقدم‬

‫قرابين من الزيوت العطرية و خلفها كاءها على هيئة نسخة مصغرة منها تحمل فوق رأسها ذراعين‬

‫مرفوعين نحو السماء ‪.‬‬

‫‪- 322 -‬‬


‫الملكة حتشبسوت تقدم قرابين من الزيوت العطرية و خلفها كاءها‬

‫( من معبد الدير البحرى ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫عند تأمل المشهدين السابقين ندرك السبب الذى جعل بعض علماء المصريات يترجم كلمة "كا"‬

‫بمعنى قرين أو نسخة أثيرية ‪.‬‬

‫تظهر ال "كا" فى المشهد السابق للملكة حتشبسوت على هيئة نسخة طبق األصل من الجسم المادى‬

‫للملكة ‪ ,‬تحمل فى يدها مفتاح الحياة "عنخ" و ريشة الماعت ‪.‬‬

‫اعتاد المشاهد للفن المصرى القديم أن يرى ال "نترو" (الكيانات االلهية) فى صور مادية ‪ ,‬و لكن‬

‫‪- 323 -‬‬


‫هناك شعور غريب و محير ينتاب المشاهد حين يرى ال "كا" و هى أحد الجوانب الخفية ‪/‬‬

‫الروحانية للكيان االنسانى فى صورة مادية تدركها الحواس تماما كما تدرك الجسم المادى ‪.‬‬

‫فهل كان المصرى القديم بالفعل يرى ال "كا" و كأنها تتواجد خارجه ؟!‬

‫يؤيد النص السابق الذى اقتبسناه من متون األهرام و الذى يتحدث فيه الملك ونيس عن كائه هذا‬

‫الطرح ‪.‬‬

‫و برغم أن هذه الطاقة هى فى األصل طاقة الحياة لالنسان ‪ ,‬اال ان ال "كا" نفسها كانت تعتبر كيان‬

‫قائم بذاته مميز عن شخص الملك ‪ .‬ال "كا" ال تنبع من ذات االنسان و انما هو فقط يستخدمها ‪.‬‬

‫يحث النص السابق الملك ونيس على أن يبحث عن أعضاء ال "كا" أمامه و خلفه ‪ ,‬و كأنها أعضاء‬

‫جسد آخر منفصل عن جسده ‪.‬‬

‫عند تأمل مشاهد مثل مشهد الملكة حتشبسوت و كاءها علينا أن نتذكر أن هذا المشهد يعبر عن‬

‫وعى الملك بال "كا" ‪.‬‬

‫و حتى اذا كان دور ال "كا" فى مشهد تقديم الملكة حتشبسوت و كاءها للقرابين يسند لصبى ‪ ,‬فان‬

‫ذلك ال ينفى أن ال "كا" فى نظر قدماء المصريين هى كيان مستقل ‪ ,‬أو شخص ثانى يوجد خارج‬

‫الجسد المادى للملك ‪.‬‬

‫من دراسة النصوص و المشاهد التى تصور ال "كا" فى مصر القدمة يتضح لنا أن اتصال الملك‬

‫بال "كا" ال يحدث فقط بعد الموت – مثل عامة الناس – و انما يبدأ هذا االتصال أثناء حياة الملك ‪.‬‬

‫لذلك نقرأ فى متون األهرام أن الملك لم يكن يرتحل الى ال "كا" بعد موته ‪ ,‬و انما هو يرتحل معها‪.‬‬

‫كان الملك يحيا على األرض فى حالة من الوعى ال يصل اليها عامة الناس اال بعد الموت ‪.‬‬

‫فالملك طوال حياته على األرض على اتصال دائم بطاقة ال "كا" ‪ ,‬و الفرق الوحيد بينه و بين‬

‫العامة أن الملك يحتفظ دائما بوعيه بذاته ‪ ,‬فى حين أن المتوفى من عامة الشعب يفقد الشعور‬

‫بفرديته بعد الموت و تمتصه طاقة ال "كا" ليصبح جزءا منها ‪.‬‬

‫و بقدر وعى الملك بال "كا" أثناء حياته تظل ال "كا" مستقلة بذاتها ‪.‬‬

‫‪- 324 -‬‬


‫لذلك كان للملك الهيمنة على طاقة ال "كا" ‪ ,‬و ذلك أيضا يطلق على ملك مصر فى كثير من‬

‫األحيان لقب "الذى يوحد قلوب البشر" ‪.‬‬

‫ان الهيمنة على طاقة ال "كا" هى السبب وراء قدرة ملوك مصر على االتصال بقوى الطبيعة‬

‫و السيطرة عليها ‪.‬‬

‫يكتسب الملك هذه القوة الخارقة من ارتحاله فى عالم الموتى (دوات) ‪ ,‬حيث يواجه عقبات‬

‫و يتخطاها الى أن يصل الى الينبوع الذى تنبثق منه طاقة ال "كا" ‪.‬‬

‫كان لملك مصر – باعتباره تجسيدا لحورس – عالقة ميثولوجية (أسطورية) بعالم الموتى الذى‬

‫يحكمه أوزير ‪ .‬و كما يعتمد أوزير على ابنه حورس حيث يستمد منه طاقة الحركة فى العالم السفلى‬

‫‪ ,‬كذلك تعتمد أرواح األجداد‪/‬األسالف بوجه عام و أرواح أجداد ملوك مصر بوجه خاص‬

‫على حركة حورس (الملك الحى على األرض) ‪.‬‬

‫فى مصر القديمة ‪ ,‬كان لمنصب الملكية دورا أساسيا فى العالقة المتشابكة بين عالم األحياء و عالم‬

‫الموتى ‪ ,‬حيث يقوم الملك بدور الوسيط أو همزة الوصل بين العالمين ‪.‬‬

‫و ألن تدفق طاقة ال "كا" يقع فى المنطقة الوسطى بين العالمين (عالم األحياء و عالم الموتى) ‪,‬‬

‫لذلك فان الشخص الذى يصل الى ذلك البرزخ يمكنه أن يستحضر قدرا هائال من تلك الطاقة ‪.‬‬

‫كان الملك فى نظر الشعب المصرى هو مستودع طاقة ال "كا" ‪ ,‬تماما مثل أرواح األجداد الراحلين‬

‫لذلك انتشرت فى مصر القديمة منذ عصر الدولة القديمة أسماء تبرز تبجيل الشعب للملك بسبب‬

‫عالقته الوثيقه بطاقة ال "كا" مثل (كائى تنتمى للملك) و (الملك هو كائى) ‪.‬‬

‫اعتقد قدماء المصريين أن "كا" الملوك (كل الملوك) تتخلل كل شئ على أرض مصر و تؤثر على‬

‫كل أفراد الشعب بشكل ودى ‪ ,‬و لذلك كان للملك حضور دائم فى قلب كل أفراد الشعب ‪.‬‬

‫كانت طاقة ال "كا" الخاصة بحورس تسكن فى قلب كل مصرى ‪ ,‬لذلك كان من ألقاب حورس‬

‫"الذى يسكن القلوب" ‪.‬‬

‫و لما كان الملك هو تجسيد حورس على األرض ‪ ,‬لذلك فان طاقة ال "كا" الخاصة بالملك تسكن‬

‫‪- 325 -‬‬


‫قلوب كل أفراد الشعب ‪.‬‬

‫الملك هو "كا" مصر كلها ‪ ,‬و هو ال "كا" التى تسكن كل فرد من أفراد الشعب ‪.‬‬

‫يقول عالم المصريات "هنرى فرانكفورت" ‪-:‬‬

‫*** كان المصرى القديم يشعر بتأثير الملك على كيانه ‪ ,‬فى صورة طاقة حيوية ‪ ,‬تلك الطاقة هى ما‬

‫يطلق عليه فى مصر القديمة "كا" ***‬

‫و عند قيامه باستحضار طاقة ال "كا" و توجيهها نحو عالم األحياء ال يفقد الملك وعيه بذاته ‪ ,‬بعكس‬

‫أرواح الموتى من عامة الشعب الذين يتصلون بطاقة ال "كا" من خالل الوعى الجمعى الذى يمتص‬

‫ذواتهم و شخصياتهم الفردية و يصهرها داخله ‪.‬‬

‫لذلك كان الملك فى مصر القديمة هو مركز الوعى الجمعى للشعب المصرى كله ‪.‬‬

‫و لكن الملك ليس هو الشخص الوحيد الذى يمكنه أن يصل لتلك الحالة من الوعى ‪.‬‬

‫فهناك أشخاص آخرين فى مصر القديمة – منذ عصر الدولة القديمة – استطاعوا اقامة عالقة فردية‬

‫مع ال "كا" أثناء حياتهم و بذلك صاروا هم أيضا تجسيد لحورس ‪.‬‬

‫فى تلك العالقة مع ال "كا" يكتسب المرء شعورا أعمق و أقوى بالذات ‪ .‬و لذلك كانت ال "كا"‬

‫تظهر فى الفن المصرى و كأنها شخص ثانى أو قرين لالنسان ‪.‬‬

‫تشكل تلك العالقة الفردية مع ال "كا" األساس لما يعرف بوعى حورس و هو الهدف الذى يسعى له‬

‫مريد المعرفة االلهية ‪.‬‬

‫و ما ينطبق على الملك ينطبق أيضا على النخبة من الحكماء و الكهنة و النبالء الذين اطلعوا على‬

‫المعرفة الروحانية ‪.‬‬

‫ان تأمل تعاليم الكاهن و القاضى و القطب (أى المعلم الروحى ‪ /‬الولى) "بتاح حتب" الذى عاش فى‬

‫عصر الدولة القديمة يكشف لنا أن األشخاص الذين بلغوا تلك المكانة الرفيعة فى المجتمع المصرى‬

‫كانوا فى عالقة تناغم واعى مع كائهم ‪ ,‬و أن عالقة هؤالء األقطاب أو األولياء بمريديهم كانت أشبه‬

‫بعالقة الملك بأفراد الشعب ‪.‬‬

‫‪- 326 -‬‬


‫فكاوات األقطاب و األولياء أمثال "بتاح حتب" و غيره من الكهنة تدعم مريديهم و تمدهم بالطاقة‬

‫الحيوية ( أو البركة بالتعبير الشعبى الحديث ) ‪.‬‬

‫يقول الحكيم و القطب "بتاح حتب" فى تعاليمه ‪-:‬‬

‫*** يا بنى ‪ ...‬ستأتيك البركة من "كا" القطب‪ /‬الولى ‪ ...‬سيمتلئ جوفك و يكتسى ظهرك بتلك‬

‫الطاقة التى يبثها لآلخرين من قلبه ‪ ...‬ستكون معونة الولى دائما بالقرب منك لتساعدك و تدعمك‬

‫‪ ...‬ستمتد يد القطب‪/‬الولى الطيبة نحوك وقت الحاجة (أى سيساعدك) ***‬

‫ان أغلب نبالء الدولة القديمة هم فى الحقيقة معلمين روحيين أو "أقطاب‪/‬أولياء" ‪ ,‬و كان لكل منهم‬

‫مريدين و تالميذ ‪ .‬بالنسبة للمريد كانت "كا" الولى أو القطب (تماما مثل طاقة ال "كا" التى تبثها‬

‫أرواح األجداد‪/‬األسالف) هى الينبوع أو المصدر الذى يمأل حياته بالبركة ‪.‬‬

‫أما بالنسبة للملك و الحكماء و األولياء كانت ال "كا" أقرب الى المالك الحارس أو الروح الملهمة ‪.‬‬

‫على سبيل المثال نقرأ فى متون األهرام هذه العبارة على لسان الملك بيبى الثانى ‪-:‬‬

‫*** أنا فى خير أنا و اسمى ‪ ...‬أنا أحيا فى رعاية كائى ‪ ...‬فهى تزيح الشر من أمامى و من‬

‫خلفى ***‬

‫فى المشهد التالى تظهر ال "كا" و كأنها حارس يحتضن الملك الطفل ليحميه كما تحمى األم ابنها ‪.‬‬

‫‪- 327 -‬‬


‫"كا" الملك فى هيئة مالك حارس يحميه‬

‫( من عصر الدولة الحديثه)‬

‫و من األمثلة التى توضح لنا مغزى ال "كا" ما جاء فى أسطورة التاسوع التى تروى كيف احتضن‬

‫آتوم أبناءه "شو" و "تفنوت" بعد أن خلقهم من ذاته بأن وضع ذراعيه حولهما على هيئة عالمة ال‬

‫"كا" ‪ ,‬لكى تسرى فيهما كاءه و تحميهما من السقوط مرة أخرى فى مياه األزل "نون" ‪.‬‬

‫جاء فى متون األهرام هذه العبارة التى تخاطب آتوم ‪-:‬‬

‫*** لقد وضعت ذراعيك حول "شو" و "تفنوت" ‪ ,‬لتكون كاءك معهما ***‬

‫من النص السابق يتبين لنا أن "كا" كل انسان على حدة هى امتداد للكا الكونية ‪ /‬االلهية التى‬

‫ظهرت للوجود أول مرة فى الزمن األول ‪.‬‬

‫ان ال "كا" ال تنبع من ذات االنسان ‪ ,‬و انما وهبت له من االله ‪ ,‬فهى فى األصل الهية ‪.‬‬

‫و هو ما يفسر لنا السبب فى تقديم القرابين ل "كا" الموتى و تبجيلها و االبتهال لها و كأنها كيان‬

‫الهى ‪ ,‬ألنها فى األصل "كا" آتوم التى انتقلت الى "شو" و "تفنوت" ‪ ,‬ثم انتقلت بعد ذلك الى كل‬

‫الخالئق ‪.‬‬

‫‪- 328 -‬‬


‫فى عصر الدولة الحديثه اتسع مفهوم ال "كا" الفردية ‪ ,‬فصار االبتهال الى ال "كا" استهالال تقليديا‬

‫لكتاب الخروج الى النهار ‪ ,‬و من أمثلة ذلك النص التالى (و هو مقتطف من الفصل رقم ‪-: )015‬‬

‫*** التحيات لك يا كائى التى رافقتنى طوال حياتى ‪ ...‬أنظرى لقد أتيت ألقف أمامك ‪ ...‬لقد بعثت‬

‫من جديد قويا عفيا مفعما بالحيوية ‪ ...‬لقد أتيتك بقربان البخور ‪ ,‬و تطهرت به ‪ ...‬و سأطهر به كل‬

‫ما ينبثق منك ***‬

‫المشهد التالى من بردية السيدة "نسيتا نب تاشيرو" و فيه قام الفنان المصرى بتصوير ال "كا"‬

‫بشكل مجرد على هيئة ذراعين مرفوعين نحو السماء فوق منصة أمام السيدة "نسيتا نب تاشيرو" ‪.‬‬

‫فى هذا المشهد ال تظهر ال كا فى صورة انسان مثل ال "كا" الملكية ‪.‬‬

‫و بين ذراعى ال "كا" وضع الطعام الذى يقدم قربانا لها ‪.‬‬

‫مشهد تقديم القرابين لل "كا" فوق مائدة قرابين على شكل عالمة ال "كا"‬

‫( من بردية "نسيتا نب تاشيرو" ‪ ,‬أسرة ‪ , 21‬دولة حديثه )‬

‫‪- 329 -‬‬


‫ان تجريد ال "كا" فى مثل هذه المشاهد التى تنتمى لعصر الدولة الحديثه يهدف للتركيز على‬

‫الطبيعة الكونية للكا ‪ ,‬فالكا فى األصل طاقة كونية قبل أن توهب لالنسان و تكتسب طبيعة فردية ‪.‬‬

‫و بالنسبة للنخبة من الذين استطاعوا اقتناء كتاب الخروج الى النهار تظل طبيعة ال "كا" أقل تفردا‬

‫بالمقارنة ب "كا" الملك ‪.‬‬

‫ال "كا" هى الطاقة الكونية الحيوية التى تنتقل لالنسان و لكنها ال تصبح ملكه بمعنى أنها ال تشكل‬

‫جزءا من شخصيته المكتسبه فى العالم المادى ‪ ,‬حيث تظل ال "كا" تنتمى للعالم االلهى ‪.‬‬

‫تظل ال "كا" طاقة كونية حتى بعد انتقالها لالنسان ‪.‬‬

‫و عند تأمل النصوص الدينية المصرية القديمة نجد أن قدماء المصريين (بما فى ذلك الملك‬

‫و النبالء و األولياء و عامة الشعب) لم ينظروا للكا على أنها جزء من هويتهم ‪ ,‬بعكس ال "با" ‪,‬‬

‫و هى التى سنناقشها فى الفقرة التالية ‪.‬‬

‫ال با (‪-: )Ba‬‬

‫فى مصر القديمة ‪ ,‬كان الشعور الذى يقترن باستخدام كلمة "با" يختلف عن الشعور الذى يقترن‬

‫باستخدام كلمة "كا" ‪.‬‬

‫من النادر أن تترجم كلمة "با" بمعنى طاقة حيوية ‪ ,‬ألن لها مغزى أكثر باطنية و أكثر شفافية من‬

‫ال "كا" ‪.‬‬

‫تعبر ال "با" عن مفهوم أعمق و أبعد من الطاقة الحيوية ‪ .‬فهى تعبر عن طاقة أكثر شفافية ‪,‬‬

‫و القدرات النفسية التى تنبع منها تتسم بأنها أكثر روحانية ‪.‬‬

‫بعبارة أخرى ‪ ,‬اذا كانت ال "كا" تنتمى للعالم السفلى ‪/‬النجمى‪/‬األثيرى (دوات) و ترتبط بالعقل‬

‫الباطن الجمعى و بالطاقة الحيوية الكونية ‪ ,‬فان ال "با" تنتمى لعالم أبعد هو العالم الروحى ‪/‬‬

‫السماوى ‪ /‬السببى ‪ ,‬و ترتبط بالوعى و بالروح األسمى ‪.‬‬

‫كتب عالم المصريات االنجليزى "والس بادج" واصفا العالقة بين ال "كا" و ال "با" ‪ ( :‬أن ال "با"‬

‫‪- 330 -‬‬


‫تسكن داخل ال "كا" ) ‪ ,‬و هو ما يعنى ضمنيا أن الوصول الى ال "با" يكون عن طريق ال "كا" ‪.‬‬

‫أو بعبارة أخرى ان ال "با" أبعد أو أعمق من ال "كا" ‪.‬‬

‫تترجم كلمة "با" عادة بمعنى روح ‪ ,‬و لكنها فى الحقيقة ترجمة غير دقيقة ‪ ,‬ألن ال "با" تظهر فى‬

‫حاالت الوعى المتغير حين يتوقف وعى اليقظة الذى يستند الى الحواس المادية ليحل محله أنواع‬

‫أخرى من الوعى ‪.‬‬

‫يصل االنسان لحاالت الوعى المتغير أثناء النوم و عند الموت و أيضا أثناء طقوس الوالدة‬

‫الروحانية التى يقوم فيها االنسان بتجارب خارج الجسد الجسد (كاالسقاط النجمى و الطرح الروحى‬

‫و المعراج السماوى و الموت الطقسى) ‪.‬‬

‫ال "با" هى الهيئة التى يتجسد فيها االنسان عند اختباره لحاالت الوعى المتغير ‪.‬‬

‫و المعنى الحرفى لكلمة "با" فى اللغة المصرية القديمة هو "تجسد‪/‬تجلى" ‪ ,‬و عادة ما تستخدم هذه‬

‫الكلمة للداللة على التجليات‪/‬التجسدات المختلفة لل "نترو" (الكيانات االلهة) ‪.‬‬

‫على سبيل المثال كان طائر ال "بنو" (الفينيكس) فى نظر قدماء المصريين هو "با رع" أى الصورة‬

‫التى يتجلى فيها رع (و هى ليست الصورة الوحيدة ‪ ,‬ألن ل "رع" تجليات عديدة منها الشمس ) ‪.‬‬

‫و كانت مجموعة نجوم أوريون و كذلك العجل "أبيس" (و هو عجل له مواصفات خاصة) هم باوات‬

‫( جمع "با" ) أوزير ‪ ,‬أى تجليات‪/‬تجسدات أوزير ‪.‬‬

‫و كان طائر األيبيس (أبو منجل) هو "با تحوت" ‪ ,‬أى تجسد‪/‬تجلى تحوت ‪ ,‬الخ ‪.‬‬

‫و لكن هناك فرق بين با ال "نترو" (الكيانات االلهية) و بين "با" االنسان ‪ ,‬حيث باوات ال "نترو"‬

‫– و هم أرواح نقية – توجد فى العالم المادى ‪ ,‬بينما "با" االنسان توجد فى عالم الروح ‪.‬‬

‫ان استخدام كلمة "با" بالنسبة للبشر يدعونا لفهم أعمق لطبيعة ال "با" ‪.‬‬

‫ارتبطت ال "با" فى النصوص المصرية القديمة منذ ظهور متون األهرام ‪ -‬فى عصر الدولة القديمة‬

‫‪ -‬فى الغالب بحرية الحركة و االنتقال ‪ ,‬و على وجه الخصوص االنتقال بين األرض و السماء ‪.‬‬

‫و كما رأينا فى األمثلة التى سقناها فى السابق من متون األهرام ‪ ,‬كانت السماء هى وجهة ال "با"‬

‫‪- 331 -‬‬


‫و غايتها ‪ ,‬بعكس الجسم المادى الذى يرتبط مصيره دائما باألرض ‪.‬‬

‫يقول النص رقم ‪ 474‬من متون األهرام ‪-:‬‬

‫*** ال "با" للسماء ‪ ....‬و ال "شات" (الجسد المادى) لألرض ***‬

‫تسعى ال "با" دائما للوصول الى السماء ‪ ,‬الى عالم الروح الذى تسكنه الكيانات االلهية ‪ ,‬و تطير‬

‫نحوها كما يطير الصقر نحو الشمس ‪.‬‬

‫و النص التالى من متون األهرام (نص رقم ‪ )251‬يشير الى أن ال "با" هى السبب فى اكتساب‬

‫الروح أجنحة تحملها و تطير بها الى السماء ‪ ,‬يقول النص ‪-:‬‬

‫*** لقد نمت لى أجنحة كأجنحة الصقر ‪ ...‬و أصبح لى ريش كريش صقر مقدس ‪ ...‬لقد أتت بى‬

‫"بائى" الى السماء ‪ ,‬و أمدنى سحرها (حا) بمدد من القوة ***‬

‫و ألن ال "با" تنتمى للعالم السماوى األبدى‪/‬الخالد ‪ ,‬لذلك يمكن لالنسان أن يدعم باءه أثناء حياته‬

‫و يجعلها أكثر قوة بأن يطلع على المعرفة الروحانية ‪.‬‬

‫يقول الحكيم "بتاح حتب" ‪ :‬ان الحكيم هو من يغذى باءه بما هو خالد و أبدى ‪.‬‬

‫من طبيعة ال "با" أنها تنجذب الى كل ما هو خالد‪/‬أبدى ‪ ,‬ألن عالم الروح الخالد هو منشأها الذى‬

‫أتت منه و بيتها الذى تعود اليه ‪.‬‬

‫فى أحد نصوص عصر االنتقال األول و المعروف باسم تعاليم "مرى كا رع" نقرأ هذه العبارات ‪-:‬‬

‫*** تذهب ال "با" الى المكان الذى تعرفه ‪ ...‬و ال تضل طريقها ألنها ال تنسى طريقا قطعته من‬

‫قبل ‪ ...‬و ال يستطيع أى سحر أن يعوق طريقها ‪ ...‬تأتى ال "با" ألولئك الذين يقدمون لها الماء ***‬

‫من دراسة و تأمل العديد من النصوص من عصر الدولة القديمة يتبين لنا أن السمة التى تميز ال‬

‫"با" هى سعيها الدائم لالرتحال و السفر الى وجهتها و بيتها فى عالم الروح ‪ ,‬و لكن نفس النصوص‬

‫ال تعطينا اجابة قاطعة اذا كانت ال "با" قد بلغت غايتها أم ال ‪.‬‬

‫و من التعبيرات الشائعة فى كتب العالم اآلخر المصرية و خصوصا فى عصر الدولة الحديثه‬

‫وصف المتوفى بأنه قد "بعث على هيئة با حية" ‪.‬‬

‫‪- 332 -‬‬


‫و هنا علينا أن ننتبه الى أن ال "با" ليست هى أسمى مستويات الوعى ‪ ,‬فهناك مستويات أخرى‬
‫أسمى ‪.‬‬

‫ان ال "با" دائما فى حالة سعى أو فى الطريق الى هدف أو غاية ‪.‬‬

‫ال "با" ليست غاية فى حد ذاتها ‪ ,‬و انما هى الطاقة التى تنقل االنسان بين عالمى الظاهر و الباطن‬

‫فى العديد من التجسدات لكى يصل فى النهاية الى الوجود األسمى‪/‬األقدس ‪.‬‬

‫و لما كانت ال "با" هى الوسيلة أو المركبة التى يعرج بها االنسان الى السماء ‪ ,‬لذلك رمز لها‬

‫المصرى القديم فى الكتابة الهيروغليفية بالطائر المهاجر ‪ .‬كما صورها أحيانا فى هيئة صقر برأس‬

‫انسان ‪.‬‬

‫و من األشياء التى تلفت االنتباه فى ال "با" أنها تصور برأس آدمى يحمل مالمح وجه الشخص‬

‫المتوفى ‪.‬‬

‫تحمل ال "با" مالمح صاحبها و تعبر عن ذاته ‪ ,‬و هو ما يشير الى طبيعتها الفردية ‪ ,‬بعكس طبيعة‬

‫ال "كا" الكونية ‪.‬‬

‫ال "كا" هى الطاقة الكونية الحيوية التى ال تتقمص صفات شخصية عند انتقالها لالنسان ‪ ,‬بينما‬

‫تتقمص ال "با" صفات فردية عند تجسدها ‪.‬‬

‫يصور المشهد التالى شخصا متوفيا و هو يضم باءه (على هيئة طائر بوجه آدمى يحمل مالمحه)‬

‫الى صدره و يحتضنها ‪ ,‬بعكس ال "كا" التى تظهر على هيئة ذراعين مرفوعين الى السماء و كأنها‬

‫دائما على استعداد الحتضان االنسان ‪.‬‬

‫ال "كا" هى التى تحتضن االنسان ‪ ,‬أما ال "با" فيحتضنها االنسان ‪.‬‬

‫‪- 333 -‬‬


‫"سوتى مس" يحتضن باءه على هيئة طائر يحمل مالمح وجهه‬

‫( من بردية "سوتى مس" ‪ ,‬دولة حديثه )‬

‫و من أكثر األشياء التى تلفت االنتباه فى الشكل السابق هو التشابه الشديد بين مالمح الشخص‬

‫المتوفى و مالمح الوجه التى يحمله طائر ال "با" ‪ .‬و هو ما يعنى أن ال "با" هى االنسان نفسه‬

‫و لكن فى صورة أخرى يكتسبها حين ينتقل الى عالم آخر ماورائى ‪.‬‬

‫يمكننا تعريف ال "با" بأنها الفرد عندما يتحرر من وعى الجسد ‪.‬‬

‫بالنسبة للغالبية العظمى من الناس ‪ ,‬من الصعب التحرر من وعى الجسد و الوصول الى حاالت‬

‫الوعى المتغير أثناء اليقظة ‪.‬‬

‫يعتبر االتصال بالكا أيسر من االتصال بالبا ‪.‬‬

‫فالكا تتخلل كل أجزاء الجسد و تمنحه طاقة الحياة و الصحة ‪ ,‬و يمكن لالنسان أن يتصل بالكا حين‬

‫يكون وعيه مركزا على كل جزء من أجزاء الجسد على حدة و على الصفات و القدرات النفسية‬

‫‪- 334 -‬‬


‫التى ترتبط به مثل القلب ‪.‬‬

‫ال "كا" دائما قائمة بذاتها و منفصلة عن ذات االنسان ‪ .‬ال "كا" هى الذات األخرى (الكونية) ‪,‬‬

‫التى ال تنتمى لالنسان و مع ذلك تبقى قرينا له فى العالم المادى و العالم السفلى ‪.‬‬

‫أما ال "با" فهى وعى االنسان بذاته حين ينفصل عن جسده المادى ككل ‪ ,‬و عن كل عضو من‬

‫أعضاء الجسد على حدة ‪.‬‬

‫عند الخروج من وعى الجسد و ادراك ال "با" فنحن هنا بصدد قوة نفسية‪/‬روحانية ال ترتبط‬

‫ارتباطا حميما بالجسد المادى مثل ال "كا" ‪.‬‬

‫من خالل ال "با" يتحرر االنسان من االلتصاق بالجسد و يتخلى عن الوعى بذاته كجسد مادى‬

‫و نفس (عقل ‪ +‬عاطفة) ‪.‬‬

‫فالكيان االنسانى ال يشتمل فقط على الجسد المادى و العقل و العاطفة (=النفس) و انما هناك‬

‫مستوى أعمق من مستويات الوجود االنسان ‪ ,‬هذا المستوى هو ال "با" ‪ ,‬و هى الذات العليا التى‬

‫تنتمى لعالم الروح ‪.‬‬

‫عند االتصال بال "كا" يكون وعى االنسان موجها نحو النفس ‪ ,‬حيث صفات النفس ممزقة بين‬

‫مختلف أعضاء الجسم المادى و الجسم األثيرى‪/‬النجمى ‪.‬‬

‫أما عند االتصال بال "با" فان وعى االنسان يكون موجها نحو الروح ‪ ,‬نحو الذات العليا التى‬

‫ال يعتريها التمزق الذى يعترى النفس ‪.‬‬

‫عند الحديث عن النفس فى مصر القديمة علينا أن ننتبه الى أننا هنا بصدد نفس تسعى دائما لتطوير‬

‫قدراتها و الوصول الى حاالت أسمى من الوعى ‪.‬‬

‫فاذا كان االتصال بال "كا" يجعل االنسان واعيا بمصدر الطاقة الحيوية التى تتخلل الجسم المادى‬

‫و تمده بالحياة ‪ ,‬فان االتصال بال "با" يجعل االنسان يرى الجسم المادى فى صورة جثه هامدة ‪.‬‬

‫ان الوعى بالذات فى حالة ال "با" على النقيض تماما من وعى الجسد ‪ ,‬و لذلك يبدو الجسد فى‬

‫نظر ال "با" جثه هامدة ال حياة فيها ‪.‬‬

‫‪- 335 -‬‬


‫يصل االنسان لوعى ال "با" فى حياته أثناء تجارب خارج الجسد ‪ ,‬أما عند الموت فان الوعى بال‬

‫"با" يحدث بشكل تلقائى ‪.‬‬

‫المشهد التالى هو واحد من مشاهد عديدة تصور العالقة بين ال "با" و بين الجسم المادى فى مصر‬

‫القديمة ‪.‬‬

‫ال "با" تنظر الى جسدها الراقد أمامها جثة هامدة‬

‫( من بردية تعود لعصر الدولة الحديثه)‬

‫بعد الموت مباشرة تنفصل ال "با" عن الجسد المادى و تحلق فوقه على هيئة طائر ‪.‬‬

‫تنجذب ال "با" من وقت آلخر الى الجسد المادى و تعود لتنظر اليه و هو يرقد أمامها جثه هامدة‬

‫و تشاهده من الخارج ‪ ,‬لكى تعزز شعورها باالنفصال و التميز عنه ‪.‬‬

‫فى كتاب الخروج الى النهار (فصل رقم ‪ )054‬نقرأ هذه العبارة ‪-:‬‬

‫*** عندما تغادر ال "با" الجسد ‪ ,‬يرى المرء جسده و هو يتحلل ‪ ,‬و يرى عظامه تتحول الى رميم‬

‫‪ ...‬و يرى لحمه و هو يتعفن و أعضاء جسده و هى تتحول الى تراب ***‬

‫ان مغادرة ال "با" للجسد المادى و انطالقها خارجه تتضمن شعورا بتفكك الجسم المادى يتبعه تفكك‬

‫الجسم األثيرى ‪.‬‬

‫‪- 336 -‬‬


‫تظهر ال "با" فى العديد من مشاهد الفن المصرى و هى تحوم حول المقبرة ‪.‬‬

‫فى المشهد التالى نرى طائر ال "با" و هو يجثم فوق المقبرة ‪.‬‬

‫ال "با" تحوم حول المقبرة و تحط فوقها‬

‫( من بردية تعود لعصر الدولة الحديثه)‬

‫أما المشهد التالى فهو يصور ال "با" و هى تنزل من فتحة أو بئر الى غرفة الدفن لتلقى نظرة‬

‫على المومياء ‪ .‬تنجذب ال "با" دائما الى جسدها المادى كما تنجذب الفراشة للنور ‪.‬‬

‫‪- 337 -‬‬


‫ال "با" تنزل الى المقبرة لتلقى نظرة على المومياء‬

‫( من بردية "نب قد" ‪ ,‬دولة حديثه )‬

‫يحتوى الفصل رقم ‪ 39‬من كتاب الخروج الى النهار على ابتهال لل "با" و هى تنظر الى جسدها‬

‫الراقد أمامها بال حراك ‪ .‬يقول النص ‪-:‬‬

‫*** انظرى يا بائى الى جسدى المادى ‪ ...‬و حلقى فوق موميائى ‪ ...‬ان بائى ستبقى خالدة ال‬

‫يعتريها الزوال و ال التحلل ***‬

‫يصور المشهد التالى ال "با" على هيئة طائر يحلق فوق المومياء ‪ ,‬و كأن هناك قوة تجذبه ليعود‬

‫اليها مجددا و ينظر الي الجسد المادى من الخارج ‪ ,‬من منظور يتوقف فيه وعى الجسد تماما ‪,‬‬

‫‪- 338 -‬‬


‫ليحل محله وعى آخر ‪.‬‬

‫ال "با" تحلق فوق المومياء و هى تحمل عالمة ال "شن" ‪ ,‬رمز خلود الروح‬

‫( من بردية "آنى" ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫و برغم أن السماء هى غاية ال "با" و منتهاها اال أن وعى ال "با" بذاتها يظهر فقط بالمقارنة‬

‫بعالم األرض ‪ .‬من وقت الى آخر تحتاج ال "با" لتعزيز وعيها بذاتها و ذلك بأن تعود مجددا‬

‫و تزور جسدها المادى الراقد فى المقبرة لكى تعى ذاتها ككيان روحى منفصل عن الجسم المادى‬

‫الذى كان يسكنه فى حياته الدنيا على األرض ‪.‬‬

‫يبدو وعى ال "با" بذاتها هشا و ضعيفا لدرجة تجعله غير قادر على الوجود بذاته بدون أن يقارن‬

‫نفسه بوعى الجسد ‪.‬‬

‫تحتاج ال "با" الى الجسد المادى لتعرف ذاتها ‪ ,‬كما يعرف النهار بمقارنته بالليل ‪ ,‬و كما يعرف‬

‫النور بمقارنته بالظالم ‪ ,‬و كما يعرف األبيض بمقارنته باألسود ‪ .‬فبضدها تعرف األشياء ‪.‬‬

‫فى يقظتنا و أثناء حياتنا اليومية يكون وعينا موزعا على مختلف أجزاء الجسد المادى ‪ ,‬و فى‬

‫‪- 339 -‬‬


‫تلك الحالة ال يكون هناك تعريف واضح للذات ‪ ,‬و اذا سئل االنسان عن ذاته فانه يشير الى جسده‬

‫المادى بوجه عام ‪.‬‬

‫يمكننا أن نفهم ال "با" على أنها تقابل األنا فى ثقافتنا الحديثه ‪.‬‬

‫و لذلك يميل معظم الباحثين الى ترجمة كلمة "با" بمعنى روح ‪ ,‬و هى ترجمة تحتاج الى تعديل‬

‫ألن ال "با" تظهر للوجود فى حاالت الوعى المتغير (تجارب خارج الجسد) و بعد الموت ‪.‬‬

‫فى تجارب خارج الجسد تخرج ال "با" من الجسد و تنظر اليه من الخارج و هو راقد بال حراك ‪,‬‬

‫و لكنها تظل مرتبطة به بحبل سرى من الطاقة الى أن تعود اليه مرة أخرى بعد انتهاء التجربة ‪.‬‬

‫أما فى حالة الموت ‪ ,‬فان الحبل السرى ينقطع و ال تعود ال "با" لجسدها مرة أخرى ‪.‬‬

‫هذا الخروج من الجسد ضرورى من أجل تفعيل ال "با" ‪.‬‬

‫تعود ال "با" للجسد بعد انتهاء تجارب خارج الجسد كما تعود لتزور جسدها من وقت آلخر بعد‬

‫الموت ‪ ,‬اال أن وجهتها النهائية هى العالم السماوى حيث تحملها أجنحتها اليه ‪.‬‬

‫و قبل أن ننتقل الى مستوى الوعى األسمى من ال "با" سنتوقف قليال عند عالقتها بعالم األرض ‪.‬‬

‫فبرغم أن وجهة ال "با" هى السماء ‪ ,‬اال انها تنجذب مجددا الى األرض ‪ ,‬ألنها تعى ذاتها بأن تنظر‬

‫الى جثمانها الراقد بال حراك ‪.‬‬

‫و لكى نفهم سر هذا االنجذاب و العودة مجددا الى الجسد المادى علينا أن نبحث مفهوم الظل‬

‫"خيبيت" ‪ .‬قد يكون مصطلح الظل مألوفا لبعض القراء من خالل كتابات عالم النفس السويسرى‬

‫كارل يونج ‪ ,‬و لكن علينا أن نحترس من اسقاط مصطلحات علم النفس الحديث على المفاهيم‬

‫الروحانية المصرية القديمة ‪.‬‬

‫و برغم وجود بعض التشابه بين مفهوم الظل عند قدماء المصريين و بين تعريف كارل يونج له ‪,‬‬

‫اال اننا ال نستطيع أن ننظر لهما على أنهما مترادفات ‪.‬‬

‫فى علم الفيزياء ‪ ,‬تتكون الظالل عادة عند سقوط الضوء على جسم مادى ‪.‬‬

‫و فى الفلسفة الروحانية المصرية ‪ ,‬يظهر الظل النفسى (خيبيت) عندما تحاصر ال "با" أثناء‬

‫‪- 340 -‬‬


‫رحلتها بين السماء و األرض و ال تستطيع التقدم ‪.‬‬

‫و من موقعها بين العالمين ‪ ,‬تنظر ال "با" نحو السماء فترى عالم النور ‪ ,‬و تعود فتنظر الى‬

‫األرض فترى الظل الذى نشأ من عالقتها بجسدها المادى و اعتمادها عليه فى تعريف ذاتها ‪.‬‬

‫المشهد التالى من مقبرة "ايرى ‪ -‬نفر" ‪ ,‬و فيه تظهر ال "با" فى عالقة مزدوجة مع الظل ‪.‬‬

‫ال "با" و ال "خيبيت" (الظل)‬

‫( من مقبرة "ايرى نفر" ‪ ,‬دولة حديثه )‬

‫فى الجزء األسفل من الصورة نرى طائر ال "با" و قد التصقت به كتلة مظلمة كثيفه تثقل كاهله‬

‫و تعوقه عن التحليق الى أعلى ‪ .‬هذه الكتلة هى الظل "خيبيت" ‪.‬‬

‫أما فى الجزء األعلى من الصورة فتظهر ال "با" و قد تحررت من ذلك الثقل و انطلقت نحو السماء‬

‫و تبدو و كأنها تنادى على الظل (فى هيئة انسان) لكى يخرج من المقبرة و يلحق بها الى عالم النور‬

‫لل "با" وجهان ‪ ,‬فمن ناحية يمكن للبا أن تقترب جدا من الظل و تلتصق به و بالتالى تلتصق بالعالم‬

‫األرضى ‪ .‬و من ناحية أخرى يمكنها أن تتحرر و تحرر الظل من المقبرة ‪.‬‬

‫‪- 341 -‬‬


‫فى هذا السياق يمكننا أن ننظر الى ال "خيبيت" (الظل) على أنه الرغبات المادية التى لم يستطع‬

‫االنسان تحقيقها فى حياته و كذلك لم يستطع أن يسمو بها و يحولها الى أهداف روحانية ‪.‬‬

‫تلك الرغبات هى التى تجعل ال "با" ملتصقة باألرض و تعوقها عن التحرك نحو غايتها فى السماء‬
‫‪.‬‬

‫الظل هو كل شئ أرضى‪/‬مادى ال ينفذ منه الضوء ‪ ,‬و حين يلتصق ذلك الشئ بالبا يثقل كاهلها ‪.‬‬

‫و ألن الهدف النهائى للبا هو أن تتحول الى كيان نورانى شفاف ‪ ,‬لذلك يجب استدعاء الظل‬

‫ليخرج من المقبرة و يتعرض لنور الروح و بذلك يذوب و يتالشى ‪.‬‬

‫فى الفصل رقم ‪ 92‬من كتاب الخروج الى النهار يبتهل "نب سنى" الى عين حورس ‪ ,‬و هى العين‬

‫الشافية التى تهب أوزير الحياة من جديد ‪ ,‬و يسألها أن تحرر "باءه" ‪ ,‬ثم يعقب ذلك باالبتهال لها كى‬

‫تحرر ظله ‪ .‬يقول "نب ‪ -‬سنى" فى ابتهاله ‪-:‬‬

‫*** يا حراس أوزير ‪ ,‬حين ترون الغسق ‪ ...‬أطلقوا بائى ‪ ,‬و ال تعيقوا ظلى ‪ ...‬افتحوا الطريق أمام‬

‫بائى لكى ترى االله العظيم فوق عرشه يوم تحاسب األرواح ***‬

‫ال "آخ" (‪-: )Akh‬‬

‫اذا كان موقع ال "با" بين األرض و السماء أو فى الطريق الى السماء ‪ ,‬فان موقع ال "آخ" ‪ -‬و هى‬

‫المستوى األسمى من الوعى ‪ -‬هو السماء ‪.‬‬

‫تترجم كلمة "آخ" فى بعض األحيان بمعنى ذكاء ‪ ,‬و هى عنصر كامن من عناصر الروح ال يتم‬

‫تفعيله اال فى عالم النور االلهى ‪.‬‬

‫تكتب كلمة "آخ" باستخدام رمز هيروغليفى على شكل نوع من أنواع طيور األيبيس يتميز بمنقاره‬

‫المقوس و ريشه ذو اللون األخضر الداكن المرصع ببقع ذهبية تتألأل فى ضوء الشمس ‪.‬‬

‫‪- 342 -‬‬


‫الرمز الهيروغليفى لكلمة "آخ" على شكل طائر أيبيس بمنقار مقوس‬

‫لذلك تحمل كلمة "آخ" دالالت تدور حول "النور ‪ /‬االشراق ‪ /‬الضياء ‪ /‬التوهج" ‪.‬‬

‫قام عالم المصريات االنجليزى "والس بدج" بترجمة كلمة "آخ" الى "الذى يشع نورا" أو "الروح‬

‫النورانية" ‪ ,‬أى التى حازت االشراق ‪.‬‬

‫تسكن ال "با" العالم البرزخى الذى يطلق عليه "دوات" (العالم السفلى‪/‬النجمى‪/‬األثيرى) و الذى‬

‫يحكمه أوزير ‪ ,‬بينما تسكن ال "آخ" الى العالم السماوى ‪ /‬الشمسى ‪ /‬المشرق الذى يحكمه "رع" ‪.‬‬

‫فى متون األهرام التى دونت فى عصر الدولة القديمة كان االتحاد ب "رع" هو الهدف من رحلة‬

‫المعراج السماوى لملوك مصر ‪.‬‬

‫هذا االتحاد ب "رع" يتحقق عندما يتحول الملك بعد موته الى "آخ" ‪ ,‬أى الى روح تشع نورا‬

‫كالنجوم التى تضئ فى سماء الكون ‪ ,‬و فى تلك الحالة يصبح الملك هو "سا ‪ -‬رع" ‪ ,‬أى ابن رع ‪.‬‬

‫جاء فى متون األهرام (نص رقم ‪ )052‬على لسان الملك ونيس ‪-:‬‬

‫*** يا "أتوم ‪ -‬رع" ‪ ...‬ها قد أتاك ابنك ونيس ‪ ,‬بعد أن صار فى هيئة "آخ" ال يعتريها الموت ‪...‬‬

‫بعد أن صار كيان الهى فوق حدود الكون ‪ ...‬ها قد أتاك ابنك ونيس ***‬

‫عند قراءة النصوص المصرية القديمة نالحظ أن ذكر ال "آخ" كان فى الغالب يقترن بشعور بالعودة‬

‫الى البيت ‪ ,‬الى األصل و المنبع الذى انبثقت منه الروح ‪.‬‬

‫ان السبب فى اقتران ال "آخ" بالنور و االشراق هو اتصالها و اتحادها باألصل و الينبوع الذى‬

‫انبثق منه نور األرواح ‪.‬‬

‫‪- 343 -‬‬


‫ال "آخ" تشع نورا و اشراقا ألنها مشبعة بنور االله الخالق ‪.‬‬

‫جاء فى كتاب الخروج الى النهار (فصل رقم ‪ )05‬على لسان الكاتب "آنى" ‪-:‬‬

‫*** التحيات لك يا "رع" حين تشرق فى هيئة "حور آختى" ‪ ...‬يخشع القلب حين يرى جمالك ‪,‬‬

‫و حين تسقط أشعتك المتوهجة على صدرى ‪ ...‬يا من ليس قبله شئ ‪ ,‬يا من انبثقت منه كل الصور‬

‫و األشكال ‪ ...‬يا من نطقت كلمة الخلق حين كانت األرض غارقة فى محيط الصمت ‪ ...‬أيها الواحد‬

‫الذى أتى للوجود فى السماء ‪ ...‬قبل أن يكون هناك أرض أو جبال ‪ ...‬أبتهل اليك يا "آتوم رع" أن‬

‫تجعل "آخى" (روحى النورانية) تشع بنورك ‪ ...‬أبتهل اليك يا أوزير أن تجعل "بائى" الهية ‪ ...‬يا‬

‫"آتوم رع" أشرق بنورك فوقى ‪ ...‬أشرق بنورك فوق ابنك "أوزير ‪ -‬آنى" الذى يحبك ***‬

‫يبتهل الكاتب "آنى" فى النص السابق الى أوزير أن يجعل "باءه" الهية ‪ ,‬و يبتهل الى "آتوم رع" أن‬

‫يجعل "آخه" تشع بنوره ‪.‬‬

‫يمكننا اذن أن نقول أن ال "آخ" هى الحالة التى تصير اليه ال "با" بعد أن تصير الهية و ترتفع الى‬

‫مستوى من الوعى يتجاوز العالم األوزيرى‪/‬السفلى‪ /‬النجمى‪/‬العقل الباطن‪/‬النفس ‪.‬‬

‫و الفرق بين أوزير و رع هو أن أوزير ال يمتلك مفتاح تجديد طاقته (بعثه من جديد) ‪ ,‬و هو يعتمد‬

‫فى ذلك على ايزيس و حورس ‪ ,‬أما رع فيجدد طاقته بنفسه ‪.‬‬

‫ال "آخ" هى الروح التى تمتلك القدرة على تجديد نفسها بشكل دائم ‪ .‬تلك القدرة على خلق الذات‬

‫و اعادة تجديد طاقتها بشكل دائم هى أهم سمات الوجود األسمى‪/‬األقدس الذى يطلق عليه "آخ" ‪.‬‬

‫يركز الفصل رقم ‪ 074‬من كتاب الخروج الى النهار على فكرة البعث من جديد ‪.‬‬

‫يحمل هذا الفصل عنوان ( مساعدة ال "آخ" على أن تعبر البوابة العظيمة فى السماء ) ‪.‬‬

‫و من العبارات التى جاءت فى ذلك الفصل ‪-:‬‬

‫*** لقد ولد كيان الهى ‪ ,‬حين ولدت من جديد فى عالم الروح ‪ ...‬صرت مبصرا ‪ ...‬صرت موجودا‬

‫‪ ...‬لقد ارتفعت فوق المكان الذى أنا فيه ‪ ...‬لقد أنجزت كل ما قدر لى القيام به فى حياتى الدنيا ‪...‬‬

‫أنا زهرة اللوتس التى تشع نورا فى أرض النقاء التى استقبلتنى و صارت موطنى ‪ ...‬أنا زهرة‬

‫‪- 344 -‬‬


‫اللوتس فى أنوف القوى الكونية العظيمة ‪ ...‬لقد وصلت الى جزيرة اللهيب ‪ ...‬لقد أقمت الماعت‬

‫مكان الفوضى ***‬

‫فى مصر القديمة كانت زهرة اللوتس رمزا للتحول الباطنى و الميالد من جديد والدة روحانية ‪.‬‬

‫جاء فى ثامون األشمونيين أن "رع" ولد من زهرة لوتس خرجت من مياه األزل "نون" فى بدء‬

‫الخليقة ‪.‬‬

‫أن يصف كتاب الخروج الى النهار روح المتوفى بأنها زهرة لوتس فان ذلك يعنى أن تلك الروح‬

‫صارت تمتلك القدرة على أن تجدد طاقتها بنفسها مثل "رع" ‪.‬‬

‫رأينا فى الفقرة السابقة أن وعى ال "با" بذاتها يتطلب تمييز نفسها عن الجسد المادى ‪.‬‬

‫فى حالة ال "با" يرى االنسان جسده من الخارج ‪ .‬و هى حالة يمر بها االنسان أثناء تجربة الموت‬

‫الطقسى و الميالد من جديد والدة روحانية و هى من الطقوس األوزيرية ‪.‬‬

‫أما فى حالة ال "آخ" فان عالقة االنسان بجسده تنقطع تماما ‪.‬‬

‫يتزامن هذا االنفصال عن الجسد المادى مع اكتساب جسد روحى بديل عنه ‪ ,‬يطلق عليه اسم "ساح"‬

‫أو "ساحو" يصير هو المركبة التى تستخدمها ال "آخ" ‪.‬‬

‫ينبت ذلك الجسد الروحى من الجسد المادى ‪ ,‬و يعتبر ذلك من أكثر األحداث غموضا فى رحلة‬

‫الروح ‪.‬‬

‫جاء ذكر الجسد الروحى فى الفصل رقم ‪ 054‬من كتاب الخروج الى النهار ‪ ,‬و فيه تتحدث روح‬

‫المتوفى فى العالم اآلخر على لسان خبرى (الذى يولد من تلقاء ذاته) ‪-:‬‬

‫*** أنا خبرى ‪ ...‬ستبقى أعضائى الى األبد ‪ ...‬لن يتحلل جثمانى و لن تصير عظامى رميما ‪...‬‬

‫و لن يأكلنى الدود ‪ ...‬لن أتعفن أمام أعين "شو" ‪ ...‬سأولد من جديد ‪ ,‬و سأحيا ‪ ,‬و لسوف أحيا ‪...‬‬

‫سأنبت من جديد ‪ ,‬سينبت لى جسد جديد ‪ ...‬سأبعث من جديد فى سالم ***‬

‫النص السابق مصحوب بالشكل التالى و هو من بردية "نو" ‪.‬‬

‫‪- 345 -‬‬


‫ميالد الجسم الروحى‪/‬السماوى كبديل للجسم المادى‬

‫( من بردية "نو" ‪ ,‬دولة حديثه )‬

‫نستشف من النص السابق أن نمو الجسم الروحى الجديد "ساحو" يضمن احتفاظ االنسان بذاكرته‬

‫الروحية و قدراته و صفاته النفسية التى كانت موزعة من قبل على أعضاء الجسم المادى ‪ ,‬حيث‬

‫تنتقل هذه الصفات و القدرات من الوجود المادى الى وجود آخر أسمى هو الوجود الروحى ‪/‬‬

‫األقدس ‪ .‬يقول النص ( ستبقى أعضائى الى األبد ) ‪.‬‬

‫و هو ما يفسر لنا لماذا يأتى ذكر األيدى و السواعد و األقدام بشكل متكرر فى كتب العالم اآلخر‬

‫المصرية ‪ .‬فأعضاء االنسان تتواجد فى العالم اآلخر و لكن فى هيئة روحانية شفافه ‪.‬‬

‫يمكننا أن نفهم الجسم الروحى الذى يصاحب الوصول الى وعى ال "آخ" على أنه قرين (نسخة طبق‬

‫األصل) من الجسد المادى و لكن فى صورة أكثر شفافية و أقرب الى عالم الروح ‪.‬‬

‫ال أحد يستطيع القول على وجه اليقين كيف كان قدماء المصريين يرون العالقة بين ال "كا" و بين‬

‫ال "ساحو" ‪ ,‬علما بأن كل اسم من هذه األسماء كان له العديد من الدالالت و يتوقف معناه دائما‬

‫على السياق الذى يذكر خالله ‪.‬‬

‫و يكفى هنا أن نشير الى أنه من المحتمل أن نمو الجسم الروحى من الجسم المادى يتزامن مع عملية‬

‫خيميائية باطنية تتحول فيها ال "با" الى "آخ" ‪.‬‬

‫أى أن ال "آخ" و ال "ساحو" يأتيان للوجود معا فى نفس اللحظة ‪ ,‬و هذا الحدث هو بداية تحرر‬

‫‪- 346 -‬‬


‫الروح من العالم السفلى األوزيرى و من المقبرة ‪.‬‬

‫المشهد التالى يصور عملية نمو ال "ساحو" (الجسم الروحى) ‪.‬‬

‫"رع" يستدعى الجسم الروحى "ساحو" للوجود لكى يستنشق األنفاس االلهية‬

‫( المقصورة الثانية من مقاصير الملك توت عنخ آمون ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫يقول النص المصاحب للمشهد أن ال "ساحو" يولد حين يدعوه "رع" أن يأتى للوجود لكى‬

‫يستنشق األنفاس االلهية ‪.‬‬

‫جاء ذكر ميالد ال "آخ" و ال "ساحو" معا فى الفصل التاسع من كتاب الخروج الى النهار و يطلق‬

‫عليه اسم ( فصل الخروج الى النهار ‪ ,‬و اجتياز المقبرة ) ‪ .‬و فيه نقرأ العبارات التالية ‪-:‬‬

‫*** لقد اجتزت ال "دوات" (العالم السفلى) ‪ ...‬و رأيت أبى أوزير ‪ ...‬لقد بددت ظلمة الليل ‪ ...‬لقد‬

‫صرت الى "ساح" ‪ ...‬لقد صرت الى "آخ" ‪ ...‬لقد صرت أمتلك القدرة ‪ ...‬أيتها ال "نترو"‬

‫(الكيانات االلهية) ‪ ,‬أيها ال "آخو" (األرواح النورانية) ‪ ,‬فلتفسحوا لى مكانا بينكم ***‬

‫أن يصبح االنسان ذو قدرة يعنى أن يحتفظ االنسان بقدراته و صفاته النفسية و بحواسه (البصر ‪/‬‬

‫‪- 347 -‬‬


‫السمع ‪ /‬الشم ‪ ,‬الخ) و لكن فى هيئة أسمى و من خالل جسم روحى ‪.‬‬

‫فى الفصل رقم ‪ 99‬من كتاب الخروج الى النهار هناك حوار شيق بين روح مرتحلة فى ال "دوات"‬

‫(العالم السفلى) و بين المعداوى الذى ينقل األرواح عبر النهر السماوى ‪.‬‬

‫يطرح المعداوى األسئلة على الروح المرتحلة لكى يعرف اذا كانت تمتلك قدرات (حواس) ‪ ,‬فتجيبه‬

‫الروح (نعم ‪ ,‬أنا أمتلك قدرات) ‪.‬‬

‫فيسألها المعداوى ‪ :‬هل شفيت أعضاء جسدك ؟‬

‫و تجيبه الروح ‪ :‬نعم ‪ ,‬شفيت أعضاء جسدى‬

‫فيسألها المعداوى ‪ :‬و ما هى هذه األعضاء ؟‬

‫و تجيبه الروح ‪ :‬هى الذراعين و الساقين‬

‫كان شفاء أعضاء الجسد و اعادتها سليمة ‪ ,‬كاملة العدد من أهم الموضوعات التى جاء ذكرها فى‬

‫كتب العالم اآلخر المصرية ‪.‬‬

‫هذا التجميع للجسد الممزق هو ذروة الطقوس األوزيرية و هى طقوس يتجرع فيها االنسان كأس‬

‫الموت و يقابله وجها لوجه و يختبر الشعور بتمزق الجسد أو بعبارة أخرى تمزق النفس ‪.‬‬

‫ان اعادة تجميع أجزاء الجسد هى خطوة هامة من أجل نمو الجسد الروحى "ساحو" و من أجل‬

‫التحول الى "آخ" ‪.‬‬

‫و حين يتحقق ذلك ينتقل االنسان من عالم "أوزير" الى عالم "رع" ‪ ,‬و تلك هى المحطة األخيرة فى‬

‫رحلة الروح ‪ ,‬حين تعبر عتبة السماء التى يرمز لها بالنهر السماوى أو تمر من خالل بوابة السماء‬

‫فى النص التالى من متون األهرام من عصر الدولة القديمة ‪ ,‬يرتبط التحول الى "آخ" باعادة جمع‬

‫أجزاء جسد الملك و نمو الجسد الروحى "ساحو" مكان الجسد المادى ‪ .‬كما يرتبط فى نفس الوقت‬

‫بعبور البوابات السماوية و االلتحاق بالنجوم ‪.‬‬

‫و بدال من رع ‪ ,‬يقوم "جب" (رب األرض) بالترحيب بالملك ‪.‬‬

‫يقول النص رقم ‪ 054‬من متون األهرام ‪-:‬‬

‫‪- 348 -‬‬


‫*** انهض أيها الملك تيتى ‪ ...‬أمسك برأسك ‪ ...‬و اجمع عظامك و أعضاء جسدك ‪ ...‬انفض‬

‫التراب عن لحمك ‪ ...‬تناول خبزك الذى لم يتعفن ‪ ...‬و جعتك التى لم تفسد ‪ ...‬و قف أمام األبواب‬

‫التى ال تفتح لمن ليس جديرا ‪ ...‬ها هو حارس البوابة يأتيك ‪ ,‬و يمسك بيدك ‪ ,‬ليأخذك الى السماء‬

‫‪ ...‬الى أبيك جب ‪ ,‬الذى يبتهج لمجيئك ‪ ...‬و يمد يده اليك ‪ ,‬و يقبلك ‪ ,‬و يربت على كتفك ‪...‬‬

‫و يضعك فى مقدمة ال "آخو" (األرواح النورانية) ‪ ...‬فى مقدمة النجوم التى ال تموت ***‬

‫فى الفصل التالى سنتناول رحلة الروح فى العالم السفلى و سنتعرف عليها من خالل المشاهد‬

‫التصويرية الرمزية و أيضا من خالل النصوص الدينية المصرية ‪.‬‬

‫‪- 349 -‬‬


‫الفصل العاشر‬
‫فقدان االتجاه فى العالم السفلى‬

‫النفس االنسانية و ال "نترو" (الكيانات االلهية) و نشأة الكون ‪-:‬‬

‫ان حاالت الوعى الثالثة التى يطلق عليها "كا" ‪" ,‬با" ‪" ,‬آخ" هى جزء من تجربة التطور الروحى‬

‫لالنسان أو ما يطلق عليه رحلة الروح ‪.‬‬

‫و المحطة األولى فى هذه الرحلة هى تجميع طاقة ال "كا" و استحضارها ‪ ,‬و تلك هى وسيلة‬

‫االنسان للتحرر من الوعى الجمعى و تعزيز وعيه بنفسه ككيان قائم بذاته ‪.‬‬

‫تحدث هذه الخطوة األولى برعاية و اشراف الكيان االلهى حورس ‪.‬‬

‫يصير االنسان تجسيدا لحورس بقدر ما يعى طاقة ال "كا" كجزء ينتمى لهويته الفردية ‪.‬‬

‫و المحطة الثانية – و هى ال "با" – يبلغها االنسان أثناء تجربة مختلفة يرى فيها نفسه كذات‬

‫منفصلة عن الجسد المادى و عن الحواس المادية ‪.‬‬

‫يعبر مصطلح ال "با" عن حالة من حاالت الوعى يتحرر فيها االنسان من قيود المادة و لكن فى‬

‫نفس الوقت تحده روابط نفسية ينبع معظمها من التعلق بالعالم المادى ‪.‬‬

‫لذلك تتواجد ال "با" فى موقع وسط بين عالم الماده و عالم الروح ‪ ,‬و تسكن فى العالم البرزخى‬

‫بينهما و هو ال "دوات" (العالم السفلى) الذى يحكمه أوزير ‪.‬‬

‫يختبر االنسان ال "با" حين يصير تجسيدا ألوزير ‪ ,‬سواء أثناء تجارب خارج الجسد أو عند‬

‫الموت ‪.‬‬

‫أما المحطة الثالثه و هى ال "آخ" ‪ ,‬فان الوصول اليها يتطلب التحرر تماما من التعلق بالجسد ‪.‬‬

‫لكى يصير االنسان "آخ" (روح موصولة بالنور االلهى) عليه أوال أن يصير نقيا نقاءا سيكولوجيا ‪,‬‬

‫أى طاهر القلب أو سليم القلب ‪.‬‬

‫‪- 350 -‬‬


‫فى كتب العالم اآلخر المصرية التى تتناول رحلة الروح فى العالم اآلخر يلفت انتباهنا التركيز‬

‫الشديد على مفهوم الطهارة و النقاء السيكولوجى أو النفسى و الذى عبر عنه قدماء المصريين‬

‫بمصطلح نقاء القلب ‪.‬‬

‫كان نقاء القلب و طهارته شرطا أساسيا لكى يولد االنسان من جديد فى هيئة "آخ" ‪.‬‬

‫يعبر مصطلح ال "آخ" عن حالة من االشراق الداخلى أو الوميض أو االستنارة الباطنية ‪ ,‬من يصل‬

‫اليها يعتبر تجسيدا ل "رع" ‪.‬‬

‫حين يصل االنسان الى وعى ال "آخ" يدرك ذاته الحقيقة و التى هى فى طبيعتها الهية و هى من‬

‫طبيعة النور االلهى "رع" ‪.‬‬

‫يمكننا اذن أن نفهم علم النفس و الروح فى مصر القديمة على أنه طريق للتطور الروحى أو رحلة‬

‫للروح يدخل فيها االنسان فى عالقة مباشرة مع كل من "حورس" و "أوزير" و "رع" ‪ ,‬الواحد تلو‬

‫اآلخر الى أن يحوز االشراق و الوميض و يصير قطبا للنور االلهى "رع" ‪.‬‬

‫فى الفصل الثانى من هذا الكتاب أشرت الى أن علم الفيزياء الكونية فى مصر القديمة هو صورة‬

‫ماورائية للعالم ‪.‬‬

‫علم الكونيات المصرى هو خريطة ميتافيزيقية تكشف عن ثالثة مستويات رئيسية للوجود ‪-:‬‬

‫(‪ )1‬الوجود المادى (الجسد المادى)‬

‫(‪ )2‬الوجود النفسى (العقل الباطن)‬

‫(‪ )3‬الوجود الروحى‪/‬األقدس (الوعى األسمى)‬

‫يمكننا اذن أن ندرس علم النفس و الروح فى مصر القديمة من خالل هذه الخريطة الوجودية ‪.‬‬

‫فالعالم المادى يقابل الجسم المادى لالنسان (خات) و هو عرضة للموت و التحلل و الزوال ‪.‬‬

‫و ما يمنع الجسم من التحلل و الزوال هو الطاقة الحيوية "كا" التى تجدده باستمرار و تساعده على‬

‫اعادة بناء ما فقد من خاليا أوال بأول طالما أن االنسان حى ‪.‬‬

‫أما ال "آخ" فهى الروح الخالدة ذات الطبيعة النورانية و التى تنتمى للعالم السماوى ‪.‬‬

‫‪- 351 -‬‬


‫و ما بين األرض‪/‬عالم الماده ‪ ,‬و السماء‪/‬عالم الروح تحيا ال "با" و تتنقل دائما ‪.‬‬

‫و الجدول التالى يوضح العالقة بين مكونات الكيان االنسانى و مستويات الوجود ‪-:‬‬

‫السماء‬ ‫البرزخ (دوات)‬ ‫األرض‬


‫آخ ‪/‬الروح الغير متجسده (‪)spirit‬‬ ‫با ‪ /‬الروح المتجسده (‪)soul‬‬ ‫خات (الجسم المادى)‬
‫كا ‪ /‬الطاقة الحيوية‬

‫ان عالقة حورس بالعالم المادى أو عالم األشكال المتجسده هى أنه يغذى ذلك العالم بطاقة الحياة‬

‫"كا" ‪ .‬يرمز حورس للروح حين تتجسد فى المستوى المادى ‪.‬‬

‫بالطبع يرمز حورس ألشياء أخرى و لكننا نركز فى هذا السياق على الرموز التى تتعلق بعلم النفس‬

‫و الروح فى مصر القديمة ‪.‬‬

‫أما عالم ال "دوات" الذى يحكمه أوزير فهو العالم تحيا فيه األرواح التى لم تتخذ بعد جسدا ماديا ‪,‬‬

‫و ان كان لها هيئة أثيرية ‪.‬‬

‫ذلك هو العالم الذى تنتمى له ال "با" ( و أيضا ال "كا" ) ‪ ,‬و الذى ترتحل فيه لكى تصل الى‬

‫مستوى أسمى من مستويات الوجود و هو ال "آخ" ‪.‬‬

‫تنتمى ال "آخ" لعوالم النور التى تقع فيما وراء عالم ال "دوات" البرزخى ‪ .‬ذلك النور هو نور‬

‫الروح األسمى النقية التى أتت للوجود بذاتها من محيط الالوجود ‪.‬‬

‫هنا فى العالم السماوى الذى يحكمه "رع" يوجد الينبوع الذى يبدأ منه الخلق و يعاد مرارا ‪ ,‬و الذى‬

‫تجدد به الروح نفسها بأن تعود اليه مجددا ثم تولد من جديد ‪ ,‬و تعيد تكرار ذلك الى ما ال نهاية ‪.‬‬

‫و هكذا يتبين لنا أن رحلة الروح فى ال "دوات" هى رحلة يمر فيها وعى االنسان بتغيرات مرحلية‬

‫يطلق عليها "كا" ‪" ,‬با" ‪ ,‬و فيها تلعب ال "با" دورا أساسيا ‪.‬‬

‫و نالحظ أن قدماء المصريين كانوا يقومون فى كثير من األحيان بتبديل الكلمتين "با" و "كا" فى‬

‫كتب العالم اآلخر ‪.‬‬

‫و هنا علينا أن نتذكر أن قدماء المصريين كانوا يتبعون طريقة تفكير مرنة و فضفاضة ال تلتزم‬

‫‪- 352 -‬‬


‫دائما بمفاهيم محددة ‪ .‬فحين يكون الفكر جامدا متعنتا يفقد قدرته على التعبير عن خبرات الحياة ‪.‬‬

‫المفاهيم المتعلقة بالعالم السفلى ‪-:‬‬

‫تترجم كلمة "دوات" المصرية القديمة عادة الى العالم السفلى ‪ ,‬اال انها فى الحقيقة ترجمة غير دقيقة‬

‫ألنها ال تعبر بشكل كامل عن دالالت هذه الكلمة كما عرفها قدماء المصريين ‪.‬‬

‫فى اللغة المصرية القديمة تحمل كلمة "دوات" دالالت تدور حول ضوء الفجر ‪ ,‬االشراق ‪ ,‬الشفق‬

‫(الضوء الذى يسبق شروق الشمس) ‪.‬‬

‫لذلك فان أقرب ترجمة لكلمة "دوات" هى "مكان ميالد نور الصباح" ‪.‬‬

‫و فى هذه الترجمة نالحظ أن المعنى يدور حول منطقة وسطى بين الليل و النهار ‪ ,‬بين الظالم‬

‫و النور ‪.‬‬

‫و ألن الكلمة تحمل ضمنيا معنى الشفق ‪ ,‬فهى ليست مجرد حالة وسط بين الظالم و النور ‪ ,‬و انما‬

‫هى تحمل أيضا معنى آخر و هو ميالد النور من رحم الظلمة ‪ ,‬أى أن ال "دوات" هو العالم الذى‬

‫ترتحل فيه الروح من الظلمة الى النور و تجتاز الليل لكى تخرج الى النهار ‪.‬‬

‫و كلمة "دوات" ليست هى الكلمة المصرية الوحيدة التى تترجم الى "العالم السفلى" ‪ ,‬فهناك كلمات‬

‫أخرى تترجم الى نفس المعنى ‪ ,‬أولها كلمة "أمنتت" (‪. )Amentet‬‬

‫و المعنى الحرفى لكلمة "أمنتت" هو "المكان الخفى" ‪.‬‬

‫صور الفنان المصرى القديم عالم ال "أمنتت" على شكل ربة رائعة الحسن و الجمال ‪ ,‬يطلق عليها‬

‫"ربة الغرب" تستقبل الشمس عند دخولها الى المناطق الخفية ‪ /‬الباطنية التى تقع فيما وراء عالم‬

‫التجسد ‪.‬‬

‫تعتبر "أمنتت" أحد أوجه األم الكونية "حتحور" أو "نوت" التى تبتلع الشمس كل مساء و تعود‬

‫فتلدها من جديد كل صباح ‪ .‬و ما ينطبق على الشمس ينطبق على العالم المتجسد كله ‪.‬‬

‫"أمنتت" هى العالم الذى تختفى فيه األشكال و الصور عند الموت ‪ ,‬و تعود فتخرج منه الى النهار‬

‫‪- 353 -‬‬


‫عندما تولد من جديد ‪.‬‬

‫يقول الفيلسوف االغريقى "ايامبليكوس" أن ال "أمنتت" فى مصر القديمة هو "الفضاء الذى يأخذ‬

‫و يمنح" ‪.‬‬

‫ال "أمنتت" هو العالم الخفى ‪ ,‬الغير متجسد داخل جسد األم الكونية و برغم كونه غير متجسد اال‬

‫انه يحمل داخله امكانيات الخلق التى ال حصر لها ‪.‬‬

‫فى عالم ال "أمنتت" ال تتواجد المخلوقات وجودا روحانيا و ال وجودا ماديا (فى جسد مادى) ‪,‬‬

‫و انما تتواجد وجودا باطنيا ديناميكيا يعتبر مرحلة من مراحل التحول و الصيرورة التى تمر بها‬

‫الروح قبل و بعد تجسدها فى العالم المادى ‪.‬‬

‫و هناك كلمة أخرى تترجم أيضا بمعنى عالم سفلى ‪ ,‬و هى كلمة "نتر خرت" ‪ .‬أما المعنى الحرفى‬

‫لها فهو "المكان الخفى االلهى" ‪.‬‬

‫و العالمات الهيروغليفية المستخدمة فى كتابة هذه الكلمة ال توضح أين يقع هذا العالم االلهى ‪.‬‬

‫فمن المحتمل أن يكون تحت النجوم أو تحت األرض ‪.‬‬

‫و لكن من الواضح أن قدماء المصريين اعتقدوا أن هذا العالم يوجد تحت النجوم (بين السماء‬

‫و األرض) و أيضا تحت األرض ‪.‬‬

‫و بينما كانت النجوم فى نظر قدماء المصريين هى الرداء الذى يغطى جسد األم الكونية نوت ‪ ,‬كان‬

‫ال "دوات" أو ال "أمنتت" هو جوف نوت ‪ .‬أى أن ال "دوات" يقع فيما وراء النجوم و ليس فى‬

‫النجوم نفسها ‪.‬‬

‫ارتبط العالم السفلى من الناحية الجغرافية بجهة الغرب حيث تغرب الشمس ‪ ,‬و أيضا بالشرق حيث‬

‫تولد الشمس من جديد كل صباح ‪.‬‬

‫و اعتقد قدماء المصريين أيضا أن النيل ينبع من العالم السفلى ‪ ,‬و لذلك ارتبط هذا العالم أيضا من‬

‫الناحية الجغرافية بجهة الجنوب ‪.‬‬

‫كما اعتقدوا أيضا أن أرواح البشر التى ترتحل فى العالم السفلى بعد الموت تسعى للوصول الى‬

‫‪- 354 -‬‬


‫بيتها السماوى بين النجوم القطبية الشمالية ‪ ,‬مما يعنى أن العالم السفلى ارتبط أيضا باتجاه الشمال ‪.‬‬

‫و عند تأمل معنى كلمة "نتر خرت" تبدو و كأنها تشير الى منطقة مميزة تقع فوق العالم السفلى أو‬

‫فيما وراءه ‪.‬‬

‫و سواء تصورنا أن العالم السفلى يوجد فوق األرض أو تحت األرض ‪ ,‬فى هذا الجانب من السماء‬

‫أو ذاك ‪ ,‬فى الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب ‪ ,‬فالعالم السفلى هو دائما الطريق الى عالم آخر‬

‫أسمى ‪.‬‬

‫من الصعب أن نحدد مكانا معينا فى العالم المادى و نشير اليه باصبعنا و نقول هنا يقع العالم السفلى‬

‫‪ ,‬ألن العالم السفلى فى نظر قدماء المصريين هو عالم كلى الحضور ‪.‬‬

‫لم ينظر قدماء المصريين أبدا للعالم السفلى على أنه مكان مادى ‪ ,‬و لذلك لم يحددوا له موقعا معينا‬

‫يمكن أن يشار اليه باالصبع ‪.‬‬

‫يقع العالم السفلى داخل النفس االنسانية ( العقل الباطن و الالوعى ) ‪ ,‬فهو عالم سيكولوجى‬

‫ميثولوجى يدخله االنسان عندما يخرج من حدود الوعى األدنى الذى يستند الى الحواس المادية ‪.‬‬

‫و لذلك فعند استخدام كلمة "العالم السفلى" علينا أن نكون واعين تماما أن هذه الكلمة برغم دالالتها‬

‫العديدة ال تعبر عن المفاهيم النفسية و الروحانية التى تعبر عنها كلمة "دوات" المصرية القديمة ‪.‬‬

‫اعتقد قدماء المصريين أن االنسان بمجرد موته يذهب الى العالم السفلى فى هيئة "كا" و "با" ‪.‬‬

‫و مع ذلك كان بمقدور بعض الناس أن يدخلوا العالم السفلى فى حياتهم الدنيا ‪ ,‬و ذلك أثناء تجارب‬

‫خارج الجسد ‪.‬‬

‫كانت معرفة العالم السفلى و اكتشاف طبيعته و االرتحال فى مختلف مناطقه جزءا أساسيا من‬

‫المعرفة الباطنية التى يطلع عليها الكهنة و السحرة فى مصر القديمة ‪ ,‬ألن كل منطقة من مناطق‬

‫العالم السفلى ترتبط بطاقة معينة نفسية و روحانية على الساحر أن يطلع على أسرارها و يعرف‬

‫كيف يتعامل معها ‪.‬‬

‫و اذا قارننا بين مفهوم العالم السفلى فى مصر القديمة و فى غيره من الحضارات القديمة سنالحظ‬

‫‪- 355 -‬‬


‫وجود اختالف جوهرى ‪.‬‬

‫أطلق سكان حضارة ما بين النهرين على العالم السفلى اسم "مكان الالعودة" ‪ ,‬و أطلق عليه‬

‫االغريق اسم "هادس" ‪ ,‬بينما أطلق عليه االسرائيليون اسم "شيول" و كان العالم السفلى فى هذه‬

‫الثقافات الثالثة هو المكان الذى يتحول من يذهب اليه الى مجرد ظل أو شبح و يظل كذلك بدون أى‬

‫أمل فى تحول أو صيرورة ‪.‬‬

‫و على النقيض من ذلك ‪ ,‬كان العالم السفلى فى نظر قدماء المصريين مكان يرتحل فيه االنسان‬

‫حيث تجتاز روحه عقبات و فخاخ و محاكمات و اختبارات ‪ ,‬و كان النجاح فى تلك االختبارات‬

‫يثمر اشراقا باطنيا و صيرورة تعترى النفس و الروح و تجعلها جديرة باالنتقال الى مستوى أسمى‬

‫من مستويات الوجود ‪.‬‬

‫و كلما أثبت االنسان جدارته فى اختبارات العالم السفلى كلما صار أكثر وعيا بوجود بذرة النور‬

‫االلهى الكامنة بداخله و كلما رأى فى تلك البذرة ذاته الحقيقية ‪.‬‬

‫و هنا نالحظ وجود تشابه بين مفهوم العالم السفلى فى مصر القديمة و بين مفهوم "المطهر" فى‬

‫الثقافة المسيحية ‪ .‬يعتبر "المطهر" المسيحى أقرب لمفهوم العالم السفلى المصرى ‪ ,‬بعكس مفهوم‬

‫العالم السفلى فى حضارة ما بين النهرين و فى الحضارة االغريقية و الثقافة االسرائيلية ‪ ,‬و بعكس‬

‫مفهوم الجحيم ‪.‬‬

‫و يعتبر كتاب الموتى الذى دون فى عصر الدولة الحديثه من أهم المصادر التى سجل فيها قدماء‬

‫المصريين معرفتهم بالعالم السفلى ‪ ,‬و لكنه ليس المصدر الوحيد ‪ ,‬فهناك العديد من كتب العالم‬

‫اآلخر فى مصر القديمة ‪ ,‬و لكن يتميز كتاب الموتى عن غيره من كتب العالم اآلخر بأحتوائه على‬

‫الكثير من المشاهد المصورة و أيضا لسهولة تداوله ألنه مسجل فى برديات ‪.‬‬

‫و الطرح الذى أقدمه فى هذا الكتاب عن رحلة الروح فى العالم السفلى يقوم بشكل أساسى على‬

‫دراسة كتاب الموتى ‪ ,‬و لذلك كان من الضرورى أن أقدم للقارئ أوال بعض المالحظات عن ذلك‬

‫الكتاب قبل أن أستكمل الحديث عن رحلة الروح فى العالم السفلى ‪.‬‬

‫‪- 356 -‬‬


‫و أول هذه المالحظات أن "كتاب الموتى" ليس هو االسم الذى أطلقه قدماء المصريين على ذلك‬

‫الكتاب و انما هو االسم الذى أطلقه علماء اآلثار فى العصر الحديث على مجموعة النصوص التى‬

‫عثروا عليها مدونة فى برديات كانت توضع بين لفائف المومياوات ‪.‬‬

‫أما قدماء المصريين أنفسهم فقد أطلقوا على هذه المجموعة من النصوص اسم كتاب الخروج الى‬

‫النهار "برت ام هرو" ‪ ,‬و هو اسم يعكس رؤيتهم للعالم السفلى باعتباره عالما يقع بين الليل‬

‫و النهار ‪ ,‬بين الظلمة و النور ‪ ,‬و لذلك فهو عالم ال تبقى فيه الروح الى األبد و انما تخرج منه‬

‫الى النهار ‪ /‬النور ‪.‬‬

‫ينقسم كتاب الخروج الى النهار الى مائتى فصل كل فصل منها يحمل رقما معينا ‪ ,‬و هذه األرقام‬

‫هى من وضع علماء اآلثار فى القرن التاسع عشر و خصوصا العالم األلمانى ليبسيوس الذى وضع‬

‫لكل فصل رقم بناء على دراسته لبرديات من العصر المتأخر تحوى نسخة أكمل من هذا الكتاب ‪.‬‬

‫هناك عدد هائل من البرديات التى تتناول كتاب الخروج الى النهار ‪ ,‬و لكن كل بردية منها ال‬

‫تحوى الكتاب كامال و انما تحوى مقتطفات مختلفة من فصول الكتاب التى يصل عددها الى ‪211‬‬

‫فصل ‪.‬‬

‫فى الحقيقة ال يوجد بردية واحدة تحوى كتاب الخروج الى النهار كامال ‪.‬‬

‫كما أنه لم يكن هناك ترتيبا واحدا لفصول كتاب الخروج الى النهار عند قدماء المصريين ‪ .‬فترتيب‬

‫الفصول يختلف من بردية ألخرى ‪ .‬كل بردية تحوى خليط غير مرتب من فصول الكتاب ‪.‬‬

‫على سبيل المثال ‪ ,‬تبدأ بردية "آنى" بالفصل رقم ‪ , 05‬يعقبه الفصل رقم ‪ , 11‬ثم الفصل رقم ‪, 0‬‬

‫ثم بالترتيب الفصول رقم ‪. 03 , 040 , 047 , 07 , 72 , 22‬‬

‫ان ترقيم الفصول هو وسيلة لجأ اليها علماء المصريات فى العصر الحديث لتيسير دراسة الكتاب‬

‫و تمييز كل جزء من أجزائه عن اآلخر ‪ ,‬و الترتيب الذى اقترحه علماء المصريات ليس هو‬

‫الترتيب الذى كان قدماء المصريين يتبعونه عند قراءتهم لكتاب الخروج الى النهار ‪.‬‬

‫هناك صعوبة فى معرفة ترتيب أحداث رحلة الروح فى العالم اآلخر ‪ .‬فالبرديات التى عثر عليها‬

‫‪- 357 -‬‬


‫داخل لفائف المومياوات لم يكن مقصودا منها أن تصف رحلة الروح فى العالم السفلى فى خط‬

‫مستقم يبدأ من نقطة معينة و ينتهى فى نقطة معينة ‪ .‬و انما الهدف منها تزويد المرتحل فى العالم‬

‫اآلخر باألكواد السحرية و الرقى و االبتهاالت و الصلوات التى يحتاجها أثناء اجتيازه ذلك العالم‬

‫و أن تساعده فى المواقف الصعبة التى سيواجهها ‪.‬‬

‫الهدف من هذه البرديات هو مساعدة المرتحل فى العالم السفلى على معرفة أى منطقة من مناطق‬

‫"النفس‪/‬العقل الباطن" يرتحل فيها ‪ ,‬و تساعده أيضا فى اجتيازها ‪.‬‬

‫ان فكرة ايجاد ترتيب يتبع خطا مستقيما من بداية الى نهاية هى فكرة غريبة على عقلية قدماء‬

‫المصريين ‪ .‬فرحلة كل انسان فى العالم السفلى تختلف عن رحلة غيره من البشر ‪ ,‬حيث يعتمد‬

‫ترتيب الرحلة على مدى النضج و االتزان النفسى الذى بلغه االنسان فى حياته الدنيا ‪.‬‬

‫بعد أن استعرضنا أهم المالحظات حول كتاب الخروج الى النهار يمكننا أن ننتقل اآلن الى المالمح‬

‫الرئيسية لرحلة الروح فى العالم السفلى ‪ ,‬و الترتيب الذى أطرحه هنا هو مجرد طرح ال ينفى وجود‬

‫تفسيرات أخرى ‪.‬‬

‫فتح الطريق ‪-:‬‬

‫أول خطوة فى رحلة الروح فى العالم السفلى هى فتح باب المقبرة لكى تتحرر ال "با" من تجسدها‬

‫السابق ‪.‬‬

‫يمكننا أن ننظر الى المقبرة باعتبارها رمزا للجسد المادى و بذلك يكون الخروج من المقبرة هو‬

‫رمز الخروج من وعى الجسد ‪ ,‬أى الوعى الذى يستند الى الحواس المادية ‪.‬‬

‫فى وعى الجسد تكون ال "با" خاملة ‪ ,‬كامنة ‪ ,‬غير مدركه لذاتها ‪ ,‬حيث يبدأ ادراكها لذاتها فقط فى‬

‫اللحظة التى يتوقف فيها وعى الجسد لتنطلق و تخرج منه و تنظر اليه من الخارج لتكتشف أنها‬

‫كيان قائم بذاته و أنها ليست هى الجسد المادى ‪.‬‬

‫تنشط ال "با" و تشعر بذاتها أثناء النوم ‪ ,‬حين يتوقف وعى الجسد ‪ ,‬و أيضا فى حاالت الوعى‬

‫‪- 358 -‬‬


‫المتغير أثناء تجارب خارج الجسد ‪.‬‬

‫كما تنطلق ال "با" بشكل تلقائى و تترك الجسد بمجرد حدوث الوفاة و توقف عمل الحواس المادية ‪.‬‬

‫يتوقف التحرر التام من المقبرة (وعى الجسد) على اكتساب المتوفى قوة فى أقدامه ‪.‬‬

‫ان فتح باب المقبرة ما هو اال خطوة أولى من رحلة طويلة تهدف لتحرير ال "با" نهائيا من وعى‬

‫الجسد و هو هدف يتطلب تحقيقه قدرا كبيرا من الجهد و العزيمة ‪.‬‬

‫يصور المشهد التالى الكاتب "آنى" و هو يفتح باب المقبرة لكى تنطلق ال "با" الى الخارج ‪.‬‬

‫فتح باب المقبرة‬

‫( من بردية "آنى" ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫و بمجرد خروج ال "با" من مقبرتها‪/‬جسدها يبدأ "آنى" رحلته الطويلة فى العالم السفلى ‪.‬‬

‫و الفصل الذى ورد فيه هذا المشهد هو الفصل رقم ‪ 92‬من كتاب الخروج الى النهار و يحمل عنوان‬

‫( فصل فتح باب المقبرة لكى ينطلق منها ال "با" و ال "خيبيت" ‪ ,‬و الخروج الى النهار و اكتساب‬

‫القوة فى األقدام ) ‪ .‬و ال "خيبيت" كما عرفنا فى الفصل السابق هو الظل ‪.‬‬

‫يبدأ هذا الفصل بالعبارات التالية ‪-:‬‬

‫*** لقد فتحت أبواب المكان الذى يقيد الروح باألغالل ‪ ...‬لقد انفتح ما كان من قبل مغلقا ‪ ...‬لقد‬

‫‪- 359 -‬‬


‫انفتح سجن الروح أمام ال "با" ‪ ...‬لقد صارت خطواتى أوسع ‪ ...‬و رفع فخذاى الى أعلى ‪ ...‬انى‬

‫أرتحل فى الدرب العظيم ‪ ...‬و قد صارت أطرافى قوية ‪ ...‬أنا حورس ‪ ...‬قد انفتح الطريق أمام‬

‫بائى ***‬

‫باكتساب القوة فى األقدام يصبح بمقدور المرتحل فى العالم السفلى أن يدير ظهره للعالم المادى‬

‫و يولى وجهه شطر األفق الذى يشكل الحد الفاصل بين ما هو مألوف ‪ /‬معلوم و ما هو مجهول ‪/‬‬

‫خفى ‪.‬‬

‫فى المشهد التالى يظهر أحد المرتحلين فى العالم السفلى و يدعى نو" و هو يمسك بعصاه و يخطو‬

‫بشجاعة فى اتجاه العالم الذى يقع فيما وراء األفق ‪.‬‬

‫"نو" بعد خروجه من المقبرة يخطو نحو العالم اآلخر‬

‫( من بردية "نو" ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫و الخطوة األولى فى رحلة الروح هى العثور على الدرب الصحيح الذى ينقل المرتحل من المقبرة‬

‫الى العالم السفلى ‪ .‬و البحث عن الطريق يحدث فى منطقة باطنية يطلق عليها اسم "روسيتاو" ‪.‬‬

‫و "روسيتاو" فى األصل هى بوابة بين العوالم تمر منها الزحافة التى تحمل "سوكر" (رب العالم‬

‫‪- 360 -‬‬


‫السفلى ‪ ,‬و يظهر على هيئة صقر بجسد انسان محنط ليجمع بين كل من أوزير و حورس فى كيان‬

‫واحد) ‪ .‬و لكن بمرور الزمن تطور مفهوم "روسيتاو" و أصبحت الكلمة تستخدم لالشارة الى مكان‬

‫ذو طرق متشعبة ‪ ,‬و لكنها ليست كلها مفتوحة أمام المرتحل ‪.‬‬

‫و بذلك تكون روسيتاو أشبه بمتاهة قد تفقد ال "با" فيها طريقها بسهولة ‪.‬‬

‫لذلك كان من الحكمة طلب العون و المساعدة من مرشد روحى ‪.‬‬

‫و أفضل مرشد فى هذه المتاهة هو أنوبيس ‪ ,‬أو "ويبواويت" (فاتح الطرق) ‪ ,‬و كالهما يظهر‬

‫فى هيئة ابن آوى ‪.‬‬

‫فى الطبيعة ‪ ,‬يعيش حيوان ابن آوى على حافة الصحراء فى حفر تحت األرض ‪.‬‬

‫تأمل المصرى القديم حيوان ابن آوى فوجده يتخذ بيته على الحدود بين العالم المتحضر و بين عالم‬

‫البداوة ‪ ,‬بين عالم ما فوق األرض و العالم السفلى فى حفر تقع تحت سطح األرض مباشرة ‪,‬‬

‫و يمارس الصيد فى وقت الغسق (أى بين النهار و الليل) ‪ ,‬لذلك كان فى نظرهم رمزا هاما ارتبط‬

‫بشكل خاص بالمنطقة الوسطى بين عالم األرض و العالم السفلى ‪.‬‬

‫كانت تماثيل أنوبيس تغطى باللون األسود و الذهبى معا لتعبر عن الطبيعة المزدوجة ألنوبيس ‪.‬‬

‫لذلك كان أنوبيس (و أيضا حورس) من أهم المساعدين و المرشدين للروح أثناء رحلتها فى العالم‬

‫السفلى ‪.‬‬

‫فى المشهد التالى يظهر أنوبيس و هو يمسك بيد المرتحل فى العالم اآلخر "ناخت" ليريه الطريق‬

‫الى العالم السفلى ‪ ,‬و أمامه شجرة ‪ ,‬ربما كانت شجرة الجميز المقدسة فى مصر القديمة و التى‬

‫ارتبطت باألم الكونية نوت ‪.‬‬

‫‪- 361 -‬‬


‫أنوبيس يأخذ بيد "ناخت" ليرشده الى مدخل العالم السفلى‬

‫( من بردية "ناخت" ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫و قد صور الفنان المصرى القديم نوت فى العديد من المشاهد فى هيئة شجرة جميز ‪ ,‬أو شجرة‬

‫جميز برأس امرأة تقدم الطعام و ماء الحياة لألرواح فى طريقها من المقبرة الى العالم السفلى ‪.‬‬

‫‪- 362 -‬‬


‫األم الكونية "نوت" فى هيئة شجرة جميز تطعم األرواح و تسقيها ماء الحياة‬

‫( من بردية "آنى" ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫و يعتبر حضور األم الكونية سواء فى هيئة نوت أو حتحور أو ماعت من أهم معالم رحلة الروح‬

‫فى العالم السفلى ‪.‬‬

‫و تعتبر ماعت بشكل خاص هى األكثر تكرارا فى معظم المشاهد ‪ ,‬ألنها ترمز للضمير و النظام‬

‫الكونى الذى تهدف الرحلة الى ضبط النفس و الروح لتصير فى تناغم معه ‪.‬‬

‫اذا فقد المرتحل التناغم مع الماعت ‪ ,‬فلن يستطيع االستمرار فى الرحلة ‪.‬‬

‫و من أهم محطات رحلة الروح الدخول الى قاعة الماعت حيث يتم وزن قلب المرتحل أمام ريشة‬

‫الماعت لمعرفة مدى نقائه ‪.‬‬

‫تعتبر قاعة المحاكمة أو قاعة الماعت أحد أهم محطات الرحلة ‪ ,‬بل يمكننا أن نقول أن الرحلة كلها‬

‫تقع داخل قاعة الماعت ‪ ,‬ألن ماعت هى الحاكم الذى يهيمن و يراقب كل قرار يتخذه االنسان فى‬

‫كل منعطف أو مرحلة جديد من رحلة الروح ‪.‬‬

‫بمجرد عبور الروح من بوابة العالم السفلى تجد نفسها وسط محيط من الظلمة ‪.‬‬

‫و تعتبر الظلمة اول عالمة يدرك بها المرتحل أنه وصل الى العالم السفلى ‪.‬‬

‫تحاط الروح بالظالم التام ‪ ,‬و يختفى كل ما له عالقة بالحياة و السعادة ‪.‬‬

‫تبدأ الرحلة فى العالم السفلى بالظلمة ‪ ,‬و يختفى من أمام الروح كل ما كان يمنحها الراحة و األمان‬

‫فى حياتها الدنيا ‪.‬‬

‫جاء فى كتاب الخروج الى النهار على لسان أحد األرواح المرتحلة فى العالم السفلى ‪-:‬‬

‫*** ما هذا المكان الذى أتيت اليه ؟! ‪ ...‬انه مكان غريب ‪ ,‬ليس فيه ماء وال هواء ‪ ...‬و هو عميق ‪,‬‬

‫ال يسبر غوره ‪ ...‬و مظلم ‪ ,‬تفوق ظلمته أحلك الليالى ظلمة ‪ ...‬يسير فيه الناس على غير هدى‬

‫و يهيمون على وجوههم ‪ ...‬كيف لى أن أجد الرضا هنا ‪ ,‬و القلب يتوق للبهجة و العشق ***‬

‫‪- 363 -‬‬


‫و من قلب الظلمة الحالكة يسمع المرتحل فى العالم السفلى صوتا ‪ .‬ذلك الصوت هو صوت آتوم‬

‫الذى خرج فى األزل من رحم "نون" المظلم الذى ال يسبر غوره ‪ .‬يقول آتوم مخاطبا الروح التى‬

‫تسعى للخروج من الظلمات الى النور قائال ‪-:‬‬

‫*** سأهبك االشراق الروحى ‪ ,‬فى المكان الذى تقدم فيه قرابين الخبز و الجعة ‪ ...‬سأهبك السكينة ‪,‬‬

‫فى المكان الذى يتحقق فيه المنى ‪ ...‬و سترى جالل وجهى ‪ ,‬و عندها ستصير كامال ‪ ,‬و لن يعوزك‬

‫شئ ***‬

‫و عند سماع هذه الكلمات المطمئنة يكتسب المرتحل القوة و الشجاعة الكافية الستكمال الرحلة ‪.‬‬

‫و لكن ‪ ,‬هناك مشكلة أخرى تواجه المرتحل ‪ .‬فكل شئ فى ال "دوات" مقلوب رأسا على عقب ‪.‬‬

‫ان العالم السفلى هو صورة مرآه معكوسه من عالمنا ‪ .‬و ما يبدو للعين ألول وهلة شيئا مألوفا ‪ ,‬ال‬

‫يلبث المرتحل أن يكتشف أنه ليس كذلك ‪.‬‬

‫و المشهد التالى من مقبرة الملك رمسيس التاسع و هو يصور أشخاصا يرتحلون فى العالم السفلى‬

‫و هم يسيرون رأسا على عقب ‪.‬‬

‫السائرون رأسا على عقب فى العالم السفلى‬

‫‪- 364 -‬‬


‫( من مقبرة الملك رمسيس التاسع ‪ ,‬وادى الملوك ‪ ,‬أسرة ‪ , 22‬دولة حديثه )‬

‫فى العالم السفلى ‪ ,‬يجد الكثير من المرتحلين صعوبة فى معرفة كيف يقفون و فى أى اتجاه يسيرون‬

‫ألن القوانين التى تحكم العالم السفلى ليست كالقوانين التى تحكم العالم المادى ‪ ,‬و انما هى أقرب الى‬

‫قوانين عالم األحالم ‪.‬‬

‫هذا الشعور بفقدان االتجاه و تشتت الذهن هو السبب فى أن بعض األشخاص يسيرون فى العالم‬

‫السفلى رأسا على عقب ‪ .‬و لذلك كان من الضرورى أن يتزود المسافر الى ذلك العالم بالتعاويذ‬

‫و الرقى و االبتهاالت التى تساعده فى التغلب على مشكلة فقدان االتجاه ‪.‬‬

‫يحتوى كتاب الخروج الى النهار على العديد من النصوص التى تعالج تلك المشكلة ‪.‬‬

‫كما أن هناك أيضا ابتهاالت تحمى المرتحل من أن يتناول فضالته ‪ ,‬فكل شئ فى العالم السفلى‬

‫مقلوب رأسا على عقب ‪ ,‬حتى الجهاز الهضمى ‪.‬‬

‫المشهد التالى أيضا من مقبرة الملك رمسيس التاسع ‪ .‬الجزء السفلى منه يصور المصير التعس‬

‫لبعض المرتحلين فى العالم السفلى الذين اضطروا للسير فيه رأسا على عقب نتيجة الجهل بالذات ‪.‬‬

‫اما الجزء العلوى من المشهد فيصور األرواح التى اكتشفت السر و عرفت كيف تبقى معتدلة‬

‫و تشق طريقها بكل سهولة و يسر ‪.‬‬

‫‪- 365 -‬‬


‫المرتحلون فى العالم السفلى يواجهون خطر السير رأسا على عقب‬

‫( من مقبرة الملك رمسيس التاسع ‪ ,‬وادى الملوك ‪ ,‬أسرة ‪ , 22‬دولة حديثه )‬

‫خريطة العالم السفلى ‪-:‬‬

‫منذ فجر الحضارة المصرية ‪ ,‬كان ال "دوات" (العالم السفلى‪/‬النجمى) فى نظر قدماء المصريين‬

‫عالما مائيا ‪ ,‬تجرى فيه األنهار و تملؤه البحيرات و المستنقعات ‪.‬‬

‫أى أن العنصر المهيمن على العالم السفلى هو عنصر الماء ‪.‬‬

‫و من أهم المناطق التى تجتازها الروح أثناء رحلتها فى العالم السفلى منطقة تعرف باسم "سيخيت‬

‫ايارو" ‪ ,‬أى حقول البوص ‪.‬‬

‫كان لحقول االيارو أهمية خاصة فى رحلة الروح فى العالم السفلى منذ عصر الدولة الوسطى و كان‬

‫من الضرورى للمرتحل أن يتزود بخريطة تساعده فى اجتياز تلك المنطقة التى تشبه المستنقعات ‪.‬‬

‫و لذلك كان قدماء المصريين يرسمون خرائط للعالم السفلى فى قاع التوابيت الخشبية فى عصر‬

‫الدولة الوسطى ‪.‬‬

‫و المشهد التالى هو مثال ألحد التوابيت من عصر الدولة الوسطى و قد سجل فيه الفنان المصرى‬

‫‪- 366 -‬‬


‫خريطة للعالم السفلى ‪ ,‬و نالحظ أن كل المناطق الرمادية فى الخريطة تشير الى مناطق مائية‬

‫و مستنقعات ‪.‬‬

‫خريطة لحقول االيارو‬

‫( من أحد التوابيت التى تعود لعصر الدولة الوسطى )‬

‫و منذ عصر الدولة القديمة ‪ ,‬كانت حقور االيارو فى نظر قدماء المصريين هى مكان تتطهر فيه‬

‫النفس ‪ ,‬و هى منطقة تقع تحت حكم و هيمنة أوزير (رب العالم السفلى) ‪ ,‬و لكن منذ عصر‬

‫‪- 367 -‬‬


‫الدولة الوسطى أرتبطت حقول االيارو بالنتر "حتب" (و اسمه يعنى السالم‪/‬الرضا) ‪ ,‬و لذلك‬

‫عرفت حقول االيارو أيضا باسم "سيخيت – حتب" أى حقول الرضا أو السالم ‪.‬‬

‫و عند تأمل الخريطة السابقة نجد أنها تحوى فى القسم العلوى ثالثة جزر تعرف باسم (مكان‬

‫الضرب‪/‬األلم) ‪ ,‬و (المكان الهادئ) ‪ ,‬و (الجزيرة العظيمة) ‪.‬‬

‫و على يمين هذه الجزر الثالث نقش نص جاء فيه ‪-:‬‬

‫*** أن تصير الروح تجليا للكيان االلهى "حتب" ‪ ,‬رب الحقول‪/‬الجنات ‪ ,‬و تعطر أنفه بأنفاس الحياة‬

‫‪ ...‬من حاز الرضا‪/‬السالم "حتب" فلن يذوق الموت الثانى ***‬

‫و أسفل الجزر الثالثه هناك نص يصف مقاييس و أبعاد حقول االيارو بأن عرضها ألف فرسخ‬

‫‪ ,‬و كذلك طولها ‪ .‬و يصفها بأنها هى "قرنى ربة النقاء و الطهارة" ‪.‬‬

‫و ربما كانت الربة ذات القرنين هى نفسها حتحور التى تظهر فى أغلب األحيان فى الفن المصرى‬

‫على شكل بقرة ‪.‬‬

‫ارتبطت البقرة حتحور بشكل خاص بالمستنقعات و األحراش ‪ ,‬حيث يعيش البقر الوحشى فى هذه‬

‫المناطق وسط أعواد البوص و البردى ‪.‬‬

‫و حتحور هى أحد أشكال األم الكونية ‪ -‬مثلها مثل نوت – و لذلك كانت تظهر فى الفن المصرى‬

‫فى صور السماء المرصعة بالنجوم ‪.‬‬

‫و ارتباط حقول االيارو بحتحور يعنى أن لتلك الحقول دالالت كونية ‪.‬‬

‫أما الجزر األربعة فى المستوى الثانى من المشهد فهى تحمل األسماء التالية (الجزيرة الهادئة) ‪,‬‬

‫(الجزيرة الحمراء ) ‪( ,‬الجزيرة التى يغمرها الفيضان) ‪( ,‬ربة األرضين) ‪.‬‬

‫و النص المنقوش تحت أسماء الجزر يذكر اسم المكان و أبعاده ‪ ,‬و هو (بحيرة أنثى فرس النهر‬

‫األبيض ‪ ,‬التى يبلغ طولها ألف فرسخ ‪ ,‬و التى ال يوجد بها أى أسماك أو ثعابين) ‪.‬‬

‫كانت أنثى فرس النهر األبيض رمزا للربة "ايبى" و هى احدى صور و تجليات األم الكونية ‪.‬‬

‫جاء ذكر "ايبى" فى أقدم النصوص الدينية المصرية و هى متون األهرام ‪ ,‬و فيها نقرأ أن "ايبى"‬

‫‪- 368 -‬‬


‫ترضع الملك بلبنها المقدس أثناء قيامه برحلة المعراج السماوى لتمنح روحه الطاقة التى تحتاجها‬

‫فى هذه الرحلة السماوية ‪.‬‬

‫و فى توابيت نبالء الدولة الوسطى وصفت "ايبى" أيضا بأنها ترضع أرواح الموتى لتمنحهم الطاقة‬

‫الالزمة لرحلة المعراج السماوى ‪.‬‬

‫و فى المستوى الثالث من الخريطة سجل المصرى القديم العبارات التالية ( حرث األرض ‪,‬‬

‫و حصاد شعير مصر السفلى ‪ ,‬و قمح أرض االله ‪ ,‬حيث ال يوجد ثعابين ) ‪.‬‬

‫و على يسار النقش نجد قاربا بمجاديف يرسو على شاطئ بحيرة تحوى جزيرتين ‪.‬‬

‫و نالحظ أن كل الخرائط التى تصور منطقة حقول االيارو تحتوى على قارب يرسو على شاطئ‬

‫بحيرة فى نفس الموضع تقريبا ‪ ,‬حيث يتم حرث األرض و حصاد الشعير و القمح ‪.‬‬

‫يبدو القارب و كأنه بانتظار المرتحل الى أن ينتهى من الحرث و الحصاد لكى يستخدمه فى االبحار‬

‫الى منطقة أخرى من مناطق العالم السفلى ‪.‬‬

‫و القارب هو وسيلة النقل الرئيسية فى العالم السفلى و أيضا العالم السماوى ‪.‬‬

‫و المنطقة التى تقع على يمين القارب مباشرة فيطلق عليها اسم (مهيج العواصف) ‪.‬‬

‫أما المستوى الرابع و األخير من المشهد فالنقش المسجل فيه يقول أن بحارة القارب الذى ينتظر‬

‫المرتحل فى العالم السفلى هم أبناء حورس األربعة ‪( :‬ايمستى ‪ ,‬حابى ‪ ,‬دواموتيف ‪ ,‬كبح سنوف) ‪.‬‬

‫و دور أبناء حورس األربعة فى هذا المشهد يعتبر امتدادا لدورهم الذى عرف عنهم منذ عصر‬

‫الدولة القديمة ‪ ,‬حيث ذكرت متون األهرام أن أبناء حورس األربعة يأتون للملك بقارب ليستخدمه‬

‫فى العبور الى شواطئ العالم الماورائى ‪.‬‬

‫كما يقوم أبناء حورس األربعة أيضا بربط حبال المعراج الذى تصعد فوقه روح الملك الى النجوم ‪,‬‬

‫و يلعبون دورا أساسيا فى تحول الملك الى نجم من النجوم التى ال تأفل ‪.‬‬

‫و باالضافة الى المعراج المصنوع من الحبال كانت درجات السلم أحد الوسائل التى تستخدمها‬

‫الروح فى صعودها الى السماء ‪ ,‬و نالحظ أن المشهد السابق يحوى أيضا درجات سلم (فى‬

‫‪- 369 -‬‬


‫المستوى الثالث) ‪.‬‬

‫و يعتبر القارب و درجات السلم من أهم المعالم التى تميز خرائط حقول االيارو فى عصر الدولة‬

‫الوسطى و الدولة الحديثه ‪ ,‬و هو ما يعنى أن هذه المنطقة لم تكن هى الوجهة النهائية للروح ‪ ,‬و أنه‬

‫ما زالت هناك محطات أخرى على الروح أن تمر بها أو تصعد اليها ‪.‬‬

‫و النص المدون فى المستوى الرابع و األخير من المشهد السابق يطلق على ذلك المكان أو المستوى‬

‫اسم "بحر الكيانات االلهية" و هو بحر يوصف بأنه بارد و هادئ لكل الكيانات االلهية ‪ ,‬كما يوصف‬

‫بأنها غامض لدرجة أن أبعاده و مقاييسه تظل خفية عن كل الكيانات االلهية ‪ ,‬حتى أوزير (رب‬

‫العالم السفلى ) نفسه ‪.‬‬

‫بوجه عام ‪ ,‬لم تكن الخريطة التى تحدثنا عنها فى المثل السابق فريدة من نوعها و انما هى واحدة‬

‫من العديد من الخرائط التى ظهرت فى عصر الدولة الوسطى و الحديثه و التى تشترك جميعا فى‬

‫المالمح الرئيسية لحقول االيارو كمكان ملئ بالحقول الخضراء و المياه ‪ ,‬مع مالحظة أن‬

‫االختالفات بين مختلف الخرائط تكون دائما سطحية ‪.‬‬

‫توصف حقول االيارو بأنها تخلو من وجود الثعابين ‪ ,‬و تحمل الجزر الواقعة فى مياهها فى الغالب‬

‫أسماء ذات دالالت ايجابية ‪.‬‬

‫و الوسائل التى يستخدمها المرتحل فى االنتقال من حقول االيارو الى منطقة أخرى من مناطق العالم‬

‫السفلى هى القارب و درجات السلم ‪.‬‬

‫و لكن وجود جزيرة تحمل اسم (مكان الضرب‪/‬األلم) و منطقة يطلق عليها اسم (مهيج العواصف)‬

‫يشير ضمنيا الى احتمال وجود نوع من المعاناة أو األلم فى تلك المناطق ‪.‬‬

‫فى الشكل التالى نرى مثاال آخر لخرائط العالم السفلى التى ظهرت على توابيت الدولة الوسطى ‪.‬‬

‫‪- 370 -‬‬


‫مشهد من كتاب الطريقين و هو جزء من متون التوابيت‬

‫( من أحد التوابيت التى تعود لعصر الدولة الوسطى)‬

‫و الصورة ال تبين سوى جزء واحد فقط من المشهد الكامل ‪ ,‬و هو جزء من كتاب الطريقين‬

‫المسجل داخل أحد التوابيت ‪.‬‬

‫يصور المشهد طريقين ‪ ,‬األعلى بلون أزرق و هو طريق الماء ‪ ,‬أما األسفل فهو طريق األرض‬

‫و لونه أسود ‪ .‬و يفصل بينهما بحيرة مستطيلة تعرف باسم بحيرة النار ‪.‬‬

‫و فى أقصى يمين المشهد تقع بوابتان ‪ ,‬بوابة النار فى األعلى و بوابة الظلمة فى األسفل (على شكل‬

‫قبة داكنه) و هما الوجهة التى ينتهى اليها الطريقان ‪ .‬و فوق بوابة الظلمة يرقد الحارس ‪ ,‬و هو‬

‫كائن غريب الشكل بجسد محنط و رأس كبش ‪ ,‬يحمل فى يده سكينا ‪.‬‬

‫يطلق على ذلك الحارس لقب "الذى يعاقب المجرمين" و هو واحد من الكائنات المعادية و الخطيرة‬

‫التى يصادفها المرتحل فى العالم السفلى ‪.‬‬

‫و العديد من هذه الكائنات ال يتم تصويره و لكن يتم ذكره فى سياق النص المصاحب للمشهد ‪.‬‬

‫و لكى يستطيع المرتحل فى العالم السفلى االفالت من هذه الكائنات الخطيرة عليه أوال أن يكون‬

‫على علم بأسمائها ‪ ,‬و عليه أيضا أن يبرهن على صلته القوية بالكيانات االلهية األسمى ‪.‬‬

‫على سبيل المثال ‪ ,‬فى الجزء العلوى من المشهد السابق ‪ ,‬و عند المنحنى الثانى من الطريق‬

‫األزرق المائى يصادف المرتحل فى العالم السفلى خمسه من تلك الكائنات المخيفة يطلق عليها‬

‫‪- 371 -‬‬


‫بالترتيب ‪" ( :‬عابس الوجه" ‪ ,‬و "صاحب الصوت العالى" ‪ ,‬و "المهاجم" ‪ ,‬و الذى ترتعد منه‬

‫الفرائص" ‪ ,‬و "الذى يكوى بالنار" ) ‪ ,‬و هنا يواجه المرتحل هذه الكائنات قائال ‪-:‬‬

‫*** أنا روح ‪ ....‬أنا رب األرواح ‪ ...‬و الروح التى أخلقها تحيا لألبد كروح حية ‪ ...‬و ما أمقته ال‬

‫يحظى بالخلود ‪ ...‬أنا الذى يدور حول بحيرته ‪ ,‬وسط نار‪/‬نور رع ‪ ,‬رب النور ‪ ...‬أنا الذى أخلق‬

‫الشهر ‪ ...‬أنا الذى أحدد منتصف الشهر ‪ ...‬تدور عين حورس فى مدارها بالقرب منى ‪ ...‬و تحوت‬

‫يقطع السماء أمامى ‪ ...‬و أنا أعبر السماء بأمان ***‬

‫و تلك المواجهات و التحديات من أهم معالم رحلة الروح فى العالم السفلى ‪.‬‬

‫تعود جذور تلك المواجهات الى متون األهرام (من عصر الدولة القديمة) حيث ذكرت نصوصها أن‬

‫المسافر فى النجوم عليه أن يواجه فى رحلته الثور السماوى الذى يحرس الطريق الى السماء ‪.‬‬

‫و لكى يجتاز المرتحل النجمى ذلك الثور و يمر من أمامه عليه أن يبرهن على أنه يعرف ذاته‬

‫و يعرف الى أين هو ذاهب و أن يبرهن على قدرته على الوصول الى غايته ‪.‬‬

‫فى هذا الجزء الذى اقتطفناه من كتاب الطريقين (و هو جزء من متون التوابيت) تم استبدال الثور‬

‫السماوى بعدد من الكائنات المخيفة التى تحرس منحنيات الطريق المائى األزرق ‪ ,‬و التى تحمل‬

‫أسماء مرعبة ‪ ,‬منها على سبيل المثال ‪-:‬‬

‫"الواثب‪/‬المندفع" ‪" ,‬المشتعل" ‪" ,‬التى تحمل سكينا" ‪" ,‬الذى يلقى اللعنات" ‪ ,‬الذى يبتلع "ضحاياه" ‪,‬‬

‫"المتيقظ دائما" ‪" ,‬الحاد‪/‬القاطع" ‪" ,‬ذو الوجه المرعب" ‪.‬‬

‫أما فى الطريق األرضى األسود (و يقع أسفل الطريق المائى) فعدد الكئنات المخيفة و الحراس‬

‫أقل ‪ ,‬و لكنهم ليسوا أقل خطرا من حراس الطريق المائى ‪ .‬و من هؤالء على سبيل المثال "الذى‬

‫يحمل سكينا" ‪" ,‬ذو وجه فرس النهر البرى القوى" ‪" ,‬ذو الوجه المرعب ‪ ,‬الذى يقتات على‬

‫الروث" ‪ ,‬الخ ‪.‬‬

‫يمكن للمرتحل أن يتغلب على حراس الطريق المائى فقط بأن يبرهن على عزيمته و نقاء قلبه ‪.‬‬

‫و الفرق بين الطريقين ال يكمن فى عدد الحراس الذين يواجهون المرتحل فى كل طريق منهما ‪,‬‬

‫‪- 372 -‬‬


‫بقدر ما يكمن فى عالقة كل طريق منهما ب "رع" أو "أوزير" ‪.‬‬

‫فالمرور من الطريق األرضى األسود يتطلب من المرتحل قدرا معينا من المعرفة و القرب من‬

‫"رع" ‪ ,‬أما الطريق المائى األزرق فيقطعه مريدو "أوزير" الذين اطلعوا على أسراره ‪.‬‬

‫و مع ذلك فالفرق بين الطريقين غير مذكور بشكل واضح و مباشر فى النصوص المصاحبة لمشاهد‬

‫كتاب الطريقين الذى دون فى عصر الدولة الوسطى ‪.‬‬

‫و لكن بقدوم عصر الدولة الحديثه تم استبدال مشاهد الطريقين بمشاهد أخرى متنوعة من رحلة‬

‫الروح فى العالم السفلى ‪.‬‬

‫و مع ذلك ظلت الفكرة الرئيسية المهيمنة على كل كتب العالم اآلخر ثابته ‪ ,‬و هى أن العالم السفلى‬

‫يتكون من العديد من المناطق و أن على الروح أن ترتحل فى مناطق مختلفة تبدأ من ظلمة المقبرة‬

‫و تنتهى بالخروج الى النهار ‪.‬‬

‫و فى عصر الدولة الحديثه كانت خرائط العالم السفلى تبرز طبيعة كل منطقه من مناطقه ‪ ,‬بل‬

‫و تقسم كل منطقة الى وحدات أصغر ‪.‬‬

‫و من أمثلة ذلك ما جاء فى بردية "أوسر حات" (من عصر األسرة ‪ , 03‬دولة حديثه) ‪ ,‬حيث تم‬

‫تقسيم منطقة حقول االيارو الى ‪ 05‬تل ‪ ,‬و هنا يبدو أن الطبيعة المرنة الفضفاضة لهذه المنطقة‬

‫صارت أكثر تحديدا ‪.‬‬

‫‪- 373 -‬‬


‫حقول االيارو‬

‫( من بردية "أوسر حات" ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫و النص المصاحب للمشهد يبدأ فى الجزء العلوى من أقصى اليمين ‪ ,‬و ينتقل من أعلى الى أسفل‬

‫عبر النتؤات أو التالل العديدة التى يبدو بعضها كأماكن يصعب اجتيازها ‪.‬‬

‫على سبيل المثال التل الذى يتخذ شكل حرف ‪ U‬باالنجليزية ‪ ,‬و هو فى منتصف الصف األيمن ‪,‬‬

‫هو عبارة عن منطقة نارية يطلق عليها "قرون النار" ‪ ,‬و أسفلها مباشرة جبل مرتفع ‪.‬‬

‫و المنطقة الثالثة فى الصف األيمن (بالترتيب من أسفل الى أعلى) يحكمها كيان ماورائى يطلق‬

‫عليه "الذى يقذف باألسماك" ‪ .‬و هو اسم ينذر بالخطر ‪ ,‬ألن ارتحال الروح فى العالم السفلى فى‬

‫هيئة سمكة يعنى تعرضها لخطر رهيب ‪ ,‬ألن السمك يرمز لفقدان الذاكرة الروحية و بالتالى‬

‫‪- 374 -‬‬


‫فقدان االنسان القدرة على معرفة ذاته ‪.‬‬

‫و فى الصف األيسر من الشكل السابق ‪ ,‬نجد فى المنتصف تال على شكل بيت و قد دون داخله‬

‫نص يقول ( هنا يسكن الكيان االلهى مهلك األرواح ) ‪.‬‬

‫و تحته مباشرة تل على شكل حرف ‪ S‬باالنجليزية و هو منطقة تتسم بالمياه التى تندفع بشده ‪.‬‬

‫و بالنظر الى الخريطه بوجه عام نالحظ وجود العديد من الثعابين تتخذ موقعها بين التالل ‪ ,‬و هى‬

‫تضفى مزيدا من االحساس بالخطر الذى يهيمن على المشهد العام ‪.‬‬

‫و المعنى الذى تنطوى عليه هذه الخريطة و غيرها من خرائط العالم السفلى هو أن ال "با" عليها أن‬

‫تمر بتحوالت و تختبر العديد من حاالت الوعى و تكتشف المناطق المظلمة فى العقل الباطن و التى‬

‫صورها الفنان المصرى القديم كمناطق جغرافية ترتحل فيها الروح ‪.‬‬

‫فى العالم السفلى ال يوجد طبيعة جغرافية ألنه ببساطه عالم باطنى و ليس عالم مادى ‪.‬‬

‫العالم السفلى هو عالم سيكولوجى (نفسى) يتبدى أمام أعين االنسان وفقا لما هو موجود فى عقله‬

‫الباطن ‪.‬‬

‫و كما تعكس أحالمنا ما يدور فى عقلنا الباطن من أفكار و رغبات ‪ ,‬كذلك فى العالم السفلى تكون‬

‫المناطق التى يرتحل فيها االنسان انعكاس للقوى النفسية و الروحانية التى تشكل عقله الباطن ‪.‬‬

‫تعبر هذه الخرائط الباطنية عن امتالك من قاموا بتصميمها للحكمة و المعرفة العميقة لطبيعة النفس‬

‫االنسانية ‪ ,‬حيث رمز مصممو الخرائط لحاالت الوعى بمناطق جغرافية ‪.‬‬

‫أن يعرف االنسان موقعه فى العالم اآلخر و يعرف أين يوجد ‪ ,‬كان ذلك يعنى أنه قد عرف جزءا‬

‫من نفسه (عقله الباطن) كان خفيا عنه ‪ ,‬و هذه المعرفة هى التى تؤهله للتحرك و االنتقال الى منطقة‬

‫أخرى ‪.‬‬

‫ان السير قدما فى رحلة العالم السفلى هو عبارة عن عملية تطهر تدريجى للبا من كل ما علق بها‬

‫من عناصر غير متناغمه أو متسقة مع الماعت ‪.‬‬

‫و هكذا تتبدل الطبيعة الجغرافية التى تحيط بالبا أثناء رحلتها فى العالم السفلى و تتغير تدريجيا من‬

‫‪- 375 -‬‬


‫طبيعة محفوفة بالخطر و تنطوى على القبح الى طبيعة أكثر جماال و هدوئا و تناغما ‪.‬‬

‫و التالل التى جاء ذكرها فى العالم السفلى ال تحمل كلها أسماء ذات معانى سلبية ‪.‬‬

‫فهناك تل لألرواح (فى الصف األيمن ‪ ,‬تحت الجبل المرتفع) يوصف بأنه يقع فى الغرب الجميل ‪,‬‬

‫حيث تحيا الكيانات االلهية على قرابين الخبز و الجعة ‪.‬‬

‫يتضح من خرائط العالم السفلى أن هناك عوالم أسمى تتخلل منطقة حقول االيارو ‪ ,‬فهناك دائما‬

‫حضور لكيانات الهية من عالم الروح ‪ ,‬اذا كان المرتحل منفتحا على ذلك العالم و على دراية به ‪.‬‬

‫و لذلك ظهر فى عصر الدولة الحديثه العديد من خرائط حقول االيارو التى تصورها فى صورة‬

‫حقول خضراء و جنات و فراديس ‪.‬‬

‫المشهد التالى من بردية "آنى" (من عصر الدولة الحديثه) لحقول االيارو ‪ ,‬و نالحظ أن المشهد‬

‫يحتفظ بالكثير من المعالم التى ميزت حقول االيارو التى تعود لعصر الدولة الوسطى ‪ ,‬و منها‬

‫الطبيعة المائية حيث تجرى فيها األنهار و تملؤها البحيرات ‪ ,‬و منها أيضا وجود القوارب الراسية‬

‫بانتظار المرتحل النجمى و أيضا درجات السلم أو المعراج السماوى ‪.‬‬

‫حقول االيارو‬

‫‪- 376 -‬‬


‫( من بردية "آنى" ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫أما الجديد هنا ‪ ,‬فهو أن البردية تصور "آنى" و هو يتحدث الى الكيانات االلهية التى تسكن هذه‬

‫المنطقة عن قرب و يخالطهم ‪.‬‬

‫فى الجزء العلوى من المشهد ‪ ,‬فى أقصى اليسار يظهر "آنى" و هو يقدم القرابين لثالثة من الكيانات‬

‫االلهية بأجساد آدمية و رؤوس حيوانات ‪ ,‬ثم يجدف و يبحر بقاربه ‪ ,‬ثم يقف ليخاطب حورس فى‬

‫هيئة صقر ‪ .‬و فى أقصى اليمين هناك ثالثة جزر يصاحبها نص يقول ( بلوغ الرضا فى حقول‬

‫الرضا ‪ ,‬و استنشاق الهواء ) ‪.‬‬

‫فى المستوى الثانى من المشهد ‪ ,‬يحصد "آنى" (الذى تحول الى أوزير) الغالل التى تبلغ ارتفاعا‬

‫هائال يضاهى قامة "آنى"‪ ,‬ثم يدرس "آنى" هذه الغالل باستخدام ثور يطأ األعواد بأقدامه ‪ ,‬ثم يرفع‬

‫"آنى" يده بالتحية و التبجيل لطائر ال "بنو" (الفينيكس) و هو أحد رموز "رع" ‪.‬‬

‫ثم يجلس ممسكا بعصا ال "سخم" (القوة) ‪ ,‬و فى أقصى اليمين نرى ثالثة عالمات لل "كا" فوق‬

‫كومتين من الغالل احداهما حمراء و األخرى بيضاء ‪ ,‬ثم ثالثة طيور "آخ" (رمز الروح التى‬

‫حازت االشراق) فوق ثالثة جزر ربما كانت مسكنا لطيور ال "آخ" ‪.‬‬

‫و فى المستوى الثالث يظهر "آنى" و هو يحرث األرض ‪ .‬و يقول النص المصاحب للمشهد أن هذه‬

‫المنطقة هى منطقة فرس النهر الذى يعيش فى نهر يبلغ طوله ألف فرسخ ‪ ,‬أما عرضه فلم يطلع‬

‫عليه أحد ‪ .‬و من أهم سمات هذه المنطقة أنها تخلو من وجود األسماك و الثعابين ‪.‬‬

‫و فى المستوى الرابع و األخير من المشهد ‪ ,‬نجد قاربين راسيين ‪ ,‬يحتوى كل منهما على درجات‬

‫سلم و هناك جزيرتان ‪ ,‬تحتوى احداهما على درجات سلم ‪.‬‬

‫يخبرنا النص المصاحب للمشهد أن رب هذه المنطقة هو أوزير ‪ ,‬و أنها موطن ال "آخو" ‪ ,‬أى‬

‫موطن أرواح الموتى المبجلين الصالحين الذين تطهروا ‪.‬‬

‫فى هذه المنطقة ‪ ,‬يقال أن أرواح هؤالء المبجلين تحصد أعواد قمح يبلغ ارتفاعها ثالثة أذرع ‪.‬‬

‫‪- 377 -‬‬


‫مثل هذه الخرائط هى التى شجعت علماء المصريات على تشبيه حقول االيارو المصرية بحقول ال‬

‫"اليسيون" (جزيرة الخالدين) فى الفلسفة االغريقية ‪.‬‬

‫و لكن علينا أن نضع فى أذهاننا أن تجربة الروح فى العالم السفلى بوصفها شئ ممتع ( = جنة ‪/‬‬

‫فردوس) أو شئ مؤلم ( = جحيم ) هى رهن اجتياز الروح الختبارات و تعرضها لعمليات تحول‬

‫خيميائية بهدف تطهيرها ‪.‬‬

‫ان حقول االيارو بخضرتها و جمالها و طبيعتها الخالبة هى تجربة تختبرها فقط الروح التى‬

‫اجتازت األماكن األكثر ظلمة ‪ ,‬و تغلبت على الكائنات المخيفة و األشباح التى تعترض طريق‬

‫المرتحل بمجرد دخوله الى العالم السفلى ‪.‬‬

‫صور الترحال ‪-:‬‬

‫بعد أن ألقينا نظرة سريعة على الطبيعة الجغرافية للعالم السفلى من خالل الخرائط التى سجلها قدماء‬

‫المصريين فى كتب العالم اآلخر ‪ ,‬يمكننا اآلن أن نبحث بتفصيل أكثر فى التجارب التى تمر بها‬

‫الروح أثناء رحلتها فى العالم السفلى ‪.‬‬

‫لما كان العالم السفلى عالما مائيا ‪ ,‬مليئا باألنهار و البحيرات ‪ ,‬لذلك فان وسيلة االنتقال الرئيسية فيه‬

‫هى القارب ‪.‬‬

‫فى مصر القديمة لم يكن القارب هو وسيلة لالنتقال فى مناطق المستنقعات فقط ‪ ,‬و انما فى طول‬

‫نهر النيل و عرضه ‪ ,‬و أيضا فى كل القنوات المتفرعة منه ‪.‬‬

‫كانت القنوات المائية هى شرايين االتصال الرئيسية لألمة المصرية ‪ ,‬و االبحار فيها بالقوارب هو‬

‫أسرع وسيلة نقل ‪ ,‬و هو بالتأكيد أسرع من السير على األقدام أو ركوب الدواب ‪.‬‬

‫و لكن االبحار فى أنهار العالم السفلى و قنواته يختلف عن االبحار فى نهر النيل و قنواته ‪ ,‬ألن‬

‫المرتحل يبحر فى العالم السفلى و هو يعى وجود خطر كامن تحت سطح الماء يوشك أن ينقض‬

‫عليه فى أى لحظة ‪ .‬هذا الخطر هو ثعبان أبو فيس ‪.‬‬

‫‪- 378 -‬‬


‫فى بعض كتب العالم اآلخر التى دونت فى عصر الدولة الحديثه ظهر قارب "رع" و هو يبحر فوق‬

‫جسد ثعبان أبو فيس الذى اتخذ شكل موجات ‪.‬‬

‫و المشهد التالى (و هو جزء من كتاب الخروج الى النهار) ال يظهر فيه ثعبان أبوفيس ‪ ,‬و لكن‬

‫النص المصاحب للمشهد يذكر بوضوح الشعور بالقلق الذى ينتاب المرتحل فى العالم السفلى و الذى‬

‫يضطر لالبحار فوق ظهر أبوفيس لكى يستطيع الوصول الى أبيه أوزير ‪.‬‬

‫"نو" يبحر بقاربه فى العالم السفلى‬

‫( من بردية "نو" ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫و النص يخاطب "ذلك الذى أحضر القارب" ‪ ,‬و الذى تنكشف لنا هويته فى السطر األخير من‬

‫النص ‪ ,‬و هو ليس اال "آخ" المرتحل فى العالم السفلى ‪.‬‬

‫و ال "آخ" هى ذلك الجزء من كيان االنسان الذى يمكن االعتماد عليه فى الصعاب ‪.‬‬

‫و القارب المقصود هنا ليس قاربا ماديا ‪ ,‬و انما هو صفات االنسان النفسية و الروحية التى تساعده‬

‫على مواجهة ثعبان الفوضى و الظالم أبو فيس و االنتصار عليه ‪.‬‬

‫‪- 379 -‬‬


‫جاء فى كتاب الخروج الى النهار (فصل رقم ‪ , ) 99‬بردية "نو" ‪-:‬‬

‫*** يا من تحضر القارب ‪ ,‬فوق ظهر ثعبان الشر "عبيب" (أبو فيس) ‪ ...‬أحضر لى قارب ‪...‬‬

‫و اسحب حباله بسرعة ‪ ,‬و لكن بسالم ‪ ...‬هيا ‪ ,‬أقبل ‪ ,‬أسرع ‪ ...‬ألنى أتيت ألرى أبى أوزير ‪...‬‬

‫رب الرداء األحمر ‪...‬الذى صار ربا للعالم السفلى ‪ ...‬يا رب العاصفة ‪ ,‬يا من تجيد االبحار ‪ ...‬يا‬

‫من تبحر فوق ظهر "عبيب" ‪ ...‬يا من تشرف على القارب الغامض ‪ ...‬يا من تقيد أبوفيس باألغالل‬

‫‪ ...‬أحضر لى القارب ‪ ...‬اسحب الحبال بسرعة من أجلى ‪ ...‬لكى أبحر ‪ ...‬هذه األرض نذير شؤم‬

‫‪ ...‬لقد خرجت النجوم عن توازنها ‪ ,‬و سقطت على وجوهها ‪ ...‬و ال تستطيع الظهور مجددا ‪ ...‬لقد‬

‫أتيت الى هذا المكان و كأنى بحار تحطمت سفينته ‪ ...‬عسى أن تأتينى ال "آخ" (الروح التى حازت‬

‫االشراق) لترشدنى الى المكان الذى تعرفه روحى ***‬

‫فى بعض النصوص قد يصادف المرتحل فى العالم السفلى صعوبة فى االتصال بال "آخ" التى‬

‫تحضر القارب ‪.‬‬

‫و فى بعض األحيان قد يتعامل المرتحل مع كيانين و ليس كيان واحد ‪.‬‬

‫فهناك من يحضر القارب ‪ ,‬و هو فى نفس الوقت المعداوى الذى يبحر به و يعبر به من شاطئ‬

‫آلخر ‪ ,‬و هناك أيضا حارس القارب ‪.‬‬

‫و ربما كان حارس القارب جانبا آخر أعمق من جوانب ال "آخ" (الروح التى حازت االشراق) ‪,‬‬

‫و ألنه أعمق لذلك يصعب االتصال به ‪.‬‬

‫يوصف حارس القارب بأن فى نعاس دائم ‪ ,‬و على المعداوى أن يوقظه ‪.‬‬

‫فى النص التالى يطلق على حارس القارب اسم "آقن" و على المعداوى اسم "مآ حر" ‪ ,‬أى "الذى‬

‫ينظر خلفه أو الذى يرى بمؤخرة رأسه" ‪.‬‬

‫فى المشهد التالى يظهر المعداوى و هو يدير رأسه للخلف و ينظر فى اتجاه عكس اتجاه جسده‬

‫و عكس الجهة التى يرتحل اليها ‪.‬‬

‫‪- 380 -‬‬


‫المعداوى "مآ حر" ‪ ,‬أى الذى ينظر خلفه أو الذى يرى بمؤخرة رأسه‬

‫( من بردية "آنى" ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫يذكرنا مشهد المعداوى السابق بمشهد أوزير فى تجليه السماوى فى مجموعة نجوم أوريون و هى‬

‫تقع فى النصف الجنوبى من قبة السماء ‪.‬‬

‫يظهر "أوزير – أوريون" فى صورة رجل يخطو خطوة واسعة الى األمام ‪ ,‬و يقف فوق قارب‬

‫يبحر به فى السماء و يدير وجهه الى الخلف كما فى المشهد التالى ‪.‬‬

‫‪- 381 -‬‬


‫أوزير فى هيئة رجل يخطو لألمام و ينظر الى الخلف ‪ ,‬رمز مجموعة نجوم أوريون فى‬

‫النصف الجنوبى من قبة السماء ( من معبد حتحور بدندرة ‪ ,‬عصر بطلمى )‬

‫و بتأمل المشهد كامال نالحظ أن أوزير ينظر الى رفيقته الوفية ايزيس (فى هيئة بقرة) التى تتبعه ‪,‬‬

‫و هى هنا فى تجليها السماوى فى صورة نجمة "سوبدت" (زيريوس‪/‬الشعرى) ‪.‬‬

‫و بين ايزيس و أوزيريس يقف االبن حورس فى هيئة صقر يجثم فوق عود بردى ‪.‬‬

‫و من هذه المقابلة بين هيئة المعداوى و هيئة "أوزير ‪ -‬أوريون" ‪ ,‬يتضح لنا أن هناك عالقة بين‬

‫االثنين ‪ ,‬فربما كانت مجموعة نجوم أوريون هى الموضع السماوى الذى تبدأ منه رحلة القارب‬

‫الذى يقوده المعداوى ‪.‬‬

‫فى أحد النصوص التى استعرضناها معا فى الفصل التاسع رأينا أهمية امتالك المرتحل فى العالم‬

‫السفلى ألعضائه و جوارحه كاملة و ضرورة أن يعاد تجميع أجزاء جسده الممزق مثل أوزير ‪.‬‬

‫عندما يلتقى المرتحل فى العالم السفلى بالمعداوى يبدأ بينهما الحوار ‪ ,‬كما فى النص التالى ‪-:‬‬

‫المرتحل ‪ :‬أيها المعداوى "مآ‪ -‬حر" ‪ ,‬يا من وهبت الحياة األبدية ‪ ,‬أيقظ حارس القارب "آقن" ‪,‬‬

‫ألنى أتيت ‪.‬‬

‫المعداوى ‪ :‬من أنت ؟‬

‫‪- 382 -‬‬


‫المرتحل ‪ :‬أنا ساحر‬

‫المعداوى ‪ :‬هل أنت مكتمل الجسد ؟‬

‫المرتحل ‪ :‬نعم ‪ ,‬أنا مكتمل الجسد‬

‫المعداوى ‪ :‬هل تزودت بما يؤهلك للرحلة ؟‬

‫المرتحل ‪ :‬نعم ‪ ,‬تزودت بما يؤهلنى للرحلة‬

‫المعداوى ‪ :‬هل شفيت أطرافك (ذراعيك و ساقيك) ؟‬

‫المرتحل ‪ :‬نعم ‪ ,‬شفيت أطرافى‬

‫المعداوى ‪ :‬ما هى األطراف التى شفيت أيها الساحر ؟‬

‫المرتحل ‪ :‬هى الذراعين و الساقين‬

‫المعداوى ‪ :‬انتبه ! هل قلت أنك تريد أن تعبر الى الجانب الشرقى من السماء ؟ اذا عبرت الى هناك‬

‫‪ ,‬فماذا ستفعل ؟‬

‫المرتحل ‪ :‬سأحكم المدن ‪ ,‬و القرى ‪ ,‬سأعرف الغنى ‪ ,‬و أعطى الفقير ‪ ,‬و سأعد قرابين الكعك من‬

‫أجلك عندما أبحر مع التيار ‪ ,‬و سأعد قرابين الخبز من أجلك و أنا أبحر ضد التيار ‪ .‬أيها المعداوى‬

‫"مآ ‪ -‬حر" ‪ ,‬يا من وهبت الحياة األبدية ‪ ,‬أيقظ حارس القارب "آقن" من أجلى ‪ ,‬ألنى أتيت ‪.‬‬

‫و لكن المعداوى "مآ‪ -‬حر" ال يرضيه ذلك ‪ ,‬و يستمر فى طرح أسئلة غامضة على المرتحل ‪,‬‬

‫و التى يجيب عنها المرتحل أيضا بطريقة غامضة ‪.‬‬

‫و أخيرا يذهب المعداوى لكى يوقظ الحارس "آقن" ثم يعود موجها حديثه للمرتحل قائال ‪ :‬انه ال‬

‫يستيقظ و ال يجيبنى ‪.‬‬

‫و أخيرا يتنازل المرتحل عن مساعدة المعداوى و يذهب بنفسه اليقاظ الحارس النعسان ‪ ,‬و يدور‬

‫بينهما الحوار اآلتى ‪-:‬‬

‫الحارس (آقن) ‪ :‬ما هذا ؟ من الذى يوقظنى ؟ لقد كنت نائما‬

‫المرتحل ‪ :‬يا "آقن" ‪ ,‬يا من وهبت الحياة األبدية ‪ ,‬أحضر لى القارب ‪ ,‬ألنى أتيت ‪.‬‬

‫‪- 383 -‬‬


‫الحارس (آقن) ‪ :‬من أنت أيها القادم ؟‬

‫المرتحل ‪ :‬أنا ساحر‬

‫الحارس (آقن) ‪ :‬هل أنت مكتمل الجسد ؟‬

‫المرتحل ‪ :‬نعم ‪ ,‬أنا مكتمل الجسد‬

‫الحارس (آقن) ‪ :‬هل تزودت بما يؤهلك للرحلة‬

‫المرتحل ‪ :‬نعم ‪ ,‬تزودت بما يؤهلنى للرحلة‬

‫الحارس (آقن) ‪ :‬هل اعتنيت بأطرافك ؟‬

‫المرتحل ‪ :‬نعم ‪ ,‬اعتنيت بأطرافى‬

‫الحارس (آقن) ‪ :‬ما هى هذه األطراف أيها الساحر ؟‬

‫المرتحل ‪ :‬هى الذراعين و الساقين ‪ .‬يا "آقن" ‪ ,‬يا من وهبت الحياة األبدية ‪ ,‬أحضر لى القارب ‪,‬‬

‫ألنى أتيت ‪.‬‬

‫و يستمر الحوار بين المرتحل و حارس القارب على نفس منوال الحوار السابق بين المرتحل‬

‫و المعداوى ‪ .‬و لكن يفاجئ "آقن" المرتحل بقوله ان القارب غير جاهز لالبحار ‪.‬‬

‫فليس له شراع و ال صوارى و ال حبال و ال دعائم ‪ .‬و على المرتحل أن يبرهن على قدرته على أن‬

‫يقوم باعداد هذه األشياء بنفسه ‪ .‬بعبارة أخرى ‪ ,‬على المرتحل أن يعيد بناء قاربه بنفسه ‪.‬‬

‫و هنا تجدر االشارة الى أن القوارب الجنائزية التى عثر عليها علماء اآلثار فى حفر بجانب‬

‫أهرامات الجيزة كانت تدفن فى األرض مفككة الى قطع ‪.‬‬

‫و ربما كان الهدف من هذه القوارب الجنائزية أن تكون هى وسيلة االنتقال التى ستسخدمها روح‬

‫الملك فى العالم اآلخر ‪ ,‬و وجودها مفككة يعنى أن على الملك أن يعيد بناءها فى العالم اآلخر ‪.‬‬

‫و بعد انتهاء المرتحل فى العالم السفلى من بناء القارب ‪ ,‬يبدأ بينهما هذا الحوال المثير ‪-:‬‬

‫الحارس (آقن) ‪ :‬أيها الساحر‪ ,‬هل اكتسبت القدرة على الهيمنة على ما لم أحضره لك (أى القارب) ؟‬

‫أود التأكد من أنى بعد أن أساعدك و أبحر بك الى االله العظيم لن يقول لى االله (هل جلبت لى جال‬

‫‪- 384 -‬‬


‫ال يعرف عدد أصابعه ؟ ) ‪.‬‬

‫المرتحل ‪ :‬أعرف كيف أعد أصابعى ‪ .‬خذ واحدا ‪ ,‬ثم الثانى ‪ ,‬اقطعه ‪ ,‬اطفئه ‪ ,‬قم بازالته ‪ ,‬أعطنى‬

‫اياه ‪ ,‬كن لطيفا معى ‪ ,‬اجعل العين تتألق ‪ ,‬و امنحنى اياها ‪.‬‬

‫تشير هذه االجابة الغامضة ضمنيا الى أسطورة عين حورس التى اقتلعها ست ‪ ,‬و لكنها بعد ذلك‬

‫شفيت و عادت سليمة و مكتملة العدد ‪ ,‬بل أكمل مما كانت فى السابق و أكثر قدرة على الرؤية ‪.‬‬

‫هناك عدد من النصوص فى متون األهرام تدور حول ذلك الحدث األسطورى ‪ ,‬منها النص التالى‬

‫(نص رقم ‪-: )43‬‬

‫***أيها الملك ‪ ,‬خذ اليك اصبع ست ‪ ...‬الذى يهب عين حورس الرؤية الواضحة الجلية ‪ ...‬أيها‬

‫الملك ‪ ,‬خذ اليك عين حورس السليمة ‪ /‬المبصرة ‪ ...‬التى ينيرها طرف اصبع ست ***‬

‫ان األسئلة الغريبة التى يطرحها حارس القارب "آقن" على المرتحل هى اختبار لمدى نجاحه‬

‫فى تحويل الصفات السلبية ل "ست" و التى تشكل جزءا من نوازع النفس االنسانية الى صفات‬

‫ايجابية و التى بتحويلها يكتسب االنسان نور البصيرة ‪.‬‬

‫يتضح معنى النص السابق أيضا حين نعرف أن قدماء المصريين كانوا يطلقون على مغاليق‬

‫باب الناووس الذى يحوى الصورة المقدسه لالله داخل قدس أقداس المعبد اسم "اصبع ست" ‪.‬‬

‫و من الجدير بالذكر أيضا أن "اصبع ست" كان يوصف فى مصر القديمة أحيانا بأنه العضو‬

‫الذكرى ل "ست" الذى تخرج منه النار ‪ ,‬و ذلك ما يفسر لنا لماذا يتحدث المرتحل عن اطفاء‬

‫اصبعه ‪.‬‬

‫على المرتحل أن يقوم بترويض طاقة "ست" التى تتسم بالعنف و االندفاع و الشهوة و الشراهة‬

‫بداخله و يحولها الى طاقة ايجابية روحانية ‪ ,‬و هذا هو الشرط األساسى للعبور الى االله العظيم ‪.‬‬

‫و المياه التى يبحر فيها المرتحل و يعبرها من شاطئ الى آخر هى مياه النهر السماوى ‪ ,‬أى مجرة‬

‫الطريق اللبنى ‪ ,‬و التى جاء ذكرها فى سياق رحلة الروح فى العالم السفلى ‪.‬‬

‫و هنا نالحظ أن فكرة المياه السماوية التى تعبرها أرواح الموتى من شاطئ آلخر لم تكن فكرة‬

‫‪- 385 -‬‬


‫حصرية للحضارة المصرية القديمة فقط ‪ ,‬فقد انتشرت هذه الفكرة فى ميثولوجيا الحضارات القديمة‬

‫فى كل أنحاء العالم ‪.‬‬

‫تمثل المياه عقبة هائلة على الروح أن تتخطاها لكى تصل الى مستوى أسمى من الوعى ‪ ,‬و بذلك‬

‫تجد نفسها قد انتقلت الى بيئة سيكولوجية و روحانية مختلفة ‪.‬‬

‫و سواء كانت هذه المياه فى السماء أو فى أى مكان آخر ‪ ,‬فاألهم هو المغزى وراء عبور هذه المياه‬

‫و األهم أيضا أن صورة عبور المياه تتضمن أيضا وعى المرتحل و ادراكه أن تحت المياه يعيش‬

‫ثعبان الفوضى الكونية أبوفيس ‪.‬‬

‫يصف كتاب الخروج الى النهار كيف يقطع المرتحل عالم القوى السيكولوجية بأن يصعد الى متن‬

‫القارب و يجدف به ‪.‬‬

‫و هى رحلة ليست يسيرة ‪ ,‬و قد صور الفنان المصرى القديم الصعوبات التى يواجهها المرتحل فى‬

‫هيئة وحوش مخيفة و أرواح شريرة و أشباح ‪ ,‬و هى جميعا تحديات تواجه االنسان عند مروره فى‬

‫تلك المنطقة الغير مريحة من العالم السفلى ‪.‬‬

‫فى الفصل التالى سنتناول الصعوبات التى تواجه المرتحل فى العالم السفلى ‪.‬‬

‫‪- 386 -‬‬


‫الفصل الحادى عشر‬
‫المصاعب التى يواجهها المرتحل فى العالم‬
‫السفلى‬

‫الهواء و الماء و النار ‪-:‬‬

‫هناك مغزى معقد وراء فكرة اجتياز العالم السفلى الذى تجرى فيه األنهار باستخدام قارب ‪.‬‬

‫وهى فكرة يمكن تفسيرها على أكثر من مستوى ‪.‬‬

‫و قد رأينا فى الفصل السابق أن فكرة االبحار بالقارب تتضمن أيضا رموزا أخرى مثل المعداوى‬

‫و حارس القارب ‪ ,‬كما تتضمن أيضا ثعبان أبوفيس و ان كان يخفى نفسه تحت سطح الماء ‪.‬‬

‫تحمل رمزية القارب العديد من الدالالت ‪ ,‬منها قدرة الروح على االستمرار فى الترحال و تخطى‬

‫العقبات و الصعاب و الفخاخ التى تشبه األمواج و العواصف التى يواجهها القارب أثناء المالحة ‪.‬‬

‫و شرط امتالك الروح القدرة على بناء قاربها بنفسها هو فى الحقيقة رمز لشرط امتالك الروح‬

‫قدرا معينا من المعرفة الباطنية لكى تستطيع أن تكمل رحلتها فى العالم السفلى ‪.‬‬

‫فالمرتحل فى العالم السفلى ال يحصل على القارب جاهزا و معدا لالبحار ‪ ,‬و انما عليه أن يعرف‬

‫كل أجزاء القارب و يعرف كيف يقوم بتجميع هذه األجزاء ليصنع منها قاربه ‪.‬‬

‫و كل جزء من أجزاء القارب له مغزى و معنى يتعلق بصفات و قدرات روحانية معينة ‪.‬‬

‫و من أوضح األمثلة على ذلك الشراع ‪.‬‬

‫و الشراع فى حد ذاته يستخدم كرمز هيروغليفى يعطى دالالت تدو حول الهواء ‪ /‬الرياح ‪ /‬األنفاس‪.‬‬

‫يوصف العالم السفلى فى أغلب النصوص بأنه مكان يخلو من الهواء ‪ ,‬ألن الهواء الوحيد المتاح‬

‫هناك هو الماعت (الحق ‪ /‬الحقيقة ‪ /‬النظام الكونى ‪ /‬االتزان ‪ /‬الضمير) ‪.‬‬

‫بالماعت تحيا األرواح ‪ .‬لذلك يقال أن ال "نترو" (الكيانات االلهية) تتنفس الماعت ‪ ,‬ألنها هى‬

‫‪- 387 -‬‬


‫الهواء االلهى ‪ /‬المقدس الذى يتخلل كل شئ فى الوجود ‪.‬‬

‫اذا لم تكن حياة االنسان الدنيا فى تناغم مع الماعت ‪ ,‬فسيعانى فى العالم السفلى من االختناق ألنه لم‬

‫يتعلم كيف يتنفس الماعت ‪.‬‬

‫فى كتاب الخروج الى النهار (فصل رقم ‪ )54‬نقرأ العبارات التالية و هى ابتهال على لسان المرتحل‬

‫فى العالم السفلى ‪-:‬‬

‫*** أبتهل اليك يا آتوم أن تهبنى من األنفاس الذكية التى تعطر أنفك ***‬

‫و يستمر المبتهل فى صالته ‪ ,‬فيقول أنه هو البيضة التى وضعها "الصياح العظيم" ( و هو أحد‬

‫أشكال رب األرض جب ) ‪ .‬و حسب ما جاء فى أسطورة التاسوع ‪ ,‬كان الصياح العظيم هو األوزة‬

‫التى وضعت البيضة األزلية التى خرج منها الخلق فى الزمن األول ‪ .‬يقول النص ‪-:‬‬

‫*** أنا البيضة التى وضعها الصياح العظيم ‪ ...‬أنا أراقب و أحرس السر العظيم الذى كان كامنا‬

‫فيها ‪ ,‬ثم خرج منها ‪ ...‬و الذى فتح به جب فم األرض ***‬

‫أن يستنشق االنسان الهواء االلهى‪/‬المقدس (الماعت) كان ذلك يعنى أنه قد ولد من جديد فى عالم‬

‫الروح ‪.‬‬

‫و لكى يولد االنسان من جديد فى عالم الروح عليه أن يعود للبدايات األولى للخلق ‪ ,‬عليه أن يعود‬

‫الى البيضة الكونية األزلية ‪ ,‬لكى يولد منها مجددا كروح حية ‪ ,‬و من ثم يمكنه أن يتنفس الهواء‬

‫الذى تتنفسه الكيانات االلهية ‪.‬‬

‫جاء فى كتاب الخروج الى النهار ( بردية "نو" ) ‪-:‬‬

‫*** كما تنمو البيضة الكونية ‪ ,‬كذلك أنمو ‪ ...‬كما تحيا البيضة الكونية ‪ ,‬كذلك أحيا ‪ ...‬و كما تتنفس‬

‫‪ ,‬كذلك أتنفس ***‬

‫هناك العديد من فصول كتاب الخروج الى النهار تدور حول التنفس فى العالم السفلى ‪ ,‬و تهدف‬

‫نصوصها لضمان أن يجد المرتحل فى العالم السفلى هواء ليتنفسه ‪.‬‬

‫الشكل التالى من كتاب الخروج الى النهار ‪ ,‬و فيه يظهر الكاتب "آنى" و هو يمسك بشراع قارب‬

‫‪- 388 -‬‬


‫أمام أنفه بينما يرتل ابتهال و صالة عسى أن يولد من جديد فى عالم الروح ‪.‬‬

‫"آنى" يمسك بشراع و هو الرمز الهيروغليفى للهواء‬

‫( من بردية "آنى" ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫أن يتنفس االنسان الهواء الذى تتنفسه الكيانات االلهية ‪ ,‬كان ذلك يعنى أنه اكتسب القدرة على تفادى‬

‫خطر الوقوع فى الشبكة التى يضعها ثالثة من قرود البابون و يصنعون منها فخا الصطياد األرواح‬

‫المرتحلة فى العالم السفلى ‪.‬‬

‫‪- 389 -‬‬


‫ثالثة من قرود البابون التى تحاول اصطياد األرواح المرتحلة فى العالم السفلى و التى فقدت‬

‫هيئتها البشرية و ارتحلت فى هيئة أسماك‬

‫( من بردية "نفر وبن اف" ‪ ,‬دولة حديثه )‬

‫تأمل قدماء المصريين قرود البابون فوجدوها تتجمع و تحتشد قبل شروق الشمس مباشرة و قبل‬

‫غروبها و تحتفل بتلك الظاهرة (و خصوصا الشروق) بالتصفيق و الرقص ‪.‬‬

‫لذلك كانت قرود البابون فى نظر المصرى القديم هى حراس بوابات الجبال الشرقية و الغربية التى‬

‫تمر من خاللها الشمس فى طريقها من و الى العالم السفلى ‪.‬‬

‫كانت قرود البابون أيضا من الحيوانات المقدسة التى اتخذت رمزا لتحوت ‪ ,‬رب الحكمة و المعرفة‬

‫الباطنية ‪.‬‬

‫أما األسماك (و التى ترتبط بعنصر الماء) فكانت رمزا للروح الجاهلة ‪ ,‬أى التى فقدت ذاكرتها‬

‫‪- 390 -‬‬


‫الروحية ‪ ,‬و التى لم تنضج بعد و لم تتطهر ‪.‬‬

‫يقول المؤرخ االغريقى هيرودوت أن تناول السمك كان شيئا محظورا بالنسبة للكهنة أثناء قيامهم‬

‫بالخدمة فى المعبد ‪.‬‬

‫و من الجدير بالذكر هنا أن الهيروغليفية بها ست عالمات على شكل أسماك ‪ ,‬و من المالحظ أن‬

‫أربعة من تلك العالمات الستة تحمل دالالت سلبية مثل الكراهية ‪ ,‬التعفن ‪ ,‬االستياء ‪ ,‬الجثمان ‪.‬‬

‫اذا كان العالم السفلى مكانا مليئا بالمياه ‪ ,‬فان آخر شئ يمكن أن يلجأ اليه االنسان عند ارتحاله فيه‬

‫هو أن يسبح فى مياهه كالسمكة ‪.‬‬

‫ارتبط عنصر الماء فى نظر قدماء المصريين ب "ست" ‪ ,‬فالماء هو البيئة التى تسكنها الكائنات التى‬

‫تجسد طبيعة ست ‪ ,‬مثل التماسيح و أفراس النهر و ثعابين الماء ‪.‬‬

‫و حتى األسماك (أو أنواع منها) كانت تعتبر فى نظر قدماء المصريين من الكائنات التى يتجسد فيها‬

‫"ست" ‪ .‬جاء فى أسطورة موت أوزير أن هناك سمكة التهمت عضوه الذكرى عندما غرق فى الماء‬

‫‪ ,‬و قد نسب هذا الفعل لثالثة فصائل مختلفة من األسماك ‪.‬‬

‫و ما الذى أوقع أوزير فى الماء ؟ أليست حيل "ست" الشريرة هى التى ألقت بأوزير فى قاع النهر‬

‫المظلم ‪ ,‬حيث ال يصل أى ضوء من شعاع الشمس ‪ .‬هناك فى الظلمة ‪ ,‬رقد أوزير ‪ ,‬الذى أطلق‬

‫عليه لقب "الغريق" ‪ ,‬الذى غمرته المياه ‪ ,‬حيث ال هواء يتنفسه ‪.‬‬

‫يعبر مشهد قرود البابون التى تمسك بشبكة الصيد عن أحد األخطار التى يمكن أن يتعرض لها‬

‫المرتحل فى العالم السفلى و هو أن ال تتمكن ال "با" من االحتفاظ بصورتها البشرية و ال أن تتجسد‬

‫كطائر ‪ ,‬و انما تتخذ صورة سمكة ‪.‬‬

‫و السبب فى وقوع االنسان فى ذلك الخطر هو أن وعى النفس يكون موجها الى عنصر الماء بدال‬

‫من عنصر الهواء ‪.‬‬

‫و هناك أقوال تنسب الى الفيلسوف اليونانى "هيراكليتوس" (هرقليطس) الذى ولد فى مدينة‬

‫"ايفيسوس" اليونانية عام ‪ 515‬قبل الميالد تعكس نفس المفاهيم التى عبر عنها قدماء المصريين فى‬

‫‪- 391 -‬‬


‫كتب العالم اآلخر منها على سبيل المثال العبارات التالية ‪-:‬‬

‫( أن تتحول الروح الى ماء أو تغرق فى الماء فان ذلك هو موت الروح )‬

‫( الروح الجافة ‪ ,‬البعيدة عن الماء هى األكثر حكمة و نضجا )‬

‫فى المشهد السابق تظهر "با" (روح) "نفر وبن اف" فى هيئة بشرية فى موضع منفصل عن قرود‬

‫البابون التى تمسك بشبكة الصيد ‪ ,‬حيث تجلس فى الركن العلوى األيسر من المشهد و أمامها اسمها‬

‫"نفر وبن اف" و يعنى "الشروق الجميل" ‪ .‬ان ظهور المرتحل فى العالم السفلى خارج شبكة الصيد‬

‫و خارج الماء يعنى أن لديه القدرة على الهيمنة على عناصر الطبيعة و خصوصا الماء ‪.‬‬

‫فى المشهد التالى يظهر "ناخت" و قد أفلت من الشبكة الرهيبة ‪.‬‬

‫"ناخت" يفلت من شبكة الصيد‬

‫( من بردية "ناخت" ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫يبدو "ناخت" فى هذا المشهد و كأن لديه مناعة من السقوط فى الشبكة و التأثر بالطاقات السلبية ‪.‬‬

‫فى الفصل رقم ‪ 051‬من كتاب الخروج الى النهار وصفت الشبكة التى تصيد األرواح بأن عرضها‬

‫يصل من السماء الى األرض ‪.‬‬

‫‪- 392 -‬‬


‫و فى نصوص ذلك الفصل نقرأ العبارات التالية على لسان "ناخت" الذى يصيح بجرأة ‪-:‬‬

‫*** أيها الصيادون الذين يجوبون الهاوية المائية السحيقة ‪ ...‬لن تتمكنوا من ايقاعى فى شباككم التى‬

‫توقعون فيها األرواح الخاملة ‪ ...‬لن تتمكنوا من صيدى فى شباككم ‪ ,‬التى توقعون فيها األرواح‬

‫الشاردة الهائمة على وجهها ‪ ...‬لقد نجوت من قبضتكم ‪ ...‬لقد ولدت من جديد فى هيئة "سوبك" ‪...‬‬

‫هاأنذا أحلق فى هيئة طائر بعيدا عنك أيتها األسماك ذات األصابع الخفية ***‬

‫لقد اطلع "ناخت" على أسرار التحوالت الخيميائية‪/‬الباطنية‪/‬الروحانية و عرف كيف يحول نفسه الى‬

‫طائر "با" ‪ .‬و يعتبر ذلك أحد أسباب عدم سقوطه فى شبكة صائدى األرواح ‪.‬‬

‫و هناك سبب آخر ‪ ,‬و هو أنه يعرف اسم كل جزء من أجزاء الشبكة و أنه يبرهن على تلك المعرفة‬

‫بأن يذكر هذه األجزاء من أولها آلخرها ‪.‬‬

‫فكل جزء من أجزاء الشبكة هو عضو من أعضاء جسد أحد ال "نترو" ‪ ,‬على سبيل المثال البكرة‬

‫التى تلتف حولها الحبال هى االصبع الوسطى ل "سوكر" (صقر العالم السفلى) ‪ ,‬و الصمام أو‬

‫الفوهة هو يد ايزيس ‪ ,‬و الحواف هى فخذ "شو" ‪ ,‬الخ ‪.‬‬

‫و فى بعض األحيان يوصف كل جزء من أجزاء الشبكة بأنه سالح أحد ال "نترو" أو شئ ينتمى‬

‫له ‪ .‬و فى الفصل رقم ‪ 051‬من كتاب الخروج الى النهار يكمل "ناخت" حديثه السابق و يصف‬

‫أجزاء شبكة الصيد بالتفصيل و يذكر ما يقابلها فى عالم ال "نترو" ‪-:‬‬

‫*** أيها الصيادون ‪ ...‬لن تتمكنوا من ايقاعى فى شباككم ‪ ...‬لن تتمكنوا من ايقاعى فى الشبكة التى‬

‫تصيدون بها األرواح الخاملة ‪ ,‬المقيدة الى األرض ‪ ...‬ألنى أعرف هذه الشبكة جيدا ‪ ...‬من األجزاء‬

‫التى تطفو فوق سطح المياه الى الثقل الذى يثبت أسفلها ‪ ...‬أنا هنا ‪ ..‬لقت أتيت و فى يدى البكرة‬

‫التى تلتف حولها الحبال ‪ ,‬و الصمام ‪ ..‬لقد أتيت و دخلت اليها و خرجت منها بكل سهولة ‪ ...‬فأنا‬

‫أيضا لدى القدرة على أن أصيد ***‬

‫يؤكد "ناخت" فى النص السابق أن لديه دراية و خبرة بشبكة الصيد و أن بمقدوره أن يبرهن على‬

‫ذلك ‪.‬‬

‫‪- 393 -‬‬


‫ان "ناخت" ال يؤكد فقط على أنه أفلت من المصير المؤلم للروح التى تتحول الى سمكة (أى تسقط‬

‫فى فخ فقدان الذاكرة الروحية) ‪ ,‬بل يؤكد أيضا على معرفته العميقة بشبكة الصيد لدرجة أنه هو‬

‫نفسه قد تحول الى صياد ( أو كما يقول المثل الشعبى ‪ :‬تيجى تصيده يصيدك ) ‪.‬‬

‫لم يكن الماء فى مصر القديمة يرمز فقط لحالة الوعى السلبى (فقدان الوعى الروحى) الذى يعوق‬

‫قدرة الروح على تنفس الهواء االلهى‪/‬المقدس (الماعت) ‪ ,‬و انما هو يرمز أيضا للتطهر ‪.‬‬

‫فكل معبد من معابد مصر القديمة كان يحوى بحيرة مقدسه يغتسل فيها الكهنة قبل بدء الطقوس‬

‫المقدسه ‪.‬‬

‫ارتبطت قدرة الماء على التطهير فى مصر القديمة بعنصر آخر هو النار ‪.‬‬

‫فى كتاب الطريقين الذى يعود لعصر الدولة الوسطى هناك نهر من النار يفصل بين الطريق المائى‬

‫األزرق و الطريق األرضى األسود ‪.‬‬

‫ان أنهار العالم السفلى لم تكن فقط أنهارا من الماء و انما هناك أيضا أنهار من النار ‪.‬‬

‫و باالضافة الى أنهار النار ‪ ,‬هناك أيضا بحيرات من النار فى العالم السفلى ‪.‬‬

‫فى المشهد التالى من كتب الخروج الى النهار (من بردية آنى) نرى أحد أمثلة بحيرة النار التى‬

‫تعتبر من أهم معالم العالم السفلى ‪.‬‬

‫‪- 394 -‬‬


‫بحيرة النار ( من بردية "آنى" ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫تمتلئ البحيرة بنار مشتعلة ‪ ,‬و قد عبر الفنان المصرى القديم عن ذلك بتلوين موجات الماء باللون‬

‫األحمر ‪ ,‬و لم يكتفى بذلك بل وضع الرمز الهيروغليفى للنار فى جوانب البحيرة التى تواجه‬

‫الجهات األصلية األربعة ‪ .‬و فى كل جانب منها يقف أحد قرود البابون ‪.‬‬

‫و السبب فى ظهور قرود البابون حول بحيرة النار يعود الى مشهد تجلى "رع" للوجود أول مرة ‪.‬‬

‫فبحيرة النار ظهرت للوجود لحظة ميالد "رع" ‪ ,‬الذى أشعل تجليه الماء و صيره نارا ‪.‬‬

‫و تقول أساطير هليوبوليس أيضا أن الموضع الذى ولد فيه "رع" فى األزل هو أول أرض ارتفعت‬

‫من المحيط األزلى "نون" ‪.‬‬

‫تظهر هذه األرض األزلية فى الفن المصرى أحيانا فى صورة زهرة لوتس تخرج من مياه األزل أو‬

‫بيضة تطفو فوقها ‪ .‬و يطلق عليها أحيانا جزيرة اللهيب أو جزيرة النار ألنها أشرقت بنور "رع"‬

‫الساطع الذى حول الماء الى نار ‪ ,‬و حول الظلمة الى نور ‪.‬‬

‫كان تجلى "رع" للوجود فى بدء الخليقة مهيبا لدرجة أشعلت ماء الرحم الكونى الذى ولد منه ‪.‬‬

‫لم يكن ميالد "رع" من المحيط األزلى "نون" فى نظر قدماء المصريين حدثا وقع فى زمن ماضى‬

‫‪- 395 -‬‬


‫و انتهى و انما هو حدث يعاد تكراره مجددا فى صورة شروق الشمس كل يوم ‪ ,‬حيث يشتعل األفق‬

‫الشرقى باللون األحمر ‪ ,‬فيشبه الدماء التى تنسكب مع ماء المشيمة لحظة ميالد الطفل ‪.‬‬

‫و ما تقوم به قرود البابون صباح كل يوم حين تحيى الشمس لحظة الشروق هو اعادة تكرار لما قام‬

‫به تحوت فى األزل لحظة ميالد "رع" ‪.‬‬

‫تحيى قرود البابون ميالد "رع" صباح كل يوم كما حياه تحوت فى الزمن األول حين تجلى للوجود‬

‫أول مرة فأضاء نوره ظلمات الكون ‪.‬‬

‫ان مرور الروح على بحيرة النار أثناء ارتحالها فى العالم السفلى يعنى أنها عادت الى تلك اللحظة‬

‫األزلية الهامة فى تاريخ الكون و هى أهم لحظة فى رحلة الروح منذ أن انبثقت من مصدرها الواحد‬

‫الى أن تعود اليه مرة أخرى ‪.‬‬

‫فى الفصل رقم ‪ 07‬من كتاب الخروج الى النهار نقرأ التحذير التالى ‪-:‬‬

‫*** ان من يقدم على عبور بحيرة النار و هو غير طاهر ‪ ,‬فسيسقط فيها على وجهه و تطعنه‬

‫الخناجر من كل اتجاه ***‬

‫اذا كان المرتحل الذى يعبر بحيرة النار يحمل بداخله نوازع نفسية غير نقية لم يتمكن من التخلص‬

‫منها أو تحويلها الى نوازع أسمى فان هذه النوازع تلتصق به مثل بقع داكنه معتمة ال ينفذ منها نور‬

‫"رع" ‪ ,‬و وجود هذه البقع المظلمة داخل النفس عند عبور بحيرة النار يجعل عبور البحيرة تجربة‬

‫مؤلمة جدا أشبه بالتعرض لطعن الخناجر أو تقطيع األوصال ‪.‬‬

‫جاء وصف هذه التجربة فى الساعة الحادية عشر من كتاب األمدوات (وصف ما هو كائن فى العالم‬

‫اآلخر) حيث تقطع رقاب أعداء أوزير و أوصالهم و يحرقون بالنار ‪.‬‬

‫و هنا نذكر ما قالتا القديسه كاترين بمدينة جنوه حين وصفت تجربة الروح فى الجحيم بهذه‬

‫العبارات ‪-:‬‬

‫*** ان نار الجحيم هى فى الحقيقة نور االله حين يراه من ينكره ***‬

‫حين يوجه االنسان وعيه عند عبوره بحيرة النار نحو نور االله و يستسلم له و يدعه يحرقه من‬

‫‪- 396 -‬‬


‫الداخل و يطهره و يتحمل ألم تجربة التطهر ‪ ,‬عند ذلك ستتحول بحيرة النار من تجربة سلبية مؤلمة‬

‫الى وسيلة تساعد الروح على التطهر و االقتراب من الغاية و المنتهى ‪.‬‬

‫لذلك نقرأ فى الفصل رقم ‪ 020‬من كتاب الخروج الى النهار االبتهال التالى ‪-:‬‬

‫*** التحيات لكم أيها البابون األربعة ‪ ,‬التى تقف فى مقدمة قارب "رع" ‪ ...‬التى تعرف حقيقة االله‬

‫‪ ...‬التى أستمد منها ضعفى و قوتى ‪ ...‬و التى ترضى ال "نترو" باللهيب الذى يخرج من أنوفها‬

‫‪ ...‬و التى تقدم القرابين المقدسه لكل من ال "نترو" و ال "آخو" (األرواح النورانية) ‪ ...‬و التى‬

‫تحيا على الماعت و تقتات بها ‪ ...‬و التى ال يحمل قلبها الكذب ‪ ..‬و التى تعرف كيف تميز الحقيقة‬

‫من الخداع ‪ ...‬أبتهل اليكم أن تطهروا قلبى مما علق به من شر ‪ ...‬و أن تذهبوا ما فيه من خداع ‪...‬‬

‫و أن تشفوا ما أصابنى من جراح فى حياتى الدنيا ‪ ...‬و أن تطهرونى من كل ما علق بى من‬

‫شر ***‬

‫الحيوانات المخيفة التى تعترض طريق الروح فى العالم السفلى ‪-:‬‬

‫تعتبر مقابلة قرود البابون التى تحرس بحيرة النار مجرد خطوة أولى فى سلسلة من المواجهات مع‬

‫العديد من الحيوانات ‪ ,‬أو القوى السيكولوجية التى تظهر فى شكل حيوانات و التى تسكن العالم‬

‫السفلى ‪.‬‬

‫فى بعض األحيان ال يمكن تمييز شكل الحيوانات التى تعترض طريق المرتحل فى العالم السفلى‬

‫فهى مخيفة لدرجة أن الطبيعة ال تستطيع أن تمنحها صورة محددة تتجسد فيها ‪ ,‬و مع ذلك فهذه‬

‫الحيوانات المخيفة توجد داخل العقل الباطن لالنسان ‪ ,‬ألن نوازع النفس االنسانية فى بعض األحيان‬

‫قد تكون أشد قبحا و توحشا من الوحوش التى تعيش فى الطبيعة ‪.‬‬

‫أن يواجه االنسان هذه األشكال المخيفة أثناء ترحاله فى العالم السفلى ‪ -‬سواء فى صور حيوانات‬

‫معروفة أو حيوانات مجهولة لالنسان – كان ذلك يعنى أن االنسان يواجه النوازع السلبية التى‬

‫مازالت عالقة بالنفس ‪.‬‬

‫‪- 397 -‬‬


‫أثناء حياة االنسان على األرض تكون هذه النوازع كامنة فى أعماق العقل الباطن بحيث ال يدركها‬

‫الوعى اال فى حاالت التأمل و االشراق ‪.‬‬

‫و عند الموت تتحرر النفس و الروح من الجسد و من سيطرة العقل اليقظ و تنطلق هذه النوازع‬

‫من أعماق العقل الباطن كما تنطلق الوحوش الضارية ‪ ,‬و بعد أن كانت كامنة و بعيدة عن ادراك‬

‫االنسان ‪ ,‬تظهر على مسرح األحداث لتعبر عن وجودها بقوة و تتجسد أمام االنسان فى صورة‬

‫حيوانات متوحشه ‪.‬‬

‫ان رحلة الروح فى العالم السفلى هى رحلة تطهر من أى أفكار أو مشاعر سلبية أو مخاوف‬

‫مرضية كامنة فى العقل الباطن استعدادا لالنتقال الى العالم السماوى ‪ .‬فاالنسان ال يمكنه أن يدخل‬

‫من بوابات العالم األسمى اذا لم يكن قلبه نقيا طاهرا ‪.‬‬

‫أثناء االرتحال فى العالم السفلى على ال "با" أن تحرر نفسها و تتخلص تماما من أى عناصر نفسية‬

‫ال تنسجم مع الماعت (النظام الكونى ‪ /‬االتزان ‪ /‬الحق ‪ /‬الحقيقة) ‪.‬‬

‫جاء وصف عملية تحرير ال "با" و تطهيرها فى كتب العالم اآلخر المصرية ‪ ,‬و هى عملية تنقسم‬

‫الى ثالثة مراحل ‪.‬‬

‫فى المرحلة األولى ‪ :‬تكشف القوى النفسية السلبية عن نفسها و تتجسد أمام ال "با" فى الغالب على‬

‫هيئة وحش مخيف ‪ .‬و المرتحل الذى اكتسب معرفة روحانية فى حياته الدنيا يجتاز هذه المرحلة‬

‫بسالم ‪ ,‬حيث يمكنه بسهولة التعرف على أى نوازع سلبية ما زالت عالقه بنفسه ‪.‬‬

‫فى المرحلة الثانية ‪ :‬يدخل المرتحل فى صراع مع تلك القوى النفسية السلبية التى تتجسد فى صور‬

‫وحوش و تعترض طريقه الى العالم السماوى ‪ .‬يحاول الوحش المخيف أن يسرق قلب المرتحل‬

‫و يسلبه قدراته السحرية أو يقتل روحه (باءه) أى يقطع الخيط الذى يصلها بمنبعها و أصلها فى‬

‫عالم الروح ‪ .‬و فى المقابل ال يسعى المرتحل فى العالم السفلى لقتل الحيوان المخيف الذى يعترض‬

‫طريقه ‪ ,‬و انما يركز كل جهده على أن يخضع ذلك الحيوان و يهيمن عليه ‪.‬‬

‫و قد عبر الفنان المصرى القديم عن ذلك فى كتب العالم اآلخر بمشاهد لوى عنق األعداء ‪ ,‬حيث‬

‫‪- 398 -‬‬


‫تقوم روح المتوفى بلوى عنق الوحش المخيف الذى يعترض طريقها ‪.‬‬

‫و تلك هى المرحلة الثالثه و األخيرة من عملية تحرير ال "با" و تطهيرها من النوازع السلبية ‪.‬‬

‫و باجتياز هذه المرحلة بنجاح يكون المرتحل قد نجح فى تحويل ما علق بنفسه من دوافع و غرائز‬

‫دنيا الى طاقة نفسية تخدم ال "با" و تساعدها فى تحقيق هدفها األساسى و هو العودة الى أصلها فى‬

‫عالم الروح ‪.‬‬

‫ان عملية تحويل نوازع النفس و رغباتها من سلبية الى ايجابية يقدم لنا دليال على أن العالم السفلى‬

‫ليس هو الوجهة النهائية للروح بعد الموت و انما هو عالم ترتحل فيه الروح لتخرج من ظلمة‬

‫المقبرة (الجسد) الى نور النهار (عالم الروح) ‪.‬‬

‫فى المشهد التالى من كتاب الخروج الى النهار تظهر ثالثة تماسيح تعترض طريق المرتحل فى‬

‫العالم السفلى ‪ ,‬و تهدده بأنها ستسلبه قدراته السحرية ‪ ,‬و تهلك روحه (تقطع الخيط الذى يصلها‬

‫بأصلها) ‪.‬‬

‫نوازع النفس السفلية على هيئة ثالثة تماسيح تعترض طريق المرتحل فى العالم السفلى‬

‫( من بردية "ناخت" ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫‪- 399 -‬‬


‫كيف لنا أن نفهم مشهد التماسيح الثالثة التى تعترض طريق المرتحل فى العالم السفلى ؟‬

‫من أهم صفات التماسيح قدرتها على أن تظل كامنه فى أعماق النهر لفترات طويلة قبل أن تنقض‬

‫على فريستها بسرعة خاطفة ‪ ,‬بحيث ال تعى الضحية وجودها و ال تتوقع الهجوم ‪.‬‬

‫قد يعتقد االنسان أنه بمأمن من أى خطر و ال يعى وجود تلك النوازع السلبية ألنها كامنة فى أعماق‬

‫العقل الباطن (نهر الوعى) ‪.‬‬

‫للتمساح القدرة على أن يخفى نفسه عن مرأى ضحاياه ‪ ,‬كما لنوازع النفس القدرة على أن تخفى‬

‫نفسها فى أعماق العقل الباطن بحيث ال يعى االنسان وجودها فى حالة اليقظة ‪ ,‬و هنا مكمن الخطر‪.‬‬

‫تكمن خطورة التمساح و قوته فى قدرته على اخفاء نفسه عن األعين و االنقضاض على ضحيته فى‬

‫طرفة عين بحيث ال تستطيع الفرار من بين فكيه ‪.‬‬

‫لذلك كان التمساح من أكثر الحيوانات التى استخدمها الفنان المصرى القديم فى رحلة العالم السفلى‬

‫للتعبير عن الرغبات و األفكار السلبية و المخاوف الكامنة فى العقل الباطن ‪.‬‬

‫عند االرتحال فى العالم السفلى يواجه االنسان تماسيح عقله الباطن التى تتربص به و تتحين‬

‫الفرصة لتنقض عليه و تسلبه قدراته الروحانية (سحره) ‪.‬‬

‫و على الروح أن تواجه تلك النوازع النفسية و تنزل الى أعماق العقل الباطن و تواجه كل تلك‬

‫المخاوف و الرغبات الدنيا و تهيمن عليها و تخضعها ألهداف الروح ‪.‬‬

‫تسعى تماسيح العالم السفلى لتجريد ال "با" من طاقة السحر (حكا) ‪ ,‬و التى تعتبر أهم مؤهالت‬

‫الروح التى تمكنها من بلوغ غايتها و هى العودة الى عالم الروح ‪.‬‬

‫و لذلك على المرتحل أن يتزود بسكين ‪ ,‬و يمسك بها و يصرخ فى هذه التماسيح بقوة كما صرخ‬

‫"ناخت" فى كتاب الخروج الى النهار (فصل رقم ‪ )10‬قائال ‪-:‬‬

‫*** تراجع أيها التمساح ‪ ,‬و ابتعد من طريقى ‪ ...‬أبتعد أيها العدو ‪ ...‬لن تستطيع أن تهزمنى ‪...‬‬

‫ألن سحرى حى بداخلى ‪ ...‬ابتعد من طريقى و اال ذكرت اسمك أمام االله العظيم الذى سمح لك‬

‫‪- 400 -‬‬


‫بالظهور ***‬

‫و على المرتحل بعد ذلك أن يبرهن على معرفته بأسماء التماسيح الثالثه ‪ ,‬و بذلك يجلب نور الوعى‬

‫للمناطق المظلمة من نفسه ‪.‬‬

‫ان رؤية الدوافع و الغرائز و المخاوف الكامنة فى أعماق العقل الباطن رؤية واعية يعنى امتالك‬

‫المرتحل لوعى الهى‪/‬كونى (وعى رع) ‪ ,‬و ذلك ما يعنيه "ناخت" حين يهدد التماسيح بأن يذكر‬

‫اسمها أمام االله العظيم ‪ .‬فرؤية هذه النوازع بوعى االله يجعلها تفقد قوتها ‪.‬‬

‫ال يستطيع التمساح و هو كائن يحيا فى الظالم تحت الماء (فى أعماق العقل الباطن) أن يتحمل نور‬

‫"رع" (الوعى األسمى) ‪.‬‬

‫أما السكين التى يمسك بها "ناخت" فى يده ‪ ,‬فربما كانت رمزا لقدرته على تمييز طبيعة العدو الذى‬

‫يواجهه و على معرفة اسمه ‪.‬‬

‫السكين هى رمز القدرة على التمييز و على الرؤية الواضحة (البصيرة) التى ال يحجبها خوف أو‬

‫رغبة ‪ .‬السكين هى رمز الرؤية الثاقبة التى تشحذها الماعت ‪.‬‬

‫تقول التماسيح عند رؤيتها ل "ناخت" ( لقد وليت وجهك شطر الماعت ) ‪.‬‬

‫و يجيبها "ناخت" بنص سحرى أو رقية تمكنه من ترويضها و تجريدها من قوتها ‪ ,‬بعد أن كانت‬

‫تسعى هى لتجريده من قوته السحرية ‪.‬‬

‫و أثناء ترتيله للرقية يتضاءل أعداؤه أمامه ‪ ,‬بينما يكبر حجمه بالنسبة لهم بشكل كبير ‪.‬‬

‫يقول المرتحل "ناخت" فى كتاب الخروج الى النهار (فصل رقم ‪-: )10‬‬

‫*** كما تمتلئ السماء بالنجوم ‪ ...‬و كما يحيط "حكا" (السحر الكونى‪/‬األزلى) بكل شئ ‪ ...‬كذلك‬

‫يمتلئ فمى بالسحر (حكا) ‪ ...‬ان أسنانى حادة كسكاكين من حجر الصوان ‪ ...‬و أنيابى مليئة بالسم‬

‫كأنياب الحية ‪ ...‬أيتها التماسيح التى تريد أن تبتلع سحرى ‪ ...‬لن تستطيعوا ذلك ‪ ...‬لن يستطيع أى‬

‫تمساح يحيا على امتصاص طاقة السحر أن يسلبنى سحرى ***‬

‫فى الشكل التالى يظهر المرتحل فى العالم السفلى و هو يواجه تماسيحه (نوازع النفس) و يجبرها‬

‫‪- 401 -‬‬


‫على أن تنظر فى الناحية األخرى ‪ ,‬و هى شئ يستحيل على التمساح أن يقوم به فى الواقع ‪ ,‬ألن‬

‫تكوين عاموده الفقرى ال يسمح له بذلك ‪.‬‬

‫أما فى البرديات المصرية التى تتناول رحلة الروح فى العالم السفلى فان ذلك ممكن على المستوى‬

‫النفسى ‪.‬‬

‫لوى عنق أربعة تماسيح أتت من أركان الكون األربعة لتعترض طريق المرتحل فى العالم السفلى‬

‫( من احدى البرديات التى تعود لعصر األسرة ‪ , 28‬العصر الصاوى )‬

‫فى المشهد السابق تخرج التماسيح من الجهات األربعة و لكى يتغلب عليها المرتحل فى العالم‬

‫السفلى عليه أن يتقمص شخصية أحد ال "نترو" (الكيانات االلهية) عند مواجهة كل تمساح من‬

‫التماسيح األربعة ‪.‬‬

‫فعند مواجهة التمساح اآلتى من جهة الغرب يتقمص المرتحل شخصية "ست" و هو الكيان االلهى‬

‫الذى يهيمن على التماسيح و لذلك كان التمساح من رموز "ست" ‪.‬‬

‫و فى جهة الشرق يتقمص المرتحل شخصية أوزير ‪ ,‬و هو الكيان االلهى الذى انتصر على الموت ‪.‬‬

‫و فى جهة الجنوب يتقمص المرتحل شخصية النجمة "سوبدت" (زيريوس‪/‬الشعرى) التى تلقب ب‬

‫"ذات األسنان الحادة" ‪.‬‬

‫و فى جهة الشمال يتقمص المرتحل شخصية آتوم و هو ينبوع الخلق الذى ال ينضب ‪.‬‬

‫و من أجمل النصوص التى تناولت مواجهة التماسيح فى العالم السفلى النص التالى الذى يختتم به‬

‫‪- 402 -‬‬


‫الفصل رقم ‪ 12‬من كتاب الخروح الى النهار و الذى يحمل عنوان (فصل ضرب التماسيح ) ‪-:‬‬

‫*** لقد أمسكت بالسحر فى قبضة يدى ‪ ...‬و استقر فى بطنى ‪ ...‬لقد ارتديت سحرك يا "رع"‬

‫و تزودت به ‪ ...‬لقد أشرق وجهى بنورك ‪ ...‬و تربع جاللك على عرش قلبى ‪ ...‬و صارت حية ال‬

‫"وادجت" التى تحميك معى يوما بيوم ‪ ...‬أنا "رع" الذى يحمى نفسه بنفسه ‪ ,‬ال شئ يمكنه أن‬

‫ينتصر على ***‬

‫باالضافة الى التماسيح ‪ ,‬قد يعترض طريق المرتحل النجمى خنازير برية ‪.‬‬

‫المشهد التالى يصور "ناخت" فى مواجهة أخرى أثناء رحلته النجمية ‪ ,‬و هو يظهر هنا ممسكا‬

‫برمح طويل يصوبه نحو الخنزير البرى و يجبره على النظر فى االتجاه اآلخر ‪.‬‬

‫فى المشهد السابق كان المرتحل يمسك بحربة ‪ ,‬و هى السالح الذى يستخدمه حورس فى صراعه‬

‫مع ست ‪.‬‬

‫جاء فى الفصل رقم ‪ 02‬من كتاب الخروج الى النهار أن ست قام بمهاجمة حورس و هو فى هيئة‬

‫خنزير أسود ‪ ,‬و أصاب حورس فى عينه ‪ ,‬أى سلبه قدرته على الرؤية ‪.‬‬

‫فى المشهد التالى ال يقوم "ناخت" بقتل الخنزير و انما يفقده قدرته على الهجوم من خالل مهارته‬

‫فى استخدام الحربة ‪.‬‬

‫‪- 403 -‬‬


‫لوى عنق خنزير برى اعترض طريق المرتحل فى العالم السفلى‬

‫( من بردية "ناخت" ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫و من األشياء التى تلفت االنتباه فى المشهد أيضا أن "ناخت" قام بتقييد الثعبان الذى اعترض طريقه‬

‫و ربطه بحبل ‪.‬‬

‫اذا لم يستطيع المرتحل أن يلوى عنق األعداء و يجعلها تنظر فى االتجاه اآلخر ‪ ,‬فان تقييدها‬

‫بالحبال يؤدى الى نفس النتيجة ‪ ,‬و هى السيطرة على هذه القوى المعادية التى تعترض طريق ال‬

‫"با "‪.‬‬

‫و عند التعامل مع الثعابين ‪ ,‬هناك طريقة أخرى لتجريدها من قوتها ثم تقييدها ‪.‬‬

‫فى المشهد التالى يقوم "آنى" بمهاجمة الثعبان بعصا مشقوقة ‪ ,‬حيث يضع "آنى" الجزء المشقوق‬

‫حول رأس الثعبان و بذلك يفقده القدرة على الحركة ‪ ,‬بينما يطأ ذيل الثعبان بقدمه ‪.‬‬

‫‪- 404 -‬‬


‫السيطرة على ثعبان اعترض طريق المرتحل فى العالم السفلى‬

‫( من بردية "آنى" ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫و المشهد هو جزء من الفصل العاشر من كتاب الخروج الى النهار ‪ .‬أما النص الذى يتوافق مع‬

‫فحوى المشهد ‪ ,‬فقد ذكر فى الفصل رقم ‪ 19‬و الذى يحمل عنوان ( فصل درأ خطر الثعبان‬

‫"ريريك" ) ‪ ,‬و هو صورة من ثعبان أبوفيس ‪ ,‬غريم "رع" و عدوه اللدود ‪.‬‬

‫أما المرحلة التالية من عملية لوى عنق الثعبان و توجيه رأسه الى الناحية األخرى فنجدها فى‬

‫برديات أخرى من كتاب الخروج الى النهار ‪.‬‬

‫فى المشهد التالى من بردية "نفر وبن اف" يظهر المرتحل و قد نجح فى تحويل رأس الثعبان الى‬

‫االتجاه اآلخر ‪ ,‬و هو االتجاه الذى أتى منه الثعبان ‪.‬‬

‫‪- 405 -‬‬


‫لوى عنق ثعبان اعترض طريق المرتحل فى العالم السفلى‬

‫( من بردية "نفر وبن اف" ‪ ,‬دولة حديثه )‬

‫بعبارة أخرى ‪ ,‬لقد نجح "نفر وبن اف" فى أن يحول تلك القوى النفسية من قوى معادية تقف فى‬

‫مواجهته الى قوى تسير فى نفس االتجاه الذى تسير فيه ال "با" و بذلك تخدم أهداف الروح بدال من‬

‫أن تعرقلها ‪.‬‬

‫أما النص المصاحب للمشهد فيقول على لسان المرتحل فى العالم السفلى "نفر وبن اف" ‪-:‬‬

‫*** تراجع أيها الثعبان ‪ ,‬و ازحف بعيدا ‪ ...‬ابتعد عن طريقى أيها الثعبان ‪ ...‬اذهب و اغرق فى‬

‫مياه األزل "نون" ‪ ,‬فى المكان الذى قدر أبوك (آتوم ‪ -‬رع) أن تذبح فيه ‪ ...‬ارحل عن المكان‬

‫المقدس الذى ولد فيه "رع" ‪ ...‬و ارتجف من الخوف ‪ ...‬ألنى أنا "رع" الذى تخشاه قوى الفوضى‬

‫و الظالم ‪ ...‬تراجع أيها العدو ‪ ,‬قبل أن تصيبك سهام نور "رع" ‪ ...‬لقد بدد "رع" كلماتك (قوتك)‬

‫‪ ...‬و قامت ال "نترو" بلوى عنقك للجهة األخرى ‪ ...‬و الربة "مافدت" مزقت صدرك ‪ /‬قلبك ‪...‬‬

‫و قيدتك الربة العقرب "سلكيت" باألغالل ‪ ...‬و أجهزت عليك ماعت ***‬

‫و يستمر النص الذى يتقمص فيه المرتحل شخصية "رع" ‪ ,‬و يتقمص فيه الثعبان شخصية أبوفيس ‪,‬‬

‫و بذلك يتحول المشهد من تجربة فردية لشخص يدعى "نفر وبن اف" الى نسخة مكررة من حدث‬

‫أزلى يقع فى الزمن األول ‪ ,‬و هو الصراع بين "رع" و "أبوفيس" كما ذكر فى كتاب ال "أمدوات"‬

‫‪- 406 -‬‬


‫(وصف ما هو كائن فى العالم اآلخر) و الذى ذكرناه عند حديثنا عن معركة قادش و سحر الدولة ‪.‬‬

‫يخبرنا كتاب ال "أمدوات" أن ثعبان أبوفيس يحاول منع "رع" من استكمال رحلته فى العالم السفلى‬

‫و الخروج الى النهار بأن يهاجم قاربه بشكل دورى يتكرر كل ليلة ‪ ,‬و لكن قوى النظام التى تحمى‬

‫قارب "رع" تتصدى له ‪ .‬حيث يتم تقييده أوال بالحبال ‪ ,‬ثم يطعن بالخناجر فى مواضع معينة من‬

‫جسده تفقده قدراته ‪ ,‬ثم يلوى عنقه و يدار وجهه فى االتجاه اآلخر ‪ ,‬أى فى االتجاه الذى يرتحل‬

‫اليه "رع" ‪.‬‬

‫و فى الساعة الثانية عشر و األخيرة من كتاب ال "أمدوات" ينتصر "رع" و يخترق موكبه جسد‬

‫أبوفيس ‪ ,‬حيث يتم سحب قاربه بالحبال الى أن يصل الى ذيل ثعبان أبوفيس حيث يولد من جديد‬

‫من فم الثعبان ‪ ,‬و بذلك يتم وصل ذيل الثعبان بفمه ‪ ,‬أى وصل النهاية بالبداية ‪ ,‬حيث يولد الجديد‬

‫من رحم القديم ‪.‬‬

‫ان المشاهد الذى وردت فى كتاب الخروج الى النهار و التى تصف كيفية الهيمنة على طاقة الثعبان‬

‫و لوى عنقه و تحويل اتجاهه الى اتجاه آخر يجب أن تفهم فى سياق رحلة "رع" فى العالم اآلخر‬

‫و ميالده من جديد ‪ .‬و قد أشار لها كتاب الخروج الى النهار فى أحد نصوص الفصل رقم ‪. 19‬‬

‫فميالد "رع" من جديد هو الصورة األولية أو النموذج االلهى الذى تحاكيه رحلة الروح فى العالم‬

‫السفلى و التى بانتقالها الى مستوى أسمى من الوعى تتحول من "با" أى مجرد روح متجسده الى‬

‫"آخ" أى روح نورانية حازت االشراق وصارت موصولة بالنور االلهى ‪ ,‬أو بعبارة أخرى صارت‬

‫من أقطاب النور فى الكون ‪.‬‬

‫ينتهى الفصل رقم ‪ 19‬من كتاب الخروج الى النهار بال "نترو" و هم يتدخلون جميعا لمساعدة‬

‫المرتحل فى العالم السفلى و تقديم المدد له بكلمات تشع طاقة ايجابية تبث فى نفسه الشجاعة‬

‫و العزيمة ‪.‬‬

‫المشهد التالى يقدم لنا صورة أخرى من صور مواجهة األعداء فى العالم السفلى ‪ ,‬حيث يظهر‬

‫العدو هنا فى صورة شبح مخيف ‪ ,‬نصف حيوان ‪ ,‬نصف انسان ‪ ,‬يقف ملوحا بسكين فى يده أمام‬

‫‪- 407 -‬‬


‫المرتحل فى العالم السفلى الذى يجلس على األرض واضعا قلبه فوق صدره و ممسكا به فى يده‬
‫اليسرى ‪.‬‬

‫أحد الكائنات المخيفة التى تعترض طريق الروح فى العالم السفلى و يطلق عليه "الذى يذبح‬

‫القلوب" ( من بردية "نفر وبن اف" ‪ ,‬دولة حديثه )‬

‫فى مصر القديمة كان القلب هو العضو الذى يعبر عن هوية االنسان الروحية ‪.‬‬

‫القلب فى األصل نقى ‪ ,‬طاهر ‪ ,‬يحيا فى الماعت ‪.‬‬

‫يتناقض نقاء قلب الشخص الجالس ممسكا بقلبه ‪ ,‬مع الشكل القبيح المرعب للحيوان الذى يقف أمامه‬

‫و الذى يمثل أحط الغرائز االنسانية الكامنة فى العقل الباطن ‪.‬‬

‫ترمز مثل هذه الوحوش المخيفة فى سياق رحلة الروح فى العالم السفلى للغرائز و الدوافع الحيوانية‬

‫الدنيئة التى يمكنها أن تسرق قلب االنسان أو تجرحه أو تقتله ‪.‬‬

‫و حورس هو الكيان االلهى الذى يمكنه أن يحمى المرتحل فى العالم السفلى من ذلك النوع من‬

‫الهجوم النفسى ‪ .‬و مواجهة العدو هنا ال تكون بقتله ‪ ,‬و انما بتجريده من قوته ‪ ,‬و االستيالء عليها ‪.‬‬

‫فى الفصل رقم ‪ 29‬من كتاب الخروج الى النهار يقول المرتحل أنه "هو الذى يذبح القلوب" ‪ ,‬أى أن‬

‫‪- 408 -‬‬


‫المرتحل قد جرد العدو من صفاته و استولى عليها ( أو كما يقول المثل الشعبى ‪ :‬تيجى تصيده‬

‫يصيدك ) ‪.‬‬

‫يقول النص على لسان المرتحل فى العالم السفلى ‪-:‬‬

‫*** ان قلبى معى ‪ ,‬و لن تستطيع أى قوة أن تسلبنى اياه ‪ ...‬انا رب القلوب ‪ ...‬بل أنا الذى يذبح‬

‫القلوب ‪ ...‬أنا أقتات بالماعت ‪ ,‬و أحيا بالحقيقة‪/‬الحق ‪...‬أنا حورس الذى يسكن القلب ‪ ...‬أنا حورس‬

‫الذى يسكن فى مركز الجسد ‪ ...‬أنا أحيا دائما بقول ما يجيش فى قلبى (كما يقول المثل الشعبى ‪:‬‬

‫اللى فى قلبى ‪ ,‬على لسانى ) ‪ ...‬و لن تستطيع أى قوة أن تسلبنى قلبى ‪ ...‬ان قلبى ملكى ‪ ,‬و لن‬

‫ينجرح ‪ ,‬و لن يخضعه الخوف ‪ ...‬أنا لم أرتكب أى خطأ فى حق ال "نترو" (الكيانات االلهية)‬

‫‪ ...‬لن أعانى من الهزيمة ‪ ,‬و لسوف أنتصر ***‬

‫هناك العديد من النصوص السحرية و الرقى فى كتاب الخروح الى النهار لحماية القلب ‪.‬‬

‫ان حماية القلب من القوى النفسية المعادية التى تأتى من مستوى الغرائز الدنيا ليس شيئا بسيطا كما‬

‫يعتقد البعض ‪.‬‬

‫و ألن طبيعة القلب األصلية هى النقاء و الطهارة ‪ ,‬لذلك من الممكن أن يقف قلب االنسان ضده عند‬

‫وزن القلب يوم الحساب ‪.‬‬

‫ان مصير الروح فى العالم اآلخر يتوقف على عالقة االنسان بقلبه و مدى احتفاظه بنقائه األصلى‬

‫و حمايته من دنس الغرائز و األفكار و الرغبات الدنيئة ‪.‬‬

‫يتوقف مصير الروح على نجاح االنسان فى تحويل وعيه بذاته ليصبح مركزه القلب ‪.‬‬

‫و اذا لم ينجح فى ذلك فقد يتعرض لموقف عصيب ‪ ,‬اذ يقوم القلب بانكار صاحبه فى قاعة الماعت‬

‫يوم الحساب و يعتبره شخصا غريبا عنه ‪.‬‬

‫و لذلك فان رحلة الروح فى العالم السفلى هى فى الحقيقة رحلة الى القلب ‪.‬‬

‫فى المشهد التالى يظهر أنوبيس و هو يقدم قلب المرتحل النجمى "نب ‪ -‬سنى" الى بائه ‪.‬‬

‫و هنا تجدر االشارة الى أن أنوبيس هو مرشد األرواح فى العالم السفلى ‪ ,‬و دوره األساسى فى‬

‫‪- 409 -‬‬


‫رحلة الروح هو أن يساعدها على أن تكون موصولة بقلبها ‪.‬‬

‫أنوبيس يعيد قلب "نب ‪ -‬سنى" اليه‬

‫( من بردية "نب ‪ -‬سنى" ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫فى النص المصاحب لهذا المشهد ‪ ,‬يبتهل "نب ‪ -‬سنى" عسى أن يتحد بقلبه فى "بيت القلوب" ‪ ,‬أى‬

‫فى قاعة الماعت ‪.‬‬

‫و يعقب ذلك ذكر "بحيرة األزهار" و ربما كانت هى بحيرة اللوتس التى ولد منها "رع" فى األزل ‪.‬‬

‫يقول كتاب الخروج الى النهار (فصل رقم ‪-: )20‬‬

‫*** كن معى يا قلبى فى بيت القلوب ‪ ...‬كن معى يا قلبى ‪ ,‬و ابقى معى ‪ ,‬و اال سأحرم من تناول‬

‫قرابين الكعك المقدم ألوزير على الجانب الشرقى لبحيرة األزهار ‪ ...‬ان قلبى هو ذاتى ‪ ...‬قلبى‬

‫مفعم بالقوة ‪ ...‬و سواعدى مفعمة بالقوة ‪ ...‬و أقدامى مفعمة بالقوة ‪ ...‬لدى القدرة على أن أقوم‬

‫بتفعيل ارادتى ‪ ...‬ان بائى (روحى) ليست مقيدة بأغالل الجسد أمام بوابات "أمنتت" (العالم السفلى)‬

‫‪ ...‬سأدخل العالم السفلى فى سالم ‪ ,‬و سأخرج منه فى سالم الى النهار ***‬

‫‪- 410 -‬‬


‫بوابات العالم السفلى ‪-:‬‬

‫تعكس مشاهد رحلة الروح فى العالم السفلى التى تناولناها فى الفقرات السابقة طبيعة ذلك العالم‬

‫و التى تشبه الطبيعة على األرض ‪ ,‬كما فى حقول االيارو على سبيل المثال ‪.‬‬

‫و تبدو األحداث التى تصاحب مواجهة العقبات سواء فى صورة عناصر الطبيعة (كالماء و النار)‬

‫أو فى صورة وحوش و كائنات مخيفة و كأنها تقع فى بيئة جغرافية شبيهة بأرض مصر ‪.‬‬

‫و لكن هناك نوع آخر من الصور ارتبط بالعالم السفلى و هو نوع ال ينتمى لعالم الطبيعة و انما لعالم‬

‫الفضاء الداخلى الذى عبر عنه قدماء المصريين بالهندسة المعمارية للمعابد فى صورة صروح‬

‫و بوابات و قاعات و أفنية ‪.‬‬

‫و كما يقع محراب االنسان و قدس أقداسه (حيث عرش االله) فى قلبه ‪ ,‬كذلك كان قدس األقداس‬

‫هو قلب المعبد ‪ ,‬حيث يسكن االله ‪.‬‬

‫لكى يصل االنسان الى قلب المعبد و هو أقدس بقعة فيه ‪ ,‬عليه أن يمر أوال بسلسلة من الحواجز‬

‫أولها األسوار الخارجية ‪ ,‬ثم الصروح ‪ ,‬و هم فى الحقيقة عبارة عن صرحين بينهما باب ضيق ‪.‬‬

‫و طوال تاريخ مصر القديمة كان عامة الشعب يدخلون الى الفناء المفتوح‪/‬الخارجى من المعبد‬

‫و لكنهم ال يتخطون ذلك الى صالة األعمدة المغطاة التى تقع فيما وراء الصرحين ‪.‬‬

‫و عند االقتراب من أى معبد مصرى و ليكن معبد األقصر على سبيل المثال ‪ ,‬ينتاب المرء شعور‬

‫بالتواضع و الضآلة لحظة مروره من بين الصروح التى ترتفع كاألبراج العالية ‪.‬‬

‫عند االقتراب من المعبد ‪ ,‬فاننا نقترب من بيت االله على األرض و الصرحين هما رمز الحواجز‬

‫التى تفصل بين الوعى المادى الذى ينجذب تجاه الحياة الدنيا و بين الوعى األسمى الذى ينجذب‬

‫تجاه المقدس ‪ /‬االلهى ‪.‬‬

‫يقول الكاتب "جوتفريد ريشتر" (‪ )Gottfried Richter‬فى كتابه "الفن و الوعى االنسانى"‬

‫(‪-: )Art and Human Cinciousness‬‬

‫‪- 411 -‬‬


‫*** ما أعظم الرهبة و الخشوع الذى ينتاب الناس عند اقترابهم من المعبد ‪ .‬فعند اقتراب االنسان من‬

‫المعبد عليه أوال أن يعبر أسوارا هائلة ‪ ,‬ثم يمر من بين الصرحين من فناء واسع مهيب الى فناء‬

‫آخر ‪ ,‬قد يحوى خطرا رهيبا خفيا ***‬

‫بعد المرور من الصرح الخارجى نجد أنفسنا فى فناء واسع مفتوح ‪ ,‬وراءه مزيد من الصروح‬

‫الداخلية األصغر حجما و كل منها له بوابة من خشب األرز تغلق فى أوقات معينة و ال يجتازها اال‬

‫الكهنة حسب درجاتهم الكهنوتية ‪.‬‬

‫و بعد الصروح و األفنية هناك المزيد من األفنية و صاالت العمدة و الردهات و المقاصير ‪ ,‬كل‬

‫منها يغلق بباب من خشب األرز المطعم بالمعادن و منها البرونز ‪.‬‬

‫معبد األقصر‬

‫ان عتبات المعابد فى مصر القديمة ال يمكن اجتيازها بدون وعى ‪.‬‬

‫فالرحلة من األسوار الخارجية للمعبد الى قدس األقداس هى رحلة الروح التى يرتقى فيها الوعى‬

‫‪- 412 -‬‬


‫الى درجة تجعل االنسان يدرك أنه كلما اتجه نحو القلب (قدس األقداس)‪ ,‬كلما شعر أنه ال ينتمى الى‬

‫المكان (المعبد) بجسده المادى الزائل و انما بروحه ‪.‬‬

‫ال يدخل المرء قدس األقداس (حيث عرش االله) بجسده و انما بذلك الجزء االلهى من كيانه ‪,‬‬

‫و هو الروح ‪.‬‬

‫ال يمكن ألحد أن يتخطى العتبة األخيرة فى المعبد و هى عتبة قدس األقداس سوى الكاهن األكبر‬

‫(أو الملك) ‪.‬‬

‫فقط من حازت روحه االشراق و ولد من جديد والدة روحانية هو من يستطيع أن يدخل قلب المعبد‬

‫حيث عرش االله و يلقاه وجها لوجه ‪.‬‬

‫فى مصر القديمة كان الدخول الى المعبد مسموح فقط للكهنة الذين يدخلون عادة فى مواكب مقسمة‬

‫الى مجموعات منها من يحمل الشعارت المقدسه و الرايات ‪ ,‬و منها من يحمل المباخر ‪ ,‬و منها من‬

‫يعزف الصالصل و منها من ينشد االبتهاالت ‪.‬‬

‫و كان اجتياز كل عتبة من عتبات المعبد حدثا طقسيا يتضمن فتح مغاليق األبواب (بواسطة الكاهن‬

‫األكبر) و كسر أختامها قبل أن تفتح على مصراعيها أمام الكوكبة المتجه الى "القلب ‪ /‬قدس‬

‫األقداس" ‪.‬‬

‫‪- 413 -‬‬


‫معبد حورس بمدينة ادفو‬

‫و الفرق بين رحلة الكهنة من أسوار المعبد الى قدس األقداس و بين رحلة الروح فى العالم السفلى ‪,‬‬

‫أن الرحلة داخل المعبد تكون دائما فى مواكب و تجمعات ‪ ,‬أما رحلة الروح فى العالم السفلى فيقوم‬

‫بها االنسان وحده ‪ ,‬حيث ال رفيق و ال صحبه تقدم يد العون و المساندة ‪ ,‬و حيث ال بخور و ال‬

‫موسيقى و ال موكب ‪.‬‬

‫فى العالم السفلى يجد االنسان نفسه وحيدا داخل عالمه النفسى ‪ ,‬و عليه أن يرتحل فى ذلك العالم الى‬

‫أن يصل الى أعماق النفس و جذورها ‪.‬‬

‫فى العالم السفلى يجد االنسان نفسه وحيدا وسط معبد أوزير ‪ ,‬و ياله من موقف رهيب !‬

‫ان وجود بوابات فى الطريق الى قدس األقداس حيث عرش القلب يعنى ضمنيا أن هناك عقبة ما‬

‫تمنع الروح من االنتقال من فناء (عالم) الى فناء آخر أسمى (عالم أسمى) و أكثر قداسه يقع على‬

‫الجانب اآلخر من البوابة ‪ ,‬و السبب فى قداسة ذلك الفناء اآلخر هو أنه األقرب الى قدس األقداس ‪,‬‬

‫حيث عرش القلب ‪.‬‬

‫‪- 414 -‬‬


‫و البوابة ليست هى العقبة الوحيدة التى تعترض طريق الروح ‪ ,‬و انما هناك أيضا الحائط الذى‬

‫تقف وسطه البوابة ‪ .‬فى الحقيقة ان البوابة ليست هى العقبة ‪ ,‬و انما هى طريق يخترق العقبة ‪.‬‬

‫و السؤال الذى يشغل بال االنسان عند وصوله الى البوابة هو ( كيف يمكن فتح البوابة لكى أعبر‬

‫منها ؟ ) ‪.‬‬

‫ان أبواب األماكن المقدسه (سواء بوابات المعابد أو بوابات العوالم الماورائية) ال تفتح بمجرد‬

‫تحريك مقبض الباب كما نفعل عند فتح األبواب الدنيوية ‪.‬‬

‫فلكل بوابة من بوابات العوالم الباطنية روح تحرسها و فى بعض األحيان يكون الباب هو نفسه‬

‫الروح الحارسه ‪ ,‬أى أن الروح تسكن البوابة نفسها ‪.‬‬

‫و على من يرغب فى التقدم فى رحلته الباطنية نحو عرش القلب أن يخاطب حراس البوابات‬

‫و يطلب منهم السماح بالعبور ‪.‬‬

‫يعتبر الباب المغلق عقبة ال تقل صعوبتها عن الوحوش المخيفة التى تعترض طريق الروح ‪.‬‬

‫عند قيام وحش مخيف باعتراض الطريق ال تستطيع الروح التقدم و استكمال رحلتها اال بعد أن‬

‫تتمكن من السيطرة على ذلك الوحش و لوى عنقه الى االتجاه الذى تسير فيه الروح ‪ ,‬أى تحويل‬

‫طاقته من طاقة عدائية الى طاقة داعمة للروح ‪.‬‬

‫و فى كال الحالتين يعتبر الحاجز أو الوحش المخيف رمزا لنوازع النفس الدنيا (األنا السفلية) التى‬

‫تخرج االنسان من الماعت ( االتزان‪ /‬التناغم‪ /‬النظام الكونى) و بالتالى تبعده عن العالم "االلهى ‪/‬‬

‫السماوى" ‪.‬‬

‫و لكن يظل هناك فارق جوهرى بين العقبتين ‪.‬‬

‫حين يواجه االنسان تمساح أو خنزير برى فان ذلك يعنى أنه ال يتواجد فى موضع مقدس بعينه ‪,‬‬

‫و انما هو يتواجد فى مكان ما بال "دوات" ‪ ,‬فى طريقه لعبور حقول االيارو ‪.‬‬

‫أما حين يواجه االنسان بابا مغلقا فهو داخل بيت االله ‪ ,‬و عند ذلك يكون التركيز على الحدث‬

‫الوشيك و هو أعظم لحظة فى حياة الروح ‪ ,‬لحظة لقاء االله ‪.‬‬

‫‪- 415 -‬‬


‫و المشهد التالى من بردية "آنى" و هو يصور أول بوابة صرح من سلسلة من عشرة صروح يجب‬

‫على "آنى" اجتيازها فى طريقه للخروج الى النهار ‪.‬‬

‫احدى بوابات العالم السفلى و أمامها البواب‬

‫( من بردية "آنى" ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫و هنا نالحظ أن البوابة تسكنها روح تحميها و تحرسها ‪ ,‬و هى عبارة عن ربة ‪.‬‬

‫و لكن المشهد ال يصور الربة و انما يصور البواب ‪.‬‬

‫يصف لنا الفصل رقم ‪ 040‬من كتاب الخروج الى النهار كيف يقترب "آنى" من البواب و يصيح‬

‫قائال ‪-:‬‬

‫*** افتح لى البوابة أيها البواب ‪ ,‬ألنى أعرفك ‪ ,‬و أعرف اسمك ‪ ...‬و أعرف اسم الربة التى‬

‫‪- 416 -‬‬


‫تحرسك ‪ ...‬ربة الرعب ‪ ,‬ذات األسوار المرتفعة ‪ ...‬السيدة العظيمة ‪ ,‬ربة الهالك ‪ ...‬التى تزيح‬

‫كلماتها قوى الهدم و الدمار ‪ ,‬و التى تنقذ المسافر البعيد ‪ ...‬أما أنت أيها البواب فاسمك هو‬

‫"المروع" ***‬

‫و بعد أن قدم البرهان على اطالعه على اسم الروح أو الربة التى تسكن البوابة و اسم البواب ‪,‬‬

‫يبرهن "آنى" على معرفته بما سيحدث بعد اجتياز البوابة ‪.‬‬

‫و يبدو أنه حدث مفزع ‪ .‬ألنه سيقف وجها لوجه أمام ربة الرعب أو ربة الهالك التى جاء ذكرها‬

‫فى النص السابق ‪.‬‬

‫و هنا يجدر بنا أن نتوقف قليال لنتأمل مغزى وصف الروح التى تسكنها البوابة بأنها ربة (مؤنثه) ‪.‬‬

‫و على الفور يتبادر الى الذهن أن صرحى المعبد (أى معبد) كانا فى نظر قدماء المصريين رمزا‬

‫اليزيس و نفتيس ‪ .‬و شكل الصرحين معا و هما يرتفعان الى أعلى يحاكى الرمز الهيروغليفى‬

‫لألفق و الذى ينطق "آخت" بالمصرية القديمة ‪.‬‬

‫فعند ميالد الشمس فى األفق الشرقى تقوم ايزيس و نفتيس باستقبالها و ترفعانها فوق األفق ‪.‬‬

‫بعبارة أخرى ان ايزيس و نفتيس تساعدان فى والدة الشمس من جديد كل صباح ‪ ,‬كما ساعدتا فى‬

‫والدة أوزير و بعثه من جديد فى عالم الروح ‪.‬‬

‫ان كل ميالد جديد يأتى بعد موت ‪.‬‬

‫فهنا فى العالم السفلى يشهد االنسان موت ذاته الدنيا (األنا السفلية) ‪ .‬و لذلك كان اسم الربة التى‬

‫تسكن الصرح األول الذى يعترض طريق "آنى" فى العالم السفلى هو "ربة الرعب ‪ ,‬سيدة الهالك ‪/‬‬

‫الدمار" ‪.‬‬

‫يعتبر األفق "آخت" من أعمق المفاهيم الباطنية فى الفكر الدينى المصرى و بفهم مغزاه يمكننا أن‬

‫نفهم المشاهد و النصوص التى تتناول العبور من بوابات الصروح بشكل أفضل ‪.‬‬

‫يكتب الرمز الهيروغليفى لكلمة أفق "آخت" على شكل جبلين يشرق من بينهما قرص الشمس ‪,‬‬

‫و الجبال هنا هى رمز التل األزلى الذى انشق الى نصفين حين أشرق "آتوم ‪ -‬رع" بنوره على‬

‫‪- 417 -‬‬


‫العالم أول مرة ‪.‬‬

‫التل األزلى الذى انشق الى نصفين حين أشرق "آتوم ‪ -‬رع" بنوره على العالم أول مرة‬

‫( من أحد التوابيت التى تعود لعصر األسرة ‪ , 21‬دولة حديثه )‬

‫يطلق على جبال األفق الشرقى اسم "باخو" ‪ ,‬أما جبال األفق الغربى فيطلق عليها اسم "مانو" ‪.‬‬

‫استمد المصرى القديم صورة جبال األفق الشرقى و الغربى من سلسلة الجبال التى تحيط بوادى‬

‫النيل من الجانب الشرقى و الجانب الغربى ‪.‬‬

‫فى الحقيقة ان الشمس ال تشرق فعليا من بين هذه الجبال ‪ ,‬و لكنها تشرق من وراء جبال ال "باخو"‬

‫الشرقية ‪ ,‬و تغرب فيما وراء جبال ال "مانو" الغربية ‪.‬‬

‫ان صورة شروق الشمس بين جبلين و التى اتخذها قدماء المصريين رمزا هيروغليفيا لكلمة أفق‬

‫"آخت" ليست محاكاة لشروق الشمس فى العالم المادى ‪ ,‬و انما هى محاكاة لحدث أزلى وقع فى‬

‫‪- 418 -‬‬


‫الزمن األول ‪ ,‬و هو تجلى "آتوم ‪ -‬رع" بنوره على العالم ‪.‬‬

‫تشير صورة شروق الشمس بين جبلين أيضا لحدث يقع داخل المعبد كل يوم ‪ ,‬و هو حدث تجلى‬
‫االله على األرض ‪.‬‬

‫لكى يتجلى االله فى مملكة البشر على االنسان أوال أن يتجرع كأس الموت ‪ ,‬ثم يولد من جديد ‪.‬‬

‫عليه أن يموت الى كل ما هو "مادى ‪ /‬زائل ‪ /‬فانى" ‪ ,‬و أن يولد من جديد ككيان روحى يعى‬

‫الحضور االلهى فى ذاته و فى كل شئ حوله ‪.‬‬

‫و هذا هو المغزى المقصود من وراء عبور بوابات الصروح فى كتاب الخروج الى النهار ‪.‬‬

‫فكلما اجتاز االنسان عتبة أحد الصروح ‪ ,‬كان ذلك يعنى موته الى العالم المادى و الى كل ما هو‬

‫دنيوى و ميالده من جديد فى العالم األقدس الذى يخطو نحوه و يقترب منه خطوة بخطوة ‪.‬‬

‫ان العبور من الصروح يعنى ضمنيا االقتراب من عرش أوزير الذى ترتحل الروح فى معبده فى‬

‫العالم السفلى ‪.‬‬

‫و ألن معبد أوزير هو معبد روحى و ليس مادى ‪ ,‬فان االقتراب من أوزير هو عملية تحول‬

‫خيميائية تمر فيها الروح بتجربة باطنية مشابهة لتجربة موت أوزير و تقطيع اجزاء جسده و اعادة‬

‫جمعها من جديد ‪.‬‬

‫عند المرور من بوابة الصرح األول يجتاز االنسان العتبة التى تتضمن مواجهة "ربة الرعب‬

‫و سيدة الهالك" ‪.‬‬

‫و البوابة الثانية ليست أقل خطرا ‪ .‬فهنا يواجه االنسان ربة تدعى ( سيدة العالم ‪ ,‬التى تلتهم نارها‬

‫األشياء ‪ ,‬ربة الذين مصيرهم الموت ‪ ,‬األعظم من كل البشر ) ‪.‬‬

‫أما البواب الذى يحرس هذه البوابة فيدعى (الذى يصنع النهاية ) ‪.‬‬

‫و هنا يتعرض االنسان لتجربة مخيفة ‪ ,‬حيث تلتهمه نار ‪.‬‬

‫و العديد من أسماء البوابات التالية تحمل اشارات الى النار أو الحرق أو التمزق الى أشالء ‪ ,‬و هى‬

‫رموز تشكل جزءا هاما من كتاب البوابات ‪ ,‬و هو أحد كتب العلوم الباطنية التى دونت فى عصر‬

‫الدولة الحديثه ‪.‬‬

‫‪- 419 -‬‬


‫أما فى الصرح السادس فهناك ذكر لشفاء الجراح و جمع أشالء الجسد الممزق ‪.‬‬

‫و البواب الذى يحرس الصرح السادس يدعى ( الذى جمعت أشالؤه ) ‪.‬‬

‫أما الصرح السابع ‪ ,‬فالربة التى تسكنه تدعى ( التى تكسو الضعفاء ‪ ,‬و التى تبكى من أجل من‬

‫تحبه ‪ ,‬و التى تضع الكفن فوق الجثمان ) ‪.‬‬

‫و الصرح الثامن ينطوى عبوره على تجربة مؤلمه ‪ .‬فالربة التى تسكنه تدعى ( النار المشتعله ‪,‬‬

‫اللهيب الذى ال ينطفئ ‪ ,‬التى تصل ألسنة لهيبها الى بعيد ‪ ,‬التى تذبح بدون سابق انذار ‪ ,‬التى ال‬

‫يستطيع أحد أن يتخطاها بسبب ما تحدثه للعابرين من ألم ) ‪.‬‬

‫بوابة الصرح الثامن من صروح العالم السفلى‬

‫( من بردية "آنى" ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫أما فى الصرح التاسع ‪ ,‬فتظهر الهيئة االلهية ‪ ,‬و يكتسى جسد أوزير الضعيف برداء ‪.‬‬

‫‪- 420 -‬‬


‫و البواب الذى يحرس الصرح التاسع يدعى ( الذى يخلق نفسه ) ‪.‬‬

‫و ربما كان ذلك اشارة الى ميالد ال "با" من جديد فى جسد مقدس‪/‬روحى ‪.‬‬

‫اذا استطاع االنسان تحمل آالم اجتياز عتبات العالم السفلى ‪ ,‬عندها سيولد من جديد و يبعث فى جسد‬

‫الهى‪/‬روحى‪/‬خالد ‪.‬‬

‫و هناك وصف تفصيلى للطبيعة األوزيرية لرحلة الروح عبر بوابات العالم السفلى و قاعاته فى‬

‫الفصل رقم ‪( 044‬بردية نو) و الفصل رقم ‪( 047‬بردية آنى) من كتاب الخروج الى النهار ‪.‬‬

‫المشهد التالى من بردية آنى ‪ ,‬و فيه نرى ثالثة حراس للبوابة األولى من البوابات السبعة التى‬

‫تفضى الى قاعات العالم السفلى ‪.‬‬

‫البوابة األولى من البوابات السبعة التى تفضى الى قاعات العالم السفلى‬

‫( من بردية "آنى" ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫‪- 421 -‬‬


‫الحارس األول من الناحية اليسرى برأس أرنب و وظيفته هى أن يفتح و يغلق البوابة ‪.‬‬

‫و الحارس الثانى (فى المنتصف) برأس حية و وظيفته هى مراقبة البوابة ‪.‬‬

‫أما الحارس الثالث (فى أقصى اليمين) فهو برأس تمساح و وظيفته هى اعالن اسم من يعبر من‬

‫البوابة ‪.‬‬

‫يحمل الحارس ذو رأس األرنب سنبلة قمح ‪ ,‬أما الحارسان اآلخران فيمسكان بسكين ‪.‬‬

‫و فوق البوابة رموز القوة ‪ ,‬و هى عصا ال "واس" ‪ ,‬و مفتاح الحياة "عنخ" ‪ ,‬و عامود ال "دجد" ‪.‬‬

‫و لكى يستطيع "آنى" تخطى الحراس الثالثة عليه أن يبرهن على أنه يعرف أسماءهم ‪.‬‬

‫الحارس األول ‪ -‬برأس أرنب – يدعى (الذى أدير وجهه الى الخلف ‪ ,‬صاحب الصور و األشكال‬

‫العديدة ) ‪ ,‬يذكرنا هذا االسم على الفور بشخصية المعداوى الذى ينقل أرواح الموتى من ضفة الى‬

‫أخرى كما يذكرنا أيضا بأوزير ‪.‬‬

‫و الحارس الثانى – برأس حية – يدعى (الذى يسترق السمع) ‪.‬‬

‫أما الحارس الثالث – برأس تمساح – فيدعى (صاحب الصوت العالى ) ‪.‬‬

‫اذا لم يبرهن المرتحل فى العالم السفلى على أنه يعرف أسماء الحراس الثالثة فلن يسمح له بالعبور‬

‫فبوابات العالم السفلى ال يمكن عبورها بدون وعى‪/‬معرفة باطنية ‪.‬‬

‫و باالضافة الى معرفة أسماء الحراس الثالثة ‪ ,‬على المرتحل أيضا أن يجيب على مجموعة من‬

‫األسئلة ‪.‬‬

‫فى الفصل رقم ‪ 047‬من كتاب الخروج الى النهار يقول "آنى" ‪-:‬‬

‫*** أنا القوى الذى يخلق نوره ‪ ...‬لقد أتيت اليك يا أوزير ‪ ,‬انى أقدسك ‪ ,‬أيها الطاهر من كل دنس‬

‫و المنزه عن كل عيب ‪ ...‬لقد أتيتك يا أوزير و قد صرت كيانا الهيا بحق ‪ ...‬ال تطردنى من‬

‫حضرتك ‪ ...‬ال تدع الحراس يطردونى الى حوائط النار ‪ ...‬لقد فتحت الطريق الى "روسيتاو" ‪,‬‬

‫و خففت من آالم أوزير ‪ ...‬و فتحت له الطريق فى الوادى العظيم و صار له طريقا ‪ ...‬يالروعة‬

‫‪- 422 -‬‬


‫جالل أوزير و اشراقه ***‬

‫ان الرحلة التى يقوم بها "آنى" فى قاعات العالم السفلى تقع فى مملكة أوزير ‪.‬‬

‫و المرتحل نفسه يكتسب لقب أوزير بمجرد بدء الرحلة ‪ ,‬و لذلك يطلق على آنى لقب "أوزير –‬

‫آنى" ‪.‬‬

‫ان القاعات التى يعبرها آنى فى العالم السفلى ليست أماكن جغرافية و انما هى حاالت مختلفة من‬

‫الوعى كل حالة منها تعكس مرحلة من مراحل موت أوزير و تمزق جسده ثم بعثه من جديد ‪.‬‬

‫و قبل دخول القاعة األولى ‪ ,‬يصف "آنى" كيف يرتحل أوزير الى السماء فى حضرة "رع" ‪.‬‬

‫ثم يعيد تكرار نفس العبارة قبل دخوله الى القاعة السابعة و األخيرة ‪.‬‬

‫فأوزير هو البداية و النهاية ‪.‬‬

‫و ما بين القاعة األولى و السابعة على "أوزير ‪ -‬آنى" أن يتحمل تجربة التمزق الى أشالء ثم اعادة‬

‫جمع األشالء مرة أخرى و ما تنطوى عليه هذه التجربة من آالم ‪.‬‬

‫و قبل دخول القاعة الثانية يستدعى "آنى" قوة تحوت الذى صالح بين المتخاصمين "حورس"‬

‫و "ست" بعد صراع طويل بينهما بدأ بعد موت أوزير مباشرة ‪.‬‬

‫و عند دخول القاعة الثالثه يتقمص "آنى" شخصية "جب" ‪ ,‬رب األرض ‪ ,‬و رئيس محكمة التاسوع‬

‫التى قضت بين المتخاصمين "حورس" و "ست" ‪ ,‬و الذى لعب دورا هاما فى بعث أوزير من‬

‫جديد ‪ .‬ففى هذا الجزء من رحلة الروح يكون المرتحل فى قبضة قوى الهدم و التحلل و الموت ‪.‬‬

‫و قبل دخول القاعة الرابعة ‪ ,‬يعرف "آنى" نفسه بأنه الثور القوى ‪ ,‬و قد عرف الثور فى مصر‬

‫القديمة بفحولته و طاقته الحيوية الهائلة ‪ ,‬و هى الطاقة التى تبدأ منذ هذه المرحلة فى اعادة احياء‬

‫أوزير ‪.‬‬

‫و فى القاعة الخامسه ‪ ,‬يقوم "آنى" بجمع أشالء أوزير ‪ ,‬و يزيح ثعبان أبوفيس ‪ ,‬و يقيم عامود ال‬

‫"جد" و هو مصطلح يعبر عن بعث أوزير ‪.‬‬

‫و فى القاعة السادسه يكتسب "آنى" لقب "المنتقم ألبيه أوزير" و هو أحد ألقاب حورس ‪.‬‬

‫‪- 423 -‬‬


‫بعبارة أخرى ‪ ,‬يتحول "آنى" الى "حورس" و يكتسب طاقة السحر "حكا" التى تمكنه من االنتصار‬

‫على "ست" و أيضا من شفاء آالم أوزير ‪.‬‬

‫أما فى القاعة السابعة فيتطهر أوزير بالكامل و يبعث من جديد ‪ ,‬و يبحر فى السماء فى حضرة‬

‫"رع" ‪ ,‬و يعرف كل شئ ‪.‬‬

‫ان المرور عبر صروح و بوابات و قاعات العالم السفلى هو فى الحقيقة مرور ال "با" بتجربة‬

‫أوزيرية لكى تمتزج بذلك الكيان االلهى و تنصهر فيه و تتحد به ‪.‬‬

‫و ألن هذه الصروح و البوابات و القاعات تنتمى لمعبد أوزير ‪ ,‬فكلما قطع االنسان شوطا خاللها‬

‫و اقترب من نهاية الرحلة كلما اقترب من االله ‪.‬‬

‫‪- 424 -‬‬


‫الفصل الثانى عشر‬
‫نهاية رحلة الروح فى العالم السفلى‬

‫قاعة الماعت ‪-:‬‬

‫بعد اجتياز عدد من قاعات العالم السفلى يصل المرتحل الى بوابة يحرسها أنوبيس ‪ ,‬و هو الذى‬

‫صادفناه من قبل فى صورة فاتح الطرق "ويبواويت" عند مداخل العالم السفلى ‪.‬‬

‫و هذه البوابة التى فى حراسة أنوبيس هى بوابة قاعة الماعت ‪ ,‬و تعتبر المحطة الرئيسية فى رحلة‬

‫الروح فى العالم السفلى ‪ ,‬بحيث يمكننا القول أن كل ما مرت به الروح فى السابق ما هو اال تمهيد‬

‫لبلوغ هذه المحطة ‪.‬‬

‫فكل بوابة عبرتها الروح من قبل ما هى اال صورة مصغرة من البوابة العظيمة ‪ ,‬بوابة قاعة‬

‫الماعت ‪ .‬و كل حارس بوابة ما هو اال صورة ألنوبيس ‪ ,‬حارس قاعة الماعت ‪.‬‬

‫فى بردية "آنى" ‪ ,‬نقرأ العبارات التالية على لسان "آنى" عند لقائه بأنوبيس على باب قاعة‬

‫الماعت ‪-:‬‬

‫*** لقد أتيت للتو من المكان الذى ال تنمو فيه أشجار السنط ‪ ,‬و ال توجد فيه أى أشجار كثيفة‬

‫األوراق ‪ ...‬و الذى ال تنبت أرضه عشبا و ال نجيال ‪ ...‬و دخلت الى مكان األشياء الخفية ‪ /‬الباطنية‬

‫‪ ,‬و تحدثت الى "ست" ***‬

‫ثم يتحدث "آنى" أمام أنوبيس عن ما لديه من معرفة روحانية ‪ ,‬و يخبره عن سلسلة من التجارب‬

‫الباطنية التى قام بها و منها تقمصه لشخصية حورس ‪.‬‬

‫يقول "آنى" مخاطبا أنوبيس ‪-:‬‬

‫*** لقد ارتحلت الى حدود الروح "با" ‪ ...‬و منحنى رب ال "دجدو" (أوزير) االذن بأن أبعث على‬

‫هيئة طائر ال "بنو" ‪ ,‬لكى امتلك قوة‪/‬سحر الكلمة ‪ ...‬لقد عبرت فيضان النهر ‪ ...‬و قدمت قرابين‬

‫‪- 425 -‬‬


‫من البخور ‪ ...‬و كنت فى أبيدوس ‪ ,‬فى معبد "ساتت" (التى تطهر أوزير بأربعة أوانى من ماء‬

‫الفيضان السماوى) ‪ ...‬لقد أغرقت قارب أعدائى ‪ ...‬لقد كنت فى مدينة "دجدو" ( بوزيريس )‬

‫و التى أرغم على الصمت حيالها ‪ ...‬لقد أقمت الصورة االلهية "سخم" على قدميها ‪ ....‬و كنت‬

‫الساكن فى البقعة المقدسة ‪ ...‬لقد دخلت الى "روسيتاو" (مدخل العالم السفلى) ‪ ...‬و رأيت األشياء‬

‫الخفية التى هناك ***‬

‫مدينة بوزيريس هى "أبو صير بنا" (مركز سمنود ‪ ,‬محافظة الغربية) ‪.‬‬

‫ثم يقول "آنى" ألنوبيس أن ( ست أطلعه على أسراره ) ‪.‬‬

‫و ينهى حديثه ألنوبيس قائال ‪ ( :‬ليكن الميزان الذى ستضعه يا أنوبيس فى القلب ) ‪.‬‬

‫ان وضع الميزان و ضبطه هو الحدث الرئيسى الذى يقع فى قاعة الماعت التى يوشك "آنى" على‬

‫دخولها ‪.‬‬

‫و العبارات التى اقتطفناها فى السابق من بردية "آنى" تشير الى أن ما سيوضع فى الميزان هو‬

‫طاقة ست فى كفة و طاقة حورس فى الكفة األخرى ‪ ,‬ليتبين ان كان "آنى" قد تمكن من احداث‬

‫توازن بين الطاقتين بداخله ‪.‬‬

‫و لكى يسمح للمرتحل فى العالم السفلى بالدخول الى قاعة الماعت عليه أوال أن يبرهن على معرفته‬

‫بالبوابة التى يعبر من خاللها الى قاعة الماعت ‪.‬‬

‫و قد وصفت بعض البرديات عملية التعرف على البوابة بشكل مطول ‪ ,‬حيث يطلب من المرتحل أن‬

‫يذكر اسم كل جزء من أجزاء البوابة ‪ :‬القائم ‪ ,‬و المغاليق و الدعامة األفقية و العتبة ‪ ,‬الخ ‪.‬‬

‫و اسم كل جزء من أجزاء البوابة يوضح ماهية البوابة ‪.‬‬

‫على سبيل المثال ‪ ,‬جاء فى بردية "نب ‪ -‬سنى" أن االسم الذى يحمله قائم البوابة هو ( ريشة‬

‫الحقيقة ) ‪ ,‬و أن مغاليق البوابة هى ( لسان الميزان فى قاعة الماعت ) ‪ ,‬و كال االسمين يشيران الى‬

‫الميزان الذى يظهر فى مشاهد وزن القلب فى قاعة الماعت ‪.‬‬

‫و لكن ذكر أسماء أجزاء البوابة ال يكفى لدخول قاعة الماعت مباشرة ‪ ,‬فبينما يخطو المرتحل‬

‫‪- 426 -‬‬


‫الى داخل القاعة تتحداه أرضية القاعة التى يخطو فوقها ‪.‬‬

‫و يدور بينها و بين المرتحل الحوار التالى ‪-:‬‬

‫أرض قاعة الماعت ‪ :‬لن أدعك تخطو فوقى ‪.‬‬

‫المرتحل النجمى ‪ :‬كيف أمنع من الدخول و أنا طاهر !‬

‫أرض قاعة الماعت ‪ :‬لن أدعك تدخل ‪ ,‬ألنى ال أعرف اسم أقدامك التى ستخطو بها فوقى ‪.‬‬

‫فقط عند ذكر المرتحل االسم الخفى‪/‬االلهى ألقدامه ‪ ,‬يسمح له بدخول قاعة الماعت ‪.‬‬

‫تنتمى قاعة الماعت لمعبد أوزير ‪ ,‬و تعتبر هى الردهة أو الدهليز الذى يفضى الى محراب أوزير‬

‫و قدس أقداسه حيث عرشه هناك فوق ماء األزل "نون" ‪.‬‬

‫و الطبيعة الجغرافية لقاعة الماعت تعتبر صورة مرآه للطبيعة الجغرافية ألرض مصر ‪.‬‬

‫يبلغ عدد قضاة قاعة الماعت ‪ 42‬قاضيا ‪ ,‬كل قاضى منهم يقابل أحد أقاليم مصر ال ‪. 42‬‬

‫تبدو القاعة نفسها و كأنها أرض مصر التى تحول كل جزء منها الى كيان الهى ‪.‬‬

‫فى العالم السفلى ال يشعر االنسان أنه فى عالم آخر منفصل عن العالم المادى ‪.‬‬

‫فالطبيعة فى العالم السفلى هى الجسم النجمى و الروحى لمظاهر الطبيعة التى نراها فى العالم‬

‫المادى ‪.‬‬

‫ان القوى الروحانية التى تجتمع فى قاعة الماعت لكى تختبر و تحكم على ال "با" هى نفس القوى‬

‫الروحانية التى تنظم الطبيعة و تحكمها ‪ ,‬و قد عبر عنها قدماء المصريين بقضاة الماعت ال ‪. 42‬‬

‫يقف قضاة الماعت ال ‪ 42‬دائما فى صمت ‪.‬‬

‫المشهد التالى من بردية "نب ‪ -‬سنى" و هو يصور قضاة الماعت الى ‪ 42‬و هم يقفون منتصبين فى‬

‫وسط القاعة أمام تمثالين للربة ماعت و هى تجلس على العرش و تمسك فى يدها اليمنى صولجان‬

‫الحق ‪ /‬الحقيقة ‪ ,‬و فى يدها اليسرى مفتاح الحياة "عنغ" و فوق رأسها شعارها المميز "ريشة‬

‫النعام" و هى الريشة التى توضع فوق رؤوس القضاة ال ‪. 42‬‬

‫‪- 427 -‬‬


‫قضاة الماعت الى ‪ 42‬داخل قاعة الماعت‬

‫( من بردية "نب ‪ -‬سنى" ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫تؤكد العديد من البرديات على أن قضاء الماعت فى حالة توافق تام مع الماعت و ذلك بتصويرهم‬

‫و هم يضعون ريشة الماعت فوق رؤوسهم أو يحملونها فى أيديهم ‪.‬‬

‫فى المشهد التالى من بردية "حور" يظهر قضاة الماعت و هم يحملون ريشة الماعت فى أيديهم ‪.‬‬

‫بعض قضاة الماعت يحملون فى أيديهم ريشة الماعت‬

‫( من بردية "حور" ‪ ,‬عصر بطلمى )‬

‫و هنا أود أن أذكر القارئ مرة أخرى أن الماعت فى نظر قدماء المصريين هى الغذاء أو الخبز‬

‫‪- 428 -‬‬


‫الذى تقتات به ال "نترو" (الكيانات االلهية) ‪ .‬فهى بالنسبة لهم مصدر الطاقة و ينبوع الحياة ‪.‬‬

‫ماعت هى الخبز االلهى الذى يقتات به من يحيا فى الماعت ‪ ,‬أى يحيا فى تناغم مع النظام الكونى ‪.‬‬

‫أما من لم تكن حياته الدنيا فى تناغم مع النظام الكونى ‪ ,‬فان تجربته فى قاعة الماعت تكون أشبه‬

‫بابتالع النار ‪.‬‬

‫قاعة المحاكمة هى العالم الباطنى الذى اذا دخله االنسان صار موصوال بالذات العليا ‪ /‬االلهية ‪.‬‬

‫و بقدر ما ينجح االنسان فى االرتقاء بذاته الدنيا (األنا السفلية) و جعلها فى اتساق و تناغم مع الذات‬

‫العليا‪/‬االلهية ‪ ,‬تكون تجربة الدخول الى حضرة الماعت (قاعة الماعت) أشبهة بالعودة الى البيت ‪.‬‬

‫و بقدر ما يكون االنسان غير متسق مع ذاته العليا‪/‬االلهية ‪ ,‬تتحول تجربته فى حضرة الماعت الى‬

‫عذاب أليم ‪ ,‬ألن نظرة الماعت الثاقبة لمن ينطق الكذب فى حضرتها تصير غصة فى حلقه‬

‫و تؤلمه كطعن الخناجر ‪.‬‬

‫على المرتحل الى العالم السفلى أن يخاطب كل "نتر" كيان الهى باسمه ‪ ,‬و أن يصدر اعالنا من‬

‫شقين ‪.‬‬

‫الشق األول يطلق عليه االعترافات المنفية ‪ ,‬و فيه يقوم المرتحل بنفى ارتكابه أى عمل يخالف‬

‫الماعت ‪ .‬على سبيل المثال يقول "آنى" فى كتاب الخروج الى النهار (فصل رقم ‪ )025‬موجها‬

‫حديثه للنتر الذى يحكم مدينة هليوبوليس ‪-:‬‬

‫*** التحيات لك يا صاحب الخطى الواسعة (أبو خطوة) ‪ ,‬يا من أتيت للوجود فى هليوبوليس ‪ ...‬أنا‬

‫لم أرتكب ما يخالف الماعت ***‬

‫ثم يوجه "آنى" حديثه للنتر الذى يحكم مدينة "ميت رهينة" (منف) ‪-:‬‬

‫*** التحيات لك يا من تحتضن النار ‪ ...‬يا من أتيت للوجود فى "منف" ‪ ...‬أنا لم أسلب اآلخرين‬

‫ممتلكاتهم ***‬

‫و هكذا ينتقل آنى من "نتر" الى آخر ‪ ,‬حيث كل "نتر" يقابله جزء من طبيعة مصر الجغرافية‬

‫و أيضا جزء من طبيعة النفس االنسانية ‪.‬‬

‫‪- 429 -‬‬


‫فى العالم السفلى تتجلى الطبيعة المزدوجة للقوى الروحانية التى تشكل الطبيعة الجغرافية ‪ ,‬و فى‬

‫نفس الوقت تشكل القيم األخالقية ‪.‬‬

‫فى الحقيقة ‪ ,‬ان رحلة الروح فى العالم السفلى تقع فى مصر ‪ ,‬أى فى االمتداد النفسى و الروحى‬

‫لمصر ‪ ,‬و هى األرض المقدسة التى تسكنها ال "نترو" (الكيانات االلهية) ‪.‬‬

‫ثم يتوجه "آنى" بالحديث الى ال "نتر" الذى يحكم مدينة "هرموبوليس" (األشمونيين‪/‬محافظة المنيا)‬

‫قائال ‪-:‬‬

‫*** التحيات لك أيها "األنف المقدس‪/‬االلهى" ‪ ...‬يا من أتيت للوجود فى هرموبوليس ‪ ...‬أنا لم‬

‫أستخدم العنف ضد أى انسان ***‬

‫ثم يتوجه بالحديث الى ال "نتر" الذى يحكم منطقة "القرنة" بطيبة الغربية (البر الغربى باألقصر)‬

‫قائال ‪-:‬‬

‫*** التحيات لك يا من تلتهم الظل ‪ ...‬يا من أتيت للوجود فى القرنة ‪ ...‬أنا لم أقتل ‪ ,‬و لم أسبب أذى‬

‫النسان ***‬

‫و هكذا يستمر آنى فى مخاطبة كل "نتر" من ال "نترو" التى تحكم كل منطقة باطنية ‪ /‬سيكولوجية‬

‫فى مصر ‪.‬‬

‫تتضمن القائمة الطويلة لألفعال التى ينفى المرتحل ارتكابها العديد من الجرائم كالسرقة و الغش‬

‫و االنفالت الجنسى و الكذب و التزييف ‪ ,‬كما يحرص المرتحل أيضا على أن ينفى "التهامه لقلبه"‬

‫و هو مصطلح ربما قصد به "خيانة األمانة" ‪.‬‬

‫و تتضمن قائمة االعترافات المنفية أيضا العديد من األخطاء التى يرتكبها االنسان ضد الطبيعة ‪,‬‬

‫مثل القاء القمامة فى األرض الزراعية الخصبة و تلويث مصادر المياه ‪.‬‬

‫كما تتضمن أيضا أفعال تنطوى على تدنيس المعابد أو ارتكاب المخالفات فى حرم المعبد ‪ ,‬مثل قتل‬

‫الحيوانات المقدسة بالخطأ ‪ ,‬و التجديف فى حق ال "نترو" ‪ ,‬أى ذكرهم بسوء ‪ ,‬و أيضا تدنيس‬

‫أو انتهاك الصور المقدسة ‪.‬‬

‫‪- 430 -‬‬


‫و قد بلغ عدد االعترافات المنفية فى برديات عصر األسرة ‪ , 03‬دولة حديثه (مثل بردية نو ‪,‬‬

‫و بردية "نب ‪ -‬سنى" ‪ ,‬و بردية آنى) اثنين و أربعين اعترافا منفيا ‪ ,‬و هو نفس عدد قضاة الماعت‬

‫‪ ,‬و أيضا نفس عدد أقاليم مصر القديمة ‪.‬‬

‫أما الشق الثانى من التصريح الذى يدلى به المرتحل فى العالم السفلى ‪ ,‬فهو االعترافات المؤكده ‪.‬‬

‫و فيها يقوم المرتحل بسرد األعمال الصالحة التى قام بها فى حياته الدنيا و التى يعتقد أنها تتوافق‬

‫مع الماعت و تتسق مع الذات العليا‪/‬االلهية ‪.‬‬

‫تبدأ هذه االعترافات بتأكيد المرتحل على أنه يحيا فى الماعت أو يحيا على الماعت ‪ ,‬و يقتات بها ‪,‬‬

‫مثل ال "نترو" ‪.‬‬

‫فى مصر القديمة ‪ ,‬أن يحيا االنسان على الماعت و يقتات بها ‪ ,‬كان ذلك يعنى أن ال "با" (الروح‬

‫المتقمصه) صارت فى اتساق تام و تناغم مع ال "آخ" (الروح النورانية‪/‬االلهية) بحيث تأتى كل‬

‫دوافع ال "با" من نور ال "آخ" ‪ ,‬أى من نور الروح األسمى ‪ ,‬و تأتى مشيئة االنسان متوافقة مع‬

‫المشيئة االلهية ‪.‬‬

‫جاء فى كتاب الخروج الى النهار من بردية "نو" (فصل رقم ‪-: )025‬‬

‫*** لقد منحت الخبز للجائع ‪ ,‬و الماء للعطشان ‪ ,‬و الثوب للعريان ‪ ...‬و منحت القارب لمن ال‬

‫قارب له ‪ ...‬و قدمت القرابين لل "نترو" (الكيانات االلهية) ‪ ...‬و األضاحى لل "آخو" ( المبجلين ‪/‬‬

‫‪/‬األرواح النورانية) ‪ ...‬أنا طاهر الفم و اليد ‪ ...‬و أينما أذهب ألقى الترحاب المضاعف من كل من‬

‫يرانى ‪ ...‬لقد أتيت الى حضرة الماعت ألكون شاهدا على الحقيقة (شاهد حق) ‪ ...‬و لكى تتزن كفتى‬

‫الميزان فى المكان المقدس ***‬

‫تحقيق التوازن ‪-:‬‬

‫تلخص الجملة األخيرة من النص السابق (و لكى تتزن كفتى الميزان فى المكان المقدس) مغزى‬

‫رحلة الروح فى العالم السفلى ‪.‬‬

‫‪- 431 -‬‬


‫و علينا أن ال نتسرع و نفسرها بببساطة باعتبارها اشارة الى عملية وزن القلب فى قاعة الماعت‬

‫و التى ظهرت فى العديد من مشاهد كتاب الخروج الى النهار ‪.‬‬

‫فبردية "نو" على سبيل المثال لم تذكر عملية وزن القلب (و هى تخلو أيضا من وجود مشهد يصور‬

‫هذه العملية) و انما ذكرت فقط وضع الميزان ‪ .‬و لم تذكر نصوصها ما الذى يوضع فى كفتى‬

‫الميزان ‪.‬‬

‫و يبدو أن اتزان كفتى الميزان هو الحدث األهم الذى يلخص مغزى رحلة الروح فى العالم السفلى ‪.‬‬

‫فهو يحمل معنى باطنى فى غاية األهمية بالنسبة لرحلة الروح ‪ ,‬و هو ما تؤكده العديد من النصوص‬

‫الدينية المصرية ‪.‬‬

‫دونت بردية "نو" فى بداية عصر األسرة ‪ , 03‬دولة حديثه و تعتبر من أقدم البرديات التى سجلت‬

‫نصوص كتاب الخروج الى النهار ‪.‬‬

‫و فى نهاية عصر األسرة ‪ , 03‬ظهر كتاب البوابات الذى يحتوى الفصل الخامس (أو الساعة‬

‫الخامسه) منه على مشهد للمحاكمة و وضع الميزان فى قاعة أوزير فى العالم السفلى ‪.‬‬

‫فى المشهد التالى يجلس أوزير على العرش ‪ ,‬و أمامه مومياء لشخص يحمل فوق كتفيه الميزان ‪.‬‬

‫يقف ذلك الشخص فى موضع قوائم الميزن ‪ ,‬و نالحظ أن الكفتان ال تحمالن شيئا ‪ ,‬و انما هناك‬

‫اشارة لوجود شئ مجرد فوق الكفتين عبر عنه الفنان بشئ أشبه بمنصة مرتفعة قليال ‪.‬‬

‫‪- 432 -‬‬


‫اقامة التوازن بين أتباع أوزير و أعداءه ‪ ,‬الفصل الخامس من كتاب البوابات‬

‫( من مقبرة الملك رمسيس السادس ‪ ,‬أسرة ‪ , 22‬دولة حديثه )‬

‫و خلف ذلك الشخص الذى يحمل الميزان ‪ ,‬تسع درجات معراج ‪ ,‬تقف فوقها أرواح الموتى‬

‫المبجلين النورانيين الذين تحولوا الى "آخو" (األرواح التى حازت االشراق) ‪.‬‬

‫و فوق أرواح المبجلين نرى "ست" فى هيئة خنزير برى يغادر بعيدا عن أوزير فى قارب يسوقه‬

‫اثنان من قرود البابون (رمز تحوت) يحملون عصى ‪.‬‬

‫و فى أقصى اليمين من أعلى يقف أنوبيس يشهد ما يحدث دون تدخل ‪.‬‬

‫و دور أنوبيس هنا يبدو سلبيا بالمقارنة بمشاهد وزن القلب فى كتاب الخروج الى النهار و التى‬

‫يتولى فيها أنوبيس مهمة ضبط الميزان ‪.‬‬

‫لكن هذا المشهد من كتاب البوابات يختلف عن مشاهد وزن القلب فى كتاب الخروج الى النهار فى‬

‫أنه يصور العالقة بين كل من "أوزير" و "ست" و أرواح البشر التى تحولت الى "آخو" (أقطاب‬

‫للنور ‪ /‬أرواح نورانية) ‪.‬‬

‫‪- 433 -‬‬


‫و النص المسجل تحت عرش أوزير يقول ‪-:‬‬

‫( ان أعداء أوزير تحت قدميه ‪ ,‬أما ال "نترو" و أرواح البشر المبجلين ‪ ,‬فهم أمامه ) ‪.‬‬

‫و برغم أن أعداء أوزير لم يتم تصويرهم فى المشهد اال ان وصفهم بأنهم تحت أقدام أوزير يعنى‬

‫ضمنيا أنهم فى احدى كفتى الميزان ‪ ,‬بينما أرواح البشر المبجلين "آخو" فى الكفة األخرى ‪.‬‬

‫بعبارة أخرى ان كفتى الميزان فوق كتفى المومياء يعنى أنها هى التى تحفظ التوازن بين أعداء‬

‫أوزير و بين المبجلين‪/‬النورانيين "آخو" ‪.‬‬

‫فى المشهد التالى من بردية "خونسو ام حب" من عصر األسرة واحد و عشرين (دولة حديثه) يقوم‬

‫حورس بضبط الميزان بدال من أنوبيس ‪ ,‬و نالحظ أن كفتى الميزان فارغتان ‪.‬‬

‫و على يسار حورس يجلس تحوت و يرسم ريشة الماعت ‪.‬‬

‫حورس يضع الميزان ‪ ,‬و تحوت يرسم ريشة الماعت‬

‫( من بردية "خونسو ام حب" ‪ ,‬أسرة ‪ , 21‬دولة حديثه )‬

‫و هناك العديد من مشاهد وزن القلب من عصر األسرة ‪ 20‬و ما بعده تخلو فيها كفتى الميزان‬

‫تماما ‪.‬‬

‫‪- 434 -‬‬


‫قد يكون ذلك دليل على أن فكرة تحقيق االتزان بين قوتين متناقضتين هو رمز لبلوغ االنسان حالة‬

‫من التناغم و االتساق التام مع الماعت (النظام الكونى‪/‬الحقيقة) ‪.‬‬

‫ان فكرة تحقيق التوازن هى المغزى المقصود من مشهد وزن القلب ‪ ,‬و لذلك ترك الفنان المصرى‬

‫القديم كفتى الميزان فارغتين فى العديد من المشاهد ‪ ,‬ألن حالة االتزان هى المقصودة ‪ ,‬و ليس ما‬

‫يتم وزنه ‪.‬‬

‫رأينا فى الفصل األول أن نظرة قدماء المصريين لمصر باعتبارها أرضين هى فكرة مستمدة من‬

‫مفاهيم روحانية تتخطى حدود التقسيم الجيولوجى و السياسى لمصر الى مملكة الصعيد (مصر‬

‫العليا) و مملكة الدلتا (مصر السفلى) ‪.‬‬

‫يقول عالم المصريات هنرى فرانكفورت ‪-:‬‬

‫*** كان مبدأ االزدواجية مهيمنا على العقل المصرى القديم الذى رأى أن العالم ما هو اال سلسلة من‬

‫األقطاب المتناقضة فى حالة اتزان تام ‪ .‬بل ان الكون كله فى نظر قدماء المصريين كان تعبيرا عن‬

‫ازدواجية األرض و السماء ‪ .‬أما األرض نفسها ‪ ,‬فتنطوى على مستوى آخر من االزدواجية حيث‬

‫تنقسم الى شمال و جنوب ‪ ,‬أو مملكة حورس و مملكة ست ‪ ,‬كما تنقسم أيضا الى ازدواجية أخرى‬

‫هى ازدواجية الضفة الشرقية و الضفة الغربية للنيل ***‬

‫و من األشياء الجديرة بالذكر هنا أن "ميزان األرضين" كان أحد ألقاب مدينة "منف" ‪ ,‬و هى‬

‫العاصمة التى أنشأها الملك مينا ‪ ,‬أول ملوك عصر األسرات ‪.‬‬

‫يجلس الملك على عرشه فى "ميزان األرضين" (منف) ليحفظ االتزان لمصر كلها ‪ ,‬و لذلك كان‬

‫من ألقاب ملك مصر "السيدان" ‪.‬‬

‫يقول عالم المصريات هنرى فرانكفورت عن ألقاب ملوك مصر ‪-:‬‬

‫*** "السيدان" هما المتخاصمان أو الغريمان ‪ ,‬حورس و ست ‪ .‬و ينظر للملك فى مصر القديمة‬

‫باعتباره تجسيدا لهما على األرض و لكن هذا التجسيد للغريمين ال يعبر عن وجود صراع بينها‬

‫داخل نفس الملك و روحه ‪ ,‬و انما يعبر عن نجاح الملك فى احداث التوازن و التناغم التام بين‬

‫‪- 435 -‬‬


‫بينهما ‪ .‬و لذلك كان من ألقاب ملكات مصر (و أيضا لقب الكاهنة الكبرى) لقب "التى ترى حورس‬

‫و ست" ***‬

‫يظهر حورس و ست فى العديد من مشاهد الفن المصرى و هما يقومان معا بربط ساقى نبات‬

‫اللوتس و البردى (رمز مصر العليا و مصر السفلى) حول عالمة هيروغليفية يطلق عليها "سما"‬

‫و تعنى "وصل ‪/‬مزج ‪ /‬دمج" ‪ ,‬تحاكى صورة الرئتين و القصبة الهوائية ‪ ,‬رمز األقطاب المزدوجة‬

‫حين تعمل معا فى تناغم تام ‪.‬‬

‫حورس و ست يقومان معا بربط أعواد اللوتس و البردى كرمز لتوحيد األرضين "سما ‪ -‬تاوى"‬

‫( من لوحة تعود لعصر الملك سنوسرت األول ‪ ,‬أسرة ‪ , 12‬دولة وسطى )‬

‫يعرف هذا الطقس باسم طقس توحيد األرضين ‪.‬‬

‫يظهر حورس و ست أيضا فى المشهد التالى الذى يصور المرحلة األخيرة من شعائر ال "حب ‪-‬‬

‫سد" ‪ ,‬و هى مجموعة من الطقوس يقوم بها الملك بهدف تجديد طاقة األرض ‪.‬‬

‫‪- 436 -‬‬


‫تتويج الملك سنوسرت الثالث أثناء طقوس ال "حب ‪ -‬سد"‬

‫( من معبد المدامود باألقصر ‪ ,‬أسرة ‪ , 12‬دولة وسطى )‬

‫فى النصف األيمن من المشهد يجلس الملك سنوسرت الثالث على العرش متوجا بالتاج األبيض (تاج‬

‫مصر العليا) ‪ ,‬و أمامه "ست" (فى صورة حيوان أشبه بآكل النمل) فوق منصة عالية يقدم له سعفة‬

‫النخل التى ترمز للعمر المديد أو سنوات الحكم الطويلة ‪.‬‬

‫و فى النصف األيسر من المشهد يجلس الملك سنوسرت الثالث أيضا على عرشه متوجا بالتاج‬

‫األحمر (تاج مصر السفلى) ‪ ,‬و أمامه حورس (فى صورة صقر) فوق منصة عالية يقدم له سعفة‬

‫النخل ‪.‬‬

‫و من األشياء الملفتة لالنتباه هنا العناية الشديدة بالتفاصيل التى تبرز السيمترية و التوازن التام‬

‫بين المشهد الذى ينقسم الى نصفين يبدو كل منهما صورة مرآه معكوسه من النصف اآلخر ‪ ,‬بما فى‬

‫ذلك الكلمات الهيروغليفية و خراطيش الملك على الجانبين ‪.‬‬

‫احتلت فكرة االتزان أهمية كبرى فى الفكر الدينى المصرى ‪ ,‬و بوجه خاص فكرة االتزان بين‬

‫الصورة األولية للغريمين و التى يرمز لها ب "حورس" و "ست" ‪.‬‬

‫لذلك ليس من الغريب أن تحتل فكرة االتزان أهمية كبرى فى رحلة الروح فى العالم السفلى ‪.‬‬

‫يقول عالم المصريات االنجليزى "جون جوين جريفيث" (‪ - )John Gwyn Griffiths‬و الذى‬

‫‪- 437 -‬‬


‫توفى عام ‪ 2114‬ميالدية ‪ -‬أن الصورة األولية أو النموذج االلهى الذى بنيت عليه فكرة وزن القلب‬

‫فى العالم السفلى ‪ ,‬هو الصراع بين حورس و ست و الذى حوله تحوت الى تناغم و اتزان حين‬

‫صالح بين الغريمين ‪ ,‬و لذلك كان من ألقاب تحوت "المصالح بين المتخاصمين" ‪.‬‬

‫ان وقوع المحاكمة فى قاعة الماعت المزدوجة التى تعتبر بمثابة الردهة أو الدهليز الذى يفضى الى‬

‫قاعة العرش االلهى (األوزيرى) يعنى أن الهدف من رحلة الروح فى العالم السفلى هو أن يصل‬

‫االنسان الى حالة من التوازن الداخلى بأن يقبل األقطاب و المتناقضات التى بداخله ‪ ,‬أو بعبارة‬

‫أخرى يقبل التناقض بين الذات الدنيا (األنا السفلية) و الذات العليا (األنا العليا) و التى يجسدها‬

‫"حورس" و "ست" ‪ ,‬و يصالح بينهما ‪.‬‬

‫يعبر المشهد التالى بأسلوب فنى رائع عن التصالح و التناغم بين األضداد ‪.‬‬

‫"حورس" و "ست" يشتركان معا فى رفع الميزان‬

‫( من احدى مقابر منطقة أخميم بمحافظة سوهاج ‪ ,‬العصر الرومانى )‬

‫عبر الفنان عن ذلك بصورة ميزان بدون قائم و قد تم استبدالها بحورس و أنوبيس و هما يرفعان‬

‫معا الميزان و يحفظان اتزانه بذراعيهما ‪.‬‬

‫‪- 438 -‬‬


‫يمسك حورس باحدى كفتى الميزان و فيها صورة للماعت ‪ ,‬بينما يمسك أنوبيس بالكفة األخرى‬

‫و فيها صورة مصغرة للشخص الذى وضع له الميزان ‪ ,‬و بين االثنين نجد صورة انسان رسمها‬

‫الفنان بشكل مجرد بدون مالبس أو مالمح تبين شخصيته ‪.‬‬

‫ألنوبيس طبيعة مزدوجة ‪ .‬و قد رأيناه فى الفصل العاشر و هو يقوم بدور المرشد الذى يستقبل‬

‫أرواح الموتى عند مداخل العالم السفلى ‪ .‬و قد أهلته طبيعته المزدوجة للقيام بهذه المهمة فى المنطقة‬

‫الوسطى التى تقع بين عالم األحياء و عالم الموتى ‪.‬‬

‫يحل أنوبيس فى كثير من األحيان محل ست كقطب أو قوة كونية مناقضة لحورس ‪.‬‬

‫تعود جذور ازدواجية أنوبيس و حورس الى العصر العتيق حين كانت مدينة "بى" أو "بوتو" (تل‬

‫الفراعين ‪/‬دسوق ‪ /‬محافظة كفر الشيخ) فى الدلتا هى معقل أنوبيس (ابن آوى) ‪ ,‬و مدينة "نخن"‬

‫(هيراكونبوليس ‪ /‬الكوم األحمر) فى الصعيد هى معقل حورس (الصقر) ‪.‬‬

‫و يعتبر ذلك دليال على الصلة الوثيقه بين "ست" و بين أنوبيس فى هيئة حيوان ابن آوى و التى‬

‫تظهر أيضا فى مواضع أخرى ‪.‬‬

‫عرف أنوبيس فى مصر القديمة بأنه رب الصحراء و هى صفة يشاركه فيها "ست" ‪.‬‬

‫ذكرت احدى األساطير أن أنوبيس هو ابن "نفتيس" زوجة "ست" ‪ ,‬و نفتيس هى الجانب "المظلم ‪/‬‬

‫الخفى" من ايزيس ‪.‬‬

‫و من األشياء الجديرة باالنتباه أن بقدوم العصر البطلمى تالشت الفروق بين "ست" و "أنوبيس" ‪,‬‬

‫بحيث يمكننا القول أن االثنان بمثابة وجهان لكيان واحد ‪.‬‬

‫على سبيل المثال نقرأ فى بردية "جوميلياك" (‪ )Papyrus Jumilhac‬التى تعود للعصر البطلمى‬

‫أن "ست" باستطاعته أن يحول نفسه الى أنوبيس ‪.‬‬

‫يتميز أنوبيس بطبيعته الفضفاضة التى تمكنه من أن ينساب بين عالم الظالم و عالم النور ؛ بين‬

‫عالم الحياة و عالم الموت ‪.‬‬

‫فى أنوبيس يمكن للغريمين أو القطبين المتناقضين "حورس" و "ست" أن يجدا أرضية مشتركة ‪.‬‬

‫‪- 439 -‬‬


‫يمكننا أن نفسر المشهد السابق الذى يمسك فيه أنوبيس بكفة الميزان التى تحمل صورة الشخص‬

‫الذى وضع من أجله الميزان بأن أنوبيس هو المرشد الذى ساعده فى الوصول الى تلك األرضية‬

‫المشتركة التى تلتقى فيها قوى النور و الظالم ‪.‬‬

‫و بقدر نجاح االنسان فى احداث توازن بين هذه القوى داخله ‪ ,‬بقدر ما ينجح فى اقامة الماعت التى‬

‫يحمل حورس صورتها فى كفة الميزان التى يمسكها فى يده ‪.‬‬

‫عبرت برديات أخرى من كتاب الخروج الى النهار عن عالقة التكامل بين أنوبيس و حورس‬

‫بطريقة أخرى ‪ ,‬حيث يقود أنوبيس روح المتوفى الى داخل قاعة الماعت ‪ ,‬ثم يسلمه بعد ذلك الى‬

‫حورس الذى يأخذه الى عرش أوزير ‪.‬‬

‫و بتأمل دور حورس فى االتزان ‪ ,‬نجد أن حورس أقرب الى العقل األسمى ‪ ,‬الى نقطة السكون التى‬

‫بدأ منها كل شئ ‪ ,‬و هى المطلق (الحقيقة المطلقة) ‪ ,‬بينما أنوبيس فى حالة حركة دائمة و تنقل بين‬

‫مستويات الوعى المتناقضة ‪.‬‬

‫فى العديد من مشاهد وزن القلب بكتاب الخروج الى النهار يظهر الشخص الذى وضع من أجله‬

‫الميزان فى كفة ‪ ,‬بينما قلبه (و ليس الماعت) فى الكفة األخرى ‪ ,‬كما فى المشهد التالى ‪.‬‬

‫‪- 440 -‬‬


‫وزن القلب يوم الحساب ‪ ,‬حيث وضع القلب فى كفة و صاحبه فى الكفة الخرى‬

‫( من بردية "نب ‪ -‬سنى" ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫يعبر المشهد عن منظور آخر لمفهوم التوازن ‪.‬‬

‫ارتبط القلب فى الفكر الدينى المصرى دائما بالنقاء و الطهارة ‪ .‬فطر القلب على النقاء و تلك هى‬

‫الطبيعة الغالبة عليه ‪ .‬و القلب هو ذلك الموضع من الجسد الذى يسكنه حورس ‪ ,‬و هو بفطرته‬

‫متناغم و متسق مع الماعت ‪.‬‬

‫و لكن ما الذى يعنيه وقوف الشخص الذى وضع من أجله الميزان فوق احدى كفتى الميزان ؟‬

‫ان فكرة وزن االنسان فى كفة مقابل قلبه فى الكفة األخرى ليست غريبة على علم النفس المصرى‬

‫الذى يرى فى كل جزء من أجزاء الجسد (كالطراف و األحشاء و الرئتين و القلب ‪ ,‬الخ) ثقال نفسيا‬

‫‪ ,‬بمعنى أن كل عضو على حدة هو وعاء الحدى القدرات و الصفات التى تشكل النفس االنسانية ‪.‬‬

‫و الهدف األسمى من رحلة الروح فى العالم المادى و من بعده العالم السفلى هو أن تصبح كل هذه‬

‫األعضاء و ما يتصل بها من أفكار و مشاعر و رغبات فى تناغم تام و اتساق كامل مع القلب الذى‬

‫هو طاهر و نقى بفطرته ‪.‬‬

‫و السؤال الذى يشغل بال المرتحل فى العالم السفلى هو ‪ :‬هل نجحت فى أن أجعل كل أعضائى‬

‫و وظائفها النفسية فى تناغم و اتساق مع أعمق رغبات قلبى ؟‬

‫اذا كانت االجابة "نعم" ‪ ,‬فسيتعرف القلب على هذه الصفات النفسية كجزء منه و سيحدث االتزان‬

‫بشكل تلقائى ‪ .‬تحدد اجابة السؤال السابق مصير الروح فى العالم اآلخر ‪.‬‬

‫المشهد السابق من بردية "نب ‪ -‬سنى" (فصل رقم ‪ 11‬من كتاب الخروج الى النهار ‪ ,‬و النص‬

‫المصاحب للمشهد هو عبارة عن صالة أو دعاء يتوجه به االنسان الى قلبه و يخاطبه قائال ‪-:‬‬

‫*** يا قلبى ‪ ,‬يا أمى ‪ ...‬يا من كنت معى طوال حياتى الدنيا ‪ ...‬ال تقف أمامى و ال تكن خصمى‬

‫حين يوضع الميزان ‪ ,‬فى حضرة رب الميزان ‪ ...‬ال تدع أحدا يقول عنى أنى فعلت شيئا يتنافى مع‬

‫‪- 441 -‬‬


‫الماعت ‪ ...‬ال تدع نوازع نفسى تقف ضدى ‪ ,‬فى حضرة االله العظيم ‪ ,‬رب ال "أمنتت" (العالم‬

‫السفلى) ***‬

‫و رب الميزان فى المشهد السابق هو تحوت ‪ ,‬حيث تقول احدى األساطير أنه هو الذى صالح‬

‫بين الغريمين حورس و ست ‪ ,‬بينما تقول أسطورة أخرى أنه ولد من اتحادهما معا ‪.‬‬

‫و هنا يتضح لنا أن االتزان المنشود بين االنسان و قلبه هو صورة أو انعكاس لالتزان بين طاقة‬

‫حورس و طاقة ست داخل النفس االنسانية ‪.‬‬

‫حين نرى مشاهد تصور عملية وزن القلب مقابل ريشة الماعت ‪ ,‬علينا أن نضع فى ذهننا دائما‬

‫تنوع األقطاب التى تمثلها كفتى الميزان ‪.‬‬

‫فى بعض األحيان تكون كفتى الميزان فارغتين ‪ ,‬و فى أحيان أخرى يكون هناك رموز مجردة ‪.‬‬

‫و يمكن أيضا أن يوضع االنسان فى كفة ‪ ,‬و فى الكفة األخرى قلبه أو تمثال الماعت أو ريشتها ‪,‬‬

‫و هى جميعا تنويعات مختلفة على فكرة واحدة أساسية هى فكرة اتزان األقطاب ‪.‬‬

‫فى المشاهد التى يوزن فيها القلب فى مقابل الماعت يقف القلب كرمز للكيان االنسانى كله ‪.‬‬

‫و السؤال الذى يتبادر للذهن عند رؤية ذلك المشهد هو ‪ :‬هل وصل القلب الى حالة االتزان‬

‫و التناغم ؟‬

‫فى بردية "آنى" نقرأ هذا التضرع الموجه الى أنوبيس ‪-:‬‬

‫*** يا أنوبيس ‪ ,‬يا من تضع الميزان فتجعله متزنا ‪ ...‬عسى أن يكون ذلك االتزان فى قلوبنا ***‬

‫القلب المتزن هو القلب الذى صارت الدوافع النفسية بداخله فى تناغم تام مع الهدف األسمى للروح ‪,‬‬

‫و هو العودة الى األصل ‪ /‬المنبع ‪ /‬عالم الروح ‪.‬‬

‫أو بعبارة أخرى ‪ ,‬أن القلب نجح فى االرتقاء بنوازع النفس و تحويلها لتخدم أهداف الروح‬

‫و بالتالى أصبحت جزءا من القلب ‪.‬‬

‫و يعتبر ذلك الحدث عالمة انتهاء رحلة الروح فى العالم السفلى ‪.‬‬

‫فالروح قد وجدت سكينتها فى القلب الذى تسكنه الماعت و بالتالى تحيا الروح فى الماعت الى‬

‫‪- 442 -‬‬


‫األبد ‪.‬‬

‫و المشهد التالى يعتبر أحد النماذج التقليدية لوزن القلب ‪ ,‬و هو من بردية "حو نفر" ‪ ,‬و فيه نرى‬

‫أنوبيس و هو يقود "حو نفر" الى حيث وضع الميزان الذى يتولى أنوبيس ضبطه بنفسه ‪ ,‬ثم يوزن‬

‫القلب فى مقابل ريشة الماعت ‪ .‬و أمام أنوبيس يقف الوحش المخيف "عاممت" و هو حيوان‬

‫ميثولوجى يجمع بين هيئة التمساح و األسد و فرس النهر ‪.‬‬

‫وزن القلب يوم الحساب‬

‫( من بردية "حو نفر" ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫ينظر "عاممت" فى اتجاه تحوت الذى يمسك بالقلم ليدون النتيجة التى سيسفر عنها وزن القلب ‪.‬‬

‫يحيا "عاممت" على التهام قلوب اآلثمين ‪.‬‬

‫فالقلب الغير متزن‪/‬متسق مع ريشة الماعت يصبح فريسة لذلك الوحش المخيف ‪.‬‬

‫فى هذا المشهد – و غيره من مشاهد وزن القلب – نالحظ أن أنوبيس هو الذى يقود المرتحل فى‬

‫العالم السفلى الى الميزان و هو الذى يقوم بضبط الميزان بنفسه ‪.‬‬

‫و بعد انتهاء وزن القلب يتولى حورس المسئولية و يقود المرتحل فى العالم السفلى الى حيث عرش‬

‫أوزير ‪.‬‬

‫يبدو أن هناك نقطة معينة فى هذه المنطقة من العالم السفلى ال يستطيع أنوبيس تجاوزها ‪ ,‬و لذلك‬

‫‪- 443 -‬‬


‫يجب عليه التوقف لكى يقوم كيان الهى آخر أقل ازدواجية بارشاد الروح الى مقصدها و مبتغاها ‪.‬‬

‫ايقاظ أوزير ‪-:‬‬

‫و أخيرا تصل الروح المرتحلة فى العالم السفلى الى محطتها األخيرة ‪ ,‬الى عرش أوزير ‪.‬‬

‫فى كتاب الخروج الى النهار (فصل رقم ‪ )11‬نقرأ العبارت التالية على لسان مرتحل فى العالم‬

‫السفلى بلغ نهاية رحلته ‪ ,‬و وقف فى الحضرة األوزيرية يبتهل الى االله العظيم قائال ‪-:‬‬

‫*** لقد أتيتك يا رب الغرب (العالم السفلى) ‪ ,‬و هاأنذا أقف فى حضرتك ‪ ...‬جسدى طاهر من اآلثام‬

‫‪ ...‬أنا لم أكذب ‪ ,‬و لم أكرر أخطائى ‪ ...‬أبتهل اليك يا أوزير أن تجعلنى من المقربين من عرشك ‪,‬‬

‫و من أتباعك ‪ ...‬أبتهل اليك أن تجعلنى أقرب المقربين اليك ‪ ,‬أيها االله الطيب ‪ ...‬أبتهل اليك يا رب‬

‫األرضين أن تجعلنى من أحبائك ‪ ...‬أبتهل اليك يا أوزير أن تجعلنى من المبرئين أمامك ***‬

‫فى المشهد التالى يجلس أوزير على عرشه ‪ ,‬و يحمل فوق رأسه تاج ال "آتف" ‪ ,‬و هو أحد أشكال‬

‫التاج األبيض (تاج مصر العليا) تزينه ريشة نعام من كل ناحية ‪ ,‬و هو ما يشير الى العالقة الوثيقه‬

‫بين أوزير و ماعت ‪.‬‬

‫كما يحمل التاج أيضا فى أغلب األحيان قرص الشمس ‪ ,‬و هو ما يشير الى العالقة الوثيقه بين‬
‫"أوزير" و "رع" ‪.‬‬

‫‪- 444 -‬‬


‫"حو ‪ -‬نفر" يقف فى حضرة أوزير الجالس فوق عرشه‬

‫( من بردية "حو نفر" ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫فى الفصل رقم ‪ 031‬من كتاب الخروج الى النهار جاء ذكر تاج ال "آتف" باعتباره تاج "رع" ‪.‬‬

‫و بعد أن انتصر أوزير على الموت و بعث من جديد ارتدى ذلك التاج ‪ ,‬و جعل عرشه على ماء‬

‫األزل فى العالم السفلى ‪ ,‬حيث تقف ال "نترو" (الكيانات االلهية) فى حضرته و تنحنى لجالله ‪.‬‬

‫يظهر وجه أوزير و جسده فى هذا المشهد باللون األخضر و هو ما يشير الى أن جسد أوزير يفيض‬

‫بالحيوية ‪.‬‬

‫فى ذلك الموضع لم يعد أوزير الضحية القليلة الحيلة التى قتلها "ست" ‪ ,‬فقد بعث و ولد من جديد ‪.‬‬

‫جاء فى احدى األساطير أن حورس هو الذى تولى مهمة ايقاظ أوزير من موته ‪.‬‬

‫نزل حورس الى العالم السفلى حيث يرقد جثمان أوزير بال حراك ‪ ,‬و قدم له عينه قربانا ‪,‬‬

‫و احتضنه فانتقلت طاقة الحياة من جسده الى جسد أوزيرالهامد ‪ ,‬فأيقظته من حالة الخمول و فقدان‬

‫الوعى التى اعترته ‪.‬‬

‫عند ارتحال الروح فى العالم السفلى تتقمص شخصية حورس الذى يصارع قوى الهدم و التحلل‬

‫‪- 445 -‬‬


‫التى يمثلها "ست" ‪ ,‬و هى القوى التى أدت لموت أوزير ‪ ,‬و هى نفس القوى التى تقف فى طريق‬

‫المرتحل فى العالم السفلى من البشر و تحاول منعه من أن يبعث كما بعث أوزير ‪.‬‬

‫عند تامل المشهد السابق نكتشف ان العالقة بين حورس و أوزير متبادلة ‪ ,‬حيث يعتمد كل منهما‬

‫على اآلخر ‪.‬‬

‫فمن ناحية ‪ ,‬يعتبر أوزير هو غاية رحلة الروح فى العالم السفلى ‪ ,‬و هو وحده الوسيلة التى يمكن‬

‫لل "با" من خاللها أن تنتقل الى العالم السماوى‪/‬الروحى‪/‬األسمى ‪.‬‬

‫و من ناحية أخرى ال يستطيع أوزير أن يساعد الروح (با) كى تبعث من جديد فى العالم السماوى ‪,‬‬

‫اال اذا قامت الروح بالدور الذى قام به حورس فى الزمن األول حين قدم ألبيه أوزير عينه الشافية‬

‫و احتضنه فأحياه من جديد ‪.‬‬

‫بعبارة أخرى ان كل من حورس و أوزير يعتمد على اآلخر و يحتاج الى اآلخر ‪.‬‬

‫و هنا علينا أن نتذكر أن "ست" يلعب دور هاما فى بعث الروح ‪ ,‬و هو دور أشبه بدور المعلم‬

‫القاسى أو الشرير الذى يفتح عين البصيرة ‪.‬‬

‫فلوال قتل "ست" ألوزير لم تكن هناك امكانية لبعث ال "با" و ميالدها من جديد فى العالم السماوى ‪.‬‬

‫فى الميثولوجيا المصرية ‪ ,‬مهما بلغت قسوة الشر و عنفه ‪ ,‬فان ذلك ال ينفى أن له دور هام فى‬

‫منظومة الخلق ‪.‬‬

‫من األشياء التى تلفت االنتباه فى المشهد السابق أن حورس هو الذى يرشد الروح أثناء رحلتها فى‬

‫العالم السفلى و هى تجتاز األخطار و العقبات و الفخاخ وسط عالم يهدد بايقاعها فى شراك قوى‬

‫نفسية و طاقات ال تتوافق مع أهدافها ‪.‬‬

‫باالنتصار على هذه القوى المعادية ‪ ,‬و باالتساق و التناغم مع الذات العليا‪/‬االلهية ‪ ,‬يصل "حو نفر"‬

‫فى نهاية الرحلة الشاقة الى حضرة أوزير ‪ ,‬رب البعث ‪.‬‬

‫و ألن "حو نفر" تغلب على كل العقبات التى اعترضت طريقه ‪ ,‬لذلك فهو يرى أوزير منتصرا ‪,‬‬

‫أو بعبارة أخرى يرى أوزير مرآه لذاته ‪ ,‬أو لتلك القوة االلهية الكامنة بداخله و التى تعتبر هى‬

‫‪- 446 -‬‬


‫مفتاح البعث و الميالد من جديد ‪.‬‬

‫تتضمن رحلة "حو نفر" فى العالم السفلى انقاذ أوزير و تحريره من قبضة "ست" ‪ ,‬أو بعبارة أخرى‬

‫من قوى الهدم و التحلل و الموت التى تبقيه عاجزا ‪ ,‬راقدا بال حراك ‪.‬‬

‫و تنتهى الرحلة بايقاظ أوزير و بعثه من جديد و هو ذروة األحداث و الهدف من الرحلة ‪.‬‬

‫و من األشياء التى تلفت االنتباه فى المشهد السابق أيضا أن عرش أوزير على الماء ‪.‬‬

‫و الماء فى هذا السياق هو ماء األزل "نون" الذى خرج منه آتوم للوجود و خلق نفسه بنفسه ‪.‬‬

‫و من الماء الذى يعلوه عرش أوزير نبتت زهرة لوتس (رمز االنبعاث) تحمل أبناء حورس‬

‫األربعة ‪.‬‬

‫ان أوزير بعد قيامته و بعثه من جديد هو أوزير الذى أدرك أنه موصول بالينبوع الذى انبثق منه كل‬

‫شئ ‪ ,‬و بالعقل األسمى الذى أوجد الوجود ‪.‬‬

‫فى هذا المشهد يقف "حو نفر" أمام أوزير الموصول بآتوم لحظة قيامه بفعل الخلق األزلى و تجليه‬

‫للوجود أول مرة ‪.‬‬

‫حين يصل المرتحل فى العالم السفلى الى تلك النقطة و يطلع على صورة أوزير الجالس فوق عرشه‬

‫على مياه األزل ‪ ,‬عندها يدرك القدرة االلهية الكامنة بداخله و هى القدرة المسئولة عن بعثه من‬

‫جديد فى العالم السماوى ‪.‬‬

‫و هناك شئ يلفت االنتباه فى أسطورة أوزير ‪.‬‬

‫كان على حورس أن يوقظ أوزير أوال لكى يصبح أوزير قادرا على انجاب ابن ‪.‬‬

‫و فى نفس اللحظة التى يعود فيها أوزير الى الحياة تظهر ايزيس فى هيئة حدأة و تحوم فوق جسد‬

‫أوزير و تحمل منه بالطفل حورس ‪.‬‬

‫و يعتبر اتحاد ايزيس بأوزير شرطا أساسيا لميالد حورس الطفل ‪.‬‬

‫المشهد التالى من مقبرة رمسيس السادس و فيه نرى حورس و هو يولد من جسد أوزير الراقد‬

‫(تحديدا من فخذه) ‪ ,‬و هو اشارة الى امتزاج ايزيس بجسد أوزير العاجز الراقد ‪ ,‬و هذا االمتزاج هو‬

‫‪- 447 -‬‬


‫الذى تكمن فيه قوة الحياة و الخلق ‪.‬‬

‫و على اليسار يقف آتوم شاهدا على ميالد حورس ‪ ,‬و الذى يعتبر محاكاة أو نسخة مصغرة من‬

‫ميالد آتوم و مجيئه للوجود أول مرة ‪.‬‬

‫ميالد حورس من جسد أوزير الراقد‬

‫( من مقبرة الملك رمسيس السادس ‪ ,‬وادى الملوك ‪ ,‬أسرة ‪ , 22‬دولة حديثه )‬

‫تفسر مثل هذه المشاهد عادة فى سياق الحياة األخرى للروح بعد الموت ‪ ,‬و لكنها تشير أيضا الى‬

‫نوع من التجارب الصوفية الروحانية التى كان يمارسها حكماء مصر القديمة أثناء حياتهم الدنيا‬

‫و ليس بعد الموت ‪.‬‬

‫يكمن أحد أسباب عدم قدرة االنسان المعاصر على فهم الديانة المصرية القديمة فى استبعاد ال‬

‫"نترو" (الكيانات االلهية) من تجارب االنسان الباطنية ‪.‬‬

‫حين ندرك أن هناك عالقة تشابك بين ال "نترو" و بين مختلف حاالت الوعى االنسانى ‪ ,‬عندها‬

‫ستنكشف لنا أسرار الديانة المصرية القديمة ‪.‬‬

‫ان كتاب الخروج الى النهار و غيره من كتب العالم اآلخر المصرية ليس من نسج خيال يسقط‬

‫أمانيه و رغباته على الحياة فى العالم اآلخر و انما هى كتب ارشادية لمستويات الوعى التى يجب‬

‫‪- 448 -‬‬


‫على الروح أن ترتقى فيها كالمعراج الى القمة و هى االتحاد بالعقل األسمى ‪.‬‬

‫و من أهم الطقوس التى تعبر عن بعث أوزير طقس اقامة عامود ال "جد" ‪ ,‬و هو طقس قام به‬

‫حورس فى الزمن األول بمساعدة أمه ايزيس ‪.‬‬

‫يرمز عامود ال "جد" الى العامود الفقرى ألوزير ‪ ,‬و اقامة عامود ال "جد" ترمز اليقاظ أوزير‬

‫من حالة العجز و فقدان الوعى التى انتابته نتيجة سقوطه ضحية لقوى الهدم و الفوضى المتمثله فى‬

‫"ست" ‪.‬‬

‫طقوس اقامة عامود ال "جد"‬

‫( من معبد الملك سيتى األول بأبيدوس ‪ ,‬أسرة ‪ , 11‬دولة حديثه )‬

‫فى طقوس اقامة عامود ال "جد" التى تقام كل عام فى شهر كيهك كان الملك يقوم بدور حورس‬

‫الذى يرفع أوزير من رقدته و يبعث فيه الحياة من جديد ‪.‬‬

‫يبقى عامود ال "جد" راقدا ‪ ,‬فاقدا للحياة الى أن يأتى حورس ‪ -‬بمساعدة ايزيس ‪ -‬و يتدخل ‪.‬‬

‫‪- 449 -‬‬


‫و بمجرد أن يرفع عامود ال "جد" تدب الحياة فى أوزير ‪ ,‬و فى حورس أيضا و الذى يولد من‬

‫جديد ‪.‬‬

‫و لذلك كان طقس اقامة عامود ال "جد" ضروريا لتجديد طاقة الملك و ميالده من جديد ‪.‬‬

‫فى المشهد التالى يظهر عامود ال "جد" و قد أقيم فى وضع رأسى و دبت فيه الحياة فأصبح فى‬

‫هيئة انسان يحمل فوق رأسه التاج الملكى و فى يده صولجانات الملك تحيط به من الجانبين ايزيس‬

‫و نفتيس و ترفعان كفوف األيدى فى وضع التبجيل ‪.‬‬

‫العالقة بين عامود ال "جد" المنتصب (رمز أوزير بعد ان بعث) و بين الشمس‬

‫( من بردية "خونسو رنب" ‪ ,‬دولة حديثه )‬

‫فى القسم العلوى من المشهد نرى قارب "رع" و هو يبحر فى المحيط السماوى ‪ ,‬و فى منتصفه‬

‫نسخة أخرى من عامود ال "جد" تحيط به اثنتان من حيات الكوبرا ‪.‬‬

‫‪- 450 -‬‬


‫و من قمة عامود ال "جد" يخرج "خبرى" على هيئة جعران مجنح و كأنه خرج للتو من شرنقته ‪.‬‬

‫و فوق الجعران المجنح يقف قرص الشمس ‪.‬‬

‫يستدعى مشهد عامود ال "جد" الذى أقيم ‪ -‬أى بعث من جديد ‪ -‬أحداث والدة الكون التى انتقل فيها‬

‫الخلق جميعا الى مستوى آخر من مستويات الوجود حين خرج "آتوم ‪ -‬رع" من مياه األزل ‪.‬‬

‫ان ميالد حورس من جسد أوزير يتضمن أيضا تفعيل طاقة "آتوم" و "رع" و "خبرى" ‪ ,‬و هى‬

‫الطاقات األساسية التى يتجلى بها االله للوجود ‪.‬‬

‫و المشهد السابق ليس فريدا من نوعه ‪ ,‬فهناك العديد من المشاهد المشابهة فى كتاب الخروج الى‬

‫النهار و فى العديد من البرديات التى تعود لعصر الدولة الحديثه و التى تعبر عن نظرة تأملية‬

‫للعالقة بين بعث أوزير و بين منظومة الشموس (أو منظومة النور بوجه عام) ‪ ,‬و التى رأى فيها‬

‫قدماء المصريين تعبيرا عن فكرة الخلق الذاتى ‪.‬‬

‫و هنا نعثر على األرضية المشتركة التى تجمع بين كل من "أوزير" و "رع" ‪.‬‬

‫حين تصل ال "با" الى ينبوع وجودها ‪ ,‬و هو مصدر الطاقة الروحانية القادرة على تجديد الحياة‬

‫( و التى يرمز لها ب "رع" ‪ ,‬و لكنها تتضمن أيضا خبرى و آتوم ) ‪ ,‬عندها تكون ال "با" قد بلغت‬

‫مرحلة النضج التى تؤهلها الى االنتقال الى مستوى أسمى من مستويات الوجود ‪ ,‬حيث تحوز‬

‫االشراق و تتحول الى "آخ" أى روح موصولة بالنور االلهى ‪.‬‬

‫و المشهد التالى يصور ذلك الحدث ‪ ,‬حيث يولد حورس من جسد أوزير الراقد ‪ ,‬تحيط به كل من‬

‫ايزيس و نفتيس ‪.‬‬

‫‪- 451 -‬‬


‫ميالد حورس من جسد أوزير‬

‫( من مقبرة الملك رمسيس السادس ‪ ,‬وادى الملوك ‪ ,‬أسرة ‪ , 22‬دولة حديثه )‬

‫يولد حورس برأس صقر و جسم رجل مفعم بالحيوية ‪ ,‬و فوق رأسه قرص الشمس ‪ ,‬أى أن الطفل‬

‫حورس هو أيضا الشمس الوليدة ‪.‬‬

‫و لذلك كان "رع" و "حورس" يشتركان معا فى نفس الصورة ‪ ,‬حيث يظهر االثنان فى صورة‬

‫صقر ‪ ,‬و يصعب التمييز بينهما بدون وجود نص مصاحب للصورة يحدد هوية الصقر ‪.‬‬

‫فى حورس الوليد تنعكس صورة األفق ‪ ,‬حيث تلتقى األرض بالسماء ‪ ,‬و حيث يتصل االنسان باالله‬

‫و يتحد به ‪.‬‬

‫حين يولد االنسان من جديد فى عالم الروح يصبح صورة من حورس و يعى ذاته العليا‪/‬االلهية‬

‫و يدرك صلته ب "رع" ‪.‬‬

‫يلخص المشهد التالى المغزى المعقد لمفهوم البعث فى مصر القديمة ‪.‬‬

‫‪- 452 -‬‬


‫دور أوزير فى ميالد حورس و رع‬

‫( من تابوت السيدة "حنوت تاوى" ‪ ,‬دولة حديثه )‬

‫فوق األرض – و تحت األفق – يرقد جثمان أوزيرالمحنط ‪ ,‬الذى تبعث فيه الحياة مجددا من خالل‬

‫أشعة النور التى تخرج من رأس حورس و هى مقلوبة رأسا على عقب ‪.‬‬

‫و فوق رأس حورس يقف قارب "رع" الذى يوشك على التحرك و يحمل بداخله الطفل الوليد‬

‫حورس جالسا داخل قرص الشمس الذى يقف فوق العالمة الهيروغليفية لكلمة "آخت" ‪ ,‬أى أفق ‪.‬‬

‫و الطفل حورس هنا هو نفسه "رع" الذى يولد فى األفق الشرقى و الذى يطلق ليه "رع – حور‬

‫‪ -‬آختى" أى رع حورس الذى يرتحل بين األفقين ‪.‬‬

‫‪- 453 -‬‬


‫و أمام الطفل حورس يقف تحوت فى هيئة قرد البابون رافعا يده بالتحية و التبجيل ‪ ,‬بينما تقوم‬

‫ايزيس بقيادة القارب ‪.‬‬

‫فى مشاهد أخرى مشابهة قد يتم استبدال صورة حورس الطفل بصورة أوزير المنبعث أو صورة‬

‫خبرى ‪ .‬و فى أعلى المشهد يقف قرص الشمس المجنح ‪.‬‬

‫يعبر المشهد من ناحية عن مغزى كوزمولوجى يتعلق بميالد الكون ‪ ,‬و من ناحية أخرى يعبر أيضا‬

‫عن ميالد الروح من جديد فى هيئة "آخ" ‪ ,‬و هى الروح القادرة على تجديد طاقتها بنفسها كما يفعل‬

‫"رع" بأن تعود لألصل و الينبوع الذى خرج منه كل شئ و تولد منه مجددا و بذلك تجدد طاقتها‬

‫النورانية الى األبد ‪.‬‬

‫أن يصل االنسان الى تلك اللحظة من تاريخ والدة الكون يعنى أنه قد تحول الى قطب من أقطاب‬

‫النور و صار من المبجلين "آخو" ‪.‬‬

‫فى تلك التجربة الباطنية الصوفية تعود ال "با" (الروح) الى منبع وجودها فتصير روحا الهية ‪,‬‬

‫قادرة على أن تأتى للوجود بنفسه و تجدد طاقتها بنفسها ‪.‬‬

‫و هنا يكون المرتحل فى العالم السفلى قد اجتاز مملكة أوزير و انتقل منها الى عالم آخر أسمى ‪,‬‬

‫حيث يمتزج كيانه بنور "رع" ‪.‬‬

‫فى متون األهرام هناك ابتهال يصف تلك التجربة الصوفية ‪ ,‬قائال ‪-:‬‬

‫*** عسى أن أشرق بالنور مثل "رع" ‪ ...‬بعد أن تطهرت من كل ما هو زائف ‪ ...‬عسى أن تقف‬

‫ماعت خلف "رع" من خاللى ‪ ...‬عسى أن أشرق كل يوم ‪ ,‬كما يفعل حورس الذى فى أفق‬

‫السماء ***‬

‫حين تتحقق األمنية و يستجاب الدعاء ‪ ,‬يكون المرتحل فى العالم السفلى قد "خرج الى النهار" ‪ ,‬أى‬

‫خرج الى عالم النور االلهى ‪.‬‬

‫و بالوصول الى عالم النور ‪ ,‬تكون الرحلة فى العالم السفلى قد انتهت ‪ ,‬ألن الهدف منها قد تحقق ‪.‬‬

‫‪- 454 -‬‬


‫خاتمة‬

‫ظهرت الحضارة المصرية القديمة بوعيها المنفتح على عالم الروح فى زمن بعيد عن زمننا ‪,‬‬

‫و برغم ذلك فهى ال تنفصل عن رحلة تطور وعى االنسان الغربى ‪.‬‬

‫تشكل الحضارة المصرية جذور الوعى الجمعى لالنسان الحديث و المعاصر ‪ ,‬و لذلك فان ادراكنا‬

‫أننا ننتمى لتلك الحضارة العتيقة و أنها تشكل جزءا من هويتنا الثقافية بمعناها األوسع هو فى‬

‫الحقيقة اثراء لتجربتنا الروحية ‪.‬‬

‫مر الوعى االنسانى برحلة تطور انتقل فيها من مستوى الى مستوى آخر ‪ ,‬و علينا أن نفهم طبيعة‬

‫هذه الرحلة و نقبلها لكى نصل الى العالقة الصحيحة التى تربطنا بالحضارة المصرية القديمة ‪,‬‬

‫و لكن علينا تجنب السقوط فى فخ ال "نوستالجى" و الحنين للعودة الى زمن انتهى و الى رؤية‬

‫لم تعد مناسبة للزمن الذى نعيش فيه ‪.‬‬

‫و برغم أننا بحاجة الى استعادة الوعى بالقوى الروحانية التى أطلق عليها قدماء المصريين مصطلح‬

‫"نترو" ‪ ,‬اال أننا ال يجب أن نفقد الحرية الفردية و االستقاللية التى تميز شعور االنسان المعاصر‬

‫بذاته و هى أعظم المكتسبات التى حققها االنسان الغربى فى مسيرة تطوره ‪.‬‬

‫و الفخ الثانى الذى يجب علينا الحذر من الوقوع فيه هو مبالغتنا فى تقدير قيم حضارتنا الحديثه‬

‫لدرجة تجعلنا نسقط قيمنا و أحكامنا المسبقة على انسان الحضارات القديمة مفترضين أنه كان يفكر‬

‫و يشعر مثلنا ‪ ,‬أو ننظر نظرة شك وازدراء لتراث الحضارات القديمة و نصفه بأنه نتاج عقائد‬

‫بدائية و خرافات سادت فى أزمنة بائدة ‪.‬‬

‫و من المؤسف أن علم المصريات الحديث سقط فى كثير من األحيان فى هذا الفخ بسبب تركيزه‬

‫على دراسة األثر المادى الملموس على حساب استكشاف وعى االنسان القديم و بنيته السيكولوجية ‪.‬‬

‫و برغم قيام علماء المصريات بترجمة عدد هائل من النصوص الدينية المصرية القديمة ‪ ,‬اال ان‬

‫‪- 455 -‬‬


‫اهتمامهم بالتجارب الروحانية التى أدت لظهور تلك النصوص كان أقل من اهتمامهم بدراسة الشكل‬

‫الخارجى للطقوس و الممارسات الدينية المصرية ‪.‬‬

‫ان اهمال علماء المصريات لدراسة وعى انسان الحضارات القديمة يعنى أننا غير قادرين على فهم‬

‫الطريقة التى يفكر بها المصرى القديم ‪.‬‬

‫على سبيل المثال ‪ ,‬قد يظن بعض الباحثين أن علم نشأة الكون فى مصر القديمة هو نتاج عقل مشابه‬

‫لعقل علماء الفيزياء الكونية المعاصرين ‪ ,‬و هكذا يهمل الباحث أهم سؤال و هو كيف وصل‬

‫المصرى القديم لذلك العلم و كيف كان ذلك العلم صحيحا بالنسبة لهم ؟‬

‫يقوم علم المصريات الحديث بدراسة التاريخ المصرى القديم و كأنه من الممكن أن نقوم باسقاط‬

‫نظرتنا للواقع على ذلك الزمن بدون أن نضع فى اعتبارنا أن نفس الحدث الذى ننظر اليه كان‬

‫يبدو مختلفا فى أعين االنسان القديم ‪.‬‬

‫يهمل علم المصريات الحديث البحث فى البنية النفسية لالنسان القديم و يتجاهل العلوم الماورائية‬

‫و الباطنية ‪ ,‬و التى بدونها تظل الحضارة المصرية القديمة كتابا مغلقا ‪.‬‬

‫بدراسة التجارب الباطنية لقدماء المصريين يمكننا أن ندرك أهمية مصر القديمة بالنسبة لنا فى‬

‫عصرنا الحاضر ‪ ,‬و لكن علينا أن نحذر الوقوع فى فخ الرغبة فى العودة الى ذلك العالم القديم‬

‫و أيضا فخ اسقاط قيم حضارتنا المعاصرة و أحكامنا المسبقة على الحضارات القديمة ‪.‬‬

‫بدراسة تلك التجارب الباطنية لالنسان القديم فاننا بذلك نقيم حوارا مع ثقافة و عقلية ازدهرت فى‬

‫فترة سابقة من تطورنا الروحى ‪.‬‬

‫و لكن بمرور الزمن صارت تلك الثقافة و العقلية غريبة عنا و صرنا نعيش نوعا مختلفا من الحياة‬

‫الروحية يحتاج فيها االنسان أن يميز نفسه عن اآلخر بأن ينفصل عنه ‪ ,‬و يحتاج أن يفصل الظاهر‬

‫عن الباطن ‪.‬‬

‫و لكن مؤخرا بدأ االنسان يبحث مرة أخرى عن جذوره الروحانية و يهتم بدراسة العالم الباطنى‬

‫الذى تسكنه قوى نفسية و روحانية ‪ ,‬و لذلك كان هناك اهتمام زائد بدراسة الحضارة المصرية‬

‫‪- 456 -‬‬


‫القديمة ‪.‬‬

‫و بدراسة ذلك البعد الباطنى يدرك االنسان أن التاريخ تحركة موجات من الوعى الجمعى أشبه بالمد‬

‫و الجزر ينتقل فيها الوعى الجمعى لالنسانية من الجانب الروحى للجانب المادى و العكس ‪.‬‬

‫و تلك هى األسباب الخفية وراء األحداث التاريخية الظاهرة ‪.‬‬

‫منذ دخول جيش الحملة الفرنسية الى مصر فى عام ‪ 0793‬ميالدية بدأت الحضارة المصرية القديمة‬

‫تتكشف لنا بعد أن كانت كتابا مغلقا ‪.‬‬

‫اصطحب نابليون معه مجموعة من العلماء و الرسامين و الفنانين الذين استكملوا عملهم فى البحث‬

‫و التوثيق آلثار مصر حتى بعد هزيمة الجيش الفرنسى الى أن انتهوا من كتاب "وصف مصر" بين‬

‫عامى ‪ 0319‬و ‪ 0311‬ميالدية ‪.‬‬

‫و بعد أن نجح شامبليون فى فك رموز الكتابة الهيروغليفية فى عام ‪ 0322‬ميالدية صارت‬

‫الهيروغليفية مقرؤة و مفهومة ‪ ,‬و أصبح من المتاح لنا االطالع على طبيعة الحياة فى مصر القديمة‬

‫و قد ال يكون األمر محض صدفة أن نعرف أنه فى الوقت الذى كان نابليون يقوم فيه بكشف النقاب‬

‫عن الحضارة المصرية (من خالل علماء الحملة الفرنسية) كانت أوروبا تنفتح على آفاق جديدة ‪.‬‬

‫على سيبل المثال ‪ ,‬شهدت فرنسا تغيرات اجتماعية و سياسية هائلة ‪.‬‬

‫كانت العقود األخيرة من القرن الثامن عشر فترة غير عادية فى تاريخ أوروبا ‪ ,‬سقطت خاللها‬

‫أنظمة اجتماعية و سياسية لتحل محلها أنظمة جديدة ‪.‬‬

‫فى ذلك الوقت أنشئت الجمهورية الفرنسية (و أيضا الواليات المتحدة األمريكية) ‪.‬‬

‫تزامن ذلك مع حدوث تغيرات سيكولوجية هائلة عبرت عن نفسها من خالل الفن ‪.‬‬

‫فى انجلترا و ألمانيا تزامن اعادة اكتشاف الحضارة المصرية القديمة مع ظهور الحركة الرومانسية‬

‫التى نظرت للطبيعة نظرة جديدة تعكس الوعى بوجود القوى الروحانية التى تحركها ‪.‬‬

‫أصبح االنسان قادرا على رؤية تلك القوى الروحانية من جديد و لكن بقوة الخيال الذى صار شعارا‬

‫للحركة الرومانسية ‪ .‬تميزت الحركة الرومانسية بالحداثه و الشغف الذى كان عالمة بداية عصر‬

‫‪- 457 -‬‬


‫جديد فى أوروبا ‪ ,‬و هو ما نستشفه من كتابات الشعراء و المفكرين االنجليز مثل‬

‫(‪ , )Wordsworth , Coleridge , Blake & Shelley‬و األلمان مثل‬

‫(‪. )Schelling , Schiller , Novalis , Goethe‬‬

‫كان الشعراء الرومانسيون يفرقون بين الخيال بمعنى التخيالت الذاتية و بين أحالم اليقظة و هى‬

‫أسمى درجات االدراك فى نظرهم ‪ ,‬ألن من خاللها يمكن لالنسان أن يعى وجود قوى الطبيعة التى‬

‫ال يمكن ادراكها بالحواس المادية ‪.‬‬

‫عن طريق الخيال يمكن لالنسان أن يرى العالم الباطنى و هو العالم الذى كان قدماء المصريين‬

‫على دراية عميقة به ‪ ,‬و الذى تتحرك فيه القوى الروحانية التى يطلق عليها فى مصر القديمة اسم‬

‫"نترو" ‪.‬‬

‫و لكن هذا ال يعنى أن وعى الشعراء الرومانسيين هو نفس الوعى الذى كان لدى قدماء المصريين‪.‬‬

‫بنهاية القرن الثامن عشر ساد فى أوروبا شعور عام بالهوية الفردية و االعتداد بالنفس بشكل يختلف‬

‫عما كان موجودا فى مصر القديمة ‪.‬‬

‫فى القرن الثامن عشر صار المثل األعلى لالنسان األوروبى هو ذلك الشخص الذى يمتلك درجة‬

‫من االستقاللية و التفرد تعتبر غريبة على عقل انسان الحضارات القديمة ‪.‬‬

‫ان تزامن الغزو العسكرى و العلمى الفرنسى لمصر مع ميالد الحركة الرومانسية فى أوروبا قد‬

‫يعتبر فى نظر البعض مجرد صدفة عشوائية ليس لها أى معنى ‪.‬‬

‫و لكن األحرى بعالم التاريخ أن يتجنب استخدام مصطلح الصدفة العشوائية لتفسير األحداث‬

‫التاريخية ‪ .‬فأقدار الحضارات – كأقدار االنسان – ال تحكمها الصدفة و العشوائية ‪.‬‬

‫لعبت مدارس العلوم الباطنية الهرمسية و الخيميائية دورا هاما فى نشأة الحركة الرومانسية فى‬

‫أوروبا ‪ ,‬و هى مدارس قامت فى األصل على العلوم الروحانية المصرية ‪.‬‬

‫و من تلك المدارس الباطنية أيضا الماسونية ‪ ,‬و التى كان لها تأثير كبير على الحياة الثقافية‬

‫و الفكرية و السياسية فى القرن الثامن عشر فى أوروبا ‪.‬‬

‫‪- 458 -‬‬


‫و من الجدير بالذكر هنا أن نابليون كان أحد المنتمين للمدرسة الماسونية ‪ ,‬و لذلك كان لديه رغبة‬

‫قوية فى اكتشاف األصل الذى اقتبست منه المدرسة الماسونية علومها ‪ ,‬و لعل ذلك هو الدافع وراء‬

‫غزوه لمصر ‪ ,‬و هو الدافع األقوى من مجرد توسيع حدود امبراطوريته ‪.‬‬

‫و نابليون لم يكن هو الوحيد الذى اعتقد أن مصر القديمة هى أصل العلوم الروحانية ‪ ,‬و أنها‬

‫هى التى ستروى ظمأ انسان العصر الحديث لتلك المعرفة ‪.‬‬

‫عرف عن جورج واشنطن و غيره من القادة المؤسسين للواليات المتحدة األمريكية انتماءهم‬

‫للمدرسة الماسونية ‪.‬‬

‫و من أكثر الرموز التى تعبر عن دور مصر القديمة فى تحول وعى االنسان الغربى فى تلك الحقبة‬

‫الزمنية الهرم الذى وضعه مؤسسو الواليات المتحدة األمريكية فوق عملة الدوالر الواحد ‪.‬‬

‫و هنا تجدر االشارة الى أن تصميم عملة الدوالر الواحد سبق الحملة الفرنسية على مصر باثنين‬

‫و عشرين عاما ‪.‬‬

‫و الرمز عبارة عن هرم بدون قمة ‪ ,‬و من موضع القمة المفقودة يخرج شعاع نور ‪ ,‬بينما تتوسطه‬

‫عين واحدة ‪ .‬و تحت الهرم دون مؤسسو الواليات المتحدة األمريكية الشعار التالى باللغة الالتينية‬

‫(‪ )Novus Ordo Seclorum‬و يعنى "عصر جديد" ‪.‬‬

‫هناك قصة غريبة وراء ذلك التصميم الغريب ‪ ,‬و هى قصة ترويها بعض مدارس العلوم الباطنية‬

‫كالماسونية ‪ ,‬و لكن ال توجد أى أدلة أثرية تؤيدها ‪.‬‬

‫تروى القصة أن هرم خوفو كانت له قمة مغطاه بطبقة من الذهب ‪ ,‬و فوق كل جانب من جوانبها‬

‫عين حورس زرقاء ‪ .‬عندما تشرق الشمس ينعكس نورها فوق جوانب قمة الهرم الذهبية و يخرج‬

‫شعاع نور من عين حورس الزرقاء التى يتوهج نورها من على بعد أميال ‪.‬‬

‫و عندما اقترب أفول شمس الحضارة المصرية ‪ ,‬قام الكهنة المصريون بنزع قمة الهرم و أخفوها‬

‫فى مكان سرى ‪ ,‬ال يعرفه أحد ‪.‬‬

‫و لكن طبقا للقصة ‪ ,‬سيعاد اكتشاف القمة المفقودة فى يوم ما ‪ ,‬و ستوضع مرة أخرى فوق الهرم ‪.‬‬

‫‪- 459 -‬‬


‫و فى ذلك اليوم يبدأ عصر جديد تشهد فيه االنسانية يقظة روحانية ‪.‬‬

‫ال يوجد أى دليل أثرى يثبت صحة هذه القصة ‪ ,‬و مع ذلك فهى تحمل مغزى عميق ‪ ,‬و هو‬

‫أن تاريخ الحضارة الغربية يرتبط ارتباطا روحانيا بمصر القديمة ‪.‬‬

‫نشأ االنسان الغربى على النظر للتاريخ باعتباره سلسلة من األحداث تسير فى خط مستقيم و فى‬

‫اتجاه واحد ‪ ,‬و هى نظرة تنبع من شعورنا بالزمن كحركة تعاقب لألعوام و القرون تسير هى أيضا‬

‫فى اتجاه واحد ‪.‬‬

‫و لذلك يميل االنسان الغربى الى انكار وجود أى خيط يربط بين حقبة تاريخية و أخرى ‪.‬‬

‫و جميعنا يدرك أهمية اعادة اكتشاف الحضارة اليونانية القديمة فى نهاية العصور الوسطى ‪.‬‬

‫كان للعلوم و الفلسفة و الميثولوجيا اليونانية أثر كبير على الفكر األوروبى أدى لظهور عصر‬

‫النهضة ‪.‬‬

‫ليس من المنطقى أن نرجع السبب فى ظهور عصر النهضة ببساطة الى تأثير الحضارة اليونانية‬

‫بدون أن نضع فى اعتبارنا أن االنسان األوروبى فى ذلك الوقت كان مستعدا الستقبال تلك العلوم‬

‫القديمة و اعادة تدويرها النتاج حضارة جديدة ‪.‬‬

‫تزامن اعادة اكتشاف الحضارة اليونانية القديمة مع تغيرات نفسية و روحانية طرأت على االنسان‬

‫األوروبى فى ذلك الوقت ‪.‬‬

‫هناك تغيرات فى الوعى سبقت ظهور عصر النهضة و مهدت له ‪ ,‬و جعلت الشعوب األوروبية‬

‫قادرة على استلهام روح الحضارة اليونانية القديمة ‪ ,‬كل ذلك حدث فى خالل قرن واحد ‪.‬‬

‫و اآلن تمر الحضارة الغربية بتحول مشابه لما حدث قبل عصر النهضة ‪.‬‬

‫و لكننا صرنا اآلن على استعداد ألن نتواصل مع مصدر أقدم بكثير من الثقافة اليونانية‬

‫و االسرائيلية ‪ .‬ألن التوحيد (المستمد من الثقافة االسرائيلية) ‪ ,‬و العقالنية (المستمدة من الثقافة‬

‫اليونانية) لم يعد لهما دور فى التطور الروحى لالنسان ‪ ,‬و لم يعد لهما الهيمنة على وعى االنسان‬

‫األوروبى ‪.‬‬

‫‪- 460 -‬‬


‫اتجه وعى االنسان األوروبى مؤخرا الى الروحانية المصرية و صار ينظر لها بشغف شديد ‪ ,‬ألن‬

‫لها صدى قوى داخل نفوسنا ‪.‬‬

‫و ما بدأ مع الحركة الرومانسية التى تزامنت مع الحملة الفرنسية على مصر أخذ ‪ -‬بعد قرنين من‬

‫الزمان ‪ -‬يثمر شيئا جديدا ‪.‬‬

‫آن األوان أن نعى أننا انتقلنا الى حقبة تاريخية و ثقافية جديدة صرنا فيها على اتصال بروح‬

‫الحضارة المصرية القديمة بشكل أعمق بكثير من اتصالنا بروح الثقافة اليونانية و االسرائيلية ‪.‬‬

‫توشك حضارتنا الغربية أن تشهد بعثا روحانيا يستلهم روح الحضارة المصرية القديمة ‪ ,‬تتحول فيه‬

‫وجهة روح الغرب الى مناطق من الوعى كان قدماء المصريين على دراية عميقة بها ‪.‬‬

‫األرض ممهدة لعصر نهضة جديد أشبه بعصر النهضة القديم الذى نشأ على استلهام روح الحضارة‬

‫اليونانية ‪.‬‬

‫و االنبعاث الروحى للحضارة الغربية ال يعنى العودة الى وعى الحضارات القديمة و انما يعنى‬

‫اكتشافنا (بطريقتنا الخاصة) للنصف اآلخر للواقع (‪ )reality‬الذى كان الوعى المصرى مشغوال به‬

‫بعبارة أخرى ‪ ,‬ان ذلك االنبعاث الروحى يعنى ذلك الجزء الذى فقد من كياننا طوال تلك القرون‬

‫التى تفصل بين الحضارة المصرية القديمة و بين حضارتنا ‪.‬‬

‫يقول الشاعر "ويليام بليك" (‪ )William Blake‬فى قصيدته "أمريكا" ‪ ,‬و التى تدور حول انبعاث‬

‫الحرية و الخيال فى العصر الجديد ‪ ,‬موجها حديثه الى روح العصر الجديد قائال ‪-:‬‬

‫*** لقد عرفتك ‪ ...‬لقد وجدتك ‪ ...‬و لن أدعك ترحلين ‪ ...‬أنت صورة االله ‪ ,‬التى تسكن سواد‬

‫أفريقيا ‪ ....‬ان سقوطك هو الذى منحنى الحياة فى المناطق المظلمة من عالم الموت ***‬

‫‪- 461 -‬‬

You might also like